المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب دعوى الدم والقسامة - البدر التمام شرح بلوغ المرام ت الزبن - جـ ٨

[الحسين بن محمد المغربي]

الفصل: ‌باب دعوى الدم والقسامة

‌باب دعوى الدم والقسامة

القَسَامة بفتح القاف وتخفيف المهملة، وهي مصدر أقسم قسمًا وقسامة، والقسامة هي الأيمان تقسَّم على أولياء المقتول، إذا ادَّعَوا الدم، أو على المدعى عليهم الدم، وخص القسم على الدم بلفظ القسامة، وقال إمام الحرمين (1): القسامة عند أهل اللغة اسم للقوم الذين يقسمون، وعند الفقهاء اسم للأيمان. وقال في "المحكم" (2): القسامة. الجماعة يقسمون على الشيء أو يشهدون به، ويمين القسامة منسوبة إليهم، ثم أطلقت على الأيمان نفسها، وفي "القاموس" (3): القسامة: الجماعة يقسمون على الشيء ويأخذونه أو يشهدون. وفي "الضياء": القسامة الأيمان تقسم على خمسين رجلًا من أهل البلد أو القرية التي يوجد فيها القتيل (أ)؛ لا يعلم قاتله ولا يدعي أولياؤه قتله على أحد بعينه.

988 -

عن سهل بن أبي حثمة عن [رجالٍ من كبراء](ب) قومه، أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في عين، فأتى يهود فقال: أنتم والله قتلتموه. قالوا: والله ما قتلناه. فأقبل هو وأخوه

(أ) في جـ: العليل.

(ب) في الأصل: رجل من كبار.

_________

(1)

الفتح 12/ 231.

(2)

المحكم 6/ 152 (ق س م).

(3)

القاموس المحيط 4/ 162 (ق س م).

ص: 459

حويصة وعبد الرحمن بن سهل، فذهب محيصة ليتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كبِّر كبِّر". يريد السن، فتكلم حويصة، ثم تكلم محيصة وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يأذنوا (أ) بحرب". فكتب إليهم في ذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه. فقال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ ". قالوا: لا. قال: "فيحلف لكم يهود؟ ". قالوا: ليسوا مسلمين. فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، فبعث إليهم مائة ناقة، قال سهل: فلقد ركضتني منها ناقة حمراء. متفق عليه (1).

سهل هو أبو محمد، ويقال: أبو يحيى. ويقال: أبو عمارة. ويقال: أبو عبد الرحمن. وهو بالسين المهملة، ابن أبي حثمة، وأبو حثمة عبد الله بن ساعدة بن عامر بن الأوس الأنصاري، وقال المصنف رحمه الله تعالى في "الفتح" (2): اسمه عامر بن ساعدة بن عامر. ويقال: اسم أبيه عبد الله، واشتهر هو بالنسبة إلى جده، وهو من بني حارثة؛ [بطن من](ب) الأوس.

وحثمة بالحاء المهملة المفتوحة وسكون الثاء المثلثة، ولد سنة ثلاث من الهجرة، سكن الكوفة، وعداده في أهل المدينة، كانت وفاته في زمن مصعب بن الزبير، روى عنه أبو هريرة ونافع بن جبير وعبد الرحمن بن مسعود.

(أ) في مصدر التخريج: يؤذنوا.

(ب) في الأصل: حارثة بن مطر بن الأوس. وينظر الإِصابة 3/ 195.

_________

(1)

البخاري، كتاب الديات، باب القسامة 12/ 229 ح 6898، ومسلم، كتاب القسامة، باب القسامة 3/ 1294 ح 6/ 1669.

(2)

الفتح 12/ 232، 233.

ص: 460

قوله: عن رجال من كبراء قومه. كذا في رواية لمسلم، وفي رواية لمسلم (1) عن مالك: أنه أخبره عن رجل من كبراء قومه. وفي رواية الشافعي (2): أنه أخبره هو ورجال من كبراء قومه. وفي رواية أبي داود (3): عن سهل ورافع بن خديج. وفي رواية البيهقي (4): عن بُشير بن يسار مولى بني حارثة، أن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة وسويد بن النعمان حدثوه. وفي كثير من الروايات للبخاري ومسلم والبيهقي (5) وغيرهم من دون توسيط لأحد.

