الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب العدة والإحداد
العدة اسم لمدة تتربص بها المرأة عن التزويج بعد وفاة زوجها أو فراقه لها؛ إما بالولادة أو الأقراء أو الأشهر، والإحداد بالحاء المهملة بعدها دالان مهملتان بينهما ألف، والحداد أيضًا، يقال: أحدت المرأة تحد إحدادًا. وحدت تحد بضم الحاء وكسرها. كذا ذكره الجمهور، وتقول: امرأة حاد. ولا تقول: امرأة (أ) حادة. قال أهل اللغة: أصل الإحداد المنع، ومنه سمي البواب حدادا لمنعه الداخل، وسميت العقوبة حدًّا؛ لأنها تردع عن المعصية. وقال ابن دَرَسْتويه: معنى الإحداد منع المعتدة نفسها الزينة، وبدنها الطيب، ومنع الخُطَّاب من خطبتها، ولا يطمع فيها كما منع الحد المعصية. وقال الفراء: سمي الحديد حديدا للامتناع به. ويروى بالجيم. حكاه الخطابي، قال: يروى بالحاء والجيم، وبالحاء أشهر، والجيم مأخوذة من جددت الشيء إذا قطعته، فكأن المرأة انقطعت عن الزينة. وقال أبو حاتم: أنكر الأصمعي حدت، ولم يعرف إلا أحدت. وقال الفراء: كان القدماء يؤثرون أحدت، والأخرى أكثر في كلام العرب. وفي الشرع: ترك الطيب والزينة (1).
913 -
عن المسور بن مخرمة أن سبيعة الأسلمية رضي الله عنها نفست بعد وفاة زوجها بليال، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنته أن تنكح، فأذن لها، فنكحت. رواه البخاري (2) وأصله في "الصحيحين". وفي
(أ) ساقطة من: جـ.
_________
(1)
غريب الحديث لأبي عبيد 2/ 36 - 38، وتهذيب اللغة 3/ 420، 421، والنهاية 1/ 352، واللسان (ح د د).
(2)
البخاري، كتاب الطلاق، باب {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} 9/ 470 ح 20/ 530.
لفظ (1): أنها وضعت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة. وفي لفظ لمسلم (2): قال الزهري: ولا أرى بأسا أن تزوج وهي في دمها غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر.
هو أبو (أعبد الله أ) المسور؛ بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح الواو، ابن مخرمة؛ بفتح الميم والخاء المعجمة الساكنة والراء المهملة المفتوحة، الزهري القرشي ابن أخت عبد الرحمن بن عوف، ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين، وقدم به المدينة في ذي الحجة سنة ثمان، وهو أصغر من ابن الزبير بأربعة أشهر، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني سنين، وسمع منه وحفظ عنه، وحدث عن عمر وعبد الرحمن بن عوف، وكان فقيها فاضلا، لم يزل بالمدينة إلى أن قتل عثمان، وانتقل إلى مكة ولم يزل بها إلى أن مات معاوية، وكره بيعة يزيد، ولم يزل مقيمًا بمكة إلى أن نفذ يزيد عسكره وحاصر مكة وبها ابن الزبير، فأصاب المسور حجر من حجارة المنجنيق وهو يصلي في الحِجر فقتله، وذلك في مستهل ربيع الأول سنة أربع وستين، روى عنه عروة بن الزبير وعلي بن الحسين وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبو أمامة بن سهل (ب) بن حنيف وابن أبي مليكة.
(أ- أ) كذا في الأصل، جـ، والمشهور أن المسور بن مخرمة يكنى أبا عبد الرحمن. وينظر أسد الغاية 5/ 175، وتهذيب الكمال 27/ 581، وسير أعلام النبلاء 3/ 390، والإصابة 6/ 119.
(ب) في جـ: سهيل. وينظر تهذيب الكمال 2/ 525.
_________
(1)
البخاري، كتاب التفسير، باب {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
…
} 8/ 653 ح 4909 من حديث أم سلمة.
(2)
مسلم، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها وغيرها بوضع الحمل 2/ 1122 ح 1485 من حديث سبيعة.
وقوله: أن سبيعة. بمهملة وموحدة ثم مهملة، تصغير [سبع](أ)، ووقع في البخاري (1) في المغازي: سبيعة بنت الحارث. وذكرها ابن سعد (2) في المهاجرات، ووقع في رواية لابن إسحاق عند أحمد (3): سبيعة بنت أبي برزة الأسلمي. فإن كان محفوظا فهو أبو برزة آخر غير الصحابي المشهور، وهو إما كنية للحارث والد سبيعة، [أو](ب) نسبت في الرواية المذكورة إلى جدها.
ونفست؛ بضم النون وكسر الفاء، أي ولدت.
وقوله: وفاة زوجها بليال. كذا أبهم المدة في هذه الرواية، وقد ثبت عند أحمد (3) في رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عن سبيعة: بشهرين. وفي رواية داود بن عاصم (جـ)(4): فولدت لأدنى من أربعة أشهر. وهذه فيها إبهام، وفي رواية يحيى بن أبي [كثير] (د) في البخاري (5) في تفسير سورة " الطلاق ": فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، كذا في رواية [شيبان](هـ)
(أ) في الأصل، جـ: سبيع. والمثبت من الفتح 9/ 471.
(ب) في الأصل: إن.
(جـ) في الفتح 9/ 473، والنسائي: داود بن أبي عاصم. قال البخاري في التاريخ الكبير 3/ 231: ويقال: داود بن عاصم. وينظر تهذيب الكمال 8/ 405.
(د) في الأصل، جـ: بكير. والمثبت من الفتح 9/ 473. وينظر تهذيب الكمال 31/ 504.
(هـ) في الأصل، جـ: سفيان. والمثبت من الفتح 9/ 473، وهو شيبان بن عبد الرحمن التميمي. وينظر تهذيب الكمال 12/ 592، 593.
_________
(1)
البخاري 7/ 310 ح 3991.
(2)
الطبقات الكبرى 8/ 287.
(3)
أحمد 6/ 432.
(4)
النسائي 6/ 194.
(5)
البخاري 8/ 653 ح 4909.
عنه، وفي رواية حجاج عند النسائي (1): بعشرين ليلة. وعند ابن أبي حاتم من رواية أيوب عن يحيى: بعشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة. ووقع في رواية الأسود: فوضعت بعد وفاة زوجها بثلاثة وعشرين يوما أو خمسة وعشرين يوما. كذا عند الترمذي والنسائي (2)، وعند ابن ماجه (3): ببضع وعشرين [ليلة](أ). وكأن الراوي ألغى الشك، وأتى بلفظ يشمل الأمرين. ووقع في رواية عبد ربه بن سعيد (4): بنصف شهر. وكذا في رواية شعبة (ب): [بلفظ](جـ): خمسة عشر، نصف شهر. وكذا في حديث ابن مسعود عند أحمد (5). والجمع بين هذه الروايات متعذر؛ لاتحاد القصة، ولعل ذلك هو السر في إبهام من أبهم المدة، إذ (د) محل الخلاف أن تضع لدون أربعة أشهر وعشر، وهو هاهنا كذلك، فأقل ما قيل في هذه الروايات: نصف شهر. وأما ما وقع في بعض الشروح أن في البخاري رواية: عشر ليال. وفي رواية الطبراني (6): ثمان أو سبع. فهو في مدة إقامتها بعد الوضع إلى أن استفتت
(أ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.
(ب) في الأصل: سعيد. وفوقها في مخطوط جـ كما في الأصل.
(جـ) ساقط من: الأصل.
(د) في جـ: أن.
_________
(1)
النسائي 6/ 192.
(2)
الترمذي 3/ 498 ح 1193، والنسائي 6/ 190.
(3)
ابن ماجه 1/ 653 ح 2027.
(4)
مالك 2/ 589 ح 38، وأحمد 9/ 319.
(5)
أحمد 1/ 447.
(6)
المعجم الكبير 20/ 7 ح 6.
النبي صلى الله عليه وسلم لا في مدة بقية الحمل، وأكثر ما قيل فيه (أ) بالتصريح: شهرين. وبغير التصريح: دون أربعة أشهر.
وزوجها هو سعد بن خَوْلة، توفي في حجة الوداع، وهو المذكور في حديث زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص، ورثى له النبي صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة وهي مهاجره؛ لكراهة عود المهاجر إلى أرض هاجر منها، ونقل ابن عبد البر (1) الاتفاق على أنه توفي في حجة الوداع بمكة، واعترض الاتفاق بأن محمد بن [سعد](ب)(2) ذكر أنه مات قبل الفتح، وذكر الطبري (جـ) أنه مات سنة سبع، وقد ذكر في البخاري في تفسير سورة "الطلاق" أنه قتل، ومعظم الروايات أنه مات، وهو المعتمد، إلا أنه إذا صحت رواية القتل فهي لا تنافيها رواية الموت، وإن لم تصح فالعمل على رواية الموت.
وقوله: فأذن لها أن تنكح. في الحديث دلالة على أن الحامل المتوفى عنها تنقضي عدتها بوضع الحمل، وإن لم يمض عليها أربعة أشهر وعشر، فيجوز لها أن تنكح، وقد ذهب إلى هذا الجماهير من الصحابة ومن بعدهم من علماء الأمصار محتجين بالحديث الصحيح، وبقوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (3). والآية وإن كان ما قبلها في
(أ) ساقط من: جـ.
(ب) في الأصل، جـ: سعيد.
(جـ) في جـ: الطبراني.
_________
(1)
الاستيعاب 2/ 587.
(2)
طبقات ابن سعد 3/ 408.
(3)
الآية 4 من سورة الطلاق.
المطلقات ولكن ذلك لا يخصص العموم. وذهب علي وابن مسعود والشعبي والهدوية والمؤيد بالله والناصر إلى أنها تعتد بآخر الأجلين؛ إما وضع الحمل إن تأخر عن الأربعة الأشهر والعشر، أو بالمدة المذكورة إن تأخرت عن وضع الحمل، قالوا: لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (1). فالآية الكريمة فيها عموم وخصوص من وجه، وقوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} . كذلك، فجمع بين الدليلين بالعمل بهما، والخروج من العهدة بيقين، بخلاف ما إذا عمل بأحدهما. أجاب عن ذلك الأولون بأن حديث سبيعة نص في الحكم مبين (أ) بأن آية "النساء القصرى" شاملة للمتوفى عنها، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الله في زوائد (ب)"السند" وأبو يعلى والضياء في "المختارة"(2) وابن مردويه، عن أبي بن كعب قال: قلت: يا رسول الله، {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. أهي المطلقة ثلاثا [أو] (جـ) المتوفى عنها؟ قال:"هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها".
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والدارقطني (3) من وجه آخر
(أ) في جـ: يبين.
(ب) في جـ: رواية.
(جـ) في الأصل، جـ: و. والمثبت من مصادر التخريج.
_________
(1)
الآية 234 من سورة البقرة.
(2)
مسند أحمد 5/ 116، وأبو يعلى في معجمه 1/ 39 ح 3، والضياء في المختارة 3/ 416 ح 1213، وابن مردويه -كما في الدر المنثور 6/ 235.
(3)
تفسير ابن جرير 28/ 143، وابن أبي حاتم -كما في تفسير ابن كثير 8/ 178 - وابن مردويه - كما في الدر المنثور 6/ 234، 235، والدارقطني 3/ 302 ح 211، 4/ 39 ح 111.
عن أبي بن كعب قال: لما نزلت هذه الآية قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هذه الآية مشتركة أو مبهمة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أية آية؟ ". قلت: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، المطلقة والمتوفى عنها؟ قال:"نعم".
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه (1) من طرق عن ابن مسعود، أنه بلغه أن عليًّا يقول: تعتد آخر الأجلين. فقال: من شاء لاعنته، أن الآية التي في سورة "النساء القصرى" نزلت بعد سورة "البقرة"؛ {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . بكذا (أ) وكذا شهر (ب)، وكل مطلقة ومتوفى عنها (جـ) زوجها فأجلها أن تضع.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والطبراني وابن مردويه عن ابن مسعود (2) قال: من شاء حالفته أن سورة "النساء الصغرى" أنزلت بعد الأربعة الأشهر وعشر، {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .
(أ) في جـ: لكذا.
(ب) في جـ: أشهر.
(جـ) ساقط من: جـ.
_________
(1)
عبد الرزاق 6/ 471 ح 11714، وسعيد بن منصور 1/ 352 ح 1513، 1514، وابن أبي شيبة 4/ 298، وأبو داود 2/ 303 ح 2307، والنسائي 6/ 508، وابن ماجه 1/ 654 ح 2030، وابن جرير في تفسيره 28/ 143، والطبراني في المعجم الكبير 9/ 384 ح 9641، وابن مردويه -كما في الدر المنثور 6/ 235.
(2)
عبد الرزاق 6/ 471 ح 11715، وابن أبي شيبة 4/ 297، 298، والطبراني 9/ 384 ح 9642، وابن مردويه -كما في الدر المنثور 6/ 235.
وأخرج عبد بن حميد (1) عن ابن مسعود قال: من شاء لاعنته أن الآية التي في "النساء القصرى"؛ {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} نسخت ما في "البقرة".
وأخرج ابن مردويه (2) عن ابن مسعود قال: نسخت سورة "النساء القصرى" كل عدة، {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أجل كل حامل؛ مطلقة أو متوفى عنها زوجها أن تضع حملها.
وأخرجه الحاكم في "التاريخ" والديلمي (3) عن ابن مسعود مرفوعًا.
وأخرج عبد بن حميد والبخاري والطبراني وابن مردويه (4) عن ابن مسعود قال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة؟ أنزلت سورة "النساء القصرى" بعد الطولى؛ {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، إذا وضعت فقد انقضت العدة.
وأخرج ابن مردويه (5) عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت سورة "النساء القصرى" بعد التي في "البقرة" بسبع سنين.
وأخرج عبد الرزاق (6) عن أبي بن كعب قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أسمع الله يذكر: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، والحامل التوفى عنها زوجها أن تضع حملها؟ فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:"نعم".
(1) عبد بن حميد -كما في الدر المنثور 14/ 554 (طبعة هجر).
(2)
ابن مردويه -كما في الدر المنثور 6/ 236.
(3)
الحاكم في التاريخ -كما في الدر المنثور 6/ 236 - والديلمي ح 6860.
(4)
عبد بن حميد وابن مردويه -كما في الدر المنثور 6/ 236 - والبخاري 8/ 193، 654 ح 4532، 4910، والطبراني في المعجم الكبير 9/ 385 ح 9647.
(5)
ابن مردويه -كما في الدر المنثور 6/ 236.
(6)
عبد الرزاق 6/ 472 ح 11717.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه (1) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: كنت أنا وابن عباس وأبو هريرة، فجاء رجل فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة، أحلت؟ فقال ابن عباس: تعتد آخر الأجلين. قلت أنا: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . قال ابن عباس: ذلك في الطلاق. قال أبو سلمة: أرأيت لو أن امرأة جرت حملها سنة، فما عدتها؟ قال ابن عباس: آخر الأجلين. قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي. يعني أبا سلمة. فأرسل ابن عباس غلامه كريبًا إلى أم سلمة يسألها هل مضت في ذلك سنة؟ فقالت: قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه (2) عن أبي السنابل بن بعكك، أن سبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها بثلاثة وعشرين يومًا، [فتشوفت](أ) للنكاح، فأنكر ذلك عليها، أو عيب عليها، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إن تفعل فقد خلا أجلها".
(أ) في الأصل، جـ: فتشرفت. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
عبد الرزاق 6/ 474 ح 11723، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه -كما في الدر المنثور 6/ 236 - وابن أبي شيبة 4/ 296، والبخاري 8/ 653 ح 4909، ومسلم 2/ 1122 ح 1485، والترمذي 3/ 499 ح 1194، والنسائي 6/ 194، والحديث ليس عند أبي داود وابن ماجه. ينظر تحفة الأشراف 13/ 28، 29، والمسند الجامع 20/ 641 - 644.
(2)
ابن أبي شيبة 4/ 296، وعبد بن حميد وابن مردويه -كما في الدر المنثور 6/ 236.
وأخرج ابن مردويه (1) عن عائشة قالت: مكثت امرأة ثلاثًا وعشرين ليلة، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك، فقال:"استفلحي لأمرك". يقول: تزوجي.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه (2) عن سبيعة الأسلمية أنها توفي زوجها، فوضعت بعد وفاته بخمس وعشرين ليلة، فتهيأت، فقال لها أبو السنابل بن بعكك: قد أسرعت، اعتدي آخر الأجلين أربعة أشهر وعشرا. قالت: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:"إن وجدت زوجا صالحا فتزوجي".
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد (3) عن المسور بن مخرمة، أن زوج سبيعة الأسلمية توفي وهي حامل، فلم تمكث إلا ليالٍ يسيرة حتى نفمست، فلما تعلت -أي: برئت- من نفاسها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن لها فنكحت.
وأخرج عبد بن حميد (4) عن الحسن، ان امراة توفي عنها زوجها، فولدت بعد أيام، فاختضبت وتزينت، فمر بها أبو السنابل بن بَعْكَك فقال: كذَبْتِ، إنما هو آخر الأجلين. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال:
(1) ابن مردويه -كما في الدر المنثور 6/ 236.
(2)
ابن أبي شيبة 4/ 299، وابن مردويه -كما في الدر المنثور 6/ 236.
(3)
عبد الرزاق 6/ 473 ح 11722، وابن أبي شيبة 4/ 297، وعبد بن حميد -كما في الدر المنثور 6/ 236.
(4)
عبد بن حميد -كما في الدر المنثور 6/ 236.
"كذب أبو السنابل، تزوجي".
وأخرج عبد بن حميد (1) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أنه تمارى هو وابن عباس في المتوفى عنها زوجها وهي حُبلى، فقال ابن عباس: آخر الأجلين. وقال أبو سلمة: إذا ولدت فقد حلت. فجاء أبو هريرة فقال: أنا مع ابن أخي. لأبي سلمة، ثم أرسلوا إلى عائشة فسألوها. فقالت: ولدت سُبيعة بعد وفاة زوجها بليال، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها فنكحت.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد (2) عن عبيد الله بن عبد الله، قال: أرسل مروان عبد الله بن عتبة إلى سبيعة بنت الحارث يسألها عما أفتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أنها كانت عند سعد بن خولة، فتوفي عنها في حجة الوداع، وكان بدريا، فوضعت حملها قبل أن تمضي أربعة أشهر وعشر من وفاته، فلقيها أبو السنابل بن بعكك حين تَعَلَّت من نفاسها، وقد اكتحلت وتزينت، فقال: لعلك تريدين النكاح! إنها أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجك. قالت: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، وذكرت له ما قال أبو السنابل. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اربَعِي بنفسك (3)، فقد حل أجلك إذا وضعت حملك".
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد (4) عن علي في الحامل إذا وضعت بعد وفاة زوجها، قال: تعتد أربعة أشهر وعشرا.
(1) عبد بن حميد -كما في الدر المنثور 6/ 236.
(2)
عبد الرزاق 6/ 473 ح 11722، وعبد بن حميد -كما في الدر المنثور 6/ 236.
(3)
اربعي بنفسك: نَفِّسي عن نفسك وأخرجيها من بؤس العدة وسوء الحال. ينظر النهاية 2/ 187.
(4)
ابن أبي شيبة 4/ 297، وعبد بن حميد -كما في الدر المنثور 6/ 236.
وأخرج ابن أبي شيبة (1) عن سعيد بن المسيب، أن عمر استشار علي ابن أبي طالب وزيد بن ثابت، قال زيد: قد حلت. وقال علي: أربعة أشهر وعشرا. قال زيد: أرأيت إن كانت نسْئًا (2). قال علي: فآخر الأجلين. [قال عمر](أ): لو وضعت ذا بطنها وزوجها على نعشه لم يدخل حفرته لكانت قد حلت.
وأخرج ابن المنذر (3) عن مغيرة، قال:[قلت للشعبي](ب): ما أصدق أن علي بن أبي طالب كان يقول: عدة المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين. قال: بلى، فصدِّقْ به كأشد ما صدقت بشيء؛ كان علي يقول: إنما قوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . في المطلقة.
فهذه الأحاديث المروية في تفسير الآية الكريمة تدل على أن الآية معمول بعمومها في جميع العدد، وأن عموم آية "البقرة" مخصص بهذه الآية الكريمة، ومع تأخر نزولها كما في هذه الروايات يكون تخصيصها لعموم الآية السابقة متفقا عليه، قال الإمام المهدي في "البحر" بعد أن ذكر حجة القول الأول بحديث سبيعة: قلت: إن تأخر الخبر عن آية الأشهر فقوي، وإلا فهي أقوى للجمع. انتهى. يعني أن الحديث إذا كان متأخرا كان
(أ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.
(ب) في الأصل، جـ: قال الشعبي. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
ابن أبي شببة 4/ 297.
(2)
النسء: المرأة المظنون بها الحمل، أي تأخر حيضها ورُجي حبلها. ينظر التاج (ن س أ).
(3)
ابن المنذر -كما في الدر المنثور 6/ 237.
مخصصا لعموم آية "البقرة"؛ لأن السنة المتأخرة تكون مخصصة لعموم القرآن، وأما مع تقدم قصة سبيعة أو مع جهل التاريخ يكون العمل بالآية، فعلى الأول (أ) لكونها ناسخة لحديث سبيعة، و (ب) مع جهل التاريخ لترجيح الآية.
وأقول: أولًا، كلام "البحر" مبني على قول من لم يبن العام على الخاص مطلقا، ويقول: إن العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم. وثانيا، أنه قد ثبت بما تلونا عليك في قصة الأسلمية أنها متأخرة عن الآية، فهو معمول بالحديث، وآية سورة "النساء القصرى" متأخرة النزول مبين (جـ) المراد بعمومها من السنة، فالعمل بذلك صحيح. وقال الجمهور: إنه يجوز العقد عليها وإن لم تطهر من النفاس كما تقدم في حديث ابن شهاب. وقال الشعبي والحسن والنخعي وحماد بن أبي سليمان: لا تنكح حتى تطهر. ولعل مستندهم ما وقع في بعض ألفاظ حديث سبيعة: فلما تعلت من نفاسها. ولا حجة لهم (د) في ذلك؛ لأن "تعلت" تحتمل أن يراد به برئت من ألم النفاس، وإن كان الدم باقيا، ويحتمل طهرت، والأول أرجح، فإنه قد جاء ما هو صريح كما في قوله:"حل أجلك إذا وضعت حملك". وغيره، وكذا هو ظاهر الآية الكريمة، وهو قوله:{أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . وإن حرم وطؤها لعلة أخرى وهو بقاء دم النفاس، وقد اختلف في الوضع الذي تنقضي
(أ) في جـ: الأولى.
(ب) في جـ: أو.
(جـ) في جـ: بينهن.
(د) في جـ: له.
به العدة؛ فذهب العترة والشافعي إلى أنه يشترط فيه أن يكون لاحقا بمن اعتدت منه المرأة، كلو نكحت وهي حامل من زنًى ثم طلقها الزوج أو مات عنها فلا تنقضي عدتها بذلك، وقال أبو حنيفة: إنها تنقضي به العدة لعموم {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . والجواب: أن الخطاب للناكحات الحاملات عن الأزواج. ولا بد من وضع الحمل جميعه، وإذا كان متخلقا فإجماع، وأما إذا كان غير متخلق فإن كان مضغة لا تخلُّق فيها، فذهب العترة إلى أنه لا تنقضي به العدة؛ لجواز أنه دم منعقد، وقال في "المنهاج" وشرحه "العجالة": وبمضغة فيها صورة آدمي خفية أخبر بها القوابل (1). أي فإن العدة تنقضي بها أيضًا، ومثل هذا رواه الإمام المهدي عن الشافعي، ثم قال: فإن لم يكن صورة -أي بينة ولا خفية- وقلن -أي القوابل-: هي أصل آدمي. انقضت على المذهب، لأن القصد من العدة معرفة براءة الرحم، وهي تحصل برؤية الدم. فمثل هذا أول، أي قول أول، للشافعي، والقول الثاني: إنها لا تنقضي. وهو مخرج من الغرة (أ) وأمية الولد كما نص عليه فيهما، والأول فرق بأن الأصل براءة الذمة من الغرة، فلا تجب بالشك، وأمية الولد منوطة باسم الولد، وهذا لا يسمى ولدًا، والعدة منوطة باسم الحمل، وهذا [لا](ب) يسمى حملًا بخلاف العلقة، وهذه الطريقة هي الصحيحة أن المسألة على القولين، والطريقة الثانية القطع بالأول. انتهى.
(أ) في الأصل: العدة.
(ب) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
القوابل: جمع القابلة وهي المرأة التي تأخذ الولد عند الولادة. أي تتلقاه. ينظر التاج (ف ب ل).
وقال النووي في "شرح مسلم"(1): وقال العلماء من أصحابنا وغيرهم: سواء كان الحمل ولدا أو أكئر، كامل الخلقة أو ناقصها، أو علقة أو مضغة، فتنقضي العدة بوضعه إذا كان فيه صورة خلق آدمى، سواء كان صورة خفية تختص النساء بمعرفتها، أم جلية يعرفها كل أحد. وتوقف ابن دقيق العيد فيه من جهة أن الغالب في إطلاق وضع الحمل هو الحمل التام المتخلق، وأما خروج المضغة والعلقة فهو نادر، والحمل على الغالب أقوى. قال المصنف (2) رحمه الله تعالى: ولهذا نقل عن الشافعي قول بأن العدة لا تنقضي بوضع قطعة لحم ليس فيها صورة بينة ولا خفية، وظاهر الحديث والآية الكريمة الإطلاق فيما تحقق كونه حملًا، وأما ما لا يتحقق كونه حملًا فلا؛ لجواز أنه (أ) قطعة لحم، والعدة لازمة بيقين فلا تنقضي بالمشكوك فيه.
914 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض. رواه ابن ماجه (3) ورواته ثقات، لكنه معلول.
الحديث تأيد بما أخرجه أحمد (4) عن عفان عن همام بحديث بريرة مطولًا، وفيه أنها تعتد عدة الحرة. وقد جاء في بعض طرقه: تعتد بحيضة. وهي مرجوحة، ويحتمل أن أصله: تعتد بحيض. فيكون المراد الجنس لما استبرئ (ب) به ولا يقصد الموحدة الفردية، وإنما المقصد الموحدة النوعية،
(أ) في جـ: كونه.
(ب) في جـ: تستبرئ.
_________
(1)
شرح مسلم 10/ 109.
(2)
الفتح 9/ 475.
(3)
ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب خيار الأمة إذا أعتقت 1/ 671 ح 2077.
(4)
أحمد 1/ 361.
والتأويل أولى، وهو يدل على أن العدة معتبرة بالمرأة -عند من يجعل عدة المملوك دون عدة الحر- لا بالزوج، على القول الأظهر أن زوجها كان مملوكًا.
915 -
وعن الشعبي عن فاطمة بنت قيس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثا:"ليس لها سكنى ولا نفقة". رواه مسلم (1).
هو أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبد الله الشعبي الهمْداني الكوفي، تابعي جليل القدر، فقيه كبير، قال: أدركت خمسمائة من الصحابة أو أكثر يقولون: علي وطلحة والزيير [في الجنة](أ). قال ابن عيينة: كان ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه. ولد لست سنين خلت من خلافة عثمان ومات سنة أربع ومائة، وله اثنتان وستون سنة، وفي "الكاشف"(2) أنه ولد في خلافة عمر. وفي "مرآة الزمان" لليافعي (3) أنه مات وله بضع وثمانون سنة. مر به ابن عمر وهو يحدث بالمغازي، فقال: شهدت القوم وهو أعلم بها مني. وقال ابن سيرين لأبي بكر الهذلي (ب): الزم الشعبي، فلقد رأيته يستفتى وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالكوفة. وقال الزهري: العلماء أربعة؛ ابن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري
(أ) ساقطة من: الأصل.
(ب) في جـ: البدلي. وينظر السير 4/ 300.
_________
(1)
مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها 2/ 1117 ح 1480/ 42.
(2)
الكاشف 2/ 49.
(3)
مرآة الجنان 1/ 215.
بالبصرة، ومكحول بالشام.
الحديث أخرجه مسلم وأخرجه بألفاظ غير هذا موافقة في المعنى، وهو يدل على أن المطلقة ثلاثًا لا تستحق سكنى ولا نفقة، وقد ذهب إلى هذا ابن عباس، والحسن، وعطاء، والشعبي، وأحمد في إحدى الروايات عنه، والقاسم، والإمامية، وإسحاق بن راهويه وأصحابه، وداود، وسائر أهل الحديث، فقالوا: لا تجب النفقة ولا السكنى. وذهب عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، والناصر، والإمام يحيى، وأبو حنيفة، والثوري، وأهل الكوفة، إلى وجوب النفقة والسكنى؛ قالوا: أما السكنى فلقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} (1). وأما النفقة فلأنها محبوسة عليه. وذهب الشافعي ومالك وآخرون إلى وجوب السكني لها دون النفقة؛ لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} . وأما النفقة فلقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . ومفهوم الشرط يدل على أنها لا تحب لغير الحامل، وأما الرجعية التي ليست بحامل فوجوب النفقة لها بدليل الإجماع، وذهب الهادي والمؤيد إلى وجوب النفقة دون السكني في البائن، قالوا: لقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} (2). وإذ حبست بسببه كالرجعية، ولا سكنى لها؛ [لأن] (أ) قوله تعالى:{مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} . يدل على أن ذلك حيث يكون الزوج، وهو يقتضي الاختلاط، ولا يكون ذلك
(أ) في الأصل: إذ.
_________
(1)
الآية 6 من سورة الطلاق.
(2)
الآية 241 من سورة البقرة.
إلا في حق الرجعية. قالوا: وأما تقييد النفقة بحالة الحمل فليس ذلك للعمل بالمفهوم، وإنما هو لما كانت مدة الحمل قد تطول بحسب الأغلب فاستبعد وجوب الإنفاق فيها كلها، فنبه بالتقييد على وجوبها فيها وإن طالت المدة. ورده ابن السمعاني بأنه لا أغلبية في طول مدة الحمل، بل تكون تارة أقصر، وتارة مساوية، وتارة أطول، فلا تظهر فائدة غير التخصيص.
واعلم أنه قد طعن علي حديث فاطمة بنت قيس قديمًا وحديثًا بثمانية مطاعن؛ أولها، ما رواه مسلم (1) في "الصحيح" عن أبي إسحاق قال: كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي، فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فأخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به، فقال: ويلك! تحدث بمثل هذا؟ قال عمر: لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري أحفظت أم نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله تعالى:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2). قالوا: فهذا عمر قال: سنة نبينا. وقد ثبت أن قول الصحابي (أ): سنة نبينا. مرفوع، وإذا تعارضت رواية عمر ورواية فاطمة، كانت روايته أرجح.
الثاني، قول عائشة رضي الله عنها: ما لفاطمة (ب) بنت قيس خير إن
(أ) في جـ: الصحابة.
(ب) في النسخ: بفاطمة. والمثبت من مصدر التخريج، والمعنى كأنها تشير إلى ما تقدم وأن الشخص لا ينبغي له أن يذكر شيئًا عليه فيه غضاضة. الفتح 9/ 479.
_________
(1)
مسلم 2/ 1118 ح 1480/ 46.
(2)
الآية 1 من سورة الطلاق.
تذكر هذا الحديث. أخرجه في "الصحيحين"(1). وفي "صحيح البخاري"(2) عن عائشة قالت: إن فاطمة كانت في مكان وحش (3)، فخص على ناحيتها، فلذلك أرخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني في الخروج.
الثالث، ما روى عبد الله بن صالح كاتب الليث، قال: حدثني الليث بن سعد حدثني جعفر عن ابن هرمز عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: كان محمد بن أسامة بن زيد يقول: كان أسامة إذا ذكرت فاطمة شيئًا من ذلك، يعني من انتقالها في عدتها، رماها بما في يده (4).
الرابع، أن مروان لما حُدث بحديث فاطمة، قال: لم نسمع هذا إلا من امرأة، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها (5).
الخامس، ما رواه أبو داود في "سننه"(6)، قال سعيد بن المسيب: إنها كانت امرأة لَسِنَة، فوضعت على يدي ابن أم مكتوم.
السادس: ما رواه أبو داود (7) عن سليمان بن يسار، قال في خروج فاطمة: إنها كانت من سوء الخلق.
(1) البخاري 9/ 477 ح 5324، 5326، ومسلم 2/ 1120 ح 1481.
(2)
البخاري 9/ 477 ح 5325، 5326.
(3)
وحش: خلاء لا ساكن به. النهاية 5/ 161.
(4)
المحلى 1/ 690.
(5)
المحلى 11/ 698.
(6)
أبو داود 2/ 298 ح 2296.
(7)
أبو داود 2/ 297 ح 2294.
السابع، ما أخرجه النسائي (1) من إنكار الأسود بن يزيد على الشعبي لما أفتى بذلك، وقال: ويلك! لم تفتي بمثل هذا؟ قال عمر لها: إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا لم نترك كتاب ربنا لقول امرأة.
الثامن، ما أخرجه أبو محمد بن حزم (2) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وقد ذكر حديث فاطمة بنت قيس، ثم قال: فأنكر الناس عليها ما كانت تحدث من خروجها قبل أن تحل. فالوا: وقد عارض رواية فاطمة صريح رواية عمر في إيجاب النفقة والسكنى؛ فروى حماد بن سلمة عن حماد بن أبي [سليمان](أ)، أنه أخبره إبراهيم النخعي بحديث الشعبي عن فاطمة بنت قيس، فقال له إبراهيم: إن عمر أخبر بقولها، فقال: لسنا بتاركي آية من كتاب الله وقول النبي صلى الله عليه وسلم لقول امرأة؛ لعلها أوهمت، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"لها السكنى والنفقة". انتهى.
وقد أجيب عن المطاعن بما حاصله أنها تضمنت أربعة أمور؛ أحدها، كون الراوي امرأة، ولم تقترن بشاهدين عدلين يتابعانها على حديثها. ثانيها، أن الرواية تخالف ظاهر القرآن. الثالث، أن خروجها من المنزل لم يكن لأنه لا حق لها في السكنى، بل لإيذائها أهل زوجها بلسانها. الرابع، معارضة روايتها لرواية عمر.
(أ) في الأصل، جـ: سلمة. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
النسائي 6/ 209.
(2)
المحلى 11/ 697.
وأجيب عنها: أما الأول، فكون الراوي امرأة غير قادح، فكم من سنن ثبتت عن النساء، يعلم ذلك من اطلع على السنن، وعرف مسانيد الصحابة، وعدم متابعة غيرها لها من الصحابة لا يقدح أيضًا، فإن من قبِل رواية الواحد، وهم الأكثر، لا يفرقون بين المرأة والرجل، وأما عمر رضي الله عنه فإنه قد فعل مثل هذا في حق أبي موسى الأشعري في خبر الاستئذان (1) حتى شهد اثنان، ولعل ذلك للتردد في الحفظ، وإلا فقد قبِل خبر الضحاك بن سفيان الكلابي في توريث امرأة أشيم (أ) من الدية (2)، وقبل لعائشة رضي الله عنها عدة أحاديث تفردت بها.
وأما الثاني، وهو مخالفتها لظاهر القرآن، فإن الجمع ممكن بحمل هذا الحديث على التخصيص لبعض أفراد العام، أو نسخ مع التراخي، والتخصيص بخبر الواحد صحمِح إلا عند الحنفية، فلا مخالفة حينئذ.
وأما الثالث، وهو أن خروجها كان لفحش في لسانها، فهو مستبعد في حقها، فهي من خيار الصحابة وفضلائهم من المهاجرات الأول، وكان لو أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بكف لسانها لم تخالفه.
وأما الرابع، وهو معارضة روايتها برواية عمر، وهي تورد من وجهين، أحدهما، قوله: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا. وأن هذا من حكم المرفوع. والثاني، قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لها السكنى والنفقة".
(أ) في جـ: أسلم.
_________
(1)
البخاري 4/ 298 ح 2062، ومسلم 3/ 1694 ح 2153.
(2)
أحمد 3/ 452، وأبو داود 3/ 129 ح 2927، والترمذي 4/ 19 ح 1145.
والجواب عن ذلك، بأن الإمام أحمد أنكر هذه الزيادة من قول عمر، وجعل يتبسم ويقول: أين في كتاب الله إيجاب النفقة والسكنى للمطلقة ثلاثًا؟ وقال: لا يصح هذا عن عمر. قاله أبو الحسن الدارقطني، وأما حديث إبراهيم النخعي الذي مر، فإبراهيم لم يسمعه من عمر، فإنه لم يولد إلا بعد موت عمر بسنين، فذلك على تقدير ثبوته لا يكون إلا بواسطة، والواسطة قد تكون ممن قصر حفظه وثقته في رواية الحديث، ولو كان ذلك ثابتًا لروي لفاطمة في دفع حديثها وانقطعت حجتها. وقد تناظر في هذه المسألة ميمون بن مهران وسعيد بن المسيب، فذكر له ميمون حديث فاطمة، فقال له سعيد: تلك امرأة فتنت الناس. فقال له ميمون: لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فتنت الناس، وإن لنا في رسول الله أسوة حسنة. مع أن حديث فاطمة احتج به جماعة من الفقهاء في عدة أحكام، فمالك والشافعي وجمهور الأمة يحتجون به في سقوط نفقة المبتوتة إذا كانت حائلًا، والشافعي نفسه احتج به على جواز جمع الثلاث؛ لأن في بعض ألفاظه؛ فطلقني ثلاثًا. واحتج به من يرى جواز نظر المرأة إلى الرجال، واحتج به الأئمة كلهم على جواز خطبة الرجل على خطبة أخيه إذا لم تكن المرأة قد سكنت إلى الخاطب الأول، وعلى جواز ذكر ما في الرجل إذا كان على وجه النصيحة لمن استشاره أن يزوجه أو يعامله أو يسافر معه، وأن ذلك ليس بغيبة، وعلى جواز نكاح القرشية من غير القرشي، وعلى وقوع الطلاق وإن لم يكن الزوج حاضرًا عند الزوجة، وعلى
جواز التعريض بالخطبة في حق البائن، والله أعلم.
916 -
وعن أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُحِدّ امرأة على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت، نبذة من قسط وأظفار". متفق عليه، وهذا لفظ مسلم (1). ولأبي داود والنسائي (2) من الزيادة:"ولا تختضب". وللنسائي (3): "ولا تمتشط". الحديث.
قوله: "لا تحد امرأة". فيه دلالة على أنه لا يحل للمرأة الإحداد على غير الزوج، أبا كان أو غير أب، فوق الثلاث، وأنه يجوز الإحداد الثلاث أو أقل منها، وكأن هذا القدر أبيح لأجل غلبة الطباع البشرية للإنسان، وأنه لا يكاد يقدر أن يدفع الجزع والحزن ويتسلى عن المصائب بالكلية، وكانت الشريعة على الحنيفية السهلة وتوسيع الأمر إذا ضاق؛ لطفًا من الله ورحمة، كما أراد بعباده اليسر، ولم يحملهم على الإصر والعسر، وقد أخرج أبو داود في "المراسيل"(4)، من حديث عمرو بن شعيب، أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمرأة أن تحد على أبيها سبعة أيام، وعلى من سواه ثلاثة أيام. فلو صح كان مخرجًا للأب من هذا العموم، ولكنه مرسل أو معضل؛ لأن عمرو بن شعيب
(1) البخاري، كتاب الحيض، باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض 1/ 413 ح 313، ومسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة 2/ 1127 ح 938/ 66.
(2)
أبو داود 2/ 301 ح 2303، والنسائي 6/ 204.
(3)
النسائي 6/ 202، 203.
(4)
المراسيل ص 208.
إنما أدرك صغار الصحابة وروى عنهم القليل، وجل روايته عن التابعين.
وقوله: "امرأة". يخرج الصغيرة. وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة وأصحابه وتخريج أبي (أ) العباس للهادي، والخلاف للجمهور، قالوا (ب): وذكر المرأة خرج مخرج الغالب، ولأن التكليف على وليها يمنعها من الطيب والزينة، ولأن العدة واجبة على الصغيرة كالكبيرة، ولأنه لا تحل خطبتها، وكذا في الرواية الأخرى:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر"(1). فالتقييد بالإيمان إنما هو لأن المؤمنة هي المعتبرة في بيان ما يجب عليها ويحرم، وإن كانت الكافرة كذلك، والخلاف لأبي ثور وبعض المالكية.
وقوله: "على ميت". ظاهره [أنه](جـ) لا إحداد على المطلقة، فإن كان رجعيا فإجماع، وإن [كان](د) بائنًا، فذهب أنه لا إحداد عليها الجمهور، وهو مذهب الهادي، والمؤيد، والإمام يحيى، والشافعي، ومالك، وربيعة، ورواية عن أحمد، لظاهر التقييد بالميت، فالمفهوم أن غيره لا إحداد عليه، ولأن الإحداد إنما شرع لقطع ما يدعو إلى الجماع، وكان هذا في حق [المنبتة](هـ) لتعذر رجوعها إلى الزوج، وأما المطلقة بائنًا، فلأنه (و) يصح أن
(أ) في جـ: ابن.
(ب) في جـ: قال.
(جـ) في الأصل: أن.
(د) في الأصل: كانت.
(هـ) في الأصل، جـ: المميتة. والمثبت يقتضيه السياق.
(و) في جـ: فإنه.
_________
(1)
البخاري 3/ 146 ح 1280، ومسلم 2/ 1123، 1124 ح 1486/ 58.
تعود مع زوجها بعقد إذا لم تكن مثلثة، وذهب علي وزيد بن علي وتخريج أبي العباس للهادي وأبو حنيفة وأصحابه وأبو [عبيد](أ) وأبو ثور إلى وجوب الإحداد على المطلقة بائنًا قياسًا على المتوفى عنها، وقال به بعض الشافعية والمالكية، قالوا: لأنهما اشتركتا في العدة واختلفتا في سببها، ولأن العدة تحرم النكاح فحرمت دواعيه، والإحداد معقول المعنى، وهو أن إظهار الزينة والطيب والحلي مما يدعو المرأة إلى الرجال، ويدعو الرجال إليها، فلا يؤمن أن تكذب في انقضاء عدتها استعجالًا لذلك، فمنعت من دواعي ذلك وسدت إليه الذريعة.
وهذا الحديث لا يدل على وجوب الإحداد رأسًا، وإنما المفهوم يدل على حله على الزوج المدة المذكورة، وقال بوجوبه في حق المنبتة الأكثر، ويدل على ذلك حديث أم سلمة أخرجه أبو داود (1)، أنه قال:"المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تكتحل، ولا تختضب". وأخرج أيضًا (2) عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت علي صبرًا، فقال:"ما هذا يا أم سلمة؟ ". قلت: صبر يا رسول الله، ليس فيه طيب. قال:"إنه يشبُّ الوجه، فلا تجعليه إلا بالليل، وتنزعيه بالنهار، ولا تمتشطي بالطيب، ولا بالحناء، فإنه خضاب". قالت: قلت: يا رسول الله، بأي شيء أمتشط؟ قال:"بالسدر، تُغلِّفين (ب) به رأسك". وذهب الحسن البصري فيما رواه عنه حماد بن
(أ) في الأصل، جـ: عبيدة. والمثبت من الفتح 9/ 486.
(ب) زاد في جـ وفي حاشية الأصل: أي تلطخين. وينظر اللسان (غ ل ف).
_________
(1)
أبو داود 2/ 301 ح 2304.
(2)
سيأتي ح 917.
سلمة عن حميد أنه قال (1): إن المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها (أ) يكتحلان، ويمتشطان، ويتطيبان، ويختضبان، وينتعلان، ويصبغان ما [شاءتا] (ب). ومثله الحكم بن عتيبة فيما رواه عن شعبة: أن المتوفى عنها لا تحد. وكذا نقل الخلال بسنده عن أحمد عن هشيم عن داود عن الشعبي، أنه كان لا يعرف الإحداد (2)، قال أحمد: ما كان بالعراق أشد تبحرًا من هذين. يعني الحسن والشعبي. قال: وخفي ذلك عليهما. انتهى. وحجتهما ما رواه أحمد (3) وصححه ابن حبان، عن أسماء بنت عميس، قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر بن أبي طالب، فقال:"لا تحدي بعد يومك". هذا لفظ أحمد، وفي رواية له ولابن حبان والطحاوي (4): لما أصيب جعفر أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "تسَلَّبي ثلاثا، ثم اصنعي ما شئت". وأخرج ابن حزم (1) من طريق [الخشني](جـ) محمد بن عبد السلام عن عبد الله بن شداد بن الهاد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأة جعفر بن أبي طالب: "إذا
(أ) ساقط من: الأصل.
(ب) في الأصل، جـ: شاء. والمثبت من مصدر التخريج.
(جـ) في الأصل، جـ: الحسن بن. والمثبت موافق لما في مصدر التخريج.
_________
(1)
المحلى 11/ 664.
(2)
الفتح 9/ 486.
(3)
أحمد 6/ 369.
(4)
أحمد 6/ 438، وابن حبان 7/ 418، 3148، والطحاوي في شرح المعاني 3/ 57. ووقع عند ابن حبان: تسلَّمي، وعند الطحاوي: تسكني. قال ابن الأثير: تسلبي: أي: البسي ثوب الحداد، وهو السلاب، والجمع سلب، وتسلبت المرأة: إذا لبسته، وقيل: هو ثوب أسود تغطي به المحد رأسها. النهاية 2/ 387. وينظر ص 196.
كان ثلاثة أيام فالبسي، أو بعد ثلاثة أيام". شك شعبة. ومن طريق حماد بن سلمة عن عبد الله بن شداد بن الهاد (1)، أن أسماء بنت عميس استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تبكي على جعفر وهي امرأته، فأذن لها ثلاثة أيام، ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام، أن تطهري واكتحلي. قالوا: وهذا ناسخ لأحاديث الإحداد؛ لأنه بعدها، فإن أم سلمة أمرت بالإحداد بعد موت زوجها، وموته متقدم على قتل جعفر رضي الله عنهما. وقد أجيب عن هذا بأجوبة؛ منها، أنه مخالف للأحاديث الصحيحة، وقد أجمعوا على خلافه. ولا يخفى ما في هذا الجواب من الركَّة. ومنها، أن جعفرا قتل شهيدًا، والشهداء أحياء عند ربهم. وهذا كذلك، فإنه كان يلزم جريه في حق غيره من الشهداء كحمزة وغيره. ومنها، أن أحاديث وجوب الإحداد ناسخة لهذه الأحاديث المبيحة. ذكره الطحاوي، ودعوى النسخ لا تصح مع ما قد عرفت من تأخر قصة أسماء بنت عميس، بل الأمر بالعكس. ومنها، أنه يحتمل أن أسماء فعلت من الإحداد قدرًا زائدًا على ما يجب عليها، فنهيت بعد الثلاث عن ذلك الزائد، ووسع لها في الثلاث لشدة ما ألم بها من المصيبة. ومنها، أنه يحتمل أنها كانت حاملًا، فوضعت بعد الثلاثة الأيام فانقضت عدتها، وحديث: "تسَلَّبي ثلاثا". يحمل على أنه صلى الله عليه وسلم اطلع على أن عدتها تنقضي بعد الثلاث، ويكون من أعلام النبوة. ومنها، أنه يحتمل أنه كان قد أبان طلاقها، فتكون عدتها عدة طلاق ولا إحداد عليها، كما سبق الخلاف.
ومنها، أن حديث عبد الله بن شداد إن كانت روايته لذلك عن قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو منقطع؛ لأنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولا رآه، وإن كان
(1) المحلى 11/ 664.
روايته عن أسماء فقد قال البيهقي (1): إنه لم يسمع من أسماء. وهذه العلة مدفوعة، فقد صححه أحمد لكنه قال: إنه مخالف للأحاديث الصحيحة. وأما طريق حماد بن سلمة ففيها الحجاج بن أرطاة (2)، ولا يعارض بحديثه حديث الأثبات فرسان الحديث.
وهذه الأجوبة لا يخفى عليك ما فيها، وقد روى ابن حبان لفظ "تسلبي"، فقال:"تسلمي". بالميم بدل الباء، وقد فسرها بأنه أمرها بالتسليم لأمر الله تعالى، قال: ولا مفهوم للتقييد بالثلاث؛ لأن الحكمة كون القلق يكون في ابتداء الأمر أشد. ويدفع هذا التصحيف التكلف فيه التأويل ما وقع في رواية البيهقي وغيره (3): فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتسلب ثلاثا. فتبين خطؤه.
وقوله: "أربعة أشهر وعشرًا". قيل: الحكمة فيه أن الولد يتكامل تخليقه، وينفخ فيه الروح بعد مضي مائة وعشرين يومًا، وهي زيادة على أربعة أشهر بنقصان الأهلة، فجبر الكسر إلى العقد على طريق الاحتياط، وذكر العشر مؤنثا لإرادة الليالي، والمراد مع أيامها عند الجمهور، فلا تحل حتى تدخل الليلة الحادية عشرة، وعن الأوزاعي وبعض السلف: تنقضي بمضي الليالي العشر بعد الأشهر، وتحل في أول اليوم العاشر.
وقوله: "ثوبا مصبوغا". ظاهره يعم المعصفر والمزعفر وغير ذلك، قال
(1) البيهقي 7/ 438.
(2)
تقدمت ترجمته في 2/ 168.
(3)
البيهقي -كما في الفتح 9/ 488.
ابن المنذر (1): أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادة لبس الثياب المعصفرة ولا المصبغة إلا ما صبغ بسواد، فرخص فيه مالك والشافعي؛ لكونه لا يتخذ للزينة، بل هو من لباس الحزن. وقال المهدي في "البحر": ويحرم من اللباس المصبوغ للزينة ولو بالمغرة، وهو (أ) تراب أحمر، وهو المِشْق أيضًا وما في منزلته؛ لحسن صنعته، والمطرز والمنقوش بالصبغ والحلي جميعًا. وقال الإمام يحيى: لها لبس البياض والسواد والأكهب (2) وما بلي صبغه والخاتم والودع والزقر (3). ومثله ذكر ابن دقيق العيد (4) في الأبيض من الثياب، ومنع بعض المالكية المرتفع منها الذي يتزين به، وكذلك الأسود إذا كان مما يتزين به، وقال النواوي (5): رخص أصحابنا فيما لا يتزين به ولو كان مصبوغًا، واختلف في الحرير، والأصح عند الشافعية منعه مطلقًا، مصبوغًا أو غير مصبوغ؛ لأنه أبيح للنساء التزين به، والحادة ممنوعة من التزين، فكان في حقها كما في حق الرجال، وفي التحلي بالذهب والفضة وباللؤلؤ ونحوه وجهان، الأصح جوازه، وفيه نظر من جهة المعنى في المقصود بلبسه، وفي المقصود بالإحداد، فإنه عند تأملهما يترجح المنع، والله أعلم. انتهى.
وقوله: "إلا ثوب عصب". بعين مهملة مفتوحة ثم صاد ساكنة مهملة
(أ) في جـ: هي.
_________
(1)
ينظر الإجماع لابن المنذر ص 50.
(2)
الكُهوبة: غبرة مشربة سوادا. اللسان (ك هـ ب).
(3)
الزقرة: خاتم الفضة تلبسها المرأة في إبهام رجلها. التاج (ز ق ر).
(4)
شرح عمدة الأحكام 4/ 62.
(5)
شرح مسلم 10/ 118.
ثم باء موحدة، والثوب مضاف إلى العصب، وثوب العصب من برود اليمن، وهو ما يعصب غزله؛ أي يربط ثم يصبغ ثم ينسج معصوبًا، فيخرج موشًّى لبقاء ما عصب منه أبيض لم ينصبغ، وإنما يعصب السدَى دون اللحمة، وقال صاحب "المنتهى" (1): هو المفتول من برود اليمن. وذكر أبو موسى المديني في "ذيل الغريب"(2) عن بعض أهل اليمن، أنه من دابة بحرية تسمى [فرس](أ) فرعون يتخذ منها الخرز (ب) وغيره ويكون أبيض. وهذا غريب، وأغرب منه قول السهيلي (3): إنه نبات لا ينبت إلا باليمن. وعزاه لأبي حنيفة الدينوري. وأغرب منه قول الداودي (1): المراد بثوب العصب الأخضر، وهي الحبرة. قال المصنف (1) رحمه الله تعالى: وليس له سلف في ذلك.
وفيه دلالة على جواز لبس ما صبغ غزله قبل نسجه كالمعصوب؛ لعدم الزينة، ويلحق به ما كان صبغه لغير الزينة مثل السواد، أو كان الصبغ لتقبيح المصبوغ أو لستر الوسخ، قال الشافعي (4) رحمه الله تعالى: وفي الثياب زينتان؛ أحدهما، جمال الثياب على اللابسين. والثاني، الستر للعورة. فالثياب زينة لمن يلبسها، وإنما نهيت الحادة عن زينة بدنها ولم تنه عن ستر عورتها، فلا بأس أن تلبس كل ثوب من البياض، لأن البياض ليس يزين،
(أ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من الفتح.
(ب) في جـ: الحرير.
_________
(1)
فتح الباري 9/ 491.
(2)
ذكره عنه ابن الأثير في النهاية 3/ 245.
(3)
الروض الأنف 1/ 398.
(4)
الأم 5/ 232.
وكذلك الصوف والوبر، وكل ما ينسج على وجهه ولم يدخل عليه صبغ؛ من خز أو غيره، وكذلك كل صبغ لم يرد به التزين كالسواد وما صبغ لتقبيح، أو لنفي الوسخ عنه، فأما ما كان من زينة، أو وشي في ثوب أو غيره، فلا تلبسه الحادة، وذلك لكل حرة أو أمة، كبيرة أو صغيرة، مسلمة أو ذمية. انتهى كلامه.
قال ابن عبد البر (1): وقول الشافعي في هذا الباب نحو قول مالك، وقال أبو حنيفة: لا تلبس ثوب عصب ولا خز، وإن لم يكن مصبوغًا، إذا أرادت به الزينة، وإن لم ترد به الزينة فلا بأس بلبس الثوب المصبوغ، وإذا اشتكت عينها اكتحلت. انتهى. وظاهر كلام الأئمة أن مدار النهي على التعليل بالزينة، فالمعصوب إذا كان فيه زينة منعت منه، ويكون الحديث مخصصا بالمعنى المناسب للمنع. وقال [أبو] (أ) محمد بن حزم (2): إنها تجتنب الثياب المصبغة فقط، ومباح لها أن تلبس بعدُ ما شاءت من حرير أبيض أو أصفر من لونه الذي لم يصبغ، والصوف الذي من أصله أصفر من غير صبغ، ومباح لها أن تلبس المنسوج بالذهب، والحلي كله من الذهب والفضة والجوهر والياقوت والزمرد وغير ذلك. وهذا جمود منه على ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"ولا تلبس ثوبًا مصبوغا". ويرد عليه في حل الحلي ما في "سنن أبي داود"(3) من حديث أم سلمة، أنه قال صلى الله عليه وسلم: "المتوفى عنها زوجها لا
(أ) ساقطة من: الأصل، جـ.
_________
(1)
التمهيد 17/ 320، 321.
(2)
المحلى 11/ 656، 657.
(3)
تقدم ص 193.
تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تكتحل، ولا تختضب". إلا أنه قال (1): لا يصح الحديث؛ لأنه من رواية إبراهيم بن طهمان بن سعيد الخراساني. ورد عليه بأن إبراهيم من الحفاظ الأثبات الثقات، وقد صحح حديثه ابن المبارك، وأحمد بن حنبل وأبو حاتم (أ) وثَّقاه، وقال ابن معين والعجلي: لا بأس به. وقال أبو حاتم: صدوق حسن الحديث. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: كان ثقة في الحديث، لم يزل الأئمة يشتهون حديثه، ويرغبون فيه، ويوثقونه. وقال أبو داود: ثقة. وقال إسحاق بن راهويه: كان صحيح الحديث، حسن الرواية، كثير السماع، ما كان بخراسان أكثر حديثًا منه، وهو ثقة، وروى له الجماعة. وقال يحيى بن أكثم القاضي: كان من أنبل من حدث بخراسان والعراق والحجاز وأوثقهم وأوسعهم علما. وقال المسعودي: سمعت مالك بن سليمان يقول: مات إبراهيم بن طهمان سنة ثمان وستين ومائة بمكة، ولم يخلف مثله (2)، وإنما قدح عليه بالإرجاء، كذا ذكر الدارقطني (3)، وقد قيل: إنه رجع عن ذلك.
وقوله: "ولا تكتحل". فيه دلالة على تحريم الاكتحال على الحادة من دون حاجة، وهو قول الجمهور من العلماء، وقالت طائفة من أهل
(أ) في جـ: حامد.
_________
(1)
المحلى 11/ 658.
(2)
ينظر تهذيب الكمال 2/ 108 - 115.
(3)
الدارقطني -كما في تهذيب التهذيب 1/ 130.
العلم: يجوز مع كراهة؛ جمعًا بين أدلة التحريم والحل، وهو قوله لأم سلمة:"اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار". وقال بعض الشافعية: للسوداء أن تكتحل. وكأنهم خصصوا عموم النهي بالمعنى المقصود من الحكم، وهو أن التحريم إنما هو لأجل الزينة، وظاهر النهي سواء دعت إليه حاجة أم لا، وقد ذهب إلى هذا [أبو](أ) محمد بن حزم، فقال (1): لا تكتحل ولو ذهبت عيناها، لا ليلًا ولا نهارًا، وحجته ما في حديث أم سلمة المتفق عليه (2): أن امرأة توفي عنها زوجها فخافوا على عينها، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه في الكحل، فما أذن فيه، بل قال "لا". مرتين أو ثلاثًا. وذهب الجمهور من العلماء كمالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي وأصحابهم إلى أنه يجوز الاكتحال بالإثمد للتداوي، وحجتهم حديث أم سلمة الذي أخرجه أبو داود (3)، أنها قالت في كحل الجلاء: لا تكتحلي به إلّا من أمر لا بد منه يشتد عليك، فتكتحلين بالليل، وتغسلينه بالنهار. وقوله (4) صلى الله عليه وسلم[لأم سلمة](ب) وقد جعلت على وجهها صبرًا، فقال:"إنه يشب الوجه". فقال: "لا تجعليه إلا بالليل، وتنزعيه بالنهار". قال أبو عمر ابن عبد البر (5): وهذا عندي وإن كان مخالفًا لحديثها الآخر الناهي عن الكحل مع الخوف على
(أ) ساقطة من: الأصل، جـ.
(ب) ساقط من: الأصل.
_________
(1)
المحلى 11/ 656.
(2)
سيأتي ح 918.
(3)
أبو داود 2/ 301، 302 ح 2305.
(4)
سيأتي ح 917.
(5)
التمهيد 17/ 319.
العين، إلا أنه يمكن الجمع بأنه عرف من حال التي نهاها أن حاجتها إلى الكحل خفيفة غير ضرورية، والإباحة في الليل لدفع الضرر بذلك، فلو كان لا يغني الوضع في الليل جاز لها في النهار، والضرورة تنقل المحرم إلى الإباحة، ولذلك جعل مالك حديث الإباحة في الليل مفسرًا لحديث النهي، وقد ذكر مالك في "موطئه"(1) أنه بلغه عن سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار، أنهما كانا يقولان في المرأة يتوفى عنها زوجها: إنها (أ) إذا خشيت على بصرها من رمد بعينها، أو شكوى أصابتها، أنها تكتحل وتَداوى بالكحل، وإن كان فيه طيب. قال أبو عمر (2): لأن القصد إلى التداوي لا إلى الطيب، والأعمال بالنيات. وقال أبو محمد بن قدامة في "المغني" (3): إنما تمنع الحادة من الكحل بالإثمد؛ لأنه الذي (أ) تحصل به الزينة، فأما الكحل بالتوتيا (4) والعنزروت (ب)(5) ونحوهما فلا بأس به؛ لأنه لا زينة فيه، بل يقبح العين. قال: ولا تمنع من جعل الصبر على غير وجهها من بدنها، لأنه إنما منع منه في الوجه لأنه يصفره فيشبه الخضاب، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنه يشب الوجه". قال: ولا تمنع من تقليم
(أ) ساقط من: الأصل.
(ب) في الأصل: العنزردت.
_________
(1)
الموطأ 2/ 99 ح 106.
(2)
التمهيد 17/ 320.
(3)
المغني 11/ 288.
(4)
التوتيا: تكون في المعادن، منها بيضاء، ومنها إلى الصفرة مشرب بحمرة، وهي جيدة لتقوية العين. ينظر الجامع لمفردات الأدوية والأغذية 1/ 143 - 145.
(5)
العنزروت: هو الأنزروت، وهو صمغ شجرة تنبت في بلاد فارس، شبيهة بالكندر، صغيرة الحصا، في طعمه مرارة، ولونه إلى الحمرة، تقطع الرطوبة السائلة إلى العين. ينظر الجامع لمفردات الأدوية والأغذية 1/ 63.
الأظفار، ونتف الإبط، وحلق الشعر المندوب إلى حلقه، ولا من الاغتسال بالسدر، والامتشاط به؛ لحديث أم سلمة، ولأنه يراد للتنظيف لا للطيب. قال الإمام يحيى: ولها أن تدهن بالزيت والسمن.
وقوله: "ولا تمس طيبا". فيه دلالة على تحريم الطيب، ولا خلاف في تحريمه عند من أوجب الإحداد، وهو شامل للمسك والعنبر والكافور والند (1) والغالية (2) والزَّبَاد (3) والذريرة (4) والبخور، والأدهان المطيبة كماء الورد وماء القرنفل وماء زهر الرانج وغير ذلك.
وقوله: "إلا إذا طهرت". يعني إذا اغتسلت عند الطهر من الحيض.
وقوله: "نبذة". بضم النون، القطعة من الشيء.
وقوله: "من قسط". بقاف مضمومة، "وأظفار". بالواو العاطفة، ويقال: كست. بالكاف. قال أبو عبد الله البخاري (5): القسط والكست مثل الكافور والقافور. أي يجوز في كل منهما الكاف والقاف، ويقال بإبدال الطاء في القسط بالتاء المثناة. قال النووي (6): القسط والأظفار نوعان معروفان من البخور، وليسا من مقصود الطيب، رخص فيه للمغتسلة من
(1) الند: ضرب من الطيب يدخَّن به. التاج (ن د د).
(2)
الغالية: نوع من الطيب مركب من مسك وعنبر وعود ودهن. النهاية 3/ 383.
(3)
الزباد: هو نوع من الطيب يجمع من بين أفخاذ هرٍّ معروف يكون بالصحراء، يُصاد ويُطعم قطع اللحم ثم يعرق فيكون من عرق بين فخذيه حينئذ هذا الطيب، وهذا الحيوان أكبر من الهر الأهلي وهو معروف. الجامع لمفردات الأدوية والأغذية 2/ 156.
(4)
الذريرة: نوع من الطيب مجموع من أخلاط. النهاية 2/ 157.
(5)
البخاري 9/ 492 عقب ح 5343.
(6)
صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 119.
الحيض لإزالة الرائحة الكريهة، تتبع به أثر الدم، لا للطيب. قال المصنف رحمه الله تعالى (1): المقصود من التطيب بهما أن يخلطا في أجزاء أخر من غيرهما، ثم تسحق فتصير طيبًا، والمقصود بهما هنا كما قال [الشيخ](أ) أن تتبع بهما أثر الدم لإزالة الرائحة لا للتطيب. وزعم الداودي أن المراد أنها تسحق القسط وتلقيه في الماءآخر غسلها لتذهب رائحة الحيض، واستدل به على جواز استعمال ما فيه منفعة لها، وإن كانت ممنوعة منه، إذا استعملته لغير الوجه الذي منعت منه، والله أعلم.
وقوله: "ولا تمتشط". النهي محمول على الامتشاط بما فيه طيب، تفسره رواية أبي داود المتقدمة:"ولا تمتشطي بالطيب". والله أعلم.
917 -
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جعلت على عينيَّ صبرًا بعد أن توفي أبو سلمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنه يشب الوجه، فلا تجعليه إلا بالليل، وانزِعيه بالنهار، ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء، فإنه خضاب". قلت: بأي شيء أمتشط؟ قال: "بالسدر". رواه أبو داود والنسائي (2) وإسناده حسن.
918 -
وعنها رضي الله عنها، أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابنتي مات عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفتكحلها؟ قال:"لا". متفق عليه (3).
(أ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من الفتح.
_________
(1)
الفتح 9/ 492.
(2)
أبو داود، كتاب الطلاق، باب فيما تجتنبه المعتدة في عدتها 2/ 301، 302 ح 2305، والنسائي كتاب الطلاق باب الرخصة للحادة أن تمتشط بالسدر 6/ 204.
(3)
البخاري، كتاب الطلاق، باب مراجعة الحائض 9/ 484 ح 5336، ومسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة 2/ 1125 ح 1488/ 60.
الحديث أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن وهب، وفي إسناده المغيرة بن الضحاك (1)، عن أم حكيم بنت أَسيد (2)، عن أمها، عن [مولاة](أ) لها، عن أم سلمة، وقد أعله عبد الحق والمنذري (3) بجهالة حال المغيرة ومن فوقه، ويؤيده ما رواه الشافعي (4) عن مالك، أنه بلغه. فذكر نحوه، ويؤيده رواية "الصحيحين" في جوابه على المرأة المذكورة، والمرأة السائلة هي عاتكة بنت نعيم أخت عبد الله بن نعيم، وزوجها المغيرة المخزومي، وقع مسمى في "موطأ ابن وهب"(5)، وقد تقدم ما يتعلق بفقه الحديث.
وقوله: "أفتكحلها؟ ". هو بضم الحاء.
919 -
وعن جابر رضي الله عنه قال: طلقت خالتي، فأرادت أن تَجُدَّ نخلها، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"بل (ب) جدي نخلك، فإنك عسى أن تصدَّقي، أو تفعلي معروفا". رواه مسلم (6).
(أ) في الأصل، جـ: مولى. والمثبت من مصدر التخريج.
(ب) كذا في الأصل، جـ. وفي مسلم: بلى.
_________
(1)
المغيرة بن الضحاك بن عبد الله القرشي الأسدي المدني، قال الذهبي: لا يعرف. وقال الحافظ: مقبول. ميزان الاعتدال 4/ 163، والتقريب ص 543، وينظر تهذيب الكمال 28/ 376.
(2)
أم حكيم بنت أسيد، لا يعرف حالها. التقريب ص 756، وينظر تهذيب الكمال 35/ 350.
(3)
ينظر الأحكام الوسطى 3/ 223.
(4)
الأم 5/ 231، 232.
(5)
ابن وهب -كما في الفتح 9/ 488.
(6)
مسلم، كتاب الطلاق، باب جواز خروج المعتدة البائن والمتوفى عنها زوجها في النهار لحاجتها 2/ 1121 ح 1483.
بوب له مسلم (1): باب جواز خروج المعتدة البائن. فذكره، وأخرجه أبو داود والنسائي (2) بزيادة: طلقت خالتي ثلاثًا. دل على جواز خروج المعتدة في عدة البائن من منزلها في النهار للحاجة إلى ذلك، ولا يجوز لغير حاجة، وقد ذهب إلى ذلك علي والقاسم والمنصور بالله وأبو حنيفة، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلله بالصدقة أو فعل معروف، وظاهره التعليق بالغرض الديني أو الدنيوي، ولقوله تعالى:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (3) الآية. فالآية مطلقة في النهي عن الخروج، والحديث مقيد ذلك بالغرض، وظاهر الآية الإطلاق في البائن والرجعي، قالوا: ويجوز الخروج للحاجة والعذر ليلًا ونهارًا. قالوا: ومن العذر الخوف وخشية انهدام المنزل ونحو ذلك. قال الإمام يحيى: ومن العذر إخراج صاحب المنزل إياها عند انقضاء مدة الإجارة، أو لأجل تعذر الأجرة والإفلاس. قال: لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (4). ومثل هذا ذكره في "عجالة المنهاج" للشافعية، قال: وكذا إذا تأذت بالجيران أو هُمْ بها، أذى شديدًا؛ إزالةً للضرر، وقال الله تعالى:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} . والفاحشة مفسرة بالبذاءة؛ إما على الأحماء، أو غيرهم. انتهى.
وذهب مالك والثوري والليث والشافعي وأحمد وآخرون إلى أنه يجوز
(1) مسلم 2/ 1121.
(2)
أبو داود 2/ 298 ح 2297، والنسائي 6/ 209، وليس عند النسائي لفظ:"ثلاثًا".
(3)
الآية 1 من سورة الطلاق.
(4)
الآية 78 من سورة الحج.
خروجها في النهار مطلقًا (أ)، وحكاه في "البحر" عن أحد قولي الشافعي إلى أنه يجوز الخروج في النهار مطلقا دون الليل، قالوا: للحديث المذكور، وقياسًا على عدة الوفاة. قال الإمام المهدي: قلنا: الجداد عذر، والوفاة صيرتها في حكم الأجنبية. وقد يجاب عنه بأنه إن أراد بالعذر ما يدعو إليه غرض، فالحق ما ذهب إليه المجوزون مطلقًا، وإن أراد بالعذر هو الأمر الذي تدعو إليه الحاجة، ويحصل الضرر بفواته، فالحديث يدل على خلافه، فإنه علله بالصدقة أو فعل المعروف.
وقوله: أن تجُدَّ. بالدال المهملة، كذا في النهاية (1)، ويدل الحديث على استحباب الصدقة من التمر عند جذاذه، والهدية، واستحباب التعريض لصاحبه بفعل ذلك، والتذكير بالمعروف والبر. وخالة جابر ذكرها أبو موسى (2) في "ذيل الصحابة" في المبهمات.
920 -
وعن فريعة بنت مالك، أن زوجها خرج في طلب أعبد له فقتلوه، قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يترك لي مسكنا يملكه ولا نفقة، فقال:"نعم". فلما كنت في الحجرة ناداني، فقال:"امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله". قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا. قالت: فقضى به بعد ذلك عثمان. أخرجه أحمد والأربعة وصححه الترمذي والذهلي وابن حبان
(أ) ساقط من: الأصل.
_________
(1)
النهاية 1/ 244.
(2)
أبو موسى -كما في أسد الغابة 7/ 424.
والحاكم وغيرهم (1).
هي الفريعة، بضم الفاء وفتح الراء وسكون الياء وبالعين المهملة، بنت مالك بن سنان، ويقال لها: الفارعة. وهي أخت أبي سعيد الخدري، شهدت بيعة الرضوان، ولها رواية، حديثها عند أهل المدينة، روت عنها زينب بنت كعب بن عجرة.
الحديث أخرجوه كلهم من حديث سعد بن إسحاق بن كعب، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، عن الفريعة، قال ابن عبد البر (2): هذا حديث معروف مشهور عند علماء الحجاز والعراق. وأعله عبد الحق تبعًا لابن حزم (3) بجهالة حال زينب (4)، [وقال] (أ) (5): سعد بن إسحاق غير مشهور العدالة، مالك وغيره يقول فيه: إسحاق بن سعد. وسفيان يقول:
(أ) في الأصل: وبأن.
_________
(1)
أحمد 6/ 370، وأبو داود، كتاب الطلاق، باب في المتوفى عنها تنتقل 2/ 300 ح 2300، والترمذي، كتاب الطلاق، باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها 3/ 508، 509 ح 1204، والنسائي، كتاب الطلاق، باب عدة المتوفى عنها زوجها 6/ 200، 201 مختصرًا، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها 1/ 654، 655 ح 2031، وابن حبان، كتاب الطلاق، باب ذكر وصف العدة للحامل المتوفى عنها زوجها 10/ 132 ح 4295، والحاكم، كتاب الطلاق 2/ 208، وصححه الذهلي كما عند الحاكم.
