الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للحلق الذي يكون مشروعاً، والحلق الذي يكون جائزاً، والحلق الذي يكون بدعة (1)] (2).
الفصل الثالث:
الكلام على قيد: (ولم يقم عليه دليل أصلاً)
.
توطئة ببيان قواعد هامة للعمل والاستدلال بالأدلة:
القاعدة الأولى: الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان:
قال الشاطبي: [الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان؛ لأن الله تعالى قال فيها: {الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِتُ لكَمْ الإسلامَ دِيناً} (3).
وفي حديث العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ قال:((تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)) الحديث (4).
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أتي ببيان جميع ما يحتاج إليه أمر الدين والدنيا، وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة.
فإذا كان كذلك، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم، وأنه بقي منها أشياءُ يجبَ أو يستحب استدراكها، لأنه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كل وجه، لم يبتدع ولا استدرك عليها. وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم.
(1) اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 326 - 327 و2/ 630 - 633، 637، الفتاوى 21/ 317 - 319 و 18/ 346، درء التعارض 1/ 244.
(2)
"حقيقة البدعة وأحكامها" للغامدي (1/ 291 - 297).
(3)
المائدة / 3.
(4)
رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني في الصحيحة (937).
قال ابن الماجشون: سمعت مالكاً يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول:{اليوم أكملتُ لكم دينكم} فما لم يكن يومئذٍ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً] (1).
القاعدة الثانية: الأصل في العبادات المنع والتوقيف (الإتباع):
قال د. عفانة: [الأصل في العبادة الإتباع: إن الأصل في باب العبادات هو إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بدون زيادة ولا نقصان فليس لأحد مهما كان أن يزيد في العبادة شيئاً ولا أن ينقص منها شيئاً وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثين صحيحين مشهورين بالالتزام بالعبادة كما فعلها هو عليه الصلاة والسلام.
أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وهذا بعض حديث رواه الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن أبي قلابة قال: حدثنا مالك - هو ابن الحويرث رضي الله عنه قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه. قال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها وصلوا كما رأيتموني أصلي فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم). فهذا الحديث الصحيح الصريح يقرر هذا الأصل وهو لزوم الإتباع في الصلاة كما كان
النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فنؤدي الصلاة كما وردت عن رسول صلى الله عليه وسلم بلا زيادة ولا نقصان.
ثانيهما: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) وهو حديث صحيح رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم بألفاظ متقاربة.
روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي الزبير أنه سمع جابراً يقول: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه).
قال الإمام النووي في شرحه للحديث: (وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لتأخذوا مناسككم) فهذه اللام لام الأمر ومعناه خذوا مناسككم وهكذا وقع في رواية غير مسلم،
(1) الاعتصام (1/ 48 – 49).
وتقديره هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وصفته وهي مناسككم فخذوها عني واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس. وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)] (1).
فهذان الحديثان يدلان على أن الأصل في العبادات هو التوقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يثبت شيء من العبادات إلا بدليل من الشرع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وجماع الدين أصلان أن لا يعبد إلا الله ولا نعبده إلا بما شرع لا نعبده بالبدع، كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (2). وذلك تحقيق الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله، ففي الأولى: أن لا نعبد إلا إياه. وفي الثانية: أن محمداً هو رسوله المبلغ فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره وقد بين لنا ما نعبد الله به ونهانا عن محدثات الأمور وأخبر أنها ضلالة، قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3)](4).
وقال أيضاً: [إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان عبادات يصلح بها دينهم وعادت يحتاجون إليها.
فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع. وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى. وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله والعبادة لا بد أن تكون مأموراً بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور؟ ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 420.
(2)
سورة الكهف الآية 110.
(3)
البقرة / 112.
(4)
العبودية ص 170 - 171.
شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {أم لهم شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} ] (1).
وقال العلامة ابن القيم: [
…
ولا دين إلا ما شرعه الله فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر. والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم. والفرق بينهما أن الله سبحانه وتعالى لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله فإن العبادة حقه على عباده وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه. وأما العقود والشروط والمعاملات فهو عفو حتى يحرمها. ولهذا نعى الله سبحانه وتعالى على المشركين مخالفة هذين الأصلين وهو تحريم ما لم يحرمه (2) والتقرب إليه بما لم يشرعه (3)
…
] (4).
ومما يؤيد هذا الأصل ويدل عليه وقوف الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من السلف عند ما حدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك:
1 -
ما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أنه قبل الحجر الأسود وقال: إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك) متفق عليه.
قال الإمام النووي: [وأما قول عمر رضي الله عنه: (لقد علمت أنك حجر وإني لأعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع) فأراد به بيان الحث على الإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في تقبيله ونبه على أنه لولا الإقتداء به لما فعله. وإنما قال: (وإنك لا تضر ولا تنفع) لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين كانوا ألفوا عبادة الأحجار وتعظيمها رجاء نفعها وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها وكان العهد قريباً بذلك، فخاف عمر رضي الله عنه أن يراه بعضهم يقبله ويعتني به فيشتبه عليه فبين أنه لا يضر ولا
ينفع بذاته وإن كان امتثال ما شرع فيه ينفع بالجزاء والثواب
…
] (5).
(1) القواعد النورانية ص 78 - 79.
(2)
كالبحيرة والسائبة.
(3)
كالطواف بالبيت عرايا.
(4)
إعلام الموقعين 1/ 344.
(5)
شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 397.
2 -
وثبت عن عمر رضي الله عنه في حادثة تقبيل الحجر الأسود وما قال فيه أنه قال بعد ذلك: (فما لنا وللرمل؟ إنما كنا راءينا المشركين وقد أهلكهم الله ثم قال: شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه) رواه البخاري. ومعنى قوله (رائينا) من الرؤية أي أريناهم بذلك أنا أقوياء قاله الحافظ ابن حجر (1).
وجاء في رواية أخرى عن عمر رضي الله عنه قوله: (فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب وقد أظهر الله الإسلام ونفى الكفر وأهله؟ ومع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه ابن ماجه بنحوه ورواه أحمد (2).
3 -
وعن يعلى بن أمية قال: (طفت مع عمر بن الخطاب فلما كنت عند الركن الذي يلي الباب مما يلي الحجر أخذت بيده ليستلم فقال: أما طفت مع رسول الله؟ قلت: بلى. قال: فهل رأيته يستلمه قلت لا؟ قال: فأبعد عنه فإن لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ورواه الطبراني في الأوسط كما قال الهيثمي، ورواه البيهقي أيضاً (3).
4 -
وفي رواية عند الإمام أحمد أن يعلى بن أمية قال: (طفت مع عثمان
…
) فذكر نحو الحديث السابق (4)، قال الساعاتي:[فلعل القصة وقعت ليعلى بن أمية مرتين مرة مع عمر ومرة مع عثمان. ورواه أبو يعلى بإسنادين أحدهما رجاله رجال الصحيح وسند الإمام أحمد فيه راوٍ لم يسمَّ](5).
5 -
وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه طاف مع معاوية رضي الله عنه بالبيت فجعل معاوية يستلم الأركان كلها فقال له ابن عباس: (لم تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما؟ فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجوراً. فقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فقال
(1) فتح الباري 4/ 217.
(2)
رواه أبو داود، وابن ماجه، وأحمد، وقال الألباني: جسن صحيح.
(3)
رواه أحمد (1/ 37)، وغيره، وصحح الأرناؤوط إسناده على شرط ومسلم، وأفاد أن الركن المقصود هو الركن الشامي.
(4)
رواه أحمد (1/ 70)، وقال الأرناؤوط: صحيح لغيره.
(5)
الفتح الرباني 12/ 32.
معاوية: صدقت) رواه أحمد والترمذي، وقال:(حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن لا يستلم إلا الحجر الأسود والركن اليماني) ورواه البخاري تعليقاً (1).
قال الشيخ الساعاتي معلقاً على كلام ابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم: [يعني - أي معاوية - أنها كلها أركان البيت فلا نستلم البعض ونترك البعض. يريد ابن عباس أننا لم نترك استلام الركنين هجراً للبيت ولكننا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ففعلنا مثله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فرجع معاوية إلى قول ابن عباس رضي الله عنهم حينما ظهر له الدليل وقال صدقت. وهكذا شأن المؤمن إذ ظهر له الحق وكان مخالفاً لرأيه طرح رأيه واتبع الحق والرجوع إلى الحق فضيلة](2).
قال الحافظ ابن حجر: [وأجاب الشافعي عن قول من قال ليس شيء من البيت مهجوراً بأنا لم ندع استلامهما هجراً للبيت وكيف يهجره وهو يطوف به؟ ولكن نتبع السنة فعلاً أو تركاً ولو كان ترك استلامهما هجراً لهما لكان ترك استلام ما بين الأركان هجراً ولا قائل به](3).
6 -
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً فاتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم).
7 -
وقد ورد عن نافع أن رجلاً عطس إلى جنب ابن عمر فقال: [الحمد لله والسلام على رسول الله. قال ابن عمر: وأنا أقول الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حال] رواه الترمذي والحاكم وقال الحاكم: صحيح الإسناد غريب ووافقه الذهبي وحسنه الشيخ الألباني.
(1) الفتح الرباني 12/ 41، تحفة الأحوذي 3/ 505، صحيح البخاري مع الفتح 4/ 219 - 220.
(2)
الفتح الرباني 12/ 41.
(3)
فتح الباري 4/ 220.
8 -
وورد عن سعيد بن المسيب أنه رأى رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين يكثر فيهما الركوع والسجود فنهاه فقال: [يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة؟! قال: لا ولكن يعذبك على خلاف السنة] رواه البيهقي وعبد الرزاق والخطيب.
9 -
وحكى ابن العربي عن الزبير بن بكار قال: [سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد. فقال: لا تفعل. قال: فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. فقال: وأي فتنة هذه؟ إنما هي أميال أزيدها. قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصَّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إني سمعت الله يقول: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)] ذكره الخطيب البغدادي والشاطبي.
10 -
قال الشيخ الألباني: [روى الطبراني بسند صحيح عن طلحة بن مصرف قال: [زاد ربيع بن خيثم في التشهد وبركاته:" ومغفرته "! فقال علقمة نقف حيث عُلِّمنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وعلقمة تلقى هذا الإتباع من أستاذه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقد ثبت عنه أن كان يعلم رجلاً التشهد فلما وصل إلى قوله:" أشهد أن لا إله الله " قال الرجل: وحده لا شريك له. فقال عبد الله: هو كذلك ولكن ننتهي إلى ما عُلِّمنا أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح](1).
11 -
وعن علي رضي الله عنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه) رواه أبو داود والدارمي وصححه الحافظ ابن حجر والألباني.
وبناء على هذا الأصل المهم فإنه يشترط في العبادات الإتباع ولا يجوز الابتداع
…
(1) انظر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص 145.
فائدة لطيفة: قال الشيخ تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي: [وجدت بخط الوالد رضي الله عنه يقصد والده وهو الإمام علي بن عبد الكافي السبكي -: فكرت عند الاضطجاع في قول المضطجع: باسمك اللهم وضعت جنبي وباسمك أرفعه، فأردت أن أقول: إن شاء الله تعالى، في " أرفعه " لقوله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ثم قلت في نفسي: إن ذلك لم يرد في الحديث في هذا الذكر المنقول عند النوم ولو كان مشروعاً لذكره النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم فتطلبت فرقاً بينه وبين كل ما يجريه الإنسان من الأمور المستقبلة المستحب فيها ذكر المشيئة.
ولا يقال: إن " أرفعه " حال ليس بمستقبل لأمرين: أحدهما: أن لفظه وإن كان كذلك لكنا نعلم أن رفع جنب المضطجع ليس حال اضطجاعه.
والثاني: أن استحباب المشيئة عام فيما ليس بمعلوم الحال أو المضي. وظهر لي أن الأولى الاقتصار على الوارد في الحديث في الذكر عند النوم بغير زيادة وأن ذلك ينبه على القاعدة ويفرق بها بين تقدم الفعل على الجار والمجرور وتأخره عنه فإنك إذا قلت: أرفع جنبي باسم الله كان المعنى بالإخبار الرفع وهو عمدة الكلام وجاء الجار والمجرور بعد ذلك تكملة وإذا قلت: باسم الله أرفع جنبي كان المعنى الإخبار بأن الرفع كائن باسم الله وهو عمدة الكلام.
فافهم هذا السر اللطيف وتأمله في جميع موارد كلام العربية تجده يظهر لك به شرف كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم وملازمة المحافظة على الأذكار المأثورة عنه عليه أفضل الصلاة والسلام] (1).] (2)
القاعدة الثالثة: حكم العمل بعموم الدليل العام والاستدلال به قبل البحث عن مخصص:
اختلف العلماء في العمل بالدليل العام قبل البحث عن مخصص على قولين:
(1) طبقات الشافعية 10/ 287.
(2)
البدعة ص/ 40: 51.
القول الأول - وهو وجوب العمل بالدليل العام مطلقاً، حتى يثبت تخصيصه.
قال الشيخ الشنقيطي – رحمه الله: [والعام ظاهر في العموم حتى يثبت ورود المخصص، والمطلق ظاهر في الإطلاق، حتى يثبت ورود المقيد والنص يجب العمل به، حتى يثبت النسخ بدليل شرعي، والظاهر يجب العمل به عموماً كان أو إطلاقاً أو غيرهما، حتى يرد دليل صارف عنه إلى المحتمل المرجوح. كما هو معروف في محله.
وأول من زعم أنه لا يجوز العمل بالعام، حتى يبحث عن المخصص فلا يوجد ونحو ذلك، أبو العباس بن سريج وتبعه جماعات من المتأخرين، حتى حكموا على ذلك الإجماع حكاية لا أساس لها.
وعلى كل حال فظواهر النصوص، من عموم وإطلاق، ونحو ذلك، لا يجوز تركها إلا لدليل يجب الرجوع إليه، من مخصص أو مقيد، لا لمجرد مطلق الاحتمال، كما هو معلوم في محله.
فادعاء كثير من المتأخرين، أنه يجب ترك العمل به، حتى يبحث عن المخصص، والمقيد مثلاً خلاف التحقيق] (1).
وقال الشيخ العثيمين – رحمه الله: [يجب العمل بعموم اللفظ العام حتى يثبت تخصيصه. وعندنا دليل وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الحمر قال: " لم ينزل علي َّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} " (2) فهنا استعمل الرسول عليه الصلاة والسلام العمل بالعموم. فإذا العمل بالعموم واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمل به وهو المشرِّع، فكأنه بعمله هذا يقول لنا اعملوا كذلك. وهذا تعليل عقلي.](3).
القول الثاني –
(1) أضواء البيان (7/ 432 – 433)، وانظر أيضاً كلامه في المذكرة ص/217 – 218.
(2)
متفق عليه.
(3)
شرح الأصول من علم الأصول ص/ 260.
قال تقي الدين في "مجموع الفتاوي"(19/ 166): (العام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به إلا بعد البحث عن تلك المسألة هل هي من المستخرج أو من المستبقى وهذا أيضا لا خلاف فيه. وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه أو علم تخصيص صور معينة منه هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وذكروا عن أحمد فيه روايتين وأكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره فان الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض).
وقد بحث هذه المسألة الشيخ عياض السلمي (1) حيث قال: (الذي يظهر لي بعد استعراض أهم الآراء وأدلتها أن الراجح هو التفريق بين العلماء المجتهدين الذين أحاطوا بغالب نصوص الشريعة، وحصلوا من العلم ما يمكنهم من معرفة مراد الشارع، وسبروا غور النصوص فعرفوا الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والعام والخاص، وعرفوا مواطن الإجماع والاختلاف، والعوام ومن يلحق بهم من المنتسبين إلى الفقه الذين أخذوا من العلم ما لا يؤهلهم للفتيا وتولي القضاء. فالقسم الأول لا ينبغي الخلاف في أن أحدهم إذا بلغته آية عامة أو حديث عام ولم يبلغه ما يخصصه، مع تمرسه بالأدلة المنقولة والمعقولة، أنه يجب عليه العمل به إذا حان وقت العمل من غير توقف، ولا يجب عليه البحث عما عساه أن يجده من مخصص أو ناسخ.
أما العوام ومن في حكمهم فليس لأحد منهم أن يفتي أو يحكم بالعموم على ظاهره؛ لأنهم ليسوا من أهل الفتيا والحكم، وليسوا مخاطبين بهما
…
ويبدو لي أن الذين نقل عنهم المنع من العمل بالعام قبل البحث عن المخصص إنما منعوه لأحد أمرين:
الأول: أنهم لا يقصدون بالبحث عن المخصص استقصاء موارد الأدلة جميعها، وإنما يقصدون مجرد التروي واسترجاع المعلومات السابقة لعرض الدليل العام عليها، فإن وجدوا فيها ما يخصصه خصصوه، وإلا عملوا به في عمومه.
وهذا ظاهر من قول أبي زيد الدبوسي: (وأما الفقيه فيلزمه أن يحتاط لنفسه، فيقف ساعة لاستكشاف هذا الاحتمال بالنظر في الأشباه، مع كونه حجة للعمل به إن عمل، لكن يقف احتياطا حتى لا يحتاج إلى نقض ما أمضاه بتبين الخلاف)(2).
الثاني: أنهم إنما منعوا ذلك خوفا من أن يقدم كل أحد على العمل بالعموم، والحكم به، وإن كان من غير أهل الاجتهاد، ولا شك أنه لو أذن لغير المجتهدين في أن يعملوا بالعموم من غير بحث عن المخصص لتعطل كثير من نصوص الشريعة الخاصة للجهل بها، وعدم البحث عنها
…
).
والقول الثاني هو الراجح.
فرع – هل يكفى غلبة الظن بعدم المخصص:
قال ابن اللحام في "القواعد والفوائد الأصولية"(ص/13): (إذا قلنا على رواية اختارها أبو الخطاب وغيره يمنع العمل بالعام قبل البحث عن المخصص فهل يشترط حصول اعتقاد جازم بأنه لا مخصص أو يكفى غلبة الظن بعدمه فيه خلاف اختار القاضي أبو بكر الأول وابن سريج وإمام الحرمين والغزالي الثاني)
ونص عبارة الغزالي في "المستصفى"(ص/257): (والمختار عندنا أن تيقن الانتفاء إلى هذا الحد لا يشترط وأن المبادرة قبل البحث لا تجوز بل عليه تحصيل علم وظن باستقصاء البحث أما الظن فبانتفاء الدليل في نفسه وأما القطع فبانتفائه في حقه بتحقق عجز نفسه عن الوصول إليه بعد بذل غاية وسعه فيأتي بالبحث الممكن إلى حد يعلم أن بحثه بعد ذلك سعي ضائع ويحس من نفسه بالعجز يقينا فيكون
(1) انظر البحث الذي نشر في مجلة البحوث الإسلامية العدد الخامس والعشرين ولقد اقتصرت على ذكر ما رجحه، ومن رام التفصيل في المسألة فعليه بالبحث المشار إليه.
(2)
فواتح الرحموت (1/ 267).
العجز عن العثور على الدليل في حقه يقينا وانتفاء الدليل في نفسه مظنون وهو الظن بالصحابة في المخابرة ونظائرها وكذلك الواجب في القياس والاستصحاب وكل ما هو مشروط بنفي دليل آخر).
ولا شك أن من عجز عن تمام اليقين فليس عليه أن يترك ما يقدر عليه من اعتقاد قوي غالب على ظنه.
القاعدة الرابعة: هل يجوز إثبات نوع من العبادات لدخوله تحت الدليل العام فقط أم
…
لا بد من دليل خاص:
قال الشيخ عفانة: [لا يجوز إثبات نوع من العبادات لدخوله تحت الدليل العام بل لا بد من دليل خاص.
وهذه مسألة مهمة ينبغي التنبيه عليها؛ لأن كثيراً من المبتدعين يزعمون أن الدليل العام يؤيد بدعتهم فمثلاً يقولون إن تلاوة القرآن في المآتم " الختمة " تدخل تحت الأدلة العامة التي تحض على قراءة القرآن الكريم.
ويقولون مثلاً إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان - كما يفعله كثير من المؤذنين بحيث أنهم يجعلونها جزءً من الأذان - مشروعة لأنها داخله تحت عموم قوله تعالى: (يا أيُها الذَينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(1).
والجواب على هذه المقولة إنه لا بد من دليل خاص للعبادات حتى تكون صحيحة وموافقة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكفي الاستدلال بعموم الأدلة وكونها داخلة في هذا العموم فمثلاً لو قال شخص عندما رأى المصلين في المسجد يصلون سنة الفجر أشتاتاً في أنحاء المسجد فقال: يا جماعة هلا اجتمعتم وصلينا سنة الفجر في جماعة لأنه صح في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يد الله على الجماعة)، أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس أو سبع وعشرين درجة). فاستدلال هذا الرجل بالأدلة العامة لا يقبل ولا يصح ولا يجوز أن تدخل سنة الفجر في هذه العمومات ولو لم يثبت لدينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لا تصلوا سنة الفجر في جماعة. حيث لا يوجد لدينا حديث بهذا المعنى، فصلاة سنة الفجر في جماعة
(1) سورة الأحزاب الآية 56.
بدعة وإن كان الشرع قد حث على الجماعة وعلى صلاة الجماعة وأن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد (1)] (2).
وما قاله الشيخ عفانة وإن كان صحيحاً من ناحية النتيجة، إلا أن عبارته غير سديدة، فمقصود القاعدة التي نقلها عن الشيخ الألباني، واستفادها الألباني من الشاطبي مؤداها صحيح إلا أنه أخطأ في صياغتها، وبيان ذلك من وجوه:
الأول: تصدير عبارته بقوله: (لا يجوز إثبات نوع من العبادات لدخوله تحت الدليل العام) يستشعر منه إلغاء دلالة الدليل العام على أجزائه، وأنه لا يجوز العمل بالدليل العام، وهذا خطأ، كما قدمنا الكلام على هذه المسألة.
الثاني: أن تطبيق هذه القاعدة غير مطرد، وسأذكر هنا بعض الأمثلة التي أعمل فيها الشيخ الألباني - الذي ينقل عنه هو هذه القاعدة - النصوص العامة فقط دون نقل خاص.
قال الشيخ الألباني: [المستحب أن يقول كما يقول المقيم: " قد قامت الصلاة " لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول. . "](3).
وقال أيضاً: [نرجح مشروعية الاستعاذة في كل ركعة لعموم قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) وهو الأصح في مذهب الشافعية ورجحه ابن حزم في " المحلى "](4).
وقال أيضاً مرجحاً الجمع للمأموم بين التسميع والتحميد في ذكر الاعتدال من الركوع معلقا على قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به .. وإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد
…
) (5): [هذا الحديث لا يدل على أن المؤتم لا يشارك الإمام في قوله: " سمع الله لمن حمده " كما لا يدل على أن الإمام لا يشارك المؤتم في قوله: " ربنا لك الحمد " إذ الحديث لم يسق لبيان ما يقوله الإمام
(1) انظر فتاوى الألباني ص 49 - 50.
(2)
البدعة لحسام عفانة ص/ 52، وما بعدها.
(3)
تمام المنة (ص/149)، وانظر الثمر المستطاب (1/ 215 - 216).
(4)
تمام المنة (ص/177).
(5)
رواه مسلم، وغيره.
والمؤتم في هذا الركن، بل لبيان أن تحميد المؤتم إنما يكون بعد تسميع الإمام. ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول التحميد وهو إمام. وكذلك عموم قوله عليه السلام " صلوا كما رأيتموني أصلي " يقتضي أن يقول المؤتم ما يقوله الإمام من كالتسميع وغيره] (1).
(ولا بد من وقفة أيضاً مع الشيخ الألباني وما قاله حول هذه القاعدة لتحرير مذهبه فيها:
قال الشيخ الألباني: [النص العام الذي جاء ذكره في السنة فضلاً عن القرآن إذا لم يُعمل به عاماً، إنما عُمل به مقيداً فنحن نعمل به مقيداً وما نأخذ بالنص العام ونحتج به](2)
وقال أيضاً: [كل نص عام في السنة أو في القرآن إن لم يجر العمل بجزء من أجزاء هذا النص العام لا يجوز لنا العمل به؛ لأنه لو كان مراداً لعمل به أولئك الذين باشروا سماع هذا النص من الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً وتطبيقه ثانياً](8).
