الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله تعالى: {بَدِيعُ السَّموَاِت والأرْضِ} أي مخترعهما من غير مثال سابق متقدم، وقوله تعالى:{قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِن الرُّسُل} ، أي ما كنت أول من جاءَ بالرسالة من الله إلى العباد بل تقدمني كثير من الرسل، ويقال: ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق. وهذا أمر بديع، يقال في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن، فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما يشبهه. ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع، وهيئتها هي البدعة، وقد يسمى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة: فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، وهو إطلاق أخص منه في اللغة] (1).
ثانياً: تعريف البدعة اصطلاحاً:
أما في الاصطلاح ، فقد تعددت تعريفات البدعة وتنوعت ; لاختلاف أنظار العلماء في مفهومها ومدلولها. فمنهم من وسع مدلولها ، حتى أطلقها على كل مستحدث من الأشياء ، ومنهم من ضيق ما تدل عليه ، فتقلص بذلك ما يندرج تحتها من الأحكام. وسنوجز ذلك في قولين:
القول الأول:
اتجه فريق من العلماء إلى ذم البدعة ، وقرروا أن البدعة كلها ضلالة ، سواء في العادات أو العبادات. ومن القائلين بهذا الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وهو اختيار طائفة من أتباعهم كالشمني، والعيني، والطرطوشي، والشاطبي، وابن رجب، وابن تيمية، وهو اختيار طائفة من محققي الشافعية كالبيهقي، وابن حجر الهيتمي، وقال به طائفة من الصحابة والتابعين كما سبق نقل أقوالهم آنفاً في مبحث ذم البدع، والمبتدعين.
القول الثاني:
أطلق أصحاب هذا القول البدعة على كل حادث لم يوجد في الكتاب والسنة ، سواء أكان في العبادات أم العادات ، وسواء أكان مذموما أم محموداً، ويرى هؤلاء العلماء أن البدعة تنقسم إلى حسنة وسيئة فإن وافقت السنة فهي حسنة محمودة وإن خالفت السنة فهي سيئة مذمومة.
وبناء على هذا الأساس قالوا إن البدعة تنقسم إلى الأقسام الخمسة فهي إما أن تكون
(1) الاعتصام 1/ 36.
واجبة أو مندوبة أو مباحة أو مكروهة أو محرمة .. وقد نسب هذا القول للإمام الشافعي ، ومن أتباعه العز بن عبد السلام ، والنووي ، وأبو شامة، وابن الأثير، والسيوطي. ومن المالكية: القرافي ، والزرقاني. ومن الحنفية: ابن عابدين. ومن الحنابلة: ابن الجوزي. ومن الظاهرية: ابن حزم. وسوف يأتي - إن شاء الله - تحقيق نسبة هذه الأقوال لقائليها، وذكر تعريفاتهم للبدعة، ومناقشة ما استدلوا به تفصيلياً في مبحث خاص (1).
وسوف نتوقف - بمشيئة الله - في هذا المبحث مع القول الأول؛ لبيان أقوالهم ومسالكهم في تعريف البدعة، وسوف نعرض لأصولهم في هذا الصدد، فالله المستعان:
(أقوال العلماء في تعريف البدعة على القول الأول:
وبالنظر إلى ما ذكره المحقق الشاطبي في تعريف البدعة نجد أنه ذكر اتجاهين في تعريف البدعة، حيث قال ما ملخصه: [فالبدعة إذن عبارة عن ((طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه)) وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصها بالعبادات، وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول:((البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية)) ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد. فالطريقة والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد وهو ما رسم للسلوك عليه وإنما قيدت بالدين لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها وأيضاً فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم.
ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم ـ فمنها ما له أصل في الشريعة، ومنها ما ليس له أصل فيها ـ خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع، أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع، إذ البدعة إنما خاصتها أنها خارجة عما رسمه الشارع، وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأْي أنه مخترع مما هو متعلق
(1) ولعل ذلك يكون بمشيئة الله بالرد على رسالة الغماري التي جمع فيها أقوال هذا المذهب وانتصر له حتى أصبحت رسالته الجامعة لشتات أقوال وأدلة هذا القول عمدة في بابها يتشدق بها المبتدعون 0
بالدين، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأُصول الدين، وسائر العلوم الخادمة للشريعة فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأُصولها موجودة في الشرع
…
(فإن قيل): فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع.
(فالجواب): أن له أصلاً في الشرع، ففي الحديث ما يدل عليه، ولو سلم أنه ليس في ذلك دليل على الخصوص، فالشرع بجملته يدل على اعتباره، وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة، وسيأْتي بسطها بحول الله.
فعلى القول بإثباتها أصلاً شرعياً لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل تحت أدلته التي ليست بمأْخوذة من جزئي واحد؛ فلبست ببدعة البتة.
وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات، وإذا دخلت في علم البدع كانت قبيحة، لأن كل بدعة ضلالة من غير إشكال، كما يأتي بيانه إن شاء الله.
ويلزم من ذلك أن يكون كتب المصحف وجمع القرآن قبيحاً، وهو باطل بالإجماع فليس إذاً ببدعة.
ويلزم أن يكون دليل شرعي، وليس إلا هذا النوع من الاستدلال، وهو المأخوذ من جملة الشريعة.
وإذا ثبت جزئي في المصالح المرسلة، ثبت مطلق المصالح المرسلة.
فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم اللسان أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة، بدعة أصلاً
…
وقوله في الحد ((تضاهي الشرعية)) يعني: أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة:
منها: وضع الحدود كالناذر للصيام قائماً لا يقعد، ضاحياً لا يستظل، والاختصاص في الانقطاع للعبادة، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة.
ومنها: التزام الكيفيات والهيآت المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيداً، وما أشبه ذلك.
ومنها: التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته
…
وقوله: ((يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى)) هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها.