الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد سقت كلامه كاملا ليتبين مراده وأنه يحذر من البدع التي تتهم الشريعة بالنقصان، وأنه لا يقصد إثبات الابتداع المذموم بل كلامه يدور حول المصالح الملحقة بالشرع بالاستحسان بشروطه سالفة الذكر، أو يقصد البدع اللغوية والتي لها أصل في الشريعة، وهذا واضح من الأمثلة التي ذكرها كصلاة التراويح والقصص كما أن ظاهر كلامه البعد عن اعتبار هذه المحدثات وإن كانت غير مخالفة للشريعة وجائزة حفظا للأصل وهو الإتباع.
وليت من ينسبون له قولهم أن يسيروا على نهجه ويَحذرون مما حذر.
4 -
ابن حزم:
قال ابن حزم في "الإحكام"(1/ 47): (البدعة كل ما قيل أو فعل مما ليس له أصل فيما نسب إليه صلى الله عليه وسلم وهو في الدين كل ما لم يأت في القرآن ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ويغدر بما قصد إليه من الخير ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسنا وهو ما كان أصله الإباحة كما روي عن عمر رضي الله عنه نعمت البدعة هذه وهو ما كان فعل خير جاء النص بعموم استحبابه وإن لم يقرر عمله في النص ومنها ما يكون مذموما ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت به الحجة على فساده فتمادى عليه القائل به).
وكلامه لا يخرج عما سبق، وبنحو ما سبق نسبوا قولهم لجماعة من العلماء منهم: الغزالي، وابن العربي، وابن الأثير، وأبي شامة، والنووي، والعيني، والكرماني، والزرقاني.
ولا داعي للتطويل بذكر كلامهم فهو يدور في الجملة حول نفس الكلام السابق.
المبحث الثاني - أدلتهم لإثبات البدعة الحسنة
(1):
تمهيد:
قال الغماري في "إتقان الصنعة"(ص/13): (العلماء متفقون على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" عام مخصوص. ولم يشذ عن هذا الاتفاق إلا الشاطبي
(1) وقد صدر حديثا كتاب: "هَدْم أُصول أهل البدع-فَضْح أكاذيب وجهالات الغماري" للشيخ عبد الله رمضان موسى ولا تطوله يدي الآن.
صاحب الاعتصام، فإنه أنكر هذا الانقسام، وزعم أن كل بدعة مذمومة، لكنه اعترف بأن من البدع ما هو مطلوب وجوبا أو ندبا، وجعله من قبيل المصلحة المرسلة، فخلافه لفظي يرجع إلى التسمية. أي أن البدعة المطلوبة، لا تسمى بدعة حسنة، بل تسمى مصلحة).
ذكر الغماري عبارته هذه بعد أن ساق أقوالا لبعض العلماء بأن البدعة منها ما هو محمود، ومنها ما هو مذموم، وقد سبق بيان أنه لا يصح تعلقه بهذه الأقوال لتحذير أصحابها مما يعدوه هم من البدع الحسنة، وأن مقصودهم لا يخالف مقصود الإمام الشاطبي من قصد البدع اللغوية، أو المصالح المرسلة.
وأما قوله: (العلماء متفقون على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" عام مخصوص، ولم يشذ عن هذا الاتفاق إلا الشاطبي) فالجواب عن ذلك أن دعواه الاتفاق نشأ عن قلة إطلاعه على أقوال العلماء، أضف إلى أن أقوال من نقل عنهم لا تساعده على مقصوده كما سبق توجيه كلامهم، وقد سبق نقل طائفة من أقوال الصحابة والتابعين في ذم مطلق البدع.
كما أنه نقل عن البعض مستشهدا بكلامه على صحة تقسيمه مع أن الواقع خلاف ما ذهب إليه فأقوالهم عكس مقصوده فتراه نقل عن الحافظ ابن رجب قوله: (المراد بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعا، وإن كان بدعة لغة) وهذا صريح في أنه لا يطلق على المحدثات مما له أصل في الشرع لفظ البدعية.
وكذا نقل عن ابن حجر قوله: (المحدثات بفتح الدال جمع محدثة والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع ويسمى في عرف الشرع بدعة وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة سواء كان محمودا أو مذموما
…
وأما قوله في حديث العرباض فإن كل بدعة ضلالة بعد قوله وإياكم ومحدثات الأمور فإنه يدل على أن المحدث يسمى بدعة وقوله كل بدعة ضلالة قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها أما منطوقها فكأن يقال حكم كذا بدعة وكل بدعة ضلالة فلا تكون من الشرع لأن الشرع كله هدى فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة صحت المقدمتان وأنتجتا المطلوب والمراد بقوله كل بدعة ضلالة ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام
…
) وهو صريح في عكس مقصوده.
كل هذا يبين أن عدم صحة دعواه الإجماع، ولو عكسنا الأمر عليه لكان لقولنا وجه.
وأما تسويته بين البدع التي يقصدها هو وبين المصالح المرسلة وجعله الخلاف لفظي فخطأ بيّن وقد سبق بيان وجوه الافتراق بين البدع والمصالح المرسلة.
- وقد ساق هو وغيره بعض الأدلة التي يظنون أنها تؤيد قولهم بصحة التقسيم المذكور للبدع، وظنوا أنهم يخصصون أدلة الذم العامة للبدع بها، ومن هذه الأدلة ما يلي:
أولا –
- استدلوا بقوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]
قال عيسى الحميري في "البدعة الحسنة أصل من أصول التشريع"(ص/31): (وخلاصة القول في هذه الآية ما حكاه عبد الله بن صديق الغماري في كتابه (إتقان الصنعة): فقوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} قد استنبط العلماء من هذه الآية مجموعة من الأحكام منها:
- إحداث النصارى لبدعة الرهبانية من عند أنفسهم.
- عدم اعتراض القرآن على هذا الإحداث، فليس في الآية – كما قال الرازي والألوسي ما يدل على ذم البدعة.
- لوم القرآن لهم بسبب عدم محافظتهم على هذه البدعة الحسنة: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} واللوم غير متجه للجميع، على تقدير أن فيهم من رعاها كما قال ابن زيد، وغير متوجه لمحدثي البدعة كما قال الضحاك، بل متوجه إلى خُلفهم كما قال عطاء، ثم قال: ومن خلال هذا التحقيق يتبين لنا خطأ ما ذهب إليه الإمام ابن كثير رحمه الله حيث قال في تفسيره: وقوله تعالى: " إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ " أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين:
أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله.
والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل
…
)
الجواب عن كلامه من وجوه:
الأول – أن محصل ما ذكره من ابتداعهم للرهبانية، وأن الله لم يذمهم على هذا الابتداع يدل على أن الحجة هنا في الإقرار وليس في الابتداع، وسوف يأتي نظيره من أفعال الصحابة رضي الله عنهم.
وإنكاره على الحافظ ابن كثير أن يكون الإنكار من الله عزوجل على الابتداع يؤيد أن الحجة عنده في الإقرار وليس في الابتداع.
الثاني – فإن كان كذلك فقد انقطع السبيل عليه في الاحتجاج بهذه الآية على جواز البدع الحسنة؛ لأنه قد انقطع وحي التشريع بموت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الشرع لم يعد بحاجة إلى زيادة؛ لأن الله أتمه وأكمله، ولم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً مما يقربنا من الجنة إلا وقد أمرنا به، ولم يدع أمراً يقربنا من النار إلا وقد نهانا عنه صلى الله عليه وسلم.