وهذه القاعدة قالها الشيخ الألباني لتدعيم اختياره بوجوب أخذ ما زاد عن القبضة من اللحية حيث أنه وقف على آثار لبعض السلف تفيد أنهم كانوا يأخذون ما زاد عن القبضة من اللحية، ولذا فلم يعمل عموم العام وخصه بما نقله عن السلف من أن الإطلاق أو الإعفاء مقيداً بما لا يزيد عن القبضة. فهنا وقف على نقل خاص فأعمله.
والأمثلة التي نقلناها عنه آنفاً أخذ فيها بالعموم، دون أن يؤيد ذلك بنقل خاص عن السلف.
وعليه فالذي يترجح أنه يخص العام بما نقل عن السلف، وأما إذا لم يكن هناك مقل عن السلف وليس ثم إلا الدليل العام فإنه يعمل العموم دون التوقف على نقل خاص، ويكون الأخذ بالعموم دليلاً يشهد لأصل هذا العمل بالمشروعية، إلا أنه يشكل على هذا الجمع حكمه بالبدعية على وضع اليد على الصدر في القيام من
(1) هامش صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (ص/80).
(2)
انظر شريط حكم الأخذ من اللحية. وهذا الكلام للشيخ مستفاد من كلام الشاطبي في الموافقات، وسوف يأتي ذكره قريباً - بمشيئة الله -.
الركوع (1)، وعدم تمسكه بالعموم الوارد في حديث سهل ووائل بن حجر كما أوضح الشيخ ابن باز في رده على الشيخ الألباني (2)، وعليه فإما أن يكون الشيخ الألباني رحمه الله أخطأ في عدم إعمال العام في المسألة الأخيرة كسابقيها، ولعله لم يقف عليه، وخاصة أنه لم يشير إليه في أثناء تقريره للقول بالبدعية، أو أنه كان يضطرب في تطبيق هذه القاعدة فكان يعمل العام أحياناً إذا لم يكن هناك نقل خاص، وأحياناً لا يعمله طبقاً لاجتهاده.
والثاني أقرب، والله أعلم.
وبقي التنبيه إلى أن الاستدلال بالدليل العام في أمور العبادات لا يكفي إلا لمجرد إثبات أصل العبادة، وهذا لا يكفي في أمور التعبد، ولكن بقي النقل الخاص الذي يثبت الوصف، فإن اختل الأول كانت البدعة حقيقية، وإلا فإضافية كما سبق بيان ذلك.
وعليه فالأولى لعبارة الشيخ عفانة أن تكون هكذا: (لا يجوز إثبات نوع من العبادات لدخوله تحت الدليل العام فقط، بل لا بد من دليل خاص)، ويدخل في الدليل الخاص فهم وقول وعمل الصحابة رضي الله عنهم.
وهنا تقرر القاعدة التالية:
القاعدة الخامسة: العمل بالأدلة الشرعية يكون مقيداً بعمل السلف الصالح بها:
وهذا أصل أخص مما سبق ومؤكد له.
قال الشاطبي: [كل دليل شرعي لا يخلو أن يكون معمولا به في السلف المتقدمين دائما أو أكثريا أو لا يكون معمولا به إلا قليلا أو في وقت ما. أو لا يثبت به عمل، فهذه ثلاثة أقسام:
أحدها أن يكون معمولا به دائما أو أكثريا فلا إشكال في الاستدلال به ولا في العمل على وفقه وهي السنة المتبعة والطريق المستقيم كان الدليل مما يقتضي إيجابا أو ندباً أو غير ذلك من الأحكام كفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله في الطهارات والصلوات على تنوعها من فرض أو نفل والزكاة بشروطها والضحايا
(1) انظر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم هامش (ص/82).
(2)
انظر رسالة ثلاث رسائل في الصلاة لابن باز (ص/33 - 43).
والعقيقة والنكاح والطلاق والبيوع وسواها من الأحكام التي جاءت في الشريعة وبينها عليه الصلاة والسلام بقوله أو فعله أو إقراره ووقع فعله أو فعل صحابته معه أو بعده على وفق ذلك دائما أو أكثريا وبالجملة ساوى القول الفعل ولم يخالفه بوجه فلا إشكال في صحة الاستدلال وصحة العمل من سائر الأمة بذلك على الإطلاق.
والثاني أن لا يقع العمل به إلا قليلا أو في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال ووقع إيثار غيره والعمل به دائما أو أكثريا فذلك الغير هو السنة المتبعة والطريق السابلة، وأما ما لم يقع العمل عليه إلا قليلا فيجب التثبت فيه وفى العمل على وفقه والمثابرة على ما هو الأعم والأكثر فإن إدامة الأولين للعمل على
مخالفة هذا الأقل إما أن يكون لمعنى شرعي أو لغير معنى شرعي، وباطل أن يكون لغير معنى شرعي فلابد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به وإذا كان كذلك فقد صار العمل على وفق القليل كالمعارض للمعنى الذي تحروا العمل على وفقه وإن لم يكن معارضا في الحقيقة فلا بد من تحري ما تحروا وموافقة ما داوموا عليه
…
ولهذا القسم أمثلة كثيرة ولكنها على ضربين: أحدهما أن يتبين فيه للعمل القليل وجه يصلح أن يكون سببا للقلة حتى إذا عدم السبب عدم المسبب وله مواضع كوقوعه بيانا لحدود حدت أو أوقات عينت أو نحو ذلك كما جاء في حديث إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم يومين وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن وقت الصلاة فقال: (صل معنا هذين اليومين) فصلاته في اليوم في أواخر الأوقات وقع موقع البيان لأخر وقت الاختياري الذي لا يتعدى ثم لم يزل مثابرا على أوائل الأوقات إلا عند عارض كالإبراد في شدة الحر والجمع بين الصلاتين في السفر وأشباه ذلك
…
والضرب الثاني ما كان على خلاف ذلك ولكنه يأتي على وجوه منها أن يكون محتملا في نفسه فيختلفوا فيه بحسب ما يقوى ثم المجتهد فيه أو يختلف في أصله والذي هو أبرأ للعهدة وأبلغ في الاحتياط تركه والعمل على وفق الأعم الأغلب كقيام الرجل للرجل إكراما له وتعظيما فإن العمل المتصل تركه فقد كانوا لا يقومون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل عليهم وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس ولم ينقل عن الصحابة عمل مستمر ولو كان
لنقل حتى روى عن عمر بن عبد العزيز أنه لما استخلف قاموا له في المجلس فقال إن تقوموا نقم وإن تقعدوا نقعد (1) وإنما يقوم الناس لرب العالمين فقيامه صلى الله عليه وسلم لجعفر ابن عمه وقوله: (قوموا لسيدكم) إن حملناه على ظاهره فالأولى خلافه لما تقدم وأن نظرنا فيه وجدناه محتملا أن يكون القيام على وجه الاحترام والتعظيم أو على وجه آخر من المبادرة إلى اللقاء لشوق للمقوم له أو ليفسح له في المجلس حتى يجد موضعا للقعود أو للإعانة على معنى من المعاني أو لغير ذلك مما يحتمل وإذا احتمل الموضع طلبنا بالوقوف مع العمل المستمر لإمكان أن يكون هذا العمل معارض له فنحن في إتباع العمل المستمر على بينة وبراءة ذمة باتفاق وإن رجعنا إلى هذا المحتمل لم نجد فيه مع المعارض الأقوى وجها للتمسك إلا من باب التمسك بمجرد الظاهر وذلك لا يقوى قوة معارضه .... ومنها أن يكون هذا القليل خاصاً بزمانه أو بصاحبه الذي عمل به أو خاصاً بحال من الأحوال فلا يكون فيه حجة على العمل به في غير ما تقيد به كما قالوا في نهيه عليه الصلاة والسلام عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث بناء على أن إذنه بعد ذلك لم يكن نسخا وهو قوله: (إنما نهيتكم لأجل الدافة) ومنها أن يكون مما فعل فلتة فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه به ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي ولا غيره ولا يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأذن فيه ابتداء لأحد فلا يجب أن يكون تقريره عليه إذنا له ولغيره كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي عليه الصلاة والسلام في أمر فعمل فيه ثم رأى أن قد خان الله ورسوله فربط نفسه بسارية من سواري المسجد وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: (أما إنه لو جاءني لاستغفرت له) وتركه كذلك حتى حكم الله فيه فهذا وأمثاله لا يقتضي أصل المشروعية ابتداء ولا دواما أما الابتداء فلم يكن فعله ذلك بإذن رسول صلى الله عليه وسلم وأما دواما فإنه إنما تركه حتى يحكم الله فيه وهذا خاص بزمانه إذ لا وصول إلى ذلك إلا بالوحي وقد انقطع بعده فلا يصح الإبقاء على ذلك لغيره حتى ينظر الحكم فيه وأيضا فإنه لم يؤثر عن ذلك
(1) قال القاضي عياض في "المعلم": (فقد بين أن القيام الذى كره إنما هو إذا كانوا قيامأ على رأس الجالس).
الرجل ولا عن غيره أنه فعل مثل فعله لا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيما بعده فإذا العمل بمثله أشد غررا إذ لم يكن قبله تشريع يشهد له ولو كان قبله تشريع لكان استمرار العمل بخلافه كافيا في مرجوحيته
…
وثم أقسام أخر يستدل على الحكم فيها بما تقدم ذكره.
وبسبب ذلك ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل إلا قليلا وعند الحاجة ومس الضرورة إن اقتضى معنى التخيير ولم يُخَف نسخ العمل أو عدم صحة في الدليل أو احتمالا لا ينهض به الدليل أن يكون حجة أو ما أشبه ذلك.