(2)
التمهيد 21/ 31.
(3)
المحلى 11/ 703.
(4)
زينب بنت كعب بن عجرة، زوج أبي سعيد الخدري، مقبولة، ويقال: لها صحبة. التقريب ص 747، وينظر تهذيب الكمال 35/ 186.
(5)
الأحكام الوسطى 3/ 227.
سعيد. وتعقب بأن زينب هذه من التابعيات، وهي امرأة أبي سعيد، روى عنها سعد بن إسحاق وليس بسعيد، وقد ذكرها ابن حبان في كتاب "الثقات"(1)، والذي غرَّ أبا محمد قول علي بن المديني (2): لم يرو عنها غير سعد بن إسحاق. هذا مدفوع أيضًا؛ فإنه قد روى عنها [سليمان](أ) بن محمد بن كعب بن عجرة حديث: اشتكى الناس عليًّا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا، فسمعته يقول:"يأيها الناس، لا تشكوا عليًّا، فوالله إنه لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله"(3). فهي امرأة تابعية كانت تحت صحابي، روى عنها الثقات ولم يطعن فيها بحرف، واحتج الأئمة بحديثها وصححوه، وأيضًا فإن سعد بن إسحاق (4) وثقه يحيى بن معين والنسائي والدارقطني. وقال أبو حاتم (5): صالح. وذكره ابن حبان في [كتاب](ب)"الثقات"(6). وقد روى عنه الناس؛ حماد بن زيد، وسفيان الثوري، وعبد العزيز الدراوردي، وابن جريج، ومالك بن أنس، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والزهري وهو أكبر منه، وحاتم بن إسماعيل، وداود بن قيس،
(أ) في الأصل: سلما. وفي جـ: سلمان. والمثبت هو الصواب، وينظر التاريخ الكبير 4/ 35.
(ب) في الأصل، جـ: كتب.
_________
(1)
الثقات 4/ 271.
(2)
ينظر تهذيب الكمال 35/ 187.
(3)
أحمد 3/ 86، والحاكم 3/ 143.
(4)
سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة البلوي المدني، حليف الأنصار، ثقة. التقريب ص 230، وينظر تهذيب الكمال 10/ 248.
(5)
الجرح والتعديل 4/ 80، 81.
(6)
ابن حبان 6/ 375.
وخلق سواهم من الأئمة، ولم يعلم فيه بقدح ولا بجرح، ومثل هذا يحتج به اتفاقًا.
الحديث فيه دلالة على أن المتوفى عنها تعتد في بيتها الذي نوت الاعتداد فيه ولا تخرج منه إلى غيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله". وقد ذهب إلى هذا جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ فروى سعيد بن المسيب أن عمر رد نسوة من ذي الحليفة حاجات أو معتمرات، توفي عنهن أزواجهن (1). وقال عبد الرزاق (2) عن مجاهد: كان عمر وعثمان يرجعانهن حاجات أو معتمرات من الجحفة أو ذي الحليفة. وأخرج أن امرأة زارت أهلها وهي متوفى عنها في عدتها، فضربها الطلق، فأتوا عثمان فقال: احملوها إلى بيتها وهي تطلق (3). وأخرج عن ابن عمر أنه كانت له ابنة تعتد من وفاة زوجها، فكانت تأتيهم بالنهار فتحدث إليهم، فإذا كان الليل أمرها أن ترجع إلى ييتها (4). وأخرج ابن أبي شيبة (5)، أن عمر رخص للمتوفى عنها أن تأتي أهلها بياض يومها، وأن زيد بن ثابت رخص لها في بياض يومها. وأخرج عبد الرزاق (6) عن ابن مسعود في نساء نعي إليهن أزواجهن، وشكين الوحشة، فقال ابن مسعود: يجتمعن بالنهار، ثم ترجع كل امرأة منهن إلى بيتها بالليل. وأخرج الحجاج بن المنهال أن امرأة سألت أم
(1) مالك 2/ 591، وعبد الرزاق 7/ 33 ح 12072، والطحاوي في شرح المعاني 3/ 79.
(2)
عبد الرزاق 7/ 33 ح 12071.
(3)
عبد الرزاق 7/ 32 ح 12067.
(4)
عبد الرزاق 7/ 31 ح 12064.
(5)
ابن أبي شيبة 5/ 186، 187.
(6)
عبد الرزاق 7/ 32 ح 12068.
سلمة بأن أبي مريض، وأنا في عدة، أفآتيه أمرضه؟ قالت: نعم، [ولكن](أ) بيتي أحد طرفي الليل في بيتك (1). وأخرج سعيد بن منصور (2) أنه سئل الشعبي عن ذلك، فقال: كان أكثر أصحاب ابن مسعود أشد شيء في ذلك، يقولون: لا تخرج. وكان الشيخ -يعني علي بن أبي طالب- يرحلها. وأخرج حماد بن سلمة أن عروة بن الزبير قال: المتوفى عنها زوجها تعتدُّ في بيتها إلا أن ينتوي أهلها فتنتوي معهم (3). وأخرج سعيد بن منصور (4) عن القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وسعيد بن المسيب، قالوا: لا تبرح المتوفى عنها حتى تنقضي عدتها. وأيضًا عن عطاء وجابر كذلك (5). وأخرج وكيع (6) عن إبراهيم النخعي: لا بأس أن تخرج بالنهار، ولا تبيت إلا في منزلها. وأخرج حماد عن ابن سيرين في مريضة نقلها أهلها بعد وفاة زوجها، ثم سألوا، فكلهم يأمرهم أن ترد إلى بيتها. قال ابن سيرين: فرددناها في نمط (7). وقال بهذا أحمد، ومالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهم، والأوزاعي، وأبو عبيد، وإسحاق. وقال ابن عبد البر (8): وبه يقول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر، وقضى به
(أ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
ابن حزم في المحلى 11/ 676 من طريق الحجاج بن المنهال.
(2)
سعيد بن منصور 1/ 318 ح 1351.
(3)
أخرجه ابن حزم في المحلى 11/ 676 من طريق حماد بن سلمة به.
(4)
سعيد بن منصور 1/ 322 ح 1364.
(5)
سعيد بن منصور 1/ 319 ح 1352.
(6)
ابن حزم في المحلى 11/ 677 من طريق وكيع به.
(7)
ابن حزم في المحلى 11/ 678 من طريق حماد به.
(8)
التمهيد 21/ 31.
عثمان بمحضر من المهاجرين والأنصار، وتلقاه أهل الشام والحجاز والعراق ومصر بالقبول، ولم يطعن أحد منهم في حديث الفريعة ولا في رواته.
ويجب لها السكنى في مال زوجها؛ لقوله تعالى: {غَيْرَ إخْرَاجٍ} (1). والآية الكريمة وإن كان قد نسخ منها استمرار النفقة والكسوة حولًا، فالسكنى باق حكمها مدة العدة كما قال الشافعي رحمه الله تعالى (2): حفظت عمن أرضى به من أهل العلم أن نفقة المتوفى عنها زوجها وكسوتها حولًا منسوختان بآية الميراث، ولم أعلم مخالفًا فيما وصفت من نسخ نفقة المتوفى عنها زوجها وكسوتها سنة أو أقل من سنة. ثم قال: ثم احتمل سكناها [إذ](أ) كان مذكورًا مع نفقتها بأن يقع عليها اسم المتاع أن يكون منسوخًا في السَّنة وأقل منها، كما كانت الكسوة والنفقة منسوخة، واحتمل أن يكون نسخ في السنة، وأثبت في عدة المتوفى عنها حتى تنقضي بآخر (ب) هذه الآية، يعني قوله:{غَيْرَ إِخْرَاجٍ} . وأن تكون داخلة في جملة المعتدات؛ فإن الله تعالى يقول في المطلقات: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (3). فلما فرض الله سبحانه في المعتدة من الطلاق السكنى، وكانت المعتدة من الوفاة في معناها، احتملت أن يجعل لها السكنى؛ لأنها في معنى المعتدات، فإن [كان](جـ) هذا
(أ) في الأصل، جـ: إذا. والمثبت من الأم.
(ب) في الأم: بأصل.
(جـ) ساقط من: الأصل.
_________
(1)
الآية 240 من سورة البقرة.
(2)
الأم 4/ 99.
(3)
الآية 1 من سورة الطلاق.
هكذا، فالسكنى لها في الكتاب منصوص أو في معنى من نُصَّ لها بالسكنى، وإن لم يكن هذا ففرض السكنى لها في السنة. وهذا ما فهم من حديث الفريعة، وهذا أصح قوليه رحمه الله تعالى. وقال الشافعي في كتاب العدد (1): الاختيار لورثة الميت أن يسكنوها، وإن لم يفعلوا فقد ملكوا المال دونه، ولأن قوله صلى الله عليه وسلم:"امكثي في بيتك". وقد ذكَرَتْ أنه لا بيت لزوجها -يدل على وجوب سكونها في بيت زوجها إذا كان له بيت بالطريق الأولى. وهذا القول ذهب إليه الإمام يحيى، وقواه الإمام المهدي في "البحر" قال: قلت: وهو قوي. وذهب جمع من الصحابة والتابعين والأئمة إلى أنه لا سكنى للمتوفى عنها؛ فأخرج عبد الرزاق (2)، عن عروة بن الزبير، أن عائشة كانت تفتي المتوفى عنها بالخروج في عدتها، وخرجت بأختها أم كلثوم حين قتل عنها طلحة بن عبيد الله إلى مكة في عمرة. وأخرج عن ابن عباس، أنه قال: إنما قال الله عز وجل: تعتد أربعة أشهر وعشرًا. ولم يقل: تعتد في بيتها. فتعتد حيث شاءت (3). ومثله أخرجه علي بن المديني (4). وأخرج عبد الرزاق (5) أن جابر بن عبد الله يقول: تعتد المتوفى عنها حيث شاءت. وأخرج عن الشعبي أن علي بن أبي طالب كان يرحل المتوفى عنهن في عدتهن (6). وأخرج عن طاوس وعطاء أنهما قالا: المتوفى
(1) الأم 5/ 227.
(2)
عبد الرزاق 7/ 29 ح 12054.
(3)
عبد الرزاق 7/ 29 ح 12051، 12052.
(4)
أخرجه ابن حزم في المحلى 11/ 672 من طريق ابن المديني.
(5)
عبد الرزاق 7/ 30 ح 12059.
(6)
عبد الرزاق 7/ 30 ح 12056.
عنها والمبتوتة تحجان وتعتمران وتنتقلان وتبيتان (1). وأخرج عن عطاء قال: لا يضر المتوفى عنها أين اعتدت (2). وقال ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء وأبي الشعثاء قالا جميعا: المتوفى عنها تخرج في عدتها حيث شاءت (3). وأخرج ابن أبي شيبة (4)، عن عطاء: المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها تحجان في عدتهما. قال (5): الحسن يقول مثل ذلك. وأخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز، أن المتوفى عنها وهي في سفر تلحق بأهلها ودار أبيها فتعتد فيهما (6). وأخرج عن يحيى بن سعيد الأنصاري في رجل توفي بالإسكندرية ومعه امرأته [وله بها دار](أ) وله بالفسطاط دار، فقال: إن أحبت أن تعتد حيث توفي زوجها فلتعتد، وإن أحبت أن ترجع إلى دار زوجها وقراره بالفسطاط فتعتد فيها فلترجع (6). وأخرج مثل ذلك عن ابن عمر (6). وذهب إلى هذا القول الهادي في أنه لا تجب لها السكنى، وأن الواجب (ب) عليها ألا تبيت إلا في منزلها، وحجتهم كما تقدم في كلام ابن عباس أن الله أمرها باعتداد أربعة أشهر وعشر، ولم يأمرها بمكان معين. وما
(أ) ساقط من: جـ، والمحلى.
(ب) في جـ: أوجب.
_________
(1)
عبد الرزاق 7/ 25 ح 12035.
(2)
عبد الرزاق 7/ 29 حج 12050.
(3)
ابن أبي شيبة 5/ 188، 181.
(4)
ابن أبي شيبة 5/ 184.
(5)
القائل حبيب المعلم، الراوي عن عطاء.
(6)
ذكره ابن حزم في المحلى 11/ 673، وابن القيم في زاد المعاد 5/ 683.
أخرجه أبو داود (1)، عن ابن عباس أنه قال: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها، فتعتد حيث شاءت. قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السكنى، فتعتد حيث شاءت. والجواب ما عرفت في حكاية القول الأول، وأن النسخ غير ثابت، والسنة قائمة بثبوت السكنى في حديث الفريعة من غير وضوح المعارض، قال في "الهدي" (2): وعلى القول بثبوت السكنى، فهو حق عليها إذا تركه لها الورثة، ولم يكن عليها فيه ضرر، أو كان المسكن لها، فلو حولها الوارث أو طلبوا منها الأجرة، لم يلزمها المسكن، وجاز لها التحول، وفي انتقالها إلى حيث شاءت، أو يتعين [عليها](أ) السكون في أقرب المساكن إلى مسكن الوفاة قولان، فإن خافت هدما أو غرقا، أو [نحو ذلك أو](ب) حولها صاحب المنزل لكونه [عارية](ب)، أو إجارة انقضت مدتها، أو منعها السكنى تعديا، أو امتنع من إجارته، أو طلب أكثر من أجرة المثل، أو لم تجد ما تكتري به، أو لم تجد إلا من مالها، فلها أن تنتقل؛ لأنها حال عذر، ولا يلزمها بذل أجرة المسكن، وإنما الواجب عليها فعل السكنى لا تحصيل المسكن، فإذا تعذرت السكنى سقطت. هذا قول أصحاب أحمد والشافعي، فإن قيل: فهل السكنى حق على الورثة تقدم الزوجة به على الغرماء أو على الميراث، أو لا حق لها في التركة سوى
(أ) في الأصل: لها.
(ب) ساقط من: الأصل.
_________
(1)
أبو داود 2/ 300، 301 ح 2301.
(2)
زاد المعاد 5/ 687، 688.
الميراث؟ قيل: هذا موضع اختلف فيه؛ فقال الإمام أحمد: إن كانت حائلًا فلا سكنى لها في التركة ولكن عليها ملازمة المنزل إذا بذل لها كما تقدم، وإن كانت حاملًا ففيه روايتان؛ إحداهما: أن الحكم كذلك. والثاني: أن لها السكنى حق ثابت في المال تقدم به على الورثة والغرماء، ويكون من رأس المال. ولا تباع الدار في دينه بيعا يمنعها سكناها (أ) حتى تنقضي عدتها، وإن تعذر ذلك فعلى الوارث أن يكتري لها منزلًا من مال الميت، فإن لم يفعل أجبره الحاكم، وليس لها أن تنتقل عنه إلا لضرورة، وإن اتفق الوارث والمرأة على نقلها عنه لم يجز؛ لأنه يتعلق بهذه السكنى حق الله تعالى، فلم يجز اتفاقهما على إبطالها. هذا مقتضى نص الأئمة، وهو منصوص أحمد، وعنه رواية ثالثة، أن للمتوفى عنها السكنى بكل حال حاملا كانت أو حائلا، فصار في مذهبه ثلاث روايات؛ وجوبها للحامل والحائل، وإسقاطها في حقهما، ووجوبها للحامل دون الحائل. هذا تحصيل مذهبه في المتوفى عنها. وأما مذهب مالك، فلها السكنى حاملا كانت أو حائلا، وإيجاب السكنى عليها مدة العدة، قال أبو عمر (1): فإذا كان المسكن بكراء، فقال مالك: هي أحق بسكناه من الورثة والغرماء، وهو من رأس مال المتوفى، إلا أن يكون إجارة مع الزوج، وأراد أهل المسكن إخراجها، وإذا كان المسكن لزوجها، لم يبع في دينه حتى تنقضي عدتها. وقال غيره من أصحاب مالك: هي أحق بالسكنى من الورثة والغرماء، إذا كان الملك
(أ) في جـ: سكانها.
_________
(1)
التمهيد 21/ 33.
للميت، أو كان قد أدى كراءه. وفي "التهذيب": لا سكنى لها في مال الميت، وإن كان موسرا. وروى محمد عن مالك أن الكراء لازم للميت في ماله، ولا تكون الزوجة أحق به، وتحاص الورثة في السكنى، وللورثة إخراجها، إلا أن تحب السكنى في حصتها، أو تؤدي كراء حصتهم. وأما مذهب الشافعي، فإن له في سكنى المتوفى عنها قولين؛ أحدهما: لها السكنى حاملا كانت أو حائلا. والثاني: لا سكنى لها حاملا كانت أو حائلا. ويجب عنده ملازمتها للمسكن في العدة بائنا كانت أو متوفًّى عنها، وملازمة البائن للمنزل آكد من ملازمة المتوفَّى عنها؛ فإنه يجوز للمتوفى عنها الخروج نهارا لقضاء حوائجها، ولا يجوز ذلك للبائن في أحد قوليه وهذا القديم، ولا يوجبه في الرجعية بل تستحقه. وأما أحمد فعنده ملازمة المتوفى عنها آكد من الرجعية، ولا يوجبه في البائن، وأورد أصحاب الشافعي على نصه بوجوب ملازمة المنزل على المتوفى عنها مع نصه في أحد القولين، على أنه لا سكنى لها، وقالوا: كيف يجتمع النصان؟ وأجابوا بجوابين؛ أحدهما: أنه لا يجب عليها ملازمة المنزل على ذلك القول، لكن لو التزم الوارث أجرة المسكن وجبت عليها اللازمة حينئذ. وأطلق أكثر أصحابه الجواب هكذا. والثاني: أن ملازمة المنزل واجبة عليها، ما لم يكن عليها فيه ضرر، بأن تطالب بالأجرة، أو يخرجها الوارث أو المالك، فيسقط حينئذ. وأما أصحاب أبي حنيفة، فقالوا: لا يجوز للمطلقة الرجعية ولا للبائن الخروج من بيتها ليلا ولا نهارا، وأما المتوفى عنها فتخرج نهارا وبعض الليل، ولكن لا تبيت إلا في منزلها. قالوا: والفرق أن المطلقة نفقتها في مال زوجها، فلا يجوز لها الخروج كالزوجة، بخلاف المتوفى عنها، فإنها لا
نفقة لها، فلا بد أن تخرج في النهار لإصلاح حالها. قالوا: وعليها أن تعتد في المنزل الذي يضاف إليها بالسكنى حال وقوع الفرقة، قالوا: فإن كان نصيبها من دار الميت لا يكفيها أو أخرجها الورثة من نصيبهم انتقلت؛ لأن هذا عذر، والسكون في بيتها عبادة، والعبادة تسقط بالعذر. قالوا: فإن عجزت عن كراء البيت الذي هي فيه لكثرته، فلها أن تنتقل إلى بيت أقل منه كراء. وهذا من كلامهم يدل على أن أجرة السكن عليها، وإنما يسقط عنها لعجزها عن أجرته. ولهذا صرحوا بأنها تسكن في نصيبها من التركة إن كفاها، وهذا لأنه لا سكنى عندهم للمتوفى عنها حاملا كانت أو حائلا، إنما عليها أن تلزم مسكنها الذي توفي زوجها وهي فيه ليلا ونهارا، فإن بذله لها الورثة، وإلا كانت الأجرة عليها. فهذا تحرير مذاهب الناس في هذه المسألة ومآخذ الخلاف فيها، وبالله التوفيق. انتهى كلام "الهدي النبوي".
وأما مذهب الهادي، فهي لا تستحق السكنى حائلا كانت أو حاملا، ولا تبيت إلا في منزلها، ويجوز لها الخروج نهارا. ومذهب زيد بن علي أنه لا سكنى لها، ولها الخروج من موضع عدتها والانتقال إلى غيره.
921 -
وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن زوجي طلقني ثلاثا، وأخاف أن يقتحم عليَّ. قالت: فأمرها فتحولت رواه مسلم (1).
الحديث فيه دلالة على أن المطلقة بائنة يجب عليها الاعتداد في بيتها،
(1) مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها 2/ 1121 ح 1482.
وأنه يجوز الخروج للعذر، وقد تقدم الكلام على أحكام الحديث (1).
وقوله: يقتحم علي. أي يدخل بغير رضاي، والاقتحام هو الدخول في الأمر على كره وشدة.
922 -
وعن عمرو بن العاص قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا؛ عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه الحاكم، وأعله الدارقطني بالانقطاع (2).
الحديث؛ قال ابن المنذر (3): ضعفه أحمد وأبو عبيد. وقال محمد بن موسى (4): سألت أبا عبد الله عنه، فقال: لا يصح. وقال الميموني (5): رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو بن العاص هذا، ثم قال:[أين](أ) سنة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا؟ وقال: أربعة أشهر وعشر، إنما هي عدة الحرة من النكاح، وإنما هذه أمة خرجت من الرق إلى الحرية. وقال المنذري: في إسناد حديث عمرو مطر بن طهمان أبو رجاء الوراق، وقد ضعفه غير واحد، وقال
(أ) في الأصل، جـ: أي. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
ينظر ما تقدم ص 185 - 191.
(2)
أحمد 4/ 203، وأبو داود، كتاب الطلاق، باب في عدة أم الولد 2/ 303 ح 2308، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب من طلق أمة تطليقتين ثم اشتراها 1/ 673 ح 2083، والحاكم، كتاب الطلاق 2/ 209.
(3)
المنغني 21/ 263.
(4)
المغني 11/ 263، 264.
(5)
المغني 11/ 264.
المزي في "التهذيب"(1): قال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن مطر الوراق، فقال: كان يحيى بن سعيد يضعف حديثه عن عطاء. وفال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن مطر الوراق، قال: كان يحيى بن سعيد يشبه حديث مطر الوراق بابن أبي ليلي في سوء الحفظ. قال عبد الله: فسألت أبي عنه، فقال: ما أقربه بابن أبي ليلى في عطاء خاصة. وقال: مطر في عطاء ضعيف الحديث. قال عبد الله: قلت ليحيى بن معين: مطر الوراق؟ فقال: ضعيف في حديث عطاء بن أبي رباح. وقال النسائي: ليس بالقوي، وبعد فهو ثقة. وقال أبو حاتم الرازي (2): صالح الحديث. وذكره ابن حبان في كتاب "الثقات"(3)، واحتج به مسلم، فلا وجه لضعف الحديث به، وإنما علة الحديث أنه من رواية قبيصة بن ذؤيب، عن عمرو بن العاص، ولم يسمع منه. قاله الدارقطني. وقال الدارقطني (4): هو موقوف على عمرو؛ لأنه لم يقل: لا تلبسوا علينا سنة نبينا. والصواب: لا تلبسوا علينا ديننا. فهو موقوف. وله علة أخرى ذكرها البيهقي وهي الاضطراب، فإنه قد روي على ثلاثة أوجه؛ أحدها: هذا. والثاني: عدة أم الولد عدة الحرة. والثالث: عدتها إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر، فإذا عتقت فعدتها ثلاث حيض. والأقاويل الثلاثة عنه ذكرها البيهقي (5)،
(1) تهذيب الكمال 28/ 53، 54.
(2)
الجرح والتعديل 8/ 288.
(3)
الثقات 5/ 435.
(4)
سنن الدارقطني 3/ 309.
(5)
البيهقي في السنن الكبرى 7/ 448.
وقال: قال الإمام أحمد: حديث منكر. وقد روى خلاس (أ) عن علي مثل رواية قبيصة عن عمرو، ولكن خلاس بن عمرو (ب) (1) قد تكلم في حديثه؛ فقال أيوب (2): لا يروى عنه فإنه صحفي، وكان مغيرة لا يعبأ بحديثه. وقال أحمد (3): روايته عن علي يقال: إنها كتاب. وقال البيهقي (4): روايات خلاس عن علي ضعيفة عند أهل العلم بالحديث، يقال: هي من صحيفة. ومع ذلك فقد روى مالك، عن نافع (5)، عن ابن عمر في أم الولد يتوفى عنها سيدها، قال: تعتد بحيضة. فإن ثبت عن علي وعمرو ما روي عنهما فهي مسألة نزاع بين الصحابة.