الثالث – أن هذا ليس من شرعنا وقد وردت عدة أحاديث من طريق ضعيفة تدل على أنه لا رهبانية في الإسلام، وأن رهبانيتنا في الجهاد، ويشهد لهذا المعنى إنكار النبي على عثمان بن مظعون الاختصاء، وعلى الثلاثة الذين تقالوا عبادته صلى الله عليه وسلم.
ثم أردف معترضا على الوجه الثالث فقال:
(نقل ابن العربي أن معنى الرهبانية في الآية يدل على ثلاثة معان:
1 -
رفض النساء.
2 -
اتخاذ الصوامع للعزلة.
3 -
سياحتهم في الأرض.
والمنسوخ في ديننا هو المعنى الأول، أما الثاني والثالث فمستحب عند فساد الزمان لما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن" وهذا الحديث يفيد الإقرار بالعمل بهذه الآية في المعنيين الأخيرين، ويكون منزلته هنا من القرآن البيان والتوضيح:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وانعقد الإجماع على أننا مكلفون بما علمنا من شريعتنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا، وأمرنا في شريعتنا بمثله).
والجواب عن اعتراضه من وجوه:
الأول – أن هذا عند فساد الزمان في آخره ولم يأت ذلك بعد، فالاستدلال به في غير زمنه استدلال به في غير محله، فلا حجة له في تعميم القول به.
الثاني – قوله: (وانعقد الإجماع على أننا مكلفون بما علمنا من شريعتنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا، وأمرنا في شريعتنا بمثله) فهو مترتب على الوجه السابق فإن بطل كونه شرعا عاما في شرعنا فلا يكون من شرعنا بإطلاق، فبقي أنه من شرع من قبلنا، وقد نهينا عنه في شرعنا فظهر أنه ليس من شرعنا.
الثالث – أن تسمية ما جاء فيه الترخيص في آخر الزمان من البعد عن الفتن رهبانية مخالف لمقصود الشرع بل هو فرار بدينه. ويوضحه:
الرابع – أن الرهبانية تشمل المعاني الثلاث، وإقرار الله عزوجل لهم يشمل جميع معانيها فالاستدلال ببعض معانيها في شرعنا دون البعض تحكم بلا دليل، وكان الأولى أن يقول أن هذا ليس من شرعنا، وقد جاء في شرعنا النهي عن الرهبانية والتبتل والاختصاء فليس من شرعنا، وقد رخص الشارع عند فساد الزمان في البعد عن الفتن.
فظهر بهذا أنه لا حجة في الآية على القول بالبدع الحسنة، وأنها لا تصلح لتخصيص عموم أدلة الذم عن البدع.
ثانيا – حديث: (من أحدث
…
).
قال عيسى الحميري في "البدعة الحسنة"(ص/105)(1): (وأما حديث: "كل بدعة ضلالة" فهو عام مخصوص خصصه الحديث الصحيح: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" فلو كانت كل بدعة ضلالة بلا استثناء ولا تخصيص لقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا شيئاً فهو رد ولكنه صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
فأفاد صلى الله عليه وسلم بقوله هذا أن من أحدث في أمر الدين ما هو منه فليس برد، وهذا تقسيم صريح للبدعة إلى حسنة وسيئة.
وفي رواية للبغوي: "من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية لمسلم:"من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد".
وأفاد هذا الحديث برواياته ما يلي:
أ- جواز إحداث البدعة الحسنة إذا كانت موافقة لأصل من أصول الدين.
ب- عدم جواز إحداث البدعة إذا كانت مخالفة لأصل الشرع، يؤخذ هذا من قوله صلى الله عليه وسلم:"أمرنا"، و "ديننا"، فهو شامل لكل المحدثات سواء كانت من العبادات أو المعاملات أو غير ذلك، لأن كلمة "أمرنا" و "ديننا" كلمة عامة، فكل ما له أصل عام فهو مقبول يندرج تحت البدعة الحسنة، وكل ما ليس له أصل عام فهو مردود من البدع السيئة، وهذا نص الحديث ينطق بالحق.
(1) وانظر: "إتقان الصنعة"(ص/18).
ج- يؤخذ من الحديث جواز فعل وإحداث أمور لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يشترط في كل فعل أن يكون موجوداً في عهد السلف).
والجواب من وجوه:
الأول – إن قصد بالحدث الذي يُلحق بالدين والموافق لأصول الشريعة: المصالح المرسلة التي تكون في الوسائل بالشروط سالفة الذكر فنعم، وإن قصد الحدث التعبدي فهذا لا يكون موافقا أبدا لقواعد الدين لمنافاته لكمال الشريعة وتمام الدين وسوف يتجه النقض لهذا المعنى الثاني؛ لأنه مقصوده. ويوضحه:
الثاني – قوله: (قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرنا"، و "ديننا"، فهو شامل لكل المحدثات سواء كانت من العبادات أو المعاملات أو غير ذلك، لأن كلمة "أمرنا" و "ديننا" كلمة عامة، فكل ما له أصل عام فهو مقبول يندرج تحت البدعة الحسنة، وكل ما ليس له أصل عام فهو مردود من البدع السيئة، وهذا نص الحديث ينطق بالحق) صريح في أنه يرى شمول الحدث المذموم والمحمود للعادات والعبادات، وأنه يريد أن يحمل الحديث على ذلك، ويرده ما رواه أحمد، وأصله في مسلم وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، فإذا كان من أمر دينكم فإلي" وما سقته من أحاديث وآثار في قاعدة "الأصل في العبادات المنع والتوقيف" فكل هذا يؤيد أن الأصل في العبادات التوقف، وأن كل ما أحدث بقصد التعبد فهو مذموم، وإنما الحدث المحمود ما كان متعلقا بأمور الدنيا.
الثالث - أن هذا استدل منه بمحل النزاع فقد بنى كلامه على صحة تقسيمه للبدع لقسمين: محمودة، ومذمومة، وللمخالف أن يعارضه ويتمسك بعموم الذم لجميع المحدثات في الدين.
الرابع – أن المفهوم الذي خصص به عموم الحديث معطل؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (ما ليس منه) جاء موافقا للواقع، وهذا من موانع اعتبار مفهوم المخالفة.
قال الشيخ الشنقيطي في "المذكرة"(ص/289)، وهو يتكلم عن موانع اعتبار مفهوم المخالفة:(تخصيصه بالذكر لموافقة الواقع كقوله تعالى: ((لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ)) الآية. فإنها نزلت في قوم والوا اليهود من دون المؤمنون فجاءت الآية ناهية عن الحالة الواقعة من غير قصد التخصيص بها). ويوضحه:
الخامس – معنى الحديث لا يعارض حديث "كل بدعة ضلالة" بل يوافقه، فالمقصود بيان أن كل محدث ليس من الدين، والمفهوم الذي استدل به معطل، بقرينة ما ورد في
بعض طرق الحديث عند إسحاق بن راهويه: " من عمل بغير عملنا فهو رد "، وعند الدارقطني:"كل أمر لم يكن عليه أمرنا فهو رد".
ثالثا - حديث الصدقة:
- روى مسلم والنسائي وابن ماجه عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
قال الحميري (ص/103): (معنى "سن سنة حسنة" أي اخترع طريقة أو أمراً في الدين موافقاً للشرع، ومعنى " من سن سنة سيئة" أي من اخترع أمراً في الدين مخالفاً للشرع. ولذلك عبر النبي صلى الله عليه وسلم عما أحدثه الصحابة واخترعوه بأنه "سنة" فقال "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" فإحداث الصحابة أمراً ليس إلا صورة عما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحقيقة ما أحدثه الصحابة هو اختراع في الدين، ولكن لما كان موافقاً للشرع كان حسناً
…
فسنة الصحابة سنة قياسية، إذن هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من جاء بعد الصحابة من العلماء الربانيين سنتهم الموافقة للشرع سنة قياسية، وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخذوا الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:" من سن سنة حسنة" وحصر اختراع السنة في السلف جمود ظاهر تأباه النصوص، فكل سنة قياسية هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الغماري "إتقان الصنعة"(ص/15): (سن سنة أو استنانها أي إنشاؤها باجتهاد واستنباط من قواعد الشرع أو عمومات نصوصه.