وقوله: أن عبد الله بن سهل ومحيصة. وهو بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الياء المشددة التحتانية وفتح الصاد المهملة، وهو ابن مسعود، ومحيصة ابن عم عبد الله بن سهل بن زيد، ومحيصة بن مسعود بن زيد.

وقوله: خرجا. وجاء في رواية البخاري: انطلقوا إلى خيبر. وهي محمولة على أنه كان معهما [تَابِعٌ](أ)، وقد وقع في رواية محمد بن إسحاق (6): فخرج عبد الله بن سهل في أصحاب له يمتارون تمرًا. وزاد في

(أ) في الأصل، جـ: نافع. والمثبت من الفتح 12/ 233.

_________

(1)

البيهقي 8/ 118 من طريق مالك، ولم نجده عند مسلم بهذا اللفظ، وينظر التلخيص الحبير 4/ 39.

(2)

مسند الشافعي 2/ 229 ح 380 - شفاء العي.

(3)

أبو داود 4/ 175 ح 4520.

(4)

البيهقي 8/ 119.

(5)

مسلم 3/ 1293 ح 1669/ 3، 4، ومالك 2/ 878 ح 2، والشافعي في السنن المأثورة 1/ 421. والبيهقي في معرفة السنن والآثار 6/ 257 ح 4973.

(6)

أحمد 4/ 3 ح 16096 من طريق ابن إسحاق به.

ص: 461

رواية لمسلم (1): في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي يومئذ صلح وأهلها يهود.

وقوله: في جهد. بفتح الجيم وضمها بمعنى الطاقة والمشقة.

وقوله: فأتى محيصة. يعني إلى عبد الله بن سهل، يعني بعد أن تفرقا كما هو في رواية البخاري.

وقوله: فأخبر، وفي رواية (2): ثم إذا محيصة يجد عبد الله بن سهل قتيلًا، ويمكن الجمع بأنه أخبرنا أولًا ثم طلبه فوجده قتيلًا، وفي رواية (3): يتشحط في دمه قتيلًا. أي يضطرب فيتمرغ في دمه، فدفنه.

وقوله: فطرح في عين. في البخاري (4) بالشك: فقير. بفاء مفتوحة ثم قاف مكسورة؛ أي حفير أو عين. وفي رواية ابن إسحاق: فوجد في عين قد كسرت عنقه وطرح فيها.

وقوله: "كبِّر كبِّر". بصيغة الأمر، والثاني تأكيد للأول، وفي رواية البخاري:"الكُبْرَ الكُبْرَ". بضم الكاف وسكون الباء الموحدة وهو منصوب على الإغراء.

وقوله: يريد السن. المراد به: يتكلم من كان أكبر سنًّا، وكان محيصة أصغر من حويصة، وفي رواية يحيى بن سعيد (5): أن الذي تكلم عبد

(1) مسلم 3/ 1293 ح 1669/ 3.

(2)

مسلم 3/ 1291 ح 1669/ 1.

(3)

البخاري 6/ 275 ح 3173 بلفظ: "يتشمط".

(4)

البخاري 13/ 184 ح 7192.

(5)

مسلم 3/ 1291 ح 1669/ 1، 2.

ص: 462

الرحمن. وكان عبد الرحمن بن سهل أصغر القوم مع أنه وليّ الدم، إلا أنهم لما كانوا متعاضدين في طلب الدم، كانوا في حكم المستحقين له.

وقوله: فتكلم حويصة. [هو بضم](أ) الحاء المهملة وتشديد الياء مصغرًا، وقد روي التخفيف في الاسمين معًا ورجحه طائفة.