الحديث فيه دلالة على أن أم الولد إذا توفي عنها سيدها، أن عدتها عدة الزوجة الحرة المتوفى عنها. وقد ذهب إلى هذا الأوزاعي والإمام يحيى، وهو رواية عن الناصر، وهو قول الظاهرية وإسحاق. وروي عن ابن المسيب وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين (6)، قالوا: قياسا على الحرة، فإنها لما
(أ) ساقط من: جـ.
(ب) في جـ: عمر.
_________
(1)
خلاس بن عمرو الهجري، البصري، ثقة، وكان يرسل. التقريب ص 197.
(2)
ينظر الجرح والتعديل 3/ 402.
(3)
ينظر تهذيب الكمال 8/ 365.
(4)
السنن الكبرى 7/ 448.
(5)
الموطأ 2/ 593 ح 92.
(6)
ينظر مصنف عبد الرزاق 7/ 232، 233، ح 12934، 12935، وابن أبي شيبة 5/ 163، 164، والمحلى 11/ 707، 708.
عتقت بالموت وهي موطوءة للسيد، فقد صارت عدة حرة بسبب الموت، وهي أربعة أشهر وعشر. وذهب مالك والشافعي وأحمد والليث وأبو ثور وجماعة إلى أن عدتها حيضة، وبه قال ابن عمر، وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد والشعبي والزهري. قال مالك: فإن كانت ممن لا تحيض اعتدت ثلاثة أشهر ولها السكنى. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: عدتها ثلاث حيض. وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنه وعطاء والنخعي. وقال قوم: عدتها نصف عدة الحرة. وعند الهدوية وهو قول مكحول، ونسبه في "البحر" إلى القاسمية، أنها تعتد بحيضتين. وحجة مالك ومتابعيه أنها ليست زوجة فتعتد عدة الوفاة، ولا مطلقة فتعتد عدة ثلاث حيض، فلم يبق إلا استبراء رحمها، وذلك يكون بحيضة تشبيها بالأمة يموت عنها سيدها، وذلك مما لا خلاف فيه. وحجة أبي حنيفة أن العدة إنما وجبت عليها وهي حرة وليست بزوجة فتعتد عدة الوفاة، ولا بأمة فتعتد عدة أمة، فوجب أن يُستبرأ رحمها بعدة الأحرار. وحجة من أوجب عليها نصف عدة الحرة تشبيهها بالزوجة الأمة، وحجة قول الهدوية هو تشبيهها بعدة البائع والمشتري، فإنهم يوجبون على البائع الاستبراء بحيضة، وعلي المشتري كذلك، والجامع زوال الملك، وندبت ثالثة، قال في "البحر": لقول علي (أ) رضي الله عنه وهو توقيف. قال في "الغيث": ولأن عدة الوفاة لما خالفت عدة الطلاق
(أ) كتب في حاشية الأصل: وهو ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: أم الولد إذا مات عنها سيدها تعتد ثلاث حيض. وكتب بعدها: من خط المؤلف رحمه الله.
في الحرة على سبيل الوجوب، خالفت هنا على سبيل الاستحباب. قال ابن رشد المالكي (1): سبب الخلاف أنها مسكوت عنها، وهي مترددة الشبه بين الأمة والحرة، فأما من شبهها بالزوجة الأمة فضعيف، وأضعف منه من شبهها بعدة الحرة المطلقة. انتهى. وإذا عرفت ما ذكرناه من رجوع الأقوال إلى ما ذكر، فالرجوع إلى ما دل عليه حديث عمرو أولى؛ لأنه (أ) وإن كان فيه المقال المذكور فقد تأيد بغيره (ب) وبالقياس المذكور، والله أعلم.
923 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إنما الأقراء الأطهار. أخرجه مالك في قصة بسند صحيح (2).
الحديث قال الشافعي (3): أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أنها قالت وقد جادلها في ذلك ناس، وقالوا: إن الله يقول: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (4). فقالت عائشة: صدقتم، وهل تدرون ما الأقراء؟ الأقراء الأطهار. قال الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب قال: ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا. يريد الذي قالت عائشة.
الحديث فيه دلالة على أن الأقراء التي ذكرت في العدة هي الأطهار،
(أ) في جـ: فإنه.
(ب) في جـ: تفسيره.
_________
(1)
الهداية في تخريج أحاديث البداية 7/ 89.
(2)
الموطأ 2/ 576، 577 ح 54.
(3)
الأم 5/ 209.
(4)
الآية 228 من سورة البقرة.
واعلم أن القرء -بفتح القاف وضمها- يطلق في اللغة على الطهر وعلى الحيض، واختلفوا هل هو مشترك بينهما، أو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر؟ قال الجوهري (1): القرء بالفتح الحيض، والجمع أقراء وقروء، وفي الحديث:[دعي الصلاة](أ) أيام أقرائك" (2). والقرء أيضًا الطهر، وهو من الأضداد (3). وقال أبو عبيد (ب) (4): الأقراء الحيض. ثم قال: الأقراء الأطهار. وقال الكسائي (5): والقرء؛ أقرأت المرأة، إذا حاضت. وقال ابن فارس (6): القروء أوقات، يكون للطهر مرة، وللحيض مرة، والواحد قرء، ويقال: القرء هو الطهر. ثم قال: وقوم يذهبون إلى أن القرء الحيض. فحكى قول من جعله مشتركًا بين أوقات الطهر والحيض، وقول من جعله لأوقات الطهر، وقول من جعله لأوقات الحيض، وكأنه لم يختر واحدًا منهما، بل جعله لأوقاتهما، قال: وأقرأت المرأة إذا خرجت من الحيض إلى الطهر، ومن الطهر إلى الحيض. وفي كلامه دلالة على أنه لا يقال للطهر إلا إذا كان الحيض متقدمًا عليه أو متأخرًا عنه، فلا يقال لطهر الصغيرة والآيسة: قرء.
(أ) في الأصل، جـ: لا. والمثبت من الصحاح.
(ب) في جـ: عبد الله.
_________
(1)
الصحاح (ق ر أ).
(2)
أبو داود 1/ 71 ح 280، والنسائي 1/ 121، 183، وابن ماجه 1/ 203 ح 620. ولفظه:"إذا أتى قرؤك فلا تصلي". وينظر التلخيص الحبير 1/ 170.
(3)
الأضداد لابن الأنباري ص 27 - 32.
(4)
غريب الحديث 1/ 280، 281.
(5)
ينظر اللسان (ق ر أ).
(6)
المجمل في اللغة لابن فارس 4/ 158.
والأظهر أنه لفظ مشترك. وذهب الإمام يحيى والهادي إلى أنه حقيقة في الحيض مجاز في الطهر. وذهب بعض الشافعية إلى العكس، والأكثر منهم إلى الاشتراك، ولا خلاف أن المراد به في قوله تعالى:{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} . أحدهما لا مجموعهما، وذهب عبد الله بن عمر (أ) وزيد بن ثابت وعائشة (1) -وهو مروي عن الفقهاء السبعة فقهاء المدينة، وأبان بن عثمان، والزهري، وعامة فقهاء المدينة- ومالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه -وهو مروي عن علي رضي الله عنه (2) - أن الأقراء الأطهار المراد بها في الآية الكريمة في قوله تعالى:{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} . قال الشافعي (3): ويدل على ذلك دلالتان؛ إحداهما، الكتاب الذي دل عليه السنة، والأخرى، اللسان؛ فالكتاب قال الله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (4). وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: "ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلق، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء"(5). وفي حديث أبي الزبير، أنه سمع ابن عمر يذكر طلاق امرأته حائضًا، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا طهرت فليطلق أو يمسك". وتلا النبي صلى الله عليه وسلم: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لقبل عِدَّتِهِنَّ، أو في قبل
(أ) في جـ: عمرو.
_________
(1)
ينظر الموطأ 2/ 576، 578 ح 54، 56، 58، ومصنف عبد الرزاق 6/ 319 ح 11003، 11004، وتفسير ابن جرير 2/ 442 - 444 وشرح معاني الآثار 3/ 61.
(2)
ينظر تفسير ابن جرير 2/ 442.
(3)
الأم 5/ 209.
(4)
الآية 1 من سورة الطلاق.
(5)
تقدم ح 884.
عدتهن) " (1). قال الشافعي: أنا شككت، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أن العدة بالطهر دون الحيض وقرأ:(فطلقوهن لقبل عدتهن). وهو أن يطلقها طاهرًا، لأنها (أ) حينئذ تستقبل (ب) عدتها، ولو طلقت حائضًا لم تكن مستقبلة عدتها إلا بعد الحيض. واللسان، هو أن القرء اسم معناه الحبس، تقول العرب: هو يقرأ الماء في حوضه. و: في سقائه. وتقول العرب: يقرأ الطعام في شدقه. يعني يحبس الطعام في شدقه. وتقول العرب إذا حبس الرجل الشيء: قرأه. يعني خبأه، وقال عمر: العرب تقرأ في صحافها. أي تحبس في صحافها. وقال الأعشى (2):
أفي (جـ) كل عام أنت جاشم غزوة
…
تحل (د) لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة عزا وفي الحي (هـ) رفعة
…
لما ضاع فيها من قروء نسائكا
فالقرء في البيت بمعنى الطهر؛ لأنه ضيع أطهارهن في غزاته وآثرها عليهن. وذهب جماعة من أكابر الصحابة وغيرهم إلى أن الأقراء هي الحيض، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبو موسى وعبادة بن
(أ) في جـ: لأنه.
(ب) بعده في جـ: بقبل.
(جـ) في الديوان: وفي.
(د) في الديوان: تشد.
(هـ) في الديوان: الحمد.
_________
(1)
تقدم تخريجه ص 17، 18.
(2)
ديوانه ص 91.
الصامت وأبو الدرداء وابن عباس ومعاذ بن جبل (1). وهو قول أصحاب عبد الله بن مسعود كلهم؛ كعلقمة والأسود وإبراهيم وشريح، وقول الشعبي والحسن وقتادة، وقول أصحاب ابن عباس؛ سعيد بن جبير وطاوس، وهو قول سعيد بن المسيب، وهو قول أئمة الحديث؛ كإسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد القاسم والإمام أحمد، فإنه رجع إليه واستتقر عليه مذهبه، وكان يقول أولًا: إنه الطهر. وهو قول أئمة أهل الرأي، كأبي حنيفة وأصحابه، قالوا: لأنه لم يستعمل في كلام الشارع إلا للحيض كقوله صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: "دعي الصلاة أيام أقرائك"(2). وقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (3). وهذا هو الحيض أو (أ) الحمل؛ لأن المخلوق في الرحم هو أحدهما. وبهذا قال السلف والخلف، هو الحمل والحيض. وقال بعضهم: الحمل. وبعضهم: الحيض. ولم يقل أحد: إنه الطهر. ولما رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي (4) من حديث عائشة، أنه قال صلى الله عليه وسلم:"طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان". قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث مظاهر بن أسلم (5)، ومظاهر لا
(أ) في جـ: و.
_________
(1)
ينظر مصنف عبد الرزاق 6/ 315 - 319 ح 10983 - 10985، 10987، 10988، 10990، 10994 - 10997، 11000، 11002.
(2)
تقدم تخريجه ص 224.
(3)
الآيه 228 من سورة البقرة.
(4)
سيأتي ح 924.
(5)
مظاهر بن أسلم المخزومي المدني، ضعيف. التقريب ص 535. وسيأتي الكلام فيه ص 230.
يعرف له في العلم غير هذا الحديث. ولفظ الدارقطني (1) فيه: "طلاق العبد اثنتان". وروى ابن ماجه (2)، من حديث عطية العوفي، عن ابن عمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"طلاق الأمة اثنتان، وعدتها حيضتان". وأخرج ابن ماجه (3)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرت بريرة أن تعتد ثلاث حيض. وأخرج النسائي (4): أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة ثابت بن قيس بن شماس لما اختلعت، أن تتربص حيضة واحدة، وتلحق بأهلها. ومثله في "سنن أبي داود"(5). وفي الترمذي (6)، أن الربيع بنت معوذ اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمرت، أن تعتد بحيضة. وروى أحمد وابو داود (7) في سبايا أوطاس:"لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة". وقد أجيب من جانب من قال: الأقراء الأطهار. بجوابين؛ مجمل ومفصل؛ أما المجمل؛ فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء بالأطهار، فلا التفات بعد ذلك إلى شيء يخالفه، ولأن عائشة أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم تكلمت فيما يتعلق بالنساء، وهو العدة، وقالت: إن الأقراء الأطهار. و:
(1) الدارقطني 4/ 39 ح 113.
(2)
ابن ماجه 1/ 672 ح 2079.
(3)
ابن ماجه 1/ 671 ح 2077.
(4)
النسائي 6/ 186.
(5)
أبو داود 2/ 276، 277، ح 2229.
(6)
الترمذي 3/ 491 ح 1185.
(7)
أحمد 3/ 28، وأبو داود 2/ 254 ح 2157.
إذا قالت حذام فصدقوها
…
فإن القول ما قالت حذام (1)
وأما الجواب المفصل؛ فحديث: "دعي الصلاة أيام أقرائك"(2). فقد أجاب عنه الشافعي، قال (3): زعم إبراهيم بن إسماعيل بن علية: الأقراء الحيض. واحتج بحديث سفيان عن أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم قال في امرأة استحيضت أن تدع الصلاة أيام أقرائها. قال الشافعي: وما حدث بهذا سفيان قط، إنما قال سفيان، عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"تدع الصلاة عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن (أ) "(4). أو قال: "أيام أقرائها". الشك من أيوب الذي روى عنه سفيان لا يدري قال هذا [أو](ب) هذا، فجعله هو حديثا على ناحية ما يريد، فليس هذا بصدق. قال (5): وقد أخبرنا مالك، عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لتنتظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، ثم لتدع الصلاة، ثم لتغتسل ولتصل". "ونافع أحفظ عن سليمان من أيوب، يقول بمثل أحد معنيي أيوب الذي رواهما. انتهى كلامه. وأما قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
(أ) في جـ، ونسخة من سنن البيهقي: تحيض.
(ب) في جـ: و.
_________
(1)
ينظر مجمع الأمثال للميداني 1/ 275، والكامل للمبرد 2/ 71.
(2)
تقدم تخريجه ص 224.
(3)
ينظر السنن الكبرى للبيهقي 7/ 416.
(4)
الحميدي 1/ 144 ح 302، وأحمد 6/ 322، 323، وأبو داود 1/ 71 ح 278 من طريق أيوب به.
(5)
الأم 1/ 60.
أَرْحَامِهِنَّ} (1). فإنه الحيض أو الحبل أو كلاهما، ولا ريب أن الحيض داخل في ذلك، ولعن تحريم كتمانه لا يدل على أن القروء المذكورة في الآية هي الحيض، فإنها إذا كانت الأطهار فإنها تنقضي [بالطعن](أ) في الحيضة الرابعة أو الثالثة، فكتمان الحيض يلزم منه عدم معرفة انقضاء الطهر الذي تتم به العدة، فتكون دلالة الآية على أن القروء الأطهار أظهر. وأما حديث عائشة:"طلاق الأمة طلقتان، وقرؤها حيضتان". فهو حديث ضعيف من حديث مظاهر بن أسلم، قال فيه أبو حاتم الرازي (2): منكر الحديث. وقال يحيى بن معين: لا يعرف. وضعفه أبو عاصم أيضًا (3). وقال أبو داود (4): هذا حديث مجهول. وقال الخطابي (5): أهل الحديث ضعفوا هذا الحديث. وقال البيهقي (6): لو كان ثابتا قلنا به إلا [أنا لا نثبت](ب) حديثًا يرويه من نجهل عدالته. وقال الدارقطني (3): الصحيح عن القاسم بخلاف هذا. ثم روى عن زيد بن أسلم قال: سئل القاسم عن الأمة كم تطلق؟ قال: طلاقها اثنتان، وعدتها حيضتان. قال: فقيل له: أبلغك عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا؟
(أ) في الأصل، جـ: بالظعن. والمثبت هو الصواب.
(ب) في جـ: أنه لا يثبت.
_________
(1)
الآية 228 من سورة البقرة.
(2)
الجرح والتعديل 8/ 439.
(3)
ينظر سنن الدارقطني 4/ 40.
(4)
ينظر تهذيب الكمال 28/ 97.
(5)
معالم السنن 3/ 240.
(6)
السنن الكبري 7/ 371.
فقال: لا. وقال البخاري في "تاريخه"(1): مظاهر بن أسلم عن القاسم عن عائشة يرفعه: "طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان". قال أبو عاصم: أخبرنا ابن جريج عن مظاهر، ثم لقيت مظاهرًا فحدثنا به، وكان أبو عاصم يضعف مظاهرًا، وأخرج من حديث يحيى بن سليمان في قصة أنه قال القاسم: إن هذا ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن عمل به المسلمون. انتهى. فهو يضعف رفع الحديث.
وأما حديث ابن عمر فعطية العوفي (2) ضعفه غير واحد من الأئمة، وقد قال الدارقطني (3): الصحيح عن ابن عمر، ما رواه سالم ونافع أنه كان يقول: طلاق العبد الحرة تطليقتان، وعدتها ثلاثة قروء، وطلاق الحر الأمة تطليقتان، وعدتها عدة الأمة حيضتان. قال الشافعي رحمه الله تعالى (4): أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال: إذا طلق الرجل امرأته، فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة، فقد برئت منه، ولا ترثه، ولا يرثها. فهذا مذهب عائشة وابن عمر أن الأقراء الأطهار بلا شك، فكيف يكون عندهما عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك ولا يذهبان إليه؟! وحديث بريرة يجاب عنه بمثل هذا، وأما الاستدلال بالاستبراء بحيضة، فالاستبراء لا شك أنه ورد بحيضة، وهو النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول جمهور الأمة، والقول الصحيح من قولي
(1) التاريخ الصغير 2/ 119.
(2)
عطية بن سعد بن جنادة العوفي الجدلي، تقدمت ترجمته في 4/ 251.
(3)
سنن الدارقطني 4/ 38.
(4)
الأم 5/ 210.
الشافعي. والفرق بين الاستبراء والعدة أن العدة وجبت قضاء لحق الزوج، فاختصت بزمان حقه وهو الطهر، وبأنها تتكرر، فيعلم منها البراءة بواسطة الحيض، بخلاف الاستبراء.
وقد أجيب عن هذه الأجوبة؛ أما قول الشافعي: ما حدث بهذا سفيان. فجوابه أن الشافعي لم يسمع ذلك عن سفيان، فقال بموجب ما سمعه، لكنه قد سمعه من سفيان من لا يستراب في حفظه وأمانته وعدالته، وقد ثبت في "السنن" من حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها:"إذا جاء قرؤك فلا تصلي، فإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء". رواه أبو داود بإسناد صحيح (1).
وأما حديث سفيان الذي قال فيه: "لتنتظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر"(2). فهو لا يعارض، فإنه قد يكون [رواية](أ) بالمعنى، وهي جائزة ومفسرة أن المراد بالقروء أيام الحيض، فإنه لو لم يكن ذلك اللفظ هو المراد بالآخر، لما (ب) جاز من الراوي أن يبدل اللفظ بلفظ آخر غير مرادف، فمثل أيوب [السختياني](جـ) الذي لا مدافع له عن الإمامة والعدالة والصدق والورع لا يحمل إلا على هذا المحمل الصحيح.
(أ) في جـ: روايته.
(ب) في جـ: ما.
(جـ) في الأصل: السجستاني. وفي جـ: السحاني.
_________
(1)
أبو داود 1/ 71 ح 280.
(2)
تقدم تخريجه ص 229.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها (1)، فهو وإن كان في طريقه مظاهر، فهو معتضد بغيره، فيصح العمل به، وقد أخرج الحاكم (2) من حديث عثمان بن [سعد](أ) القرشي، عن ابن أبي مليكة، قال: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى عائشة. وذكر الحديث. ثم قال: "قولي لها: فلتدع الصلاة في كل شهر أيام قروئها". قال الحاكم: هذا حديث صحيح، وعثمان بن [سعد] (أ) الكاتب (3) بصري ثقة عزيز الحديث يجمع حديثه. قال البيهقي (4): قد تكلم فيه غيره، ولكنه قد تابعه الحجاج بن أرطاة على ابن أبي مليكة عن عائشة. وفي "المسند"(5)، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة:"إذا أقبلت أيام أقرائك فأمسكي عليك". وفي "سنن أبي داود"(6) من حديث عدي بن ثابت في المستحاضة: "تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي". وفيها عن فاطمة بنت أبي حبيش أنه قال لها صلى الله عليه وسلم: "فإذا أتى قرؤك فلا تصلي، فإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين [القرء إلى القرء] (ب) ". وقد يرد على هذا بأن إطلاق القرء هنا على الحيض لعله من كلام الراوي، غيَّر لفظ "الحيض"
(أ) في الأصل، جـ: سعيد. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 19/ 375.
(ب) في الأصل: القروء إلى القروء.
_________
(1)
سيأتي ح 924.
(2)
الحاكم 1/ 175، 176.
(3)
عثمان بن سعد الكاتب، أبو بكر البصري، ضعيف. التقريب ص 383، وينظر تهذيب الكمال 19/ 375.
(4)
السنن الكبرى 1/ 355.
(5)
المسند 6/ 420.
(6)
أبو داود 1/ 79 ح 297.
إلى "القرء" روايةً بالمعنى. وأما حديث مظاهر فهو وإن كان مظاهر ممن لا يحتج به، ولكنه قد يعضد بغيره فيقوى ويحتج به. وأما عمل عائشة بخلاف ما روت، فهو لا يقدح فيه، فإن [المعول](أ) عليه أن مخالفة الراوي لا توجب رد حديثه، وأن المعتبر بما روى لا بما رأى. وأما تضعيف حديث ابن عمر بعطية العوفي فهو وإن ضعفه أكثر أهل الحديث، فقد احتمل الناس حديثه وخرجوه في السنن. وقال يحيى بن معين في رواية عباس (5) الدوري عنه (1): صالح الحديث. وقال ابن عدي (2): روى عنه جماعة من الثقات، وهو مع ضعفه يكتب حديثه. فيعتضد به وإن لم يعتمد عليه وحده.
وأما مخالفة مذهب ابن عمر، فلا تكون قادحة كما عرفت.
وأما الفرق بين الاستبراء والعدة، فالجميع حق للزوج، فإن الحائض للزوج الاستمتاع منها في زمن الحيض كما له الوطء في زمن الطهر، فلا يصلح فارقًا.
924 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان. رواه الدارقطني، وأخرجه مرفوعًا وضعفه (3).
(أ) في الأصل، جـ: المعمول. والمثبت هو الصواب.
(ب) في جـ: عياش.
_________
(1)
التاريخ 2/ 407.
(2)
الكامل 5/ 2007.
(3)
الدارقطني، كتاب الطلاق والخلع والإيلاء وغيره 4/ 38 ح 104، 105، 107.
وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه (1) من حديث عائشة، وصححه الحاكم، وخالفوه فاتفقوا على ضعفه.
تقدم (أ) الكلام على الحديث، وهو يدل على أن الأمة تخالف الحرة، وأن الأمة تبين من زوجها بطلقتين. وهذه المسألة اختلف فيها السلف والخلف على أربعة أقوال؛ الأول: أن طلاق العبد والحر سواء. وهذا مذهب أهل الظاهر جميعهم، حكاه عنهم أبو محمد بن حزم (2)، واحتجوا بعموم النصوص الواردة في الطلاق من غير فرق بين عبد وحر.
الثاني: أنه إذا كان أحد الزوجين رِقًّا، كان الطلاق اثنتين. وهذا رواه حماد بن سلمة، عن [عبيد](ب) الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الحر يطلق الأمة تطليقتين وتعتد حيضتين، والعبد يطلق الحرة تطليقتين وتعتد ثلاث حيض (3). وذهب إلى هذا عثمان البتي.
الثالث: أن الطلاق بالرجال، فيملك الحر ثلاثا وإن كانت زوجته أمة، والعبد اثنتين وإن كانت زوجته حرة. وهذا قول الشافعي، ومالك، وأحمد في ظاهر كلامه، وهو قول زيد بن ثابت، وعائشة، وأم سلمة، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عباس (4)، والقاسم، وسالم، وأبي سلمة،
(أ) بعده في جـ: الحديث.
(ب) في الأصل، جـ: عبد. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 19/ 124.
_________
(1)
أبو داود، كتاب الطلاق، باب في سنة طلاق العبد 2/ 264 ح 2189، والترمذي، كتاب الطلاق، باب ما جاء أن طلاق الأمة تطليقتان 3/ 448 ح 1182، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب في طلاق الأمة وعدتها 1/ 672 ح 2080، والحاكم، كتاب الطلاق 5/ 202.
(2)
المحلى 11/ 581 - 584.
(3)
ابن حزم في المحلى 11/ 581 من طريق حماد بن سلمة به.
(4)
ينظر مصنف عبد الرزاق 7/ 234 - 237 ح 12944، 12946 - 12949، ومصنف ابن أبي شيبة 5/ 82، 83، والمحلى 11/ 589 ، 580.
وعمر بن عبد العزيز، ويحيى بن سعيد، وربيعة، وأبي الزناد، وسليمان بن يسار، وعمرو بن شعيب، وابن المسيب، وعطاء، واحتج في "البحر" لهذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم:"الطلاق بالرجال، والعدة بالنساء"(1). ولم أر من خرجه. وقال في الجواب: قلنا: أراد أن الطلاق إنما يقع من الرجل لا المرأة.
الرابع: أن الطلاق بالنساء كالعدة، كما روى (أ) شعبة، عن أشعث بن سوار، عن الشعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود: السنة الطلاق، والعدة بالنساء (2). وروى عبد الرزاق (3)، عن محمد بن يحيى، وغير واحد، عن عيسى، عن الشعبي، عن اثني عشر رجلا من الصحابة، قالوا: الطلاق والعدة بالمرأة. هذا لفظه. وهو قول الحسن، وابن سيرين، وقتادة، وإبراهيم، والشعبي، وعكرمة، ومجاهد، والثوري، والحسن بن حي، وأبي حنيفة وأصحابه. فهذه الأقوال الأربعة كما عرفت، وسبب الخلاف أن الأحاديث الواردة قد عرفت ما فيها من الضعف، ووردت الآثار عن الصحابة وهي متعارضة، وليس بعضها أولى من بعض، وبقي القياس وتجاذبه طرفان؛ طرف المطلِّق، وطرف المطلَّقة، فمن راعى طرف المطلِّق، قال: هو الذي يملك الطلاق فيتنصف في حقه كما تتنصف عليه سائر أحكام الحر. ومن
(أ) بعده في جـ: عن.
_________
(1)
ابن أبي شيبة 5/ 83، والبيهقي 7/ 370 موقوفًا على ابن عباس. وينظر نصب الراية 3/ 225.
(2)
سعيد بن منصور 1/ 315، 316 ح 1339 من طريق شعبة به، ولم يذكر لفظه، وأحال على السابق بلفظ السنة بالنساء في الطلاق والعدة.
(3)
ابن حزم في المحلى 11/ 578 من طريق عبد الرزاق به. وهو في المصنف 7/ 237 ح 12956 وفيه: عبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى، وإبراهيم بن محمد وغير واحد.
راعى طرف المطلَّقة، قال: الطلاق يقع عليها وتلزمها العدة والتحريم وتوابعها فيتنصف برقها. ومن نصف برق أيِّ الزوجين كان راعى الأمرين وأعمل الشبهين. ومن قال بأنهما كالحر رأى أن الآثار لم تثبت، والمنقول عن الصحابة متعارض، والقياس كذلك، فلم يتعلق بشيء من ذلك، وتمسك بإطلاق النصوص الدالة على أن الطلاق الرجعي طلقتان، ولم يفرق الله بين حر وعبد، ولا بين حرة ولا أمة، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1). قالوا: والحكمة التي جُعل الطلاق الرجعي لأجلها [اثنتين](أ)، هي في الحر والعبد سواء. قالوا: وقد قال مالك: إن له أن ينكح أربعًا كالحر؛ لأن حاجته إلى ذلك كحاجة الحر. وقال الشافعي وأحمد: أجله في الإيلاء كأجل الحر؛ لأن ضرر الزوجة في الصورتين. وقال أبو حنيفة: إن طلاقه وطلاق الحر سواء، إذا كانت المرأتان حرتين؛ لإطلاق نصوص الطلاق وعمومها للحر والعبد. وقال أحمد بن حنبل والناس معه: صيامه في الكفارات كلها وصيام الحر سواء، وحدّه في السرقة والشراب حدّ الحر سواء.
وإذا طلق العبد زوجته تطليقتين ثم عتق بعد ذلك، هل يبقى ذلك الحكم، ويكون حكمها حكم المثلثة، أو يكون له حكم الحر؟ في ذلك أربعة أقوال للفقهاء؛ أحدها: أنها لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، حرة كانت أو أمة. وهذا قول الشافعي [وأحمد](ب) في إحدى الروايتين عنه.
الثاني: أن له أن يعقد عليها عقدًا مستأنفًا من غير اشتراط زوج وإصابة
(أ) في الأصل، جـ: اثنتان.
(ب) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من زاد المعاد 5/ 272.
_________
(1)
الآية 64 من سورة مريم.
منه. وقد ذهب إلى هذا أحمد في إحدى الروايتين عنه، وإحدى الروايتين للشافعية. وأخرج أصحاب "السنن" من حديث أبي حسن مولى بني نوفل (1)، أنه استفتى ابن عباس في مملوك كانت تحته مملوكة فطلقها تطليقتين ثم عتقا بعد ذلك، هل يصلح له أن يخطبها؟ قال: نعم، قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). قال الإمام أحمد (3)، عن عبد الرزاق: إن ابن المبارك قال [لعمر: من أبو حسن هذا؟ لقد](أ) تحمل صخرة عظيمة. انتهى.
قال المنذري (4): وأبو حسن هذا قد ذكر بخير وصلاح. وقد وثقه أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان (5)، غير أن الراوي عنه عمر بن معتب (6)، وقد قال علي بن المديني (7): هو منكر الحديث. وقال النسائي (8): ليس بالقوي.
الثالث: أن له أن يرتجعها في عدتها، وأن ينكحها بعدها بدون زوج ولو لم يعتق. وهذا مذهب أهل الظاهر جميعهم، فإن عندهم الحر والعبد في
(أ) في الأصل، جـ: لعمر بن معتب عن أبي حسن هذا. والمثبت من المسند، والعلل ومعرفة الرجال 1/ 220، وزاد المعاد 5/ 272.
_________
(1)
أبو الحسن، مولى بني نوفل، مقبول. التقريب ص 633، وينظر تهذيب الكمال 33/ 245.
(2)
أبو داود 2/ 263، 264 ح 2187، 2188، والنسائي 6/ 154، وابن ماجه 1/ 673 ح 2082.
(3)
أحمد 1/ 334.
(4)
ينظر عون المعبود 2/ 222.
(5)
الجرح والتعديل 9/ 356.
(6)
عمر بن معتب، ويقال: ابن أبي معتب. المدني، ضعيف. التقريب ص 417. وينظر تهذيب الكمال 21/ 508.
(7)
ينظر تهذيب الكمال 21/ 509.
(8)
الضعفاء والمتروكين ص 83.
الطلاق سواء. وروى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس، أن عبدًا له طلق امرأته طلقتين، فأمره ابن عباس أن يراجعها فأبى، فقال ابن عباس: هي لك فاستحلها بملك اليمين (1).
القول الرابع: أن زوجته إن كانت حرة ملك عليها تمام الثلاث، وإن كانت أمة حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره. وهذا قول أبي حنيفة.
وقوله: وعدتها حيضتان. فيه دلالة على أن عدة الأمة نصف عدة الحرة، إلا أنه لما لم يمكن أن تجعل العدة حيضة ونصفًا كملت حيضتين، كما روى حماد بن زيد، عن عمرو بن أوس الثقفي، أن عمر بن الخطاب قال: لو استطعت أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصفًا لفعلت. فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، فاجعلها شهرًا ونصفًا (2). وقد روى عبد الرزاق (3)، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: جعل لها عمر حيضتين؛ يعني الأمة. وأخرج عن عتبة بن مسعود عن عمر: ينكح العبد اثنتين، ويطلق تطليقتين، وتعتد الأمة حيضتين، فإن لم تحض فشهرين. أو قال: شهرًا ونصفًا (4). وأخرج عن ابن مسعود قال: يكون عليها نصف العذاب، ولا يكون لها نصف الرخصة (5)؟! وقال ابن وهب:
(1) ابن حزم في المحلى 11/ 581 من طريق سفيان به.
(2)
ابن حزم في المحلى 11/ 711 من طريق حماد بن زيد به.
(3)
عبد الرزاق 7/ 222 ح 12875.
(4)
عبد الرزاق 7/ 221 ح 12872.
(5)
عبد الرزاق 7/ 222 ح 12879.
أخبرني رجال من أهل العلم أن نافعًا وابن قسيط ويحيى بن سعيد وربيعة وغير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين قالوا: عدة الأمة حيضتان (1). ورواه (1) عن القاسم بن محمد، وقال القاسم: مع أن هذا ليس في كتاب الله عز وجل، ولا نعلمه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن قد مضى أمر الناس على هذا. وروي ذلك بإسناد صحيح عن علي (2) رضي الله عنه. ورواه الزهري عن زيد بن ثابت (3). وأخرجه مالك (4)، عن نافع، عن عبد الله بن عمر. وهو مذهب فقهاء المدينة؛ سعيد بن المسيب، والقاسم، وسالم، وزيد بن أسلم، وعبد الله بن عتبة، والزهري، ومالك، وفقهاء مكة؛ كعطاء بن أبي رباح، ومسلم بن خالد، وغيرهما، وفقهاء البصرة؛ كقتادة، والحسن، وابن سيرين، وفقهاء الكوفة؛ كالثوري، وأبي حنيفة وأصحابه، وفقهاء الحديث، كأحمد، وإسحاق، والشافعي، وأبي ثور، وغيرهم. فالحديث يدل على هذا، وهو متأيد بعمل الصحابة وبالقياس على الحد. وذهب الظاهرية كما قاله أبو محمد بن حزم (5) أنه مذهب أبي سليمان، وجميع أصحابنا إلى أن عدة الأمة كعدة الحرة سواء؛ لعموم آيات العدد الثلاث للحرة والأمة، قال (6): لأن الله تعالى علمنا العدد في الكتاب، فقال:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (7). {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
(1) ابن حزم في المحلى 11/ 712 من طريق ابن وهب به.
(2)
ابن أبي شيبة 5/ 166.
(3)
ابن حزم في المحلى 11/ 712، 713 من طريق الزهري.
(4)
الموطأ 2/ 574 ح 50.
(5)
المحلى 11/ 714.
(6)
المحلى 11/ 711، 712.
(7)
الآية 228 من سورة البقرة.
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (1). وقال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2). وقد علم الله تعالى إذ أباح لنا زواج الإماء أن عليهن العدد المذكورات، وما فرق عز وجل بين حرة ولا أمة في ذلك، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (3). قال: وثبت عمن سلف مثل قولنا؛ قال (4) محمد بن سيرين: ما أرى عدة الأمة إلا كعدة الحرة، إلا أن تكون مضت في ذلك سُنة، فالسنة أحق أن تتبع. قال (4): وذكر أحمد بن حنبل أن قول مكحول: إن عدة الأمة في كل شيء كعدة الحرة. انتهى كلامه.
ومثل هذا (أ) في كتب الهدوية؛ قال الإمام المهدي في "البحر": مسألة: والأمة كالحرة في عدتها إذ لم يفصل الدليل. انتهى كلامه. ولم يحك خلافًا. والجواب عن ذلك أن العمومات في الآيات الثلاث مخصوصة بالأحاديث المتقدمة، وهي وإن كانت فيها مقال ولكنها متأيدة بآثار (ب) كثيرة، بل ظاهر ما تقدم أنه إجماع الصحابة، والإجماع كاف في
(أ) زاد في جـ: وهو المحكي.
(ب) في جـ: بآيات.
_________
(1)
الآية 234 من سورة البقرة.
(2)
الآية 4 من سورة الطلاق.
(3)
الآية 64 من سورة مريم.
(4)
المحلى 10/ 714.
التخصيص، والقياس كذلك مؤيد، مع أن الآيات إذا تأمل الفطن لسياقها وجدها لا تتناول الإماء، فإن قوله:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} . في حق الحرائر، فإن افتداء الأمة إلى سيدها لا إليها، وكذا قوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} (1). فجعل ذلك إلى الزوجين، والمراد به العقد، وفي الأمة ذلك يختص بسيدها، وكذا قوله تعالى:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2). والأمة لا فعل لها في نفسها، مع أن ابن سيرين لم يجزم بذلك وأخبر به عن رأيه، والرواية عن مكحول لم يذكر لها ابن حزم سندًا، وإنما حكاه عن أحمد عنه، فلم يبق معهم أحد من السلف إلا رأي ابن سيرين المعلق على عدم سنة متبعة.
وفي الاعتداد بالأشهر في حق الصغيرة والآيسة ثلاثة أقوال وهي للشافعي، وهي ثلاث روايات عن أحمد، فأكثر الروايات أنها شهران. رواه عنه جماعة من أصحابه، وهو إحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب. ذكرها الأثرم وغيره عنه. وحجة هذا القول أن عدتها بالأقراء حيضتان، فجعل كل شهر مكان حيضة. والقول الثاني: أن عدتها شهر ونصف. نقلها عنه الأثرم والميموني. وهذا قول علي بن أبي طالب، وابن عمر، وابن المسيب، وأبي حنيفة، والشافعي في أحد أقواله. وحجته أن التنصيف في الأشهر ممكن فينصف بخلاف. والقول الثالث أن عدتها ثلاثة أشهر كوامل. وهو إحدى الروايتين عن عمر، وقول ثالث للشافعي. وحجة هذا القول أن العدة إنما هي لأجل براءة الرحم، وهي لا تحصل بدون ثلاثة أشهر في حق الحرة والأمة
(1) الآية 230 من سورة البقرة.
(2)
الآية 234 من سورة البقرة.
جميعًا؛ لأن الحمل يكون نطفة أربعين يومًا، ثم علقة أربعين يومًا، ثم مضغة أربعين، وهو الطور الثالث الذي يمكن أن يظهر فيه الحمل، وهو بالنسبة إلى الحرة والأمة سواء، بخلاف الأقراء، فإن الحيضة الواحدة يعلم بها براءة الرحم، ولذا اكتفي بها في استبراء الأمة.
925 -
وعن رويفع بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره". أخرجه أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان، وحسنه البزار (1).
هو رويفع، تصغير رافع، بضم الراء المهملة، ابن ثابت بن سكن، من بني مالك بن النجار، الأنصاري، عداده في المصريين، توفي سنة ست وأربعين.
الحديث، وأخرجه الحاكم (2) من حديث ابن عباس في خبر أوله: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن بيع المغانم حتى تقسم، وقال:"لا تسق ماءك زرع غيرك". وأصله في النسائي (3).
الحديث فيه دلالة على أنه يحرم وطء الحامل من غير الواطئ، سواء كان ذلك الحمل لاحقًا بغيره أم لا، وذلك كالأمة المشتراة إذا كانت حاملا من
(1) أبو داود، كتاب النكاح، باب في وطء السبايا 2/ 254 ح 2158، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يشتري الجارية وهي حامل 3/ 437 ح 1131، وابن حبان، كتاب السير، باب ذكر الزجر عن انتفاع المرء بالغنائم على سبيل الضرر بالمسلمين فيه 11/ 186 ح 4850، والبزار في البحر الزخار 6/ 297 ح 2314.
(2)
الحاكم 2/ 137.
(3)
النسائي 7/ 301.
غيره والمسبية. و (أ) ظاهر الحديث إذا كان الحمل متحققًا، وأما إذا كان الحمل غير متحقق وتملَّك (ب) الأمة بسبي أو شراء أو غيره، فسيأتي، ويدخل في عموم الحديث (جـ) ما إذا زنت المرأة المزوجة أو وطئت غلطًا؛ أنه لا يجوز للزوج أن يطأها حتى يستبرئها بحيضة، وقد ذهب إلى وجوب العدة على الزانية (د) مالك وإسحاق بن راهويه وربيعة، وقيل: يستبرئ بحيضة. وذهب العترة، والفريقان الحنفية والشافعية، وابن سيرين، إلى أنه لا عدة على زانية، قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش"(1). ولأن عمر جلد الغلام والصبية، وزوَّج الغلام بالصبية، ولم يُنكَر؛ فدل على عدم وجوب الاستبراء. والجواب عنه: أن الوطء مظنة الحمل، فيجب الاجتناب كما في حق من تحقَّق حملها، ولا يدل قوله:"الولد للفراش". على المدَّعى؛ لأن المراد أنه غير لاحق بالزاني فقط، ومذهب الإمام أحمد بن حنبل أنه لا يجوز نكاح الزانية بالكلية، حتى تتوب ويرتفع عنها اسم الزانية والبغي والفاجرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الرجل وبين المرأة التي (هـ تزوج بها هـ)، فوجدها حبلى، وجلدها الحد، وقضى لها بالصَّداق. أخرجه أبو داود (2). وهذا صريح في بطلان العقد على الحاملة من زنًى. قال المصنف رحمه الله تعالى في
(أ) ساقط من: الأصل.
(ب) في جـ: ملك.
(جـ) ساقط من: جـ.
(د) في جـ: الرواية.
(هـ- هـ) في جـ: تزوجها.
_________
(1)
سيأتي ح 931.
(2)
أبو داود 2/ 248 ح 2131.
"التلخيص"(1): هذا. الحديث -يعني حديث رويفع- احتج به الحنابلة على فساد نكاح الحامل من الزنى، واحتج به الحنفية على امتناع وطئها، وأجاب الأصحاب عنه بأنه ورد في السبي، لا في مطلق النساء، وتعقب بأن العبرة بعموم اللفظ. انتهى.
وقوله: "زرع غيره". استعارة أصلية مصرِّحة بشبه الحمل بالزرع، بجامع [النماء](أ) وتولُّده عن المادة الشبيهة (ب) بالماء.
926 -
وعن عمر رضي الله عنه في امرأة المفقود: تتربَّص أربع سنين، ثم تعتدُّ أربعة أشهر وعشرًا. أخرجه مالك والشافعي (2).
أخرجه من حديث يحيى بن سعيد، [عن سعيد](جـ) بن المسيب، عن عمر: أيما (د) امرأة فقدت زوجها، فلم تدر أين هو، فإنها تنتظر أربع سنين، ثم تنتظر أربعة أشهر وعشرًا. ورواه عبد الرزاق (3)، عن ابن جريج، عن يحيى به. ورواه أبو عبيد (4)، عن محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن
(أ) في الأصل: الثمار.
(ب) في جـ: المشبهة.
(جـ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدري التخريج.
(د) في جـ: بأن.
_________
(1)
التلخيص الحبير 3/ 232.
(2)
مالك، كتاب الطلاق، باب عدة التي تفقد زوجها 2/ 575 ح 52، والشافعي، باب في المفقود 7/ 236.
(3)
مصنف عبد الرزاق 7/ 88 ح 12323.
(4)
أبو عبيد -كما في التلخيص الحبير 3/ 235.
الزهري، عن سعيد، عن عمر وعثمان به. ورواه البيهقي (1) من طرق (أ) أخرى عن عمر. وقال ابن أبي شيبة (2): ثنا غندر، ثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن عمر نحوه. وللدارقطني (3) من طريق عاصم (ب) الأحول عن أبي عثمان، قال: أتت (جـ) امرأة عمر بن الخطاب فقالت: استهوت (د) الجن زوجها. فأمرها أن تتربَّص أربع سنين، ثم أمر ولي الذي استهوته الجن أن يطلقها، ثم أمرها بعد أن تعتد أربعة أشهر وعشرًا.
وأخرج ابن أبي شيبة (2)، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب وعثمان قالا في امرأة المفقود:[تربَّص أربع](هـ) سنين، وتعتدّ أربعة أشهر وعشرًا.
وأخرج أبو [عبيد](و)(4)، عن جابر بن زيد أنه شهد ابن عباس وابن عمر تذاكرا امرأة المفقود، فقالا: تتربص [بنفسها](ز) أربع
(أ) في جـ: طريق.
(ب) في الأصل، جـ: هاشم. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 13/ 485.
(جـ) بعده في جـ: عمر.
(د) في جـ: أسهرت.
(هـ) في الأصل: تتربص أربعة.
(و) في الأصل، جـ: عبيدة. والمثبت من مصدري التخريج.
(ز) ساقط من: الأصل.
_________
(1)
البيهقي 7/ 445.
(2)
ابن أبي شيبة 4/ 237.
(3)
الدارقطني 3/ 311، 312 ح 254.
(4)
ذكره البيهقي 7/ 445، والحافظ في التلخيص الحبير 3/ 237.
سنين، ثم تعتدّ عدة الوفاة.
الحديث فيه دلالة على أن امرأة المفقود بعد مضي المدة المذكورة تبين من زوجها، وقد ذهب إلى هذا عمر، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وأحد قولي الشافعي، وروي أيضًا عن ابن مسعود و (أ) عن جمع من التابعين، كالنخعي، وعطاء، والزهري، ومكحول، والشعبي (1)، واتفق أكثرهم على أن التأجيل من يوم يُرفَع أمرها إلى الحاكم، وعلى أنها تعتدّ عدة الوفاة بعد مضي الأربع السنين، وذهب أبو يوسف، ومحمد، ورواية عن أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، أنها لا تخرج عن عهد الزوجية حتى يصحّ لها موته أو طلاقه أو ردته، ولا بد أن تتيقَّن ذلك، قالوا: لأن عقدها ثابت بيقين، فلا يرتفع إلا بيقين. وقال المؤيد بالله: إنه يكفي في ذلك الظن الغالب الحاصل بخبر العدل. واحتج في "البحر" بقوله صلى الله عليه وسلم: "امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان"(2) الآتي. وروى الشافعي (3) من طريق المنهال (4) بن عمرو، عن عَبَّاد (ب) بن عبد الله، عن علي، أنه قال في امرأة المفقود: إنها لا تتزوج. وذكر في مكان آخر تعليقا (5)، فقال: وقال علي في امرأة المفقود: امرأة
(أ) ساقط من: جـ.
(ب) في الأصل: قتادة. وفي جـ: عبادة. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 14/ 138.
_________
(1)
ينظر الفتح 9/ 431.
(2)
يأتي ح 927.
(3)
الأم 5/ 241.
(4)
في مصدر التخريج: أبي المنهال. وتنظر ترجمة المنهال في تهذيب الكمال 28/ 568.
(5)
الأم 7/ 240.
ابتُلِيَت، فلتصبر لا تنكح حتى يأتيها يقين موته. وقال البيهقي (1): هو عن علي مطولًا مشهور (أ). وأخرج عبد الرزاق (2) أن عليًّا قال في امرأة المفقود: هي امرأة ابتليت، فلتصبر حتى يأتيها موت أو طلاق. وأخرج (3) أيضًا عن علي قال: تربَّص حتى تعلم أحي هو أو ميت. وقال (4) عن ابن جريج أنه قال: بلغني أن ابن مسعود وافق عليًّا. وأخرج (5) من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى، أن عمر لما عاد المفقود مكَّنه من أخذ زوجته. وفيه انقطاع مع ثقة رجاله، قالوا: فإن لم تتيقَّن ما تقدَّم، تربَّصت العمر الطبيعي. قال القاسم: وهو مائة وعشرون سنة من مولده. وقال المؤيد بالله: مائة وخمسون سنة إلى مائتين. وقال الإمام يحيى: لا وجه للتربُّص، لكن إن ترك لها الغائب ما يقوم بها فهو كالحاضر؛ إذ لم يفتها إلا الوطء، وهو حق له لا لها، وإلا فسَخها الحاكم عند مطالبتها من دون انتظارٍ؛ لقوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} (6)، {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (7)، "لا ضرر (ب)
(أ) في جـ: مشهورا.
(ب) في الأصل، جـ: ضر. والمثبت من مصادر التخريج.
_________
(1)
البيهقي 7/ 447.
(2)
عبد الرزاق 7/ 90 ح 12330.
(3)
عبد الرزاق 7/ 90 ح 12331.
(4)
عبد الرزاق 7/ 90، 91 ح 12333.
(5)
عبد الرزاق 7/ 87، 88 ح 12322.
(6)
الآية 231 من سورة البقرة.
(7)
الآية 229 من سورة البقرة.
ولا ضرار في الإسلام" (1). والحاكم شرع لرفع المضارة في الظهار والإيلاء، وهذا أبلغ، والفسخ مشروع كالعيب ونحوه. قال: والتقدير بالعمر الطبيعي والأربع لا دليل عليه من كتاب أو سنة؛ لأنهم إن جوزوا لها النكاح بمضيها (أ) لأجل الضرر، فأيّ ضرر أبلغ من تربُّصها هذه المدة، وإن كان لحصول اليقين ببينونتها، فلا يقين بذلك، وإن كان لنصٍّ أو قياس، فلا شيء منهما. قال الإمام المهدي: أما الطبيعي فقدروه عند تعذر اليقين والبَيِّنة الكاملة، ليحصل أقوى مراتب الظن؛ [إذ لا قرينة أقوى من ذلك فيطلبوها، ولابد مع مضي المدة من حصول الظن](ب)، ولا يكفي مجرد المدة، وإلا لزم فيمن غاب وقد بقي يومان من عمره الطبيعي أن تزوّج امرأته، ولا قائل به. قال الإمام المهدي: ولا شك أن في التربُّص المذكور حرجًا، فالفسخ قوي. قال الإمام يحيى: فإن غلب في الظن موته لأي الأمارات القوية، جاز تزويجها بلا فسخ، وتعتدّ من عند الظن كلو قامت بينة، فإن عاد رجعت إليه، بخلاف الفسخ. وهذا الذي ذكره الإمام يحيى إحداثُ قولٍ ثالث رافع للقولين السابقين اللذين ظهرا في أيام السلف من الصحابة ومن بعدهم.
واعلم أنه قال عبد الرزاق (2): أخبرنا الثوري، عن يونس بن خَبَّاب (جـ)،
(أ) في جـ: بعد مضيها.
(ب) ساقط من: الأصل.
(جـ) في الأصل: حبان. وفي جـ: حبان. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 32/ 503.
_________
(1)
الطبراني في الأوسط 5/ 328 ح 5193. وينظر نصب الراية 4/ 384، 386.
(2)
عبد الرزاق 7/ 86 ح 12320.
عن مجاهد، عن الفقيد الذي فقد، قال: دخلت الشِّعْب فاستهوتْني الجنّ، فمكثت أربع سنين، فأتت امرأتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأمرها أن تتربَّص أربع سنين من حين رفعتْ أمرها إليه، ثم دعا وليه فطلَّقها، ثم أمرها أن تعتدّ أربعة أشهر وعشرًا، ثم جئتُ بعدما تزوجتْ، فخيَّرني عمر بينها وبين الصداق الذي اصدقتُها. ورواه ابن أبي شيبة (1) من طريق يحيى بن جعدة، عن عمر به. ورواه البيهقي (2) من طريق أخرى. والله أعلم.
وقال بالتخيير هذا القائلون بأنها تعتدّ. وقال أكثرهم: إن اختار الأول الصداق، غرمه له الثاني. وخالف سعيد بن السيب في المفقود في صفِّ القتال؛ أنها تربَّص سنةً واحدة، وفي غير الصف أربع سنين. وفرَّق مالك بين القتال في (أ) دار الحرب أو (أ) دار الإسلام.
927 -
وعن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان". أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف (3).
أخرجه الدارقطني بلفظ: "حتى يأتيها الخبر". وأخرجه البيهقي (4)
(أ) في جـ: و.
_________
(1)
ابن أبي شيبة 4/ 237، 238.
(2)
البيهقي 7/ 45، 446.
(3)
الدارقطني، كتاب النكاح، باب المهر 3/ 312 ح 255.
(4)
البيهقي 7/ 445.
بلفظ: "حتى يأتيها البيان". ولكن ضعفه أبو حاتم (1)، والبيهقي (2)، وعبد الحق (3)، وابن القطان (4)، وغيرهم.
الحديث تقدَّم الكلام عليه في الحديث الذي قبله.
928 -
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبيتنَّ رجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحًا، أو ذا محرم". أخرجه مسلم (5).
في لفظ مسلم زيادة: "عند امرأة ثيب". بزيادة لفظ: "ثيب". وجاء في بعض نسخ مسلم: "أو ذات محرم".
وقوله: "ناكحا". المراد أن يكون ذلك الرجل زوجًا للمرأة، أو يكون ذا محرم، وهذا هو الظاهر، وقد فسره بعضهم بأن المراد بالناكح هي المرأة المزوَّجة، يعني وزوجها حاضر، فيبيت قريبها في بيتها بحضرة الزوج. وهذا التفسير خلاف الظاهر، قال العلماء: وإنما خصَّ الثيب بالذكر لكونها التي يُدخَل إليها غالبًا، وأما البكر فمصونة متصوّنة في العادة، مجانبة للرجال أشد مجانبة، فلم يُحتَجْ إلى ذكرها، وهو أيضًا من باب الأوْلى، لأنه إذا نهي عن الثيب التي يتساهل الناس في الدخول عليها في العادة، فالبكر
(1) علل ابن أبي حاتم 1/ 431، 432 ح 1298.
(2)
البيهقي 7/ 445.
(3)
الأحكام الوسطى 3/ 228.
(4)
كما في التلخيص الحبير 3/ 232.
(5)
مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها 4/ 1710 ح 2171.
أوْلى. والحديث يدل على أنه يحرم الخلوة بالأجنبية، وإباحة الخلوة بالمحرم، وهذان الأمران مجمع عليهما. وضابط المحرم: هو (أ) كل من حرم عليه نكاحها على التأبيد بسببٍ مباحٍ لحرمتها. فقولنا: على التأبيد. احتراز من أخت الزوجة، وعمتها، وخالتها، ونحوهن. وقولنا: بسبب مباح. احتراز من أم الموطوءة بشبهة وبنتها، فإنها حرام على التأبيد، لكن لا بسبب مباح، فإن وطء الشبهة لا يوصف بأنه مباح ولا محرم، ولا بغيرهما من أحكام الشرع الخمسة، لأنه ليس فعل مكلف. وقولنا: لحرمتها. احتراز من الملاعنة، فهي حرام على التأبيد؛ لا لحرمتها، بل [تغليظ](ب) عليهما.
929 -
وعن ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم". أخرجه البخاري (1).
الحديث، الكلام عليه تقدم فيما قبله.
930 -
وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة". أخرجه أبو داود وصححه الحاكم (2).
(أ) ساقط من: جـ.
(ب) في الأصل: تغليظا.
_________
(1)
البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم 9/ 330، 331 ح 5233.
(2)
أبو داود، كتاب النكاح، باب في وطء السبايا 2/ 254 ح 2157، والحاكم، كتاب النكاح 2/ 195.
وله شاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما في الدارقطني (1).
وحديث ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توطأ حامل حتى تضع، أو حائل حتى تحيض. قال الدارقطني: إن ابن صاعد قال: إن [العابدي](أ) راويه من حديث ابن عيينة تفرد بوصله وغيره أرسله، ورواه الطبراني في "الصغير"(2) من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف، وأبو داود (3) من حديث رويفع بن ثابت بلفظ:"لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها بحيضة". وروى ابن أبي شيبة (4) عن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توطأ الحامل حتى تضع، أو الحائل حتى تستبرأ بحيضة. لكن في إسناده ضعف وانقطاع.
قوله: أوطاس. هو اسم واد في ديار هوازن، وهو موضع حرب حنين. كذا قال القاضي عياض (5). وقد ذهب إليه بعض أهل السير، قال المصنف رحمه الله تعالى (5): والراجح أن وادي أوطاس غير وادي حنين، ويوضح ذلك ما ذكر ابن إسحاق أن الوقعة كانت في وادي حنين، وأن هوازن لما
(أ) غير منقوطة في: الأصل، جـ. وفي الدارقطني: العائذي. والمثبت من تهذيب الكمال 15/ 378، وينظر الأنساب 4/ 107، 119.
_________
(1)
الدارقطني 3/ 257 ح 50.
(2)
المعجم الصغير 1/ 95.
(3)
أبو داود 2/ 254 ح 2158 دون قوله: "بحيضة".
(4)
ابن أبي شيبة 4/ 370.
(5)
الفتح 8/ 42.
انهزموا صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى بجيلة، وطائفة إلى أوطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عسكرًا مقدمهم أبو عامر الأشعري إلى من مضى إلى أوطاس كما يدل عليه حديث الباب؛ يعني حديث البخاري (1)، ثم توجه هو بعساكره إلى الطائف، وقال أبو عبيد البكري (2): أوطاس واد في ديار هوازن. انتهى.
الحديث فيه دلالة على أنه يجب استبراء المسبية إذا أراد السابي وطأها، فإن كانت حاملا فبوضع الحمل، وإن كانت غير ذات حمل فبحيضة، وهذا المنصوص عليه، لأنه ورد في حق السابين (أ)، وقيس على (ب) السابي المشتري والمتملك بأي وجه من وجوه التمليك بجامع ابتداء التملك (جـ)، وقد ذهب إلى هذا العترة والحنفية والشافعية ومالك والثوري والنخعي، وظاهر قوله:"ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة". يعم البكر والثيب، وقياسًا على العدة حيث تجب مع العلم ببراءة الرحم، ويؤيده قول عمر: من ابتاع جارية قد بلغت الحيض فليتربص بها حتى تحيض، فإن كنت لم تحض فليتربص (د) خمسا وأربعين ليلة (3). وقد وجبت العدة على الصغيرة والآيسة،
(أ) في جـ: السابلين.
(ب) زاد في جـ: غير.
(جـ) في جـ: التمليك.
(د) زاد في جـ: لها.
_________
(1)
البخاري 8/ 41، 42 ح 4323.
(2)
معجم ما استعجم 1/ 212.
(3)
عبد الرزاق 7/ 224 ح 12884.
والاستبراء عدة، فتجب على الجميع، وذهب جماعة إلى أن الاستبراء إنما يكون في حق من لم يعلم براءة رحمها، وأما من علم براءة رحمها، فلا استبراء عليها، وهذا رواه عبد الرزاق (1) عن ابن عمر قال: إذا كانت الأمة عذراء لم يستبرئها إن شاء. ورواه البخاري (2) في "الصحيح" عنه، وذكر حماد بن سلمة (3)، قال: حدثنا علي بن زيد عن أيوب [بن](أ) عبد الله اللخمي عن ابن عمر قال: وقعت في سهمي جارية يوم جلولاء كأن عنقها إبريق فضة. قال ابن عمر: فما ملكت نفسي أن جعلت أقبلها والناس ينظرون. وأخرج البخاري في "الصحيح"(4) مثل ذلك عن علي رضي الله عنه من حديث بريدة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا إلى خالد -يعني باليمن- ليقبض الخمس، فاصطفى علي منها صبية، وأصبح وقد اغتسل، فقلت لخالد: أما ترى إلى هذا؟! وفي رواية: فقال خالد لبريدة: ألا ترى ما صنع هذا؟! قال بريدة: وكنت أبغض عليًّا، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت له، فقال:"يا بريدة، أتبغض عليًّا؟ ". فقلت: نعم. فقال: "لا تبغضه، فإن له في الخمس أكثر من ذلك". فهذه الجارية إما أن تكون بكرا فلم ير علي وجوب استبرائها (ب)، وإما أن تكون في آخر حيضة فاكتفى
(أ) في الأصل، جـ: عن. والمثبت من التاريخ الكبير 1/ 419، والجرح والتعديل 2/ 215.
(ب) في جـ: الاستبراء فيها.
_________
(1)
عبد الرزاق 7/ 227 ح 12906.
(2)
البخاري 4/ 423 معلقا.
(3)
ابن أبي شيبة 4/ 227 من طريق حماد بن سلمة به.
(4)
البخاري 8/ 66 ح 4350.
بالحيضة قبل تملكه لها، وعلى كل تقدير فلا بد أن تكون قد تحقق براءة رحمها، ويؤيد هذا ما أخرجه الإمام أحمد (1) من حديث رويفع:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحن ثيبا من السبايا حتى تحيض". ويكون هذا (أ) مخصصا لعموم: "ولا غير ذات حمل حتى تحيض". وإلى هذا يرجع مذهب مالك. وقال أبو عبد الله [المازري](ب) من المالكية: والقول الجامع في ذلك أن كل أمة أمن عليها الحمل فلا يلزم فيها الاستبراء، وكل من غلب على الظن كونها حاملًا، أو شك في حملها، أو تردد في فيه، فالاستبراء لازم فيها، وكل من غلب على الظن براءة رحمها لكنه يجوز حصوله، فإن المذهب على قولين في ثبوت الاستبراء وسقوطه، ثم خرج على ذلك الفروع المختلفة كاستبراء الصغيرة التي تطيق الوطء والآيسة، وفيه روايتان عن مالك. قال صاحب "الجواهر": ويجب في الصغيرة إذا كانت ممن قارب سن الحمل كبنت ثلاث عشرة وأربع عشرة، وفي إيجاب الاستبراء إذا كانت ممن يطيق الوطء ولا يحمل مثلها كبنت تسع وعشر روايتان، أثبته في رواية ابن القاسم، ونفاه في رواية ابن عبد الحكم، وإن كانت ممن لا يطيق الوطء فلا استبراء فيها. قال: ويجب الاستبراء ممن جاوزت سن الحيض ولم تبلغ سن اليأس مثل ابنة الأربعين والخمسين، وأما التي قعدت عن المحيض وتأيست عنه، فهل يجب فيها الاستبراء أو لا يجب؟ روايتان لابن القاسم
(أ) ساقط من: جـ.
(ب) في الأصل، جـ: المازني.
_________
(1)
أحمد 4/ 108.
وابن عبد الحكم. قال [المازري](أ): ووجه استبراء الصغيرة التي تطيق الوطء والآيسة، لأنه يمكن فيهما الحمل على الندور، أو [لمخافة](ب) الذريعة، لئلا تدعي في مواضع الإمكان أن لا إمكان. قال: ومن ذلك استبراء الأمة خوفًا أن تكون زنت، وهو المعبر عنه بالاستبراء لسوء الظن، وفيه قولان، والنفي لأشهب. قال: ومن ذلك استبراء من كان الغالب على السادات عدم وطئهن، ومن ذلك استبراء من باعها مجبوب أو امرأة أو ذو محرم، ففي وجوبه روايتان عن مالك، ومن ذلك [استبراء](جـ) المكاتبة [إذا كانت](د) تتصرف ثم عجزت فرجعت إلى سيدها، فابن القاسم يثبت الاستبراء، وأشهب ينفيه، ومن ذلك استبراء البكر. قال أبو الحسن اللخمي: هو مستحب على وجه الاحتياط غير واجب. وقال غيره من أصحابه: هو واجب. ومن ذلك إذا استبرأ البائع الأمة وعلم المشتري أنه قد استبرأها، فإنه يجزئ استبراء البائع عن استبراء المشتري، ومن ذلك إذا أودعه أمة فحاضت عند المودَع حيضة ثم اشتراها، لم يحتج إلى استبراء ثان، وأجزأت تلك الحيضة عن استبرائها، وهذا بشرط ألا تخرج، ولا يكون سيدها يدخل عليها، ومن ذلك أن يستبرئها من زوجته، أو ولد له صغير في عياله وقد حاضت عند البائع، فابن القاسم يقول: إذا كانت لا تخرج أجزأه ذلك. وأشهب يقول: إذا كانت مع المشتري في دار وهو ذابّ عنها وناظر في أمرها أجزأه (هـ) ذلك،
(أ) في الأصل، جـ: المازني.
(ب) في الأصل: لحماية.
(جـ) في الأصل: اشتراء.
(د) ساقط من: الأصل.
(هـ) بعده في جـ: في.
سواء كانت تخرج أو لا تخرج، ومن ذلك أن سيد الأمة إذا كان غائبًا فحين قدم اشتراها منه رجل قبل أن تخرج، أو خرجت وهي حائض، فاشتراها قبل أن تطهر، فلا استبراء عليه، ومن ذلك إذا بيعت (أ) وهي حائض في أول حيضها، فالمشهور من مذهبه أن ذلك يكون استبراء لها، لا تحتاج إلى حيضة مستأنفة، ومن ذلك الشريك يشتري نصيب شريكه من الجارية، وهي تحت يد المشتري منهما وقد حاضت في يده، فلا استبراء عليها (ب). انتهى كلامه.
وهذا الكلام ينبئ أن مأخذ مالك في الاستبراء إنما هو للعلم ببراءة الرحم، فحيث لا تعلم ولا تظن البراءة وجب الاستبراء، وحيث تعلم أو تظن البراءة فلا استبراء. وقال بهذا أبو العباس بن سريج والإمام أبو العباس بن تيمية، واختاره الإمام محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، وهذا الذي ذكروه قوي، فإن الحكم ليس بتعبدي محض، بل له معنى معقول مناسب للحكم، وهو براءة الرحم للبعد من اختلاط الأنساب، والأحاديث الواردة في سبايا أوطاس منبهة على هذا التعليل؛ ففي "صحيح مسلم"(1) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشًا إلى أوطاس، فلقي عدوًّا فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا سبايا، وكان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل في ذلك:
(أ) في جـ: ابتيعت.
(ب) في جـ: عليه.
_________
(1)
مسلم 2/ 1079 ح 1456/ 33.
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1). أي فهن حلال لكم. فكأن التحرج إنما هو في حق من يظن أنها قد وطئها زوج، وفيه من حديث أبي الدرداء (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مجح (3) على باب فسطاط، فقال:"لعله [يريد] (أ) أن يلم بها؟ ". قالوا: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن ألعنه لعنًا يدخل معه قبره؛ كيف يورثه وهو لا يحل له؟ كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟ ". وفي الترمذي (4) من حديث عرباض بن سارية، أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن. وفيه من حديث (ب) رويفع بن ثابت (5)، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره". قال الترمذي: حديث حسن. ولأبي داود (6) من حديثه أيضًا: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها". وذكر البخاري (7) في "صحيحه" عن ابن عمر: إذا وهبت الوليدة التي توطأ، أو بيعت، أو عتقت، فلتستبرأ بحيضة، ولا تستبرأ العذراء. وأخرج عبد الرزاق (8) عن معمر عن طاوس: لا
(أ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.
(ب) بعده في جـ: بشير.
_________
(1)
الآية 23 من سورة النساء.
(2)
مسلم 2/ 1065 ح 1441.
(3)
المجح: الحامل المقرب التي دنا ولادها. النهاية 1/ 240.
(4)
الترمذي 4/ 112، 113 ح 1564.
(5)
تقدم ح 925.
(6)
أبو داود 2/ 254 (2158).
(7)
تقدم ص 255.
(8)
عبد الرزاق 7/ 226، 227 ح 12903.
يقعن رجل على حامل ولا حائل حتى تحيض. فهذه الأحاديث فيها إيماء إلى أن العلة الحمل أو تجويزه، وقد عرفت أن الحكم منصوص في السبايا، وقيس عليه انتقال الملك بالشراء وغيره، وذهب داود الظاهري وعثمان البتي إلى أنه لا يجب الاستبراء في غير السبي، أما داود فلأنه لا يثبت الحكم بالقياس، ولأن الشراء ونحوه عقد كالتزويج، وأجيب بأنه قد روي عن علي رضي الله عنه: من اشترى جارية فلا يقربها حتى تستبرأ بحيضة (1). وقد تقدم مثله عن عمر (2) رضي الله عنه، ولا يقاس على النكاح للفرق، فإن النكاح لا يقتضي ملك الرقبة. كذا ذكره في "البحر"، ولا يخفى ركة الجواب، إذ لا دخل لملك الرقبة في هذا الحكم مع اشتراكهما في الوصف المناسب، وهو العلم ببراءة الرحم المفضي إلى اختلاط الأنساب. وإطلاق هذه الأحاديث في السبايا، وتوقيت الوطء بوضع الحمل أو الحيضة، (أيقضي بحل أ) الوطء، وإن لم يدخلن (ب) في الإسلام، فإنه لو كان الإسلام شرطا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، مع أن فيهم حديثي عهد بالإسلام يخفى عليهم هذا الحكم، وحصول الإسلام من جميع السبايا، وكانوا عدة آلاف بعيد، بل في غاية البعد أن يسلموا جميعهم دفعة واحدة، لا تتخلف عن الإسلام منهن جارية واحدة من غير عرض الإسلام ولا إكراه عليه، ولم يكن لهن رغبة وبصيرة في الدخول في الإسلام يقتضي المبادرة إلى الإسلام قبل
(أ- أ) في جـ: بمضي محل.
(ب) في جـ: تدخل.
_________
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 244، 225 بنحوه.
(2)
تقدم ص 254.
كل شيء، فمقتضى هذه السنة وعمل الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قاض بجواز الوطء من دون إسلام، وقد ذهب إلى هذا طاوس وغيره، وقواه صاحب "المغني"(1) وقوى أدلته. والله أعلم.
931 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". متفق عليه من حديثه (2).
ومن حديث عائشة رضي الله عنها في قصةٍ (3)، وعن ابن مسعود عند النسائي (4)، وعن عثمان عند أبي داود (5).
الحديث ذكره البخاري من طرق، قال ابن عبد البر (6) هو أصح ما روي، فإنه جاء عن بضعة وعشرين نفسًا من الصحابة. قال المصنف (7) رحمه الله: وفي الباب عن عمر (أ) وعثمان وابن مسعود وابن الزبير وابن عمرو وأبي أمامة وعمرو (ب) بن خارجة وزيد بن أرقم، وزاد شيخنا: معاوية
(أ) في جـ: ابن عمر.
(ب) في جـ: عمرو، وكتب فوقها: عثمان.
_________
(1)
المغني 9/ 552، 553.
(2)
البخاري، كتاب الحدود، باب للعاهر الحجر 12/ 127 ح 6818، ومسلم، كتاب الرضاع، باب الولد للفراش وتوقي الشبهات 2/ 1081 ح 1458.
(3)
البخاري 12/ 32 ح 6749، ومسلم 2/ 1080 ح 1457/ 36.
(4)
النسائي 6/ 181.
(5)
أبو داود 2/ 291 ح 2275.
(6)
التمهيد 8/ 180، 181.
(7)
الفتح 12/ 39.
وابن عمر. وزاد ابن منده (1) في "تذكرته": معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وعلي بن أبي طالب والحسين بن علي وعبد الله بن حذافة وسعد بن أبي وقاص وسودة بنت زمعة. وقد وقع لي من حديث ابن عباس وأبي مسعود البدري (أ) وواثلة بن الأسقع وزينب بنت جحش، وجميع هؤلاء وقع عندهم:"الولد للفراش وللعاهر الحجر". انتهى.
والحديث فيه دلالة على ثبوت نسب الولد بالفراش من الأب، واختلف العلماء في معنى "الفراش"؛ فذهب الأكثر أنه اسم للمرأة، وقد يعبر به عن حالة الافتراش، وذهب أبو حنيفة إلى أن الفراش اسم للزوج، ونقل ابن الأعرابي (1) ذلك، وأنشد عليه قول جرير (2):
* باتت تعانقه وبات فراشها *
البيت، وهو إما أن يكون مع الحرة، فلا يثبت الفراش منها إلا بإمكان الوطء في نكاح صحيح أو فاسد، وهذا مذهب الهادي والشافعي وأحمد، وذهب أبو حنيفة إلى أنه يثبت بنفس العقد، وإن علم أنه لم يجتمع بها، بل ولو طلقها عقيبه في المجلس.