وهذا معنى ما أفادته الأحاديث المذكورة بعبارة: "من سن سنةً حسنة" أي من أنشأ سنة حسنة مستندا في ابتداع ذاتها إلى دلائل الشرع كان له أجرها. ومن سن سنة سيئة أي ابتدع سنة مخالفة للشرع، واستند في ابتداعها إلى ما لا تقره الشريعة، كان عليه إثمها
…
)
الجواب من وجوه:
الأول – قال الشيخ الغامدي في " حقيقة البدعة"(ص/394): (قوله صلى الله عليه وسلم: ((من سن سنة حسنة)) الحديث - ليس المراد به الاختراع ألبتة، وإلا لزم من
ذلك التعارض بين الأدلة القطعية وإنما المراد به العمل بما ثبت من السنة النبوية، وذلك لوجهين:
(أحدهما): أن سبب قوله صلى الله عليه وسلم: " من سن سنة حسنة " حادثة القوم الحفاة العراة الذين لما رآهم صلى الله عليه وسلم خطب في الناس، وحث على الصدقة عليهم، فأبطأ الناس حتى كره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء رجل من الأنصار بصّرةٍ من مال فوضعها، ثم تتابع الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سن سنة حسنة .. " الحديث.
فدلت هذه القصة على السنة المقصودة في هذا الحديث وهي العمل بما ثبت كونه مشروعاً، والسنة التي سنّها الأنصاري رضي الله عنه هي: مبادرته إلى الصدقة التي حضّ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذا السبب لورود الحديث، يتبين أن المراد به عمل ما هو مشروع، وليس إحداث ما ليس مشروعاً، ثم تسميته سنة حسنة كما فهم المبتدع (1).
2 -
أن قوله صلى الله عليه وسلم: " من سن سنة حسنة " لا يمكن حمله على الاختراع والأحداث والابتداء عن غير أصل مشروع معتبر، لأن كون العمل حسناً أو سيئاً قبيحاً لا يُعرف إلا من جهة الشرع
…
نعم، يدرك العقل حسن الشيء وقبحه، فيما هو متعلق بالمدح والثواب والذم والعقاب، ولكنه لا يستلزم حكماً في فعل العبد، بل يجعل الفعل صالحاً لاستحقاق الأمر والنهي من الحكيم الذي لا يأمر بنقيض ما أدرك العقلُ حسنَه، ولكن إدراك العقل حسن الشيء، لا يلزم منه حكماً بالوجوب أو الاستحباب، بل الحكم من خطاب الشارع، فلو لم يرسل الله رسولاً، لم يكن هناك أمر ولا نهي ولا عقاب، ولا أدرك العقل مصلحةَ أو مفسدةَ الفعل، ومن هنا يقال: بأن حسن الشيء وقبحه وما يترتب عليه من ثواب وعقاب، يأتي كل ذلك من قبل الشرع والعقل يدرك الحسن والقبح، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي هو وسط في هذا الباب، بين المعتزلة الذين يقولون بأن الحسن والقبح عقلي لا يتوقف معرفته
(1) ويؤيده ما قاله الشيخ عبد القيوم السحيباني في "اللمع"(ص/17): (أن معنى ((من سن))، أي من أحيا سنة كانت موجودة، فعدمت، فأحياها، وعلى هذا، فيكون "السن" إضافياً نسبياً لمن أحيا سنة بعد أن تركت، ويدل له حديث:((من أحيا سنة من سنتي فعمل بها الناس، كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعة فعمل بها، كان عليه أوزار من عمل بها لا ينقص من اْوزار من عمل بها شيئاً).
وأخذه عن الدليل السمعي، والأشاعرة الذين قالوا بأن العقل لا يدرك حسن الشيء ولا قبحه مطلقاً، وإنما الحسن ما حسّنه الشرع، والقبح ما قبّحه الشرع.
ومذهب أهل السنة هو الوسط الذي قال بإدراك العقل حسن الشيء وقبحه، ولكن بدون أن يكون مستلزماً لأمرٍ أو نهي أو ثواب أو عقاب، لأن ذلك من خصائص الشارع الحكيم
…
ومن هنا نقول بأن استحسان العقل أو الذوق لفعل من الأفعال لا يكون مبرراً لإٌحداثه واعتباره سنة حسنة، لأنه لو اعتبر ذلك، من غير نظر إلى حكم الشارع لا نفرط عقد الشريعة، ولقال كل من شاء ما شاء، ولفعل كل إنسان ما أملاه عليه عقله أو ذوقه، فإذا عُلم ـ مع ما سبق ـ مقدار تنوع عقول الناس وأفهامهم وأذواقهم، عُرف كم في حشايا القول باستحسان البدع من خطرٍ على الدين، وافتئات على الله وشرعه القويم الكامل، الذي قال فيه جل وعلا:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلَامَ دِيناً} ) (1).
الثاني – قال الشيخ عبد القيوم السحيباني في "اللمع"(ص/17): (أن النبي صلى الله عليه وسلم – قال: ((من سن))، ولم يقل ((من ابتدع)). وقال:((في الاسلام)). والبدع ليست من الإسلام، وقال:((حسنة))، والبدعة ليست بحسنة.
ولا يخفى الفرق بين السنة والبدعة، فإن السنة هي الطريق المتبع، والبدعة هي الإحداث في الدين (2).
وقال أبو معاذ السلفي في "البراهين على ألا بدعة حسنة في الدين": (لا يمكن أن يكون معنى: «من سن في الإسلام سنةً حسنة ً» أي من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة لأن بهذا يكون معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ٍضلالة» «كل سنة ضلالة» .
فمن جعل هذا هو معنى ذاك فقد أبعد النجعة وحرف الكلم عن مواضعه) (3).
الثالث (4) - لم ينقل عن أحد من السلف أنه فسَّر السنة الحسنة، بالبدعة التي يحدثها الناس من عند أنفسهم.
(1) وانظر الاعتصام (1/ 227)، وما بعدها.
(2)
وانظر: "أقوم السنن في نقض تقسيم البدع إلى سيئ وحسن"(ص/54)، و"تحذير المسلمين"(ص/67 - 86)، "موقف أهل السنة والجماعة من أهل البدع والأهواء"(ص/114).
(3)
«موسوعة أهل السنة» للشيخ عبدالرحمن دمشقية حفظه الله (1/ 340) بتصرف.
(4)
انظر اللمع (ص/17)، والبدعة وأثرها السيئ للشيخ الهلالي (ص/75).
الرابع – قال الشيخ عبد الرحمن دمشقية في "موسوعة أهل السنة"(1/ 338): (ولو كان هذا الذي يفهمه الناس هو الفهم الصحيح للحديث لصار في قول النبي صلى الله عليه وسلم " فمن رغب عن سنتي فليس مني " تناقضاً واضحاً وتحريضاً على الإعراض عن السنة، وثناءً منه على من رغب عن سنته. فبينما يقول " عليكم بسنتي " داعياً إلى التمسك بها والعض عليها بالنواجذ والقبض عليها كالقبض على الجمر يدعونا هنا إلى الأخذ بأي سنة يسنها من شاء من المسلمين لا بالتقيد بسنته صلى الله عليه وسلم وحده!).
ومما سبق يتبين أنه لا حجة لهم في الاستدلال بهذا الحديث وأنه حجة عليهم لا لهم، قال الشيخ أحمد عبدالكريم نجيب في "أقوم السنن" (ص/54): (فالحديث المذكور لو تأملناه لوجدناه دليلا على محاربة البدع لا استحسانها؛ لأن شطره الأول محمول بحكم مناسبته على إحداث السنن، أي الإتيان بالسنن النبوية لا ابتداع البدع والمحدثات، فلا دليل فيه - أصلا – على استحسان البدع، وأما شطره الثاني فهو باق على عمومه وإطلاقه في ذم من أحدث سنة سيئة أو تمسك بها، واتبعه الناس في ذلك وهو باق على دلالته لا معارض له
…
وعليه فالسنة الحسنة هي إحياء أمر مشروع لم يعهد العمل بين الناس لتركهم السنن، ففي عصرنا الحاضر لو أن إنساناً أحيا سنة مهجورة يقال: أتى بسنة حسنة، ولا يقال أتى ببدعة حسنة، إذن فالسنة الحسنة هي ما كان أصله مشروعاً بنص صحيح وترك الناس العمل به ثم جاء من يجدده بين الناس) (1)
الخامس – قال الشيخ أحمد العدوي في "أصول في البدع والسنن"(ص/113): (إذا صرف النظر عن سبب الحديث يصح أن يراد منه الاختراع في أمور الدنيا والتفنن فيها اختراعا يلتئم مع أصول الدين ومقاصده، كاختراع الملاجئ والمستشفيات، وتشييد دور العلم والطرق المسهلة لرقي الصناعة والتعليم، ونشر الفضيلة وإماتة الرذيلة، فكل هذه المخترعات سنن حسنة يثاب عليها صاحبها ويكتب له مثل ثواب من عمل بها إلى يوم القيامة، فإن شئت فهمت في الحديث الحث على إحياء السنة الدينية التي ورد بها الدين، وشرعها الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم –، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحسان إلى الفقير، والنصيحة لكل مسلم، والحب في الله والبعض في الله، والرضا بالقضاء والقدر، والتعاون على البر، وان تحب لأخيك ما تحب لنفسك
(1) انظر البدعة للشيخ سليم الهلالي (ص/73).
وتكره له ما تكره لها، إلى غير ذلك من الأعمال التي يدعو إليها الدين، ويحث على إحيائها، وإن شئت فهمت في الحديث الحث على التفكير في الأمور الكونية التي ترقى الشعوب برقيها، وتتقدم الأمة بتقدمها في علومها وأخلاقها ودينها، وقد أريناك مما تقدم أن الدين إنما ينهاك عن الاختراع في أمر حدده الشارع ورسمه على وجه مخصوص كالصلاة والوضوء والصوم والحج
…
ويبيح لك ما يمكنك من أنواع الاختراع في الأمور المعاشية والاجتماعية والعمرانية بشرط المحافظة على الأصول العامة وأن يكون هذا الاختراع أساسه درء المفاسد وجلب المصالح وإقامة العدل وإماطة الظلم ورد المظالم إلى ذويها، إلى غير ذلك من الأصول التي أسلفناها لك غير مرة).
السادس – وأما تسويته بين الصحابة وسنة الخلفاء الراشدين، وغيرهم ممن هو دونهم فمخالف للأصول العامة للشريعة وقد سبق بيان حجية قول الصحابة وحث النبي صلى الله عليه وسلم – على إتباع سنة الخلفاء الراشدين، وتحذريه مما أحدثه من جاء بعدهم ..
وسوف يأتي بإذن الله الكلام على أفعال الصحابة وسوف نعرض صورا من إنكار النبي صلى الله عليه وسلم – على بعض الصحابة مما يؤيد أن أقوالهم وأفعالهم وإن كانت حجة إلا أنها لا يصح أن تعارض سنة النبي صلى الله عليه وسلم –.
رابعا – أفعال الصحابة:
استدل الغماري وغيره بما ورد عن بعض الصحابة من اجتهادات في العبادة، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم على اجتهاداتهم، ومن ذلك:
- ما رواه أحمد وأبو داود عن معاذ رضي الله عنه أنه قال: وكانوا يأتون الصلاة، وقد سبقهم ببعضها النبي صلى الله عليه وسلم قال: فكان الرجل يشير إلى الرجل إذا جاء كم صلى؟ فيقول: واحدة أو اثنتين فيصليها، ثم يدخل مع القوم في صلاتهم قال: فجاء معاذ فقال: لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها، ثم قضيت ما سبقني. قال: فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها قال: فثبت معه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قام فقضى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنه قد سن لكم معاذ فهكذا فاصنعوا» الحديث.
- وما رواه البخاري وغيره عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه، قال: " كنا يوما نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن
حمده "، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما انصرف، قال:«من المتكلم» قال: أنا، قال:«رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول» .
- وما رواه أحمد وغيره من حديث بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: «بم سبقتني إلى الجنة؟ » قال: ما أحدثت إلا توضأت وصليت ركعتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بهذا» .
وتتبع هذا يطول.
قال الغماري في "إتقان الصنعة"(ص/24): "وهذا يدل على جواز إحداث أمر في العبادة أو غيرها إذا كان موافقا لأدلة الشرع".
الجواب من وجوه:
الأول – أن ما نقل عن الصحابة من أفعال لا يعدو حالتين، إما أن يكون في حياة النبي، أو بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وحجية أفعالهم إنما هي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وقد سبق التدليل على ذلك وبيان ضوابطه، وأما في حياته فلا تعدو أقوالهم وأفعالهم أن تكون اجتهادات منهم قد يقرها النبي صلى الله عليه وسلم أو لا.
قال عيسى الحميري في "البدعة الحسنة"(ص/88): (القول بحجية فتوى الصحابي هو القول الراجح في العمل عند جمهور علماء المسلمين من المجتهدين ومن تبعهم بشرط أن لا يصطدم بنص من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلموا به).
فإن قالوا: ولم كانوا يبتدرون الفعل أحيانا قبل أن يقفوا على إقرار النبي وقبل سؤاله صلى الله عليه وسلم.
قلنا: إن كان المجتهد له أن يعمل باجتهاده إلى أن يتبين له أن خطأ فيرجع عنه وينقضه، فالصحابة أولى بالجواز منهم.
أضف إلى ما سبق ذكره من أن الصحابة لا يصح أن تنسب البدعة لأفعالهم ولا أقوالهم.
الثاني – لا يصح قياس أفعال وأقوال الصحابة على أقوال وأفعال غيرهم من الأمة؛ لإمكان الرفع فيها دون غيرها لمعايشتهم الوحي والتنزيل ونيلهم شرف الصحبة دون باقي الأمة، فوقف الأمر عندهم ولم يصح تعديته إلى غيرهم.
الثالث – الحجة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم فليس لأحد أن يعارض قول وفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعادت جميع الوجوه إلى الوحي، وخرج من جاء بعد انقطاعه عن دائرة الاستدلال.
قال الشوكاني في "القول المفيد"(ص/31): "ولا يخفى عليك أن فعل معاذ هذا إنما صار سنة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بمجرد فعله فهو إنما كان السبب بثبوت السنة ولم تكن تلك سنة إلا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا واضح لا يخفى).
الرابع – ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على بعض الصحابة رضي الله عنهم أمورا اجتهدوا فيها وما أرادوا بها إلا وجه الله والدار الآخرة، ومن ذلك:
أ- إنكاره على الثلاثة الذين تقالوا عبادته، وقال:"من رغب عن سنتي فليس مني".
ب- ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال:«ما هذا الحبل؟» قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا حلوه ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد» .
ج- ما رواه البخاري عن ابن عباس، قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«مره فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه» .
د- ما رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما بسند جوده الأرناؤوط عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قدم معاذ اليمن، أو قال: الشام، فرأى النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها، فروى في نفسه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم، فلما قدم، قال: يا رسول الله، رأيت النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها، فروأت في نفسي أنك أحق أن تعظم، فقال: «لو كنت آمر أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها
…
" الحديث.
هـ - ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس، سمع عمر رضي الله عنه، يقول على المنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تطروني، كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله، ورسوله» .
و- ما رواه الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت مت على الفطرة فاجعلهن آخر ما تقول " فقلت أستذكرهن: وبرسولك الذي أرسلت. قال: لا، «وبنبيك الذي أرسلت» .
وتتبع هذا يطول.
تعقيب:
قال الحميري في "البدعة الحسنة"(ص/54) بعد أن ذكر صورا من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لبعض اجتهادات الصحابة وصورا لما أنكره من اجتهاداتهم: (فإن قال قائل: إن ذلك جائز في حياته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيعلمه إما بإخبارهم أو بوحي من الله تعالى، فإن كان هدى أقره، وإن كان ضلالة رده، أما بعد حياته صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي فذلك غير جائز.
قلنا: إن من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم من أحدث أشياء ليس له فيها نص بعينها، وهو يعلم أنه لن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد لينظر فيما فعل أهو سنة حسنة أم بدعة ضلالة، ومن ذلك صلاة سيدنا خُبَيْب بن عدي رضي الله عنه ركعتين قبل أن يقتل حيث جاء في حديث البخاري: فكان خبيب هو سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبراً.
قال الدكتور محمود عبود هرموش في كتابه (البدعة وأثرها في اختلاف الأمة): "وفي هذا تصريح واضح بأن خبيباً اجتهد في توقيت العبادة ولم يسبق من الرسول صلى الله عليه وسلم، أمر ولا فعل، وهو علم أنه سيموت قبل أن يعرض عمله هذا على الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أقدم على هذا العمل وهو يعلم أنه لن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو أراد أحد إيقاع الصلاة في غير أوقات الكراهة التي نهى الشارع عن إيقاع الصلاة فيها، فإن هذا الفعل يكون من قبيل السنة الحسنة، وأما من يوقعها في أوقات النهي فإن فعله يكون من قبيل البدعة المذمومة لكونها وقعت مخالفة لهديه وسنته صلى الله عليه وسلم. انتهى.
أقول: فهل مات سيدنا خبيب ضالاً مبتدعاً بإحداثه هاتين الركعتين قبل أن يعلم بأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقره عليهما؟!! حاشا وكلا، بل هو المؤمن الصالح والشهيد الكريم الذي رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامه فقال:"وعليك السلام يا خبيب قتلته قريش" ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قد انتقل إلى الرفيق الأعلى وانقطع الوحي، فإن نصوص القرآن والسنة ما زالت موجودة محفوظة ولله الحمد، وما زالت قواعد الشرع الحنيف ومقاصده قائمة معلومة يعرض عليها كل محدث وجديد، فإن قبل في ميزانها كان بدعة حسنة، وإلا فهو بدعة ضلالة نبرأ إلى الله منها، ولسنا
ندعي حسن البدعة دون ضوابط وقواعد وعرض على الكتاب والسنة، بل لذلك شروط وقواعد لابد منها سنعرض لها إن شاء الله تعالى في خاتمة بحثنا ".
الجواب عن هذا التعقيب:
والجواب من وجوه:
الأول – المثال الذي أتي به لا يساعده على تعقبه فكان الأولى به أن يأتي بمثال فعل فيه الصحابي فعلا في حياة النبي ولم ينقل أن النبي أقره عليه ولا أن الوحي أخبره بفعله ثم ينتشر فعل هذا الصحابي ويصبح سنة، وسوف يأتي ما يدل على إقرار النبي له فصار هذا المثال كغيره من الأمثلة السابقة.
الثاني – قوله: (فلو أراد أحد إيقاع الصلاة في غير أوقات الكراهة التي نهى الشارع عن إيقاع الصلاة فيها، فإن هذا الفعل يكون من قبيل السنة الحسنة) فيه تسوية بين الصحابة وغيرهم وقد سبق بيان حجية قول الصحابة دون غيرهم ممن أتي بعدهم.
الثالث – يحتمل أن يكون خبيب رضي الله عنه قد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم نصا خاصا في هذه المسألة.
الرابع – قال الحميري في "البدعة الحسنة"(ص/87): (ما كان يعمله الصحابي والوحي ينزل، فهو سنة تقريرية، وما يعمله الصحابي بعد انقطاع الوحي فهو بدعة شرعية حسنة) مع قوله بأن قول الصحابي حجة يدل على أنه يرى أن حجية قول الصحابي إنما تكون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما في حياته صلى الله عليه وسلم فالحجة في إقراره، ويدل على صحة ذلك أمور منها:
1 -
أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم زمن الوحي قابلة للنسخ.
2 -
أن ذلك له أصل وهو الإجماع فهو حجة ولا يعتبر إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
ويستفد من ذلك أن فعل هذا الصحابي يدور بين أمرين إما أنه معه سنة خاصة وأكدها النبي بالإقرار بعد ذلك، وإما إن لم يكن معه سنة خاصة فلا يعدو فعله كغيره ممن اجتهد في حياة النبي أن يقبل، أو يرد.
وأما كونه أصبح سنة عند القتل فهذا ليس لفعل الصحابي بل لإقرار النبي له، فلو أنه صلى الله عليه وسلم أنكر فعله عند بلوغه لما اجترئ أحد على فعله ولصار محرما.
وسيدنا خبيب عندما صلى الركعتين لم يكن مقصوده أن يقتدي به أحد من الناس بل لعله أراد الدخول في عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن عثمان
رضي الله عنه مرفوعا: «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه» ، وخاصة أن هذا الوقت وقت وداع للدنيا فهو مظنة الإخلاص وعدم تحديث النفس.
– ومما يدل على إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له ما ورد في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (قال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك
…
فاستجاب الله لعاصم بن ثابت يوم أصيب، «فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه خبرهم، وما أصيبوا).
قال الشيخ أبو معاذ السلفي في "البراهين": (وكل هذا يدل على أن ما أحدثه بعض الصحابة من أمور تعبدية أصبح سنة بإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لا بمجرد فعل الصحابة.
وقد قال عبد الفتاح أبو غده (1) بعد ذكره لقصة خبيب بن عدي رضي الله عنه:
(قال العلامة القسطلاني في «إرشاد الساري» (5/ 165): «وإنما صار فعل خبيب سنةً،
لأنه فعل ذلك في حياة الشارع صلى الله عليه وسلم واستحسنه».
وقال أيضاً (5/ 261): «وإنما صار ذلك سنةً، لأنه فعل في حياته صلى الله عليه وسلم فاستحسنه واقره» .
وقال أيضاً (6/ 314): «واستشكل قوله: «أول من سن» ،إذ السنة إنما هي أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله، وأجيب بأنه فعلهما في حياته صلى الله عليه وسلم واستحسنهما» انتهى كلام القسطلاني.
- ثم قال أبو غدة -: وواضح من حديث أبي هريرة وقصة قتل خبيب فيه: «أن لفظ (السنة) ولفظَ (سن) معناه: الفعل المشروع المتبوع في الدين، وعلى هذا فلا يصح لمتفقهٍ أن يستدل على سنية صلاة الركعتين عند القتل، بأن الحديث جاء فيه لفظ «سن» ، فتكون صلاتهما سنةً مستحبةً، لأن حكم السنية لصلاة ركعتين هنا استفيد من دليلٍ آخر خارج لفظ «سن» بلا ريب وهو إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لفعله).
(1) وهو رجل له مخالفات عديدة متعلقة بالعقيدة والفقه وقد بين شيء من حاله الشيخ الألباني في «كشف النقاب عما في كلمات أبي غدة من الأباطيل والافتراءات» وفي مقدمته لـ «شرح العقيدة الطحاوية» ، وممن بين حاله كذلك الشيخ بكر أبو زيد في «براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة» وقد كتب الشيخ عبدالعزيز بن باز، مقدمة قوية لكتاب الشيخ بكر أبو زيد، وقد نقلت عنه هنا إقامة للحجة على أتباعه الذين يقعون في كثير من البدع بحجة أن الصحابة أحدثوا أموراُ لما يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم!!.
الخامس – قوله: (ثم إن رسول الله صلى «الله عليه وسلم إذا كان قد انتقل إلى الرفيق الأعلى وانقطع الوحي، فإن نصوص القرآن والسنة ما زالت موجودة محفوظة ولله الحمد، وما زالت قواعد الشرع الحنيف ومقاصده قائمة معلومة يعرض عليها كل محدث وجديد، فإن قبل في ميزانها كان بدعة حسنة، وإلا فهو بدعة ضلالة نبرأ إلى الله منها) وهذا الحدث الموافق لقواعد الشرع لا يخلو من أن يكون إما في العادات والمعاملات، أو في العبادات، والأول سبق وأن ذكرنا أمه من قبيل المصالح المرسلة بضوابطه الشرعية، وأما الثاني فإنما هو منه من قبيل الاستدلال بمحل النزاع فلا يقبل منه بل الراجح أن نرده للعلل سالفة الذكر والتي تبين مناقضة البدعة للشريعة وكمالها، كما أن الأصل في العبادات التوقف والمنع، ولا يلزم أن يأتي الشرع موافقا لما يستحسنه العقل وقد سبق الكلام على ذلك.
السادس – قوله: (ولسنا ندعي حسن البدعة دون ضوابط وقواعد وعرض على الكتاب والسنة، بل لذلك شروط وقواعد لابد منها سنعرض لها إن شاء الله تعالى في خاتمة بحثنا).
يشير إلى قوله في "البدعة الحسنة"(ص/114): (أهم الضوابط والشروط التي ينبغي أن تتوفر في البدعة حتى تكون حسنة، وذلك مما فهمناه من تدبرنا في الآثار وأقوال العلماء ونصوصهم في هذه القضية.
الشرط الأول:
أن تكون البدعة في أمر من أمور الدين التعبدية، لا في العادات والأمور المعاشية التي لا تعبد فيها، دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وقد سبق أن قلنا: إن مفهوم هذا الحديث: من أحدث في أمرنا هذا ما هو منه فهو مقبول غير مردود. وشاهدنا هنا قوله صلى الله عليه وسلم "في أمرنا هذا"، وفي الرواية الأخرى "في ديننا"، وذلك يعني أن الإحداث في غير الدين من العادات ومما لا تعبد فيه لا يوصف في اصطلاح الشرع بكونه بدعة هدى أو بدعة ضلالة، فإن أحداً من العقلاء لا يقول مثلاً: إن ما أحدث بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ركوب الطائرات والسيارات وغيرها من البدع، سواء في ذلك الحسنة والقبيحة
…
الشرط الثاني:
أن تكون مندرجة تحت أصل من أصول الشريعة، أو داخلة تحت شيء من مقاصدها، أو أمر عام من أوامرها، وهذا الشرط مما تكاد تجمع كلمة كل عالم أثبت البدعة الحسنة على اشتراطه، وقد رأينا ذلك في ما سقناه من كلامهم.
مثاله: ما يقيمه المسلمون من الموالد، فإن المولد في حقيقته ليس إلا اجتماعاً على ذكر لله ومدح وثناء وصلاة وسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقراءة لقصة مولده الشريف، وكل ذلك يندرج تحت أصول عامة في الشريعة، من طلب الإكثار من ذكر الله، والحث على الصلاة والتسليم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحض على العلم الذي يندرج تحته قراءة قصة مولده الشريف، وأما مدحه والثناء عليه فمما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المادحين له من الشعراء وغيرهم في عهده صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى على أحد. فهو من البدع الحسنة لذلك ما في ذلك شك ولا ريب.
الشرط الثالث:
أن لا تصادم البدعة نصاً من نصوص الشريعة، ولا يكون في فعلها إلغاء لسنة من سنن الدين. نلمح هذا الشرط جلياً في كلام الإمام الغزالي رحمه الله، وذلك في قوله: إنما البدعة المذمومة ما يصادم السنة القديمة أو يكاد يفضي إلى تغييرها. انتهى.
مثال ذلك: مسألة السبحة، فإنها في رأينا من البدع الحسنة، وذلك أنا أمرنا بتسبيح الله مئة مرة مثلاً، وضبط العدد شيء يحتاج إلى آله تضبط، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلمنا كيف نضبطه ولم يحدد لنا آلة لذلك، إذن فأي شيء يضبطه لنا فهو مستحب، فإن القاعدة الشرعية معلومة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فكذلك ينبغي أن يكون ما لا يتم المطلوب الشرعي إلا به فهو مطلوب شرعاً، فمن أراد أن يذكر بهذا العدد يستحب له أن يتخذ شيئاً يضبط به العدد المأمور به، سواء كان ذلك سبحة أو حصى أو عقداً في خيط أو غير ذلك.
فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم سبح على عقد أصابعه بعد الصلاة، ورغب فيه، وورد أيضاً تقريره على التسبيح بالنوى في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة، وبين يديها نوى أو حصى تسبح، فقال: أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا وأفضل؟ قولي: سبحان الله عدد ما خلق في السماء، سبحان الله عدد ما خلق في الأرض، سبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا قوة إلا بالله
مثل ذلك وثبت أنه كان لأبي الدرداء وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وأبي صفية نوى أو حصى يسبحون بها.
فإذا علمنا ذلك، علمنا أن من يلزم الناس بضبط عدد الذكر بعقد الأصابع ويبدع مرتكب غير ما أمر به، متحكم مصادم لسنة أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكرها، أو فعلها بعض أصحابه الكرام وهم أكثر الناس حرصاً على متابعته صلى الله عليه وسلم والتأسي به، فكان في ذلك مبتدعاً لأنه أفضى إلى تغيير سنة ثابتة. والله أعلم.
الشرط الرابع:
كما يشترط في البدعة الحسنة أن يراها المسلمون أمراً حسناً، بعد أن لا يكون فيها مخالفة للكتاب أو السنة أو الإجماع.
وهذا الشرط ذكره الإمام العيني في معرض كلامه عن البدعة الحسنة فقال: وهي ما رآه المسلمون حسناً، ولا يكون مخالفاً للكتاب والسنة والإجماع. انتهى. ثم مثل لذلك بأذان عثمان، وتحديد ركعات التراويح في رمضان بعشرين ركعة).