وقوله: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إما أن يدوا صاحبكم" إلخ. قد يستدل (ب) به للحنفية في أن الدعوى في القتل تصح على غير معين؛ لأن الأنصار ادَّعَوا على اليهود أنهم قتلوا صاحبهم، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم دعواهم، وأجيب بأن هذا الذي ذكره الأنصار ليس على صورة الدعوى بين الخصمين، وإنما هو إخبار بما وقع، فذكر لهم قصة الحكم على التقديرين، ومن ثَمَّ كتب إلى يهود بعد أن دار بينهم الكلام المذكور، ويؤخذ منه أن مجرد الدعوى لا توجب إحضار المدعى عليه ما لم يظهر ما يقوي الدعوى.

وقوله: "إما أن يدوا صاحبكم". يؤخذ منه أن المتعين في القسامة هو الدية، ولا يثبت بها القصاص.

وقوله: "وإما أن يأذنوا بحرب من الله". فيه دلالة على أن من أبى من تسليم ما يجب عليه يجوز محاربته، وأن ذلك يكون نقضًا للذمة في حق من عقدت له؛ لأنها كانت صلحًا وأهلها يهود.

وقوله: فكتبوا: إنا والله ما قتلناه. فيه دلالة على الاكتفاء بالكتابة وبخبر الواحد مع إمكان المشافهة.

(أ) ساقطة من: جـ.

(ب) في جـ: استدل.

ص: 463

وقوله: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ " إلى آخره. الحديث فيه دلالة على مشروعية القسامة، وأصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الإسلام، وركن من مصالح العباد، وبه أخذ جماهير الأئمة والسلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة وفقهاء الأمصار من الحجازيين والكوفيين والشاميين، وإن اختلفوا في صورة الأخذ به على ما يأتي تفصيله، ولم تر الأخذ به طائفة من السلف، ولم يروا القسامة، ولم يثبتوا [بها](أ) حكمًا؛ منهم الحكم بن عتيبة وأبو قلابة وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار وقتادة ومسلم بن خالد وإبراهيم بن علية، واليه ينحو البخاري -إلا أن المصنف رحمه الله تعالى قال (1): الذي يظهر أن البخاري لا يضعف القسامة من حيث هي، إلا أنه يوافق الشافعي في أنه [لا قود بها](ب)، ويخالفه في أن اليمين تكون على المدعى عليه؛ لأن الروايات اختلفت في ذلك، فترجع على المتفق عليه أن اليمين على المدعى عليه- وعمر بن عبد العزيز باختلاف عنه. قالوا: لأن القسامة مخالفة لأصول الشرع المجمع على صحتها:

فأولًا: أن الشرع ورد أنه لا يجوز الحلف إلا على ما علِمه قطعًا، أو شاهده حسًّا، وقد ورد في هذا الحكم تحليف أولياء الدم، وهم لم يشهدوا القتل، وهذا على قول غير الحنفية.

ومنها: أن من الأصول أن الأيمان ليس لها تأثير في إثبات الدم.

(أ) في الأصل: لها.

(ب) في الأصل: لا يوديها.

_________

(1)

الفتح 12/ 239.

ص: 464

ومنها: أن من الأصول أن البينة على المدعي، واليمين على المنكر. ومنها: أن هذا الحديث لم يكن فيه حكم من النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة، وإنما كانت حكمًا جاهليًّا فتلطف لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الإسلام.

والجواب عن مخالفة الأصول، بأن سنة القسامة سنة بنفسها منفردة مخصصة للأصول كسائر السنن المخصصة للحاجة إلى شرعيتها، حياطة لحفظ الدماء وردع المعتدين، وذلك لأن القتل لما كان يكثر، وقد يقل حضور الشهود عليه؛ لأن القاتل إنما يتحرى بالقتل مواضع الخلوات، ويترصد أوقات الغفلات -جعلت هذه السنة حفظًا للدماء، فصارت أصلًا مستقلا يتبع و (أ) يستعمل، ولا تطرح سنة بسنة، وعدَّى اعتبار هذه المصلحة الإمام مالك في حق الأموال أيضًا، فإنه أجاز شهادة المسلوبين على السالبين، وإن كانوا مدَّعين؛ لأن قاطع الطريق إنما يفعل ذلك مع الغفلة والانفراد عن الناس، ولعله يقول بمثل ذلك في حق المسروق، فإن الشهادة على السرقة متعذرة بحسب الأغلب.

ثم الجمهور القائلون بثبوت القسامة اختلفوا، هل يجب فيها القود أو الدية؟ فذهب معظم الحجازيين إلى إيجاب القود بها إذا كمل شروطها، وهو قول الزهري، وربيعة، وأبي الزناد، ومالك، والليث، والأوزاعي، والشافعي في أحد قوليه، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وداود، وروي ذلك عن بعض الصحابة كابن الزبير، واختلف عن عمر بن عبد العزيز،

(أ) زاد في الأصل: لا.

ص: 465

وقال أبو الزناد: قتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل، فما اختلف منهم اثنان.

قال المصنف رحمه الله تعالى (1): إنما نقل ذلك أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت، كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي (2) من رواية عبد الرحمن أبي الزناد عن أبيه، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى [عشرين](أ) من الصحابة فضلًا عن ألف، وحجتهم حديث الباب، وهو قوله:"أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ ". وفي رواية عند مسلم (3): "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته". وأن هذا يدل على القصاص، فإن استحقاق الدم منهم منه، أنه إذا كان القتل عمدًا استحق القصاص، فإنه موجب القصاص، ولا سيما رواية:"يدفع برمته". فإن هذا العطف مستعمل في دفع القاتل إلى أولياء القتول للقتل، مع أن قوله:"دم صاحبكم". يحتمل أن يراد بالصاحب القاتل، والإضافة للملابسة التي بينهم باعتبار ما لزمه من الحق، ويفسره رواية قوله:"فيدفع برمته". وقول هؤلاء: إنه يبدأ في التحليف بالمدعين. كما في هذه الرواية، وكما في حديث أبي هريرة (4):"البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، إلا القسامة". وفي إسناده لين، ويتأيد ذلك بأن جنبة المدعي إذا قويت بشهادة

(أ) في الأصل، جـ: عشرة. والمثبت من مصدري التخريج.

_________

(1)

الفتح 12/ 235.

(2)

سعيد بن منصور -كما في الفتح 12/ 235، والبيهقي 8/ 127.

(3)

مسلم 3/ 1291 ح 1669/ 2.

(4)

الدارقطني 3/ 110 ح 98.

ص: 466

أو شبهة صارت اليمين له، وههنا الشبهة قوية، فصار المدعي في القسامة مشبهًا بالمدعى عليه المؤيد بالبراءة الأصلية مما ادعي عليه، وهذه الشبهة التي مع المدعي مؤيدة لصحة دعواه حتى كأن الظاهر معه. وذهب الهدوية، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، والكوفيون، وكثير من أهل البصرة، وبعض أهل المدينة، والأوزاعي، إلى أنه يحلف المدعى عليهم ولا يمين على المدعين، فيحلف خمسون رجلًا من أهل القرية خمسين يمينًا: ما قتلناه ولا علمنا قاتله. فإن حلفوا، فقال الكوفيون والهدوية: يلزمهم الدية. واحتجوا بما روي عن زياد بن أبي مريم، أن رجلًا قال للرسول صلى الله عليه وسلم: إن أخي قتل بين قريتين، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"يحلف منهم خمسون رجلا". فقال: ما لي من أخ غير هذا! فقال: "نعم، ومن الإبل مائة"(1). وما أخرجه البيهقي (2) عن أبي سعيد، أن قتيلًا وجد بين حيين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاس إلى أيهما أقرب، فوجد أقرب إلى أحد الجانبين (أ) بشبر. قال أبو سعيد: كأني أنظر إلى شبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى ديته عليهم. وأخرج (2) عن أبي إسرائيل الملائي نحوه. قال البيهقي: تفرد أبو إسرائيل عن عطية العوفي بذلك، وكلاهما لا يحتج به. وأخرج أيضًا (ب) البيهقي (3) عن الشعبي، أن

(أ) في البيهقي: الحيين.

(ب) في جـ: الصيا و، وبعده في الأصل: و.

_________

(1)

لم نجده، ولعله سقط من الحديث شيء.

(2)

البيهقي 8/ 126.