وذهب ابن تيمية (3) إلى أنه لا بد من معرفة الدخول المحقق، وقال: إن
(أ) بعده في جـ: وابن عباس.
_________
(1)
الفتح 12/ 39.
(2)
ذكره المصنف في الفتح 12/ 35، ولم نجده في ديوان جرير.
(3)
الفتاوى الكبرى 4/ 585.
الإمام أحمد أشار إليه في رواية حرب، فإنه قال فيمن طلق قبل البناء وأتت امرأته بولد فأنكره: إنه ينتفي عنه بغير لعان.
واختار هذا القول ابن القيم (1)، قال: وهل يَعُدُّ أهل اللغة والعرف المرأة فراشا قبل البناء بها؟! وكيف تأتي الشريعة بإلحاق نسب من لم يبْنِ بامرأته ولا دخل بها ولا اجتمع بها، بمجرد إمكان ذلك؟! وهذا الإمكان قد يقطع بانتفائه عادة، فلا تصير المرأة فراشا إلا بدخول محقق. انتهى كلامه.
وقد ترجح القول الأول بأن ذلك هو اللائق بالاحتياط في لحوق النسب، ومعرفة الوطء المحقق يتعذر معرفته في حق [غير](أ) الزوجين، والإشكال إنما هو مع تناكرهما، ففي ثبوته مع إمكان الوطء احتياط في ثبوت النسب، وإلا كان ذريعة لكثير ممن يريد مجرد سفح الماء من غير أن يَلحقه ولد أن ينكر وجود الوطء منه، والشهادة متعذرة، وقد جعل الله له المخرج باللعان، إذا لم يكن منه الولد.
ويُشترط أن تأتي بالولد بعد مضي أقل مدة الحمل، وهذا مجمع عليه، إلا أن أبا حنيفة يقول: من يوم العقد. وعند الجمهور من إمكان الوطء؛ لما أومأ إليه النص، وهو قوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (2). وقوله
(أ) ساقطة من: الأصل.
_________
(1)
زاد المعاد 5/ 415.
(2)
الآية 15 من سورة الأحقاف.
تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (1). فإنه يعلم منه أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وإنما اشتُرط مُضي أقل مدة الحمل؛ لأنها لو ولدت لأقل من ذلك، قطعنا أنه من قبل العقد، إلا أنه إذا عاش مدة أكثر مما لغير الناقص فذلك لازم، وينتفي بغير لعان، وإن عاش المدة التي يعيش الناقص، كان لاحقا وجرى له حكم الولد، ويُشترط إمكان البلوغ من الزوجين، فلا يلحق بمن كان دون التسع اتفاقًا إذ لم يُعتد ولد لمثله، ويلحق بابن العشر اتفاقًا، إذ قد يمني مثله ولو كان نادرًا، إذ قد حصل الإمكان، وفي ابن التسع تردد؛ قال الشافعي: لا يلحق، إذ لا يمني مثله. وقال الإمام يحيى وأبو إسحاق: يلحق، إذ قد تحيض المرأة لتسع، فيجوز الإمناء في الصبي. والقصد الإمكان، وأما إذا كان النكاح باطلًا فلا يكفي الإمكان، بل لا بد من تحقق الوطء إذ لا حكم للعقد، ويثبت الفراش للخصي والمجبوب؛ لإمكان إلقاء الماء في الرحم، ولا عبرة بقول الأطباء أن ماءه رقيق لا يُخلق منه ولد، وإذا حاضت المرأة ثلاث حيض بعد الطلاق، ثم تزوجت فأتت بولد لدون ستة أشهر، لم يلحق بالأول ولا بالثاني، لأن الحيض يتعذر مع الحمل، والظاهر أنه حيض. وقال الشافعي: بل يلحق بالأول. لأنه لا يتعذر الحيض مع الحمل عنده.
وهذا الكلام في الزوجة، وأما فراش الأمة، فظاهر الحديث أنه شامل له، وأنه يثبت الفراش للأمة بالوطء، إذا كانت مملوكة للواطئ، أو في شبهة ملك، إذا اعترف به السيد، أو ثبت بوجه، فإن الحديث ورد في وليدة زمعة، ولفظه في رواية عائشة رضي الله عنها قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص
(1) الآية 14 من سورة لقمان.
وعبد بن زمعة في غلام، فقال سعد: يا رسول الله، هذا ابن أخي عتبة (أ) بن أبي وقاص، عهد إليَّ أنه ابنه، انظر إلى شبهه. وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله، ولد على فراش أبي من وليدته. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبهًا بينا بعتبة، فقال:"هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة". فلم تره سودة قط (1). والحديث كان في فتح مكة، فإنه أثبت الولد بفراش زمعة للوليدة المذكورة، فسبب الحكم ومحله إنما كان في الأمة، وهذا قول الجمهور، وذهب إليه الشافعي ومالك والنخعي وأحمد وإسحاق، ونسبه الإمام يحيى إلى مذهب الهدوية، وذهب أبو حنيفة -وهو مذهب الهدوية والثوري- أن الأمة لا يثبت فراشها إلا بدعوى الولد، ولا يكفي الإقرار بالوطء، فإن لم تدَّعه فلا نسب له وكان ملكًا لمالك الأمة، وإذا قد ثبت فراشها فما ولدته بعد ذلك لحق بالسيد، وإن لم يدَّع المالك ذلك، قالوا: فالفرق بين الحرة والأمة أن عقد النكاح في الحرة إنما يراد للاستفراش [والوطء](ب) بخلاف ملك اليمين، فإن الوطء والاستفراش تابع وأغلب المنافع غيره، وأجيب عن ذلك بأن الكلام في الأمة التي اتخذت للوطء، فإن الغرض من الاستفراش قد حصل بها، فإذا عرف الوطء كانت فراشًا، ولا يحتاج إلى استلحاق، وهذا الحديث شاهد له؛ فإن عبد بن زمعة لما قال: ولد على فراش أبي. ألحقه النبي صلى الله عليه وسلم بزمعة، ولم ينظر إلى الشبه البين الذي فيه المخالف للملحق به، وهذا في حق الأمة المذكورة،
(أ) في جـ: عتيبة.
(ب) ساقطة من: الأصل.
_________
(1)
البخاري 4/ 292 ح 2053، ومسلم 2/ 1080 ح 1457.
ولا يجوز تخصيصه منه، فإن العام الوارد على سبب خاص يكون نصا في السبب لا يصح تخصيصه، والخلاف فيه عند أهل الأصول في نوع السبب أو في عينه، والأرجح أنه في نوعه، وأجابت الحنفية ومن قال بقولهم، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُلحقه بعبدٍ على أنه أخ له، وإنما ألحقه به مملوكًا، ويدل عليه (أ) أن اللام ظاهرها التمليك في قوله:"هو لك". ويؤكده أنه قد جاء في بعض ألفاظه: "هو لك عبد"(1). وجاء في رواية: "احتجبي منه يا سودة، فليس لك بأخ"(2). ورجاله رجال الصحيح، إلا شيخ مجاهد وهو يوسف مولى آل (ب) الزبير (3)، وقد طعن البيهقي في سنده (4) وقال: فيه جرير (5) وقد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ، وفيه يوسف وهو غير معروف. وأجيب عن ذلك بأن قوله:"هو لك". اللام فيه للاختصاص لا للملك، ورواية:"هو لك عبد"(1). باطلة لا تصح أصلا، ومعارضة بالرواية الصحيحة المصرحة بالأخوة، وهو ما أخرجه الإمام البخاري (6): "هو لك، هو أخوك يا عبد بن
(أ) في جـ: على.
(ب) في جـ: أبي.
_________
(1)
هذه الرواية عزاها ابن حجر للنسائي وذكر أنه وقع فيها حذف حرف النداء، وقال: إن بعض المخالفين قرأها بالتنوين، وذكر أن ذلك مردود. وينظر الفتح 12/ 36.
(2)
النسائي 6/ 180، 181.
(3)
يوسف بن الزبير المكي مولى آل الزبير، وقلبه بعضهم، مقبول: التقريب ص 610، وينظر تهذيب الكمال 32/ 424.
(4)
البيهقي 6/ 87.
(5)
جرير بن عبد الحميد بن قرط الضبي الكوفي نزيل الري وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، قيل: كان في آخر عمره يهم من حفظه. التقريب ص 139، وينظر تهذيب الكمال 4/ 540.
(6)
البخاري 8/ 23، 24 ح 4303.
زمعة". قالوا: أمر النبي صلى الله عليه وسلم سودة بالاحتجاب [منه](أ)، فلو كان أخًا لها لم يأمرها بالاحتجاب منه. وأجيب عن ذلك بأنه على سبيل الاحتياط والورع والصيانة لأمهات المؤمنين من بعض المباحات مع الشبهة، وذلك لما رآه صلى الله عليه وسلم في الولد من الشبه البيّن بعتبة بن أبي وقاص. وفي الحديث دلالة على أن لغير الأب أن يستلحق الولد، مثل استلحاق (ب) عبد بن زمعة للأخ المذكور، بإقراره أن الفراش لأبيه، وظاهر الرواية وإن لم يصدقه سائر الورثة، فإن سودة لم يُذكر منها تصديق ولا إنكار، وإن كان سكوتها وعدم إنكارها لما ادعاه أخوها، قد يُدَّعى أنه قائم مقام الإقرار منها، وقد اتفق أهل العلم على أن للأب أن يستلحق، فأما الجد فإن كان الأب موجودًا لم يؤثر استلحاقه شيئًا، وإن كان معدومًا، وهو كل الورثة، صح إقراره وثبت نسب المقر به، وإن كان بعض الورثة وصدقوه فكذلك، وإلا لم يثبت نسبه، إلا أن يكون أحد الشاهدين فيه مع شاهد آخر، والحكم في الأخ كالحكم في الجد سواء، والأصل في ذلك أن من حاز المال ثبت النسب بإقراره، واحدًا كان أو جماعة، وهذا أصل مذهب أحمد والشافعي؛ لأن الورثة قاموا مقام الميت وحلوا محله، ومذهب الهدوية أنه لا يصح الاستلحاق من غير الأب، وإنما المقر به يشارك المقر في الإرث دون النسب، ومذهب الشافعي أن الإقرار من الوارث هو إقرار خلافة ونيابة عن الميت، وكذا مذهب أحمد فلا يشترط عدالة المستلحق بل ولا إسلامه، وقالت المالكية: هو إقرار شهادة، فتعتبر فيه أهلية الشهادة. وحكى ابن القصار عن مذهب مالك أن الورثة إذا أقروا
(أ) في الأصل: عنه.
(ب) بعده في جـ: ابن.
بالنسب لحق، وإن لم يكونوا عدولًا، والمعروف من مذهب مالك خلافه، ويدل الحديث على أن للوصي أن يستلحق لموصيه، ويكون كالوكيل له؛ لأن سعدا لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع منه من الدعوى، والفراش يثبت أيضًا بالبينة بأن المُدَّعَى ولد على الفراش، أو أنه ابنه أقرّ به، والحديث يدل عليه، وذهبت المالكية إلى أن مثل هذا الحديث مما يدل على (أ) مشروعية حُكم بين حُكمين، وهو أن يأخذ الفرع [شبها](ب) من أكثر من أصل، فيعطى أحكاما؛ لأن الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة، والشبه إلحاقه بعتبة، فأعطي الفرع حُكما بين حُكمين؛ فروعي الفراش في إثبات النسب، وروعي الشبه البيِّن بعتبة في أمر سودة بالاحتجاب، قالوا: وهذا أولى التقديرات، فإن الفرع إذا دار بين أصلين فألحق بأحدهما فقط، فقد أبطل شَبهه بالثاني من كل وجه، فإذا ألحق بكل واحد منهما من وجه، كان أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه. وهذا من أحسن الأحكام وأبينها وأوضحها، ولا يمتنع ثبوت النسب من وجه دون وجه كما ذهب أبو حنيفة والأوزاعي وغيرهم، أنه لا يحل أن يتزوج ابنته من الزنى، وإن كان لها حكم الأجنبية، واعترض ذلك ابن دقيق العيد (1) بأن هذا الحكم إنما هو إذا دار الفرع بين أصلين شرعيين، يقتضي الشرع الإلحاق بكل واحد منهما من حيث النظر، يعني القياس على أصلين، وههنا لا يقتضي الشرع إلا إلحاق هذا الولد بالفراش، والشبه ها هنا غير
(أ) بعده في جـ: أن.
(ب) في الأصل: منها.
_________
(1)
الفتح 12/ 38.
مقتض للإلحاق، فالحكم بأن الأمر بالاحتجاب للاحتياط [أولى](أ)، وأنت خبير بأن المثبت لذلك لم يجعله من باب الإلحاق بأصلين، وإنما أثبت هذا الحكم بدليل شرعي سني، وحكمه صلى الله عليه وسلم على الواحد حكم على الجماعة، فيكون هذا الحكم -وهو إثبات النسب بالنظر إلى ما يجحب للمدعى من أحكام البنوة- ثابتًا له، وبالنظر إلى ما يتعلق بالغير من النظر إلى المحارم غير ثابت، وهو وقوف على مدلول الواقعة، والحديث يدل على أن الولد لا يثبت إلا بالفراش، لإفادة هذه الصيغة الحصر، ولكن ثبوت الفراش قد يكون بالعقد بالشروط المتقدمة أو بظهور الوطء في حق الأمة وغيرها من المغلوط بها، ونحو ذلك كما تقدم، وإذا قد ثبت الفراش، فلا يُنفى من الحرة الولد إلا بلعان كما تقدم، وأما الأمة فإذا قد ولدت وادعاه على القول باشتراط الدعوى، أو بثبوت الوطء عند من لم يشترط الدعوى، فما حدث من الولد لحق نسبه من دون تجديد دعوى، وذهب الناصر إلى وجوب الدعوى في كل ولد وإلا لم يلحق، فإذا أراد نفي الولد من الأمة بعد ثبوت الفراش لم يكن له ذلك عند الهدوية، وذهب الشافعية؛ قال الرافعي: وهو المنصوص للشافعي. وقال في "الروضة": هو المذهب والمنصوص. ونسبه في "البحر" إلى الحنفية، وهو مروي عن المنصور بالله، أن للسيد النفي للولد إذا علم أنه ليس منه. وقد أخرج ذلك البيهقي (1) عن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت؛ أنهم أنكروا أولادًا من جواريهم ونفوهم. وقد يقوى هذا القول بأن الله سبحانه جعل للأزواج المخرج من لحوق من لم يكن
(أ) ساقطة من: الأصل.
_________
(1)
البيهقي 7/ 413.
منهم باللعان في حق الزوجات، فلو لم يكن للسيد النفي لزم أن يلحق به من لم يكن منه، واللعان غير مشروع في حقه، وكان في ذلك الحكم غاية العبث والحرج، والله سبحانه أحكم.
واختلف العلماء في القافة هل يثبت بها النسب أم لا؛ فذهب العترة وأبو حنيفة إلى أنه لا يثبت النسب بها؛ لأن قوله: "الولد للفراش". يدل على أن القافة غير معتبرة؛ لإفادة مثل هذا التركيب الحصر. وذهب الشافعي وغيره إلى ثبوت النسب بها، إلا أنه إنما يكون فيما أشكل من وطأين محرمين؛ كالمشتري والبائع يطأان الجارية في طهر قبل الاستبراء، كذا قال النواوي (1)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرر مجزِّزا المدلجي في قوله: هذه الأقدام بعضها من بعض. في حق أسامة وزيد -أخرج القصة البخاري ومسلم (2) - فقرر قوله، واستبشر بذلك، ودخل على عائشة وأسارير وجهه تَبرُق، وأخبرها بما قاله المدلجي. وقال صلى الله عليه وسلم في حق الملاعنة:"إن جاءت به على نعت كذا، فهو لشريك بن سحماء"(3). وقال: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن"(4). وقال في جواب أم سليم لما قالت: أو تحتلم المرأة؟ فقال: "مم يكون الشبه؟! "(5). وقال: "إن (أ) ماء الرجل إذا سبق ماء المرأة كان الشبه له، وإذا
(أ) ساقط من: جـ.
_________
(1)
صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 42.
(2)
سيأتي ح 1186.
(3)
تقدم ح 906.
(4)
تقدم تخريجه ص 150.
(5)
تقدم في ح 92.
سبق ماؤها كان الشبه لها" (1). وأخرج سعيد بن منصور (2) عن عمر، في امرأة وطئها رجلان في طهر، فقال القائف: قد اشتركا فيه جميعًا. فجعله بينهما. قال الشعبي: وعليٌّ يقول: هو ابنهما وهما أبواه يرثانه. أخرجه سعيد (2) أيضًا. وروى الأثرم بإسناده عن سعيد بن المسيب في رجلين اشتركا في طهر امرأة، فحملت فولدت غلامًا يشبههما، فرفع ذلك إلى عمر فدعا القافة فنظروا، فقالوا: نراه يشبههما. فألحقه بهما وجعله يرثهما ويرثانه (3). ولا يعرف في الصحابة قط من يخالف عمر وعليًّا في ذلك، بل حكم عمر بهذا في المدينة وبحضرة المهاجرين والأنصار ولم ينكره منهم منكر، وأجابت الحنفية عن ذلك، بأن نسب أسامة قد ثبت بالفراش، وسرور النبي صلى الله عليه وسلم بقول القائف إنما هو لإلزام الخصم الذي يقول بالقافة؛ لأن المنافقين كانوا يحبون الطعن في نسب أسامة، وكانت العرب تعتبر القافة، فكان في قول القائف إقناع للخصم، وقطعٌ للجاجه في الباطل وتماديه في العناد، فلم يكن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكارها واستبشاره دلالة على ثبوتها طريقًا في إثبات النسب، وبأن قصة الملاعنة تدل على عدم اعتبار الشبه؛ لأنه لو كان معتبرًا لما لاعن ولقال: انتظروها، فإن جاءت به كذا فهو لكذا. فما فعل اللعان إلا لأنه لا يُعتبر، وبأن ما ذكر من الشبه بسبب المني لا يدل على اعتبار ذلك في ثبوت النسب، وبأن حكم عليٍّ وعمر قد وقع فيه الاختلاف، فقد روي ذلك، وروي عن عمر أن القائف قال له: قد اشتركا فيه. فقال له
(1) البخاري 6/ 362 ح 3329.
(2)
سعيد بن منصور -كما في زاد المعاد 5/ 419 - وينظر تحفة الأحوذي 3/ 194.
(3)
شرح معاني الآثار 4/ 163.
عمر: [والِ](أ) أيهما شئت (1). فلم يعتبر قول القائف.
والجواب عن ذلك؛ أما قصة أسامة، فإن الاحتجاج بها إنما هو لسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار كونها طريقا يثبت بها النسب، مع أنه لم يسبق من النبي صلى الله عليه وسلم إظهار إنكارها حتى يقال: إن تقريره لا يكون مثبتًا لها. وإن ذلك مثل مُضي كافر ذمي إلى كنيسته مما قد عرف إنكاره، ولم ينكره في الحال اعتمادًا على ذلك، فكان سكوته عن إنكارها تقريرًا لثبوتها طريقًا، والاستبشار بذلك يزيده وضوحًا.
وأما قصة الملاعنة، فالنسب كان ثابتًا بالفراش، والفراش هو أقوى ما يثبت به، فلا تعارضه القافة، فإنها إنما تعتبر مع الاحتمال عند القائل بها، فلا يعارض الفراش ويبطل حكمه إلا الأيمان التي شرعها الله سبحانه لدفعه، فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"لولا الأيمان لكان لي ولها شأن"(2). أي لولا ما شرعه الله من الأيمان، ولم يشرع القافة في مثل ذلك، وأما ثبوت الشبه بسبق المني فهو مثبت للشبه الذي يستند إليه القائف، وهو محصل للظن الذي ثبت اعتباره في كثير من الأحكام الشرعية.
وأما قصة الذي ولدت امرأته ولدًا أسود مخالفًا للون أبيه (3)، فلم يمكنه من النفي بمخالفة الشبه لثبوت ما هو أقوى منه، وهو الفراش، فلم يقو (ب)
(أ) في الأصل، جـ: إلى. والمثبت من مصادر التخريج.
(جـ) في جـ: يقف.
_________
(1)
الأم 6/ 247، وشرح معاني الآثار 4/ 161، 162، والبيهقي 10/ 263، 264.
(2)
تقدم تخريجه ص 150.
(3)
تقدم ح 912.
على معارضته، مع أن في الجواب بقوله:"لعلها نزعة عرق"(1). ما يدل على أن الشبه معتبر، وأما ما روي عن عمر بقوله:[والِ](أ) أيهما شئت (ب). فهو غير ثابت ولا يعرف صحته [عن عمر](جـ)، مع أن قوله:[والِ]، (أ) أيهما شئت. لم يكن فيه إبطال لقول القائف، فإن القائف قد حكم باشتراكهما فيه.
ومسألة إذا ألحقه القائف باثنين، فيها خلاف أيضًا، ذهب الشافعي إلى إبطال قوليهما، قال: لأنه لا يكون للرجل إلا أب واحد. وقال الجمهور: بل يصح أن يُلحقه باثنين. ونص أحمد في رواية مهنّا (2) إلى أنه يصح أن يلحقه بثلاثة، وقال صاحب "المغني" (3): إنه يلحق بمن ألحقه القائف وإن كثروا؛ لأنه إذا جاز إلحاقه باثنين جاز إلحاقه بأكثر من واحد. وقد جوز الهدوية والحنفية في الأمة المشتركة والمشتراة الموطوءة في طهر واحد، وادعاه الشركاء - لحوقه بهم. وقال محمد بن الحسن: لا يلحق بأكثر من ثلاثة. وقال أبو حامد: لا يلحق بأكثر من اثنين. وهو قول أبي يوسف، قال الملحقون: إنه إذا جاز تخلق الولد من ماء اثنين، جاز من أكثر من ذلك. وقد أخرج أبو داود والنسائي (4) من طريقين، في إسناد إحداهما من لا يحتج به،
(أ) في الأصل، جـ: إلى.
(ب) في جـ: يثبت.
(جـ) ساقطة من: الأصل.
_________
(1)
تقدم ح 912.
(2)
هو مُهنّا بن حي الشامي السلمي، أبو عبد الله. تنظر ترجمته في طبقات الحنابلة 1/ 345.
(3)
المغني 8/ 378.
(4)
أبو داود 2/ 289 ح 2269، والنسائي 6/ 182.
والطريق الأخرى كل رجالها ثقات إلا احتمال الإرسال فيها، أن عليًّا رضي الله عنه أتى إليه ثلاثة وهو باليمن وقعوا على امرأة واحدة في طهر واحد يتنازعون في ولد، فسأل اثنين أن يُقرَّا لهذا، قالا: لا. حتى سألهم جميعًا، فجعل كلما سأل اثنين قالا: لا. فأقرع بينهم، فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية، قال: فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه. فهذه القصة رجع فيها إلى القرعة، وقد اختلف الفقهاء في هذا الحكم؛ فذهب إسحاق بن راهويه إلى العمل بظاهر هذا، وقال: هو السنة في دعوى الولد. وكان الشافعي يقول به في القديم، وأما الإمام أحمد بن حنبل فسئل عن هذا ورجح عليه حديث القافة، وقال: حديث القافة أحب إلي. وبقي الكلام في تغريم الدية، ولعله يقال: إنه لما تعين له بالقرعة صار حكمه حكم المتلف للولد عليهما، وضمان الحر بالدية كمن أتلف عبدًا له شريك فيه، فإنه يضمن حصة الشريك، والله أعلم.
وقوله: "وللعاهر الحجر". العاهر الزاني، يقال: عهر. أي زنى. ويختص بالليل، ومعنى: له الحجر. أي له الخيبة، ولا حق له في الولد، وعادة العرب أنها تقول: له الحجر. و: بفيه الأثلب. وهو التراب. ونحو ذلك، يريدون ليس له إلا الخيبة. وقيل: المراد بالحجر هنا، أنه يرجم بالحجارة. وهو ضعيف؛ لأنه لا يرجم بالحجارة إلا المحصن.