الجواب من وجوه:
الأول – وأما ما ذكره في الشرط الأول من تخصيص البدعة في العبادات دون العادات والأمور المعاشية التي لا تعبد فيها يرده قوله والذي نقلته آنفا حيث قال (ص/105): (عدم جواز إحداث البدعة إذا كانت مخالفة لأصل الشرع، يؤخذ هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرنا"، و "ديننا"، فهو شامل لكل المحدثات سواء كانت من العبادات أو المعاملات أو غير ذلك، لأن كلمة "أمرنا" و "ديننا" كلمة عامة، فكل ما له أصل عام فهو مقبول يندرج تحت البدعة الحسنة، وكل ما ليس له أصل عام فهو مردود من البدع السيئة، وهذا نص الحديث ينطق بالحق).
الثاني – قوله: (فإن أحداً من العقلاء لا يقول مثلاً: إن ما أحدث بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ركوب الطائرات والسيارات وغيرها من البدع) يدخل فيه هو رأسا بنص كلامه السابق، كما أن هذا النفي يدل على عدم علمه بخلاف العلماء وقد عرض الشاطبي طريقتين للعلماء في تعريف البدعة وذكر منهما من يقول بشمول البدعة للعادات والعبادات، وقد سبق ذكر ذلك سابقا فليراجع.
كما أن هذا النفي يدل على هذا يشمل عدم دخول العادات بوجه في البدع مع أن لها مدخل وهي من جهة ما قد يلحق بها من شائبة تعبد فكان عليه أن يستثني ذلك.
الثالث – حصره البدعة في الأمور التعبدية مع فتحه الباب للاستدراك على الشرع بحجة عدم مخالفة النصوص وشهود القواعد العامة للشريعة للعبادات المخترعة تناقض ومخالفة لعموم أدلة ذم البدع وتخصيص لها بلا مخصص كما سبق وسيأتي بإذن الله تعالى.
الرابع – وأما ما ذكره في الشرط الثاني من اندراج البدعة الحسنة تحت أصل من أصول الشريعة أو أمر عام ونحو ذلك فقد سبق تأصيل قاعدة: " لا يجوز إثبات نوع من العبادات لدخوله تحت الدليل العام فقط، بل لا بد من دليل خاص"، ويدخل في الدليل الخاص فهم وقول وعمل الصحابة رضي الله عنهم – فالعمل بالأدلة الشرعية لابد وأن يكون مقيداً بعمل السلف الصالح بها.
وأما ما مثل لذلك ببدعة الاحتفال بالموالد فإنه يحتاج لمجلد للرد عليه لبيان ما يقع فيه من شرك ومعاص ومنكرات تخالف الشريعة هذا على فرض كونه من الوسائل فقط، وأما أن كان وسيلة ومقصد يتقربون به لله عزوجل فإن محور الرد يعود للشرط الأول وكما سبق بيان فساده.
الخامس – وأما قوله في الشرط الثالث: (أن لا تصادم البدعة نصاً من نصوص الشريعة، ولا يكون في فعلها إلغاء لسنة من سنن الدين) فهو شرط طردي في كل البدع؛ لأن جميعها يكون مصادما ومناقضا للدين، ونطبق ذلك على المثال الذي جاء به لتطبيق هذا الشرط عليه وهو السبحة.
وكلامه غير متزن في الاستدلال لها: فتارة يجعلها من الوسائل وأنها مما لا يتم المشروع إلا به فتكون مشروعة.
وتارة يجعلها سنة تقريرية أقر النبي صبى الله عليه وسلم امرأة وفي بعض الروايات أنها صفية رضي الله عنها، وان الصحابة كانوا يسبحون بالنوى والحصى.
وكل ما ذكر من أحاديث وآثار في التسبيح على النوى والحصى لا يثبت وقد توسع الشيخ الألباني في "الضعيفة" لبيان عللها.
إلا أن العجيب أنه يستدل مع اعترافه بأنها من السنن التقريرية على كونها بدعة حسنة، وأن من ينكر على من يستعملها هو المبتدع؛ لأنه مصادم للسنة الثابتة على حد قوله.
والمثال على تقريره السابق لا يساعده؛ لأنه لن يكون من البدع الحسنة بل من السنة التقريرية بالإضافة إلى فعل الصحابة لها وهو لا تقع منهم بدعة.
ولذلك لا يسلم له هذا المثال على كلا التقديرين:
أما مع ثبوت كونها سنة تقريرية فلا يصح الحكم عليها بأنها بدعة حسنة هذا ليس تأدبا مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما مع ضعف الأحاديث والآثار في التسبيح على النوى يقلب عليه الأمر تطبيقا للشرط الذي ذكره ويقال أنها بدعة؛ لأنها تصادم سنة العقد على الأصابع التي أرشد لها النبي صلى الله عليه وسلم وعلله بأنهن مستنطقات يوم القيامة.
السادس – قوله في الشرط الرابع: (أن يراها المسلمون أمراً حسناً، بعد أن لا يكون فيها مخالفة للكتاب أو السنة أو الإجماع) كلامه صريح في أن كلا منهما شرط منفصل عن الآخر مع أن لازم كلامه أن يكونا شرط واحد بمعنى أن كل ما هو غير مخالف للأدلة لا يراه المسلمون إلا حسنا.
ويلزم من عدّه لهما كشرطين منفصلين أنه قد يوجد أحدهما دون الآخر وهذا يدخله في لوازم باطلة كأن يرى المسلمون الأمر حسنا مع أنه مخالف للأدلة، وكذا عكسه بأن يكون غير مخالف للأدلة ويراه المسلمون غير حسن، وهذا يفتح باب التشهي في التحسين والذم للبدع.
وعلى كل حال فسوف يأتي الجواب عن أثر ابن مسعود رضي الله عنه وبيان أن المقصود منه إما العهد أي الصحابة للاتفاق على حجية أقوالهم وأفعالهم دون غيره، أو يكون مقصود بها الجنس فتكون إجماعا والأمة لا تجتمع على ضلالة، وأما الاستدلال به على تحسين ما يراه دون غيره هو من محدثات فلا يدخل في هذا الشرط على جميع احتمالاته.
وأما تمثيله لذلك بأذان عثمان، وتحديد ركعات التراويح في رمضان بعشرين ركعة فسوف يأتي بإذن الله بيان أنهما ليسا من البدع بحال، فالله المستعان.
فظهر مما سبق ما في شروطه من نظر وانه لو طبق يعضها لكانت حجة عليه لا له.
الخامس (1) – قال الشيخ أحمد نجيب في "أقوم السنن"(ص/58): (إن إطلاق القول بأن الصحابة قد ابتدعوا بدعا حسنة، وأنها حسنة مشروعة، واعتبارها بدعة مستحسنة يلزم منه ضلال بعيد، فمن لوازمه أن يقال: إن إبليس أيضا قد ابتدع (أو سن) سنة حسنة حين ارشد إلى قراءة آية الكرسي عند الإيواء إلى الفراش، لتكون حرزا لقارئها من الشيطان حتى يصبح فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "وكلني
(1) من وجوه التعقب على الشبهة الأصلية وليس على التعقيب.
رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان
…
" فذكر الحديث وإتيان الشيطان له ثلاث مرات وتعليمه له آية الكرسي عند النوم، وقال النبي:"صدقك وهو كذوب".
ولا يزال المسلمون يحافظون على قراءة آية الكرسي إذا أوى أحدهم إلى فراشه، فأما أن تكون سنة تقريرية، أو بدعة إبليسية (حسنة!!) فلينظر امرؤ أين يضع قدمه.
فلا دلالة إذن للإقرارات النبوية على تحسن المحدثات البدعية؛ لأن الإقرار سنة، والإحداث ابتداع، والسنة والبدعة لا يلتقيان ".