(3)

البيهقي 8/ 123.

ص: 467

قتيلًا وجد في خربة وادعة همدان، فرفع إلى عمر بن الخطاب، فأحلفهم خمسين يمينًا: ما قتلنا، ولا علمنا قاتلًا. ثم غرَّمهم الدية، قال: يا معشر همدان، حقنتم دماءكم بأيمانكم، فما يُبطل دم هذا الرجل المسلم؟

وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي (1) عن الشعبي، أن قتيلًا وجد بين وادعة وشاكر، فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى وادعة أقرب، فأحلفهم عمر خمسين يمينًا؛ كل رجل: ما قتلته، ولا علمت قاتلًا. ثم أغرمهم الدية، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لا أيماننا دفعت عن أموالنا، ولا أموالنا دفعت عن أيماننا. فقال عمر: كذلك الحق.

وأخرج البيهقي (2) عن الشعبي، أنه قُتل رجل، فأدخل عمر بن الخطاب الحِجر المدعَى عليهم خمسين رجلًا، فأقسموا: ما قتلنا، ولا علمنا قاتلًا.

وأخرج الدارقطني والبيهقي (3) عن سعيد بن المسيب قال: لما حج عمر حجته الأخيرة وجد رجلا من المسلمين قتيلا بفناء وادعة، فقال لهم:[هل](أ) علمتم لهذا القتيل قاتلا منكم؟ قالوا: لا. فاستخرج منهم خمسين شيخًا فأدخلهم الحطيم فاستحلفهم بالله رب هذا البيت الحرام، ورب هذا

(أ) في الأصل: قد.

_________

(1)

عبد الرزاق 10/ 35 ح 18266، وابن أبي شيبة 9/ 381، 382، والبيهقي 8/ 124.

(2)

البيهقي 8/ 124.

(3)

الدارقطني 3/ 170 ح 255، والبيهقي 8/ 125.

ص: 468

البلد الحرام، ورب هذا الشهر الحرام، لم تقتلوه، ولا علمتم له قاتلا. فحلفوا بذلك، فلما حلفوا قال: أدوا ديته مغلظة. قال رجل منهم، يا أمير المؤمنين، أما تجزيني يميني من مالي؟ قال: إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي (1): رفعُه إلى النبي صلى الله عليه وسلم منكَر، وفيه عمر بن [صُبْح](أ)(2). أجمعوا على تركه. وأخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق والبيهقي (3) عن سليمان بن يسار وعراك بن مالك، أن رجلًا من بني سعد بن ليث أجرى فرسًا، فوطئ على أصبع رجل من جهينة، فنُزي منها فمات، فقال عمر بن الخطاب للذين ادعي عليهم: أتحلفون بالله خمسين يمينًا ما مات منها؟ فأبوا وتحرجوا من الأيمان؛ فقال للآخرين: احلفوا أنتم. فأبوا، فقضى عمر بشطر الدية على السعديين. وأخرج ابن أبي شيبة (4) عن الحسن، أن أبا بكر وعمر والجماعة الأولى لم يكونوا يقتلون بالقسامة. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي (5) عن عمر، أن القسامة إنما توجب العقل ولا تشيط الدم. تشيط بالشين المعجمة: أي لا تهلك الدم رأسًا بحيث تهدره.

فهذه الأحاديث مصرحة بتحليف المدعى عليهم وتغريمهم الدية بعد اليمين، والجواب من جانب الأولين بأن الحديثين فيهما المقال، والآثار المروية

(أ) في الأصل، جـ: صبيح. والمثبت من البيهقي ومصادر الترجمة.

_________

(1)

البيهقي 8/ 125.

(2)

عمر بن صبح بن عمران التميمي، ويقال: العدوي، أبو نعيم الخراساني السمرقندي متروك، كذبه ابن راهويه. تهذيب الكمال 21/ 396، 397.

(3)

مالك 2/ 851 ح 1648، والشافعي 7/ 234، وعبد الرزاق 10/ 44 ح 18297 - دون ذكر سليمان بن يسار وعراك بن مالك- والبيهقي 8/ 125.

(4)

ابن أبي شيبة 9/ 387.

(5)

عبد الرزاق 10/ 41 ح 18286، وابن أبي شيبة 9/ 287، والبيهقي 8/ 129.

ص: 469

عن عمر لا تعارض الحديث الصحيح وحديث أبي هريرة المصرح بمخالفة القسامة لغيرها من الأحكام، وقد يجاب عنه بأن في رواية البخاري (1) ذكر يمين اليهود من غير ذكر يمين الأنصار، ذكره في باب القسامة. وفي رواية يحيى بن سعيد تقديم أيمان المدعين، فتعارضت الروايتان، ومع التعارض يرجع إلى الترجيح، والراجح موافق القياس، وهو أحاديث تقديم يمين المدعى عليهم.

وذهب بعض أهل الكوفة، وكثير من أهل البصرة، وبعض أهل المدينة، والأوزاعي إلى أنهم إن حلفوا اليمين برئوا، وإن نقصوا عن الخمسين أو نكلوا حلف المدعون على رجل واحد واستحقوا، وإن نقصت أيمانهم عادت الدية. وقال الزهري: إذا نكل منهم واحد بطلت الدية في حق الجميع. وقال عثمان البتى من فقهاء البصرة: يبدأ المدعى عليهم بالأيمان، فإن حلفوا فلا شيء عليهم.

واعلم أن القسامة لا تثبت بمجرد دعوى القتل على المدعى عليهم من دون شبهة إجماعًا، إلا ما روي عن الأوزاعي، فإنه قال: وجود الإنسان في محلة، وإن لم يكن عليه أثر قتل ونحوه، يوجب القسامة. وروي عن داود أيضًا. وأما مع الشبهة فاختلف العلماء بما تثبت به القسامة منها؛ فذهب أبو حنيفة وأصحابه والهدوية إلى أن الذي تثبت به القسامة هو وجود الميت وبه أثر القتل في محل يختص بمحصورين، فالقسامة تثبت عليهم إذا لم يدع المدعي على غيرهم ولا تثبت في غيرها. قالوا: لأن الأحاديث وردت في

(1) البخاري 12/ 229، 230.

ص: 470

مثل هذه الحالة. وذهب مالك والليث والشافعي إلى أنه لا يثبت بهذا قسامة، إلا إذا كان بين المقتول وبين أهل تلك المحلة عداوة، كما كان في قضية خيبر؛ لأنه قد يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محلة طائفة لينسب إليهم، قال الإمام المهدي: قلنا: لم يثبت اللوث في أخبار القسامة، والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة. وقد يجاب عنه بأن في قصة خيبر قد ثبت ذلك، وهي أصح ما ورد في الباب، وذهب المشترطون للَّوث إلى أنه لا بد من الاقتران بشبهة تغلب الظن بالحكم بها، وذكروا من ذلك ست صور:

الأولى: أن يقول المقتول في حياته: دمي عند فلان، إذ هو قتلني أو ضربني. وإن لم يكن به أثر، أو يقول: جرحني. ويذكر العمد، فهذا موجب للقسامة عند مالك والليث (أ)، وادعى مالك أنه مما أجمع عليه الأئمة قديمًا وحديثًا. قال القاضي [عياض] (ب) (1): ولم يقل بهذا من فقهاء الأمصار (جـ) غيرهما، ولا روي عن غيرهما، وخالفا في ذلك العلماء كافة، واشترط بعض المالكية وجود الأثر والجرح في كونه قسامة، واحتج مالك بقصة بقرة بني إسرائيل:{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} (2). قال: فحيي الرجل وأخبر بقاتله. والجواب بأن ذلك معجزة لنبي، وتصديقها قطعي يقيني

(أ) زاد في جـ: والأوزاعي.

(ب) في الأصل، جـ: أبو بكر بن العربي.

(جـ) زاد بعده في الأصل، جـ: و. والمثبت موافق لما في الفتح.

_________

(1)

الفتح 12/ 236.

(2)

الآية 73 من سورة البقرة.