أما لو عمل بالقليل دائما للزمه أمور: أحدها المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها وفي مخالفة السلف الأولين ما فيها، والثاني استلزام ترك ما داوموا عليه إذ الفرض أنهم داوموا على خلاف هذه الآثار فإدامة العمل على موافقة ما لم يداوموا عليه مخالفة لما داوموا عليه، والثالث أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ما داوموا عليه واشتهار ما خالفه إذ الإقتداء بالأفعال أبلغ من الإقتداء بالأقوال فإذا وقع ذلك ممن يقتدي به كان أشد، الحذر الحذر من مخالفة الأولين فلو كان ثم فضل ما لكان الأولون أحق به، والله المستعان.
والقسم الثالث أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال فهو أشد مما قبله. والأدلة المتقدمة جارية هنا بالأولى، وما توهمه المتأخرون من أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه ألبتة إذ لو كان دليلا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارض له ولو كان ترك العمل فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين وكل من خالف الإجماع فهو مخطئ وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر وهو الهدى وليس ثم إلا صواب أو خطأ فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ وهذا كاف
…
وكثير من فرق الاعتقادات تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه مما لم يجر له ذكر ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين وحاش لله من
ذلك ومنه أيضا استدلال من أجاز قراءة القرآن بالإدارة وذكر الله برفع الأصوات وبهيئة الاجتماع بقوله عليه الصلاة والسلام: (ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم) الحديث والحديث الآخر: (ما اجتمع قوم يذكرون الله) الخ وبسائر ما جاء في فضل مجالس الذكر، وكذلك استدلال من استدل على جواز دعاء المؤذنين بالليل بقوله تعالى:(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) الآية وقوله: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) وبجهر قوام الليل بالقرآن، واستدلالهم على الرقص في المساجد وغيرها بحديث لعب الحبشة في المسجد بالدَّرَق (1) والحراب وقوله عليه الصلاة والسلام لهم:(دونكم يا بني أرفدة)، واستدلال كل من اخترع بدعة أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ككتب المصحف وتصنيف الكتب وتدوين الدواوين وتضمين الصناع وسائر ما ذكر الأصوليون في أصل المصالح المرسلة فخلطوا وغلطوا واتبعوا ما تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها وهو كله خطأ على الدين واتباع لسبيل الملحدين فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك وعبروا على هذه المسالك إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون أو حادوا عن فهمها وهذا الأخير هو الصواب إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم ولم يفهموا من الأدلة المذكورة وما أشبهها إلا ما كانوا عليه وهذه المحدثات لم تكن فيهم ولا عملوا بها فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال وصار عملهم بخلاف ذلك دليلا إجماعيا على أن هؤلاء في استدلالهم وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة، فيقال لمن استدل بأمثال ذلك هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين أو لم يوجد فإن زعم أنه لم يوجد ولا بد من ذلك فيقال له أفكانوا غافلين عما تنبهت له أو جاهلين به أم لا ولا يسعه أن يقول بهذا؛ لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه وخرق للإجماع وإن قال إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها قيل له فما الذي حال بينهم وبين العمل بمقتضاها على زعمك حتى خالفوها إلى غيرها ما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على الخطأ دونك أيها
(1) جمع دَّرَقَة، وهي ترس من جلد.
المتقول والبرهان الشرعي والعادي دال على عكس القضية فكل ما جاء مخالفا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه، فإن زعم أن ما انتحله من ذلك إنما هو من قبيل المسكوت عنه في الأولين وإذا كان مسكوتا عنه ووجد له في الأدلة مساغ فلا مخالفة إنما المخالفة أن يعاند ما نقل عنهم بضده وهو البدعة المنكرة قيل له بل هو مخالف لأن ما سكت عنه في الشريعة على وجهين أحدهما أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه فلا سبيل إلى مخالفته؛ لأن تركهم لما عمل به هؤلاء مضاد له فمن استلحقه صار مخالفا للسنة حسبما تبين في كتاب المقاصد والثاني أن لا توجد مظنة العمل به ثم توجد فيشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله وهي المصالح المرسلة وهي من أصول الشريعة المبني عليها إذ هي راجعة إلى أدلة الشرع حسبما تبين في علم الأصول فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس البدع وأيضا فالمصالح المرسلة عند القائل بها لا تدخل في التعبدات ألبتة وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية
…
فالحاصل أن الأمر أو الإذن إذا وقع على أمر له دليل مطلق فرأيت الأولين قد عنوا به على وجه واستمر عليه عملهم فلا حجة فيه على العمل على وجه آخر بل هو مفتقر إلى دليل يتبعه في إعمال ذلك الوجه
…
وأيضا فإن ظواهر الأدلة إذا اعتبرت من غير اعتماد على الأولين فيها مؤدية إلى التعارض والاختلاف وهو مشاهد معنى ولأن تعارض الظواهر كثير مع القطع بأن الشريعة لا اختلاف فيها؛ ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحد من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة وقد مر من ذلك أمثلة بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة وفى كتب التواريخ والأخبار من ذلك أطراف ما أشنعها في الافتئات على الشريعة
…
فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب وأقوم في