ص: 471

فِعْلي، واحتج أصحاب مالك أيضًا بأن القاتل يطلب غفلة الناس، فلو لم يُقبل خبر المجروح أدى ذلك إلى إبطال الدماء غالبًا. قالوا: ولأنها حالة يتحرى فيها المجروح الصدق، ويتجنب الكذب والمعاصي، ويتزود التقوى والبر، فوجب قبول قوله. واختلف المالكية في أنه هل يُكتفى في الشهادة على قوله بشاهد أم لا بد من اثنين؟

الثانية: شهادة من ليسوا عدولًا أو شاهد واحد، وقد قال هذا مالك والليث.

الثالثة: إذا شهد عدلان [بالجرح، فعاش](أ) بعده أيامًا ثم مات قبل أن يصح من ذلك؛ فقال مالك والليث: هو لوث تثبت به القسامة. وقال الشافعي وأبو حنيفة، وهو قول الهدوية: إنه يثبت بذلك القصاص.

الرابعة: أن يوجد المتهم عند المقتول، أو قريبًا منه، أو آتيًا من جهته ومعه آلة القتل، وعليه أثره من لطخ دم أو غيره، وليس هناك سَبُعٌ ولا غيره مما يمكن إحالة القتل عليه، أو تفرق جماعة عن قتيل، فهذا لوث يوجب القسامة عند مالك والشافعي.

الخامسة: أن يقتتل طائفتان، فيوجد بينهما قتيل، ففيه القسامة عند مالك والشافعي، وفي رواية عن مالك أن القسامة تكون على الطائفة التي ليس هو منها، وإن كان من غير الطائفتين كان عليهما، وكذا عند الهدوية، وإذا كانت جراحته مما تختص بإحدى الطائفتين كالرمي ونحوه كانت

(أ) في الأصل: فالجرح يقاس.

ص: 472

القسامة على أهل جراحته.

السادسة: أن يوجد الميت في زحمة الناس، قال الشافعي: تثبت به القسامة وتجب به الدية. وقال مالك: هو هدر. وقال الثوري وإسحاق: تجب ديته في بيت المال. وروي مثله عن عمر وعلي (1)، وذهب داود إلى أن القسامة لا تثبت إلا إذا وجد القتيل في مدينة أو قرية كبيرة وهم أعداء للمقتول، وهو رواية عن أحمد ليكون مثل قضية أهل خيبر.

ثم اعلم أنه على قول من يقول: إنه يستحق القود بالقسامة؛ إن كانت الدعوى على واحد معين ثبت القود عليه، وإن كانت الدعوى على جماعة حلفوا عليهم. وتثبت [عليهم](أ) الدية على الصحيح عند الشافعي، وعلى قول للشافعي يجب القصاص عليهم، وقال أشهب وغيره: يحلف الأولياء على من شاءوا ولا يقتلون إلا واحدا يختاره الورثة، ويسجن الباقون عامًا، ويضربون مائة مائة. وهو قول لم يُسبق إليه، والأيمان إنما هي أيمان الورثة، ويلزمهم الأيمان ذكورًا كانوا أو إناثًا، عمدًا كان أو خطأ. هذا مذهب الشافعي، وبه قال أبو ثور وابن المنذر، ووافق مالك إذا كان القتل خطأ، وأما في العَمْد فقال: يحلف الأقارب خمسين يمينًا، ولا يحلف النساء ولا الصبيان. ووافقه ربيعة والليث والأوزاعي وأحمد وداود وأهل الظاهر، وإن كان الوارث واحدًا حلف خمسين يمينًا. وقال مالك: إذا كان ولي الدم

(أ) في الأصل: لهم.

_________

(1)

ينظر مصنف عبد الرزاق 10/ 51 ح 18316، 18317، ومصنف ابن أبي شيبة 9/ 394، 395.

ص: 473

واحدًا ضم إليه آخر من العصبة، ولا يستعان بغيرهم. وقال الليث: لم أسمع أحدًا يقول: إنها تنزل عن ثلاثة أنفس. وقال الزهري، عن سعيد بن المسيب: أول من نقص القسامة عن الخمسين معاوية (1). قال الزهري: وقضى به عبد الملك، ثم رده عمر بن عبد العزيز إلى الأمر الأول.

وقوله: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده. هكذا وقع [في](أ) رواية أي [ليلى](ب). وفي رواية يحيى بن سعيد: فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده (2). أي أعطى ديته. وفي راية حماد بن زيد: من قبله (3). بكسر القاف وفتح الموحدة، أي من جهته. وفي رواية الليث: فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عقله (4). وجاء في البخاري (5)، من رواية سعيد بن عبيد، زيادة: من إبل الصدقة. وظاهرها المعارضة لرواية: من عنده. وجمع بعضهم بين الروايتين باحتمال أن يكون اشتراها من إبل الصدقة بمال دفعه مات عنده، أو المراد بقوله: من عنده. من بيت المال المرصد للمصالح، وأطلق عليه اسم الصدقة؛ لما كان معدًّا لمصالح المسلمين. وقد حكى القاضي عياض (6) عن

(أ) ساقطة من: الأصل.

(ب) في الأصل، جـ: يعلى. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر الفتح 12/ 235.

_________

(1)

عبد الرزاق 10/ 32، 33 ح 18261 مطولًا.

(2)

البخاري 6/ 275 ح 3173، ومسلم 3/ 1293 ح 1669/ 2.

(3)

مسلم 3/ 1292 ح 1669/ 2.

(4)

مسلم 3/ 1291، 1292 ح 1669/ 1.

(5)

البخاري 12/ 229، 230 ح 6898.

(6)

ينظر الفتح 12/ 235.

ص: 474

بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المصالح العامة، واستدل بهذا الحديث وغيره، وقد جاء في حديث أبي [لاس] (أ) قال: حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة في الحج (1). وقد قيل: إن زيادة: من إبل الصدقة. يعني في (ب) حديث الباب، غلط، والأولى ألا يُغَلَّطَ الراوي ما أمكن؛ لاحتمال ما ذكر من التأويل، ويحتمل أيضًا أن يكون تسلف ذلك من إبل الصدقة ليدفعه من مال الفيء، أو أن أولياء القتيل كانوا مستحقين للصدقة فأعطاهم، أو أن ذلك من سهم التأليف تألفًا لهم واستجلابا لليهود.

989 -

وعن رجل من الأنصار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية، وقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود. رواه مسلم (2).

الحديث فيه دلالة على أن اعتبار القسامة كان ثابتا في الجاهلية، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل بهذا الحديث مَن أثبت القود بالقسامة، قال المصنف رحمه الله تعالى (3): وهذا يتوقف (جـ) على أن الجاهلية كانوا يقودون

(أ) في الأصل: لابس، وفي جـ: لانس. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر أسد الغابة 6/ 265، والفتح 12/ 235.

(ب) في جـ: من.

(جـ) في جـ: توقيف.

_________

(1)

أحمد 4/ 221.

(2)

مسلم، كتاب القسامة، باب القسامة 3/ 1295 ح 1670/ 7، 8.

(3)

الفتح 12/ 237.

ص: 475

بالقسامة. وأقول: قد جاء في رواية البيهقي (1) لهذا الحديث عن أبي سلمة وسليمان بن يسار، عن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن القسامة كانت في الجاهلية قسامة الدم، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانت عليه في الجاهلية، وقضى بها رسهول الله صلى الله عليه وسلم بين أناس من الأنصار من بني حارثة ادعوا على اليهود.

وقوله: قسامة الدم. يدل على أن الجاهلية كانوا يقيدون بالقسامة، فاستقام استدلال المستدل بالحديث بالزيادة المذكورة في هذه الرواية، وقد أخرج البخاري (2) في قصة الهاشمي المقتول، فقال أبو طالب للقاتل: اختر منا إحدى ثلاث؛ إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل، فإنك قتلت صاحبنا خطأ، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به. فهذا يدل على ثبوت القتل بالقسامة في الجاهلية أيضًا، والله أعلم.

(1) البيهقي 8/ 122.

(2)

البخاري 7/ 155 ح 3845.

ص: 476