خامسا – "نعمت البدعة هي":
- روى البخاري في "صحيحه" عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر:«إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد، لكان أمثل» ثم عزم، فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر:«نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون» يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله.
- روى الشيخان عن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله ابن عمر جالس إلى حجرة عائشة، والناس يصلون الضحى في المسجد، فسألناه عن صلاتهم؟ فقال: بدعة.
- فروى (1) سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن مجاهد، عن ابن عمر أنه قال: إنها محدثة، وإنها لمن أحسن ما أحدثوا. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن الحكم بن الأعرج، عن الأعرج، قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى، فقال: بدعة ونعمت البدعة. وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سالم، عن أبيه، قال: لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها، وما أحدث الناس شيئاً أحب إلي منها. وأخرج الطبراني في"الكبير" من طريق سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: صلاة الضحى بدعة.
قال الحميري (ص/109): (لا معنى البتة لحمل البدعة هنا على المعنى اللغوي. ومن حمل قول سيدنا عمر وابنه عبدالله: "نعمت البدعة" على البدعة اللغوية فقد أخطأ.
(1) انظر هامش مسند أحمد بتحقيق الشيخ الأرناؤوط.
وتشديد بعض الناس وإصرارهم على هذا القول يوقع الصحابة الكرام بأمر خطير، وذلك لأن حملهم البدعة هنا على المعنى اللغوي يجعلهم يعدون ما فعله سيدنا عمر ووافقه عليه الصحابة أمراً منكراً وبدعة ضلالة؛ لأن هؤلاء المصرين يجعلون كل بدعة ضلالة، وصلاة الصحابة التراويح جماعة إما أن يكون حسناً في الشرع أو سيئاً، فأما كونه سيئاً، فهو قول أهل البدع، وأما كونه حسناً فهو إجماع الأمة
…
).
الجواب من وجهين:
الأول – قال الحميري (ص/26) بعد أن ذكر عدة تعاريف للبدعة: "وأستنتج بعد هذا كله وأستخلص من ذلك تعريفاً أراه جامعاً مانعاً يفي بالغرض، فأقول: البدعة الحسنة هي: إظهار صورة مخصوصة لحالة مخصوصة ألحت الدواعي على إبرازها بالقياس الصحيح" وإن كان تعرفه فيه غموض تصان عنه الحدود، إذ أنك لا تستطيع أن تعرف الوقت الذي يعتبر الظهور فيه بدعة هل هو بعد عصر النبي أو بعد عصر الصحابة بإعتبار أن قولهم حجة عنده، أو بعد العصور الثلاثة الفاضلة، كما أن تعريفه فيه إجمال لنوع الصورة والحالة المخصوصتين الذين هما عنده من البدع الحسنة وهل يدخل فيهما العادات والعبادات أم العبادات فقط.
لن أتكلم عن كل هذا .. إلا أنه في ضوء كلامه السابق يظهر أن البدعة الحسنة عنده هي عبادة خاصة مخترعة لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الحاجة أدت إلى ظهورها وهي موافقة للقياس الصحيح والقواعد الشرعية.
وعلى ذلك:
1 -
فما كان موجودا في عهده صلى الله عليه وسلم فليس ببدعة حسنة بل هو شرع مستقر.
2 -
ما دل الدليل على اعتباره بالأصالة وليس بالإلحاق والقياس ولا بالملائمة لقواعد الشرع فليس ببدعة حسنة بل هو سنة مستقرة.
لو طبقنا هذا الكلام على الأمثلة التي ذكرها لكانت النتيجة أن صلاة التراويح جماعة وصلاة الضحى ليستا من البدع الحسنة بل هما من السنن الثابتة.
ودليل ذلك في صلاة التراويح ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة من جوف الليل، فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس، فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلوا معه، فأصبح الناس، فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، فتشهد، ثم قال:«أما بعد، فإنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها» .
فالحديث صريح في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم القيام بأصحابه ثلاث ليال وأنه ترك المواظبة خشيت أن تفرض عليهم ويعجزوا عنها.
فعلى ذلك لا يصح أن توصف صلاة القيام بأنها بدعة ولذلك فلابد من تأويل قول سيدنا عمر رضي الله عنه، والأقرب أنه لم يرد أصل الصلاة بل أراد المواظبة عليها كل يوم، وحتى على هذا المنحى لا تكون بدعة شرعية؛ لأنها من سنة الخلفاء الراشدين ويدل عليها إجماع الصحابة فهي ليست بمخترعة بل هي مما يدل عليه دليل شرعي.
وعلى هذا فلا يصح أن يوصف ما فعله الخليفة الراشد وأجمع عليه الصحابة بدعة شرعية لا محمودة ولا مذمومة، فلقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بسنتهم سواء أكانت راجعة لسنته صلى الله عليه وسلم أم اجتهادية.
إلا أن الظاهر من صنيعه أن ما حدث في عصرهم يسميه بدعة شرعية حسنة، وسوف يأتي مناقشته قريبا بإذن الله في ذلك، وحتى بالفرض جدلا صحة إطلاق بدعة حسنة عليها، فالأمر لا يساعده على تعديتها لغيرها مما لا يدخل تحت دليلها: من دلالة سنة الخلفاء وإجماع الصحابة عليه، فهذه المسألة أقوى وأشد من استدلاله بأفعال الصحابة والتي سبق الرد عليها، وعليه فلا يصح تعدية التسمية لغيرها مما يعتبره هو وأضرابه بدعا حسنة مما ظهر بعد عصر الصحابة أو استحدثه بعض أقطاب ومشايخ التصوف لمريديهم من أذكار ووظائف وأحوال لم يرد بها الشرع.
- والأمر أقوى وأشد في صلاة الضحى فهي لا تدخل في تعريفه على أي احتمال وذلك لثبوت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لها ووصيته لبعض صحابته بالمواظبة عليها وتقريره لأهل قباء على صلاتها.
ومن ذلك:
- ما رواه مسلم في "صحيحه" عن عائشة، قالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعا، ويزيد ما شاء الله» .
- ما رواه أحمد وابن خزيمة وغيرهما عن علي رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الضحى» حسن إسناده الشيخ الألباني، وقواه الشيخ الأرناؤوط.
- ما رواه مسلم في "صحيحه" عن زيد بن أرقم، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون، فقال:«صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال» .
- وأوصى جماعة من أصحابه رضي الله عنهم بألا يدعو صلاة الضحى ومنهم وصيته لأبي هريرة عند الشيخين، ووصيته لأبي ذر عن أحمد، ولأبي الدرداء عند مسلم، بل وللأمة كلها كما روى مسلم في "صحيحه" عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:«يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى»
وأما قول ابن عمر رضي الله عنهما فقد ثبت عنه أنه كان يصليها في يومين فروى البخاري عن نافع، أن ابن عمر رضي الله عنهما، كان لا يصلي من الضحى إلا في يومين: يوم يقدم بمكة، فإنه كان يقدمها ضحى فيطوف بالبيت، ثم يصلي ركعتين خلف المقام، ويوم يأتي مسجد قباء، فإنه كان يأتيه كل سبت، فإذا دخل المسجد كره أن يخرج منه حتى يصلي فيه، قال: وكان يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزوره راكبا وماشيا" وزاد زاد ابن نمير، حدثنا عبيد الله، عن نافع، «فيصلي فيه ركعتين» أي النبي صلى الله عليه وسلم والزيادة رواها البخاري.
وإنما أنكرها ابن عمر لأنه يرى أن صلاتها تكون في بعض الحالات وليس دائما ولذلك فقوله عمن صلاها في غير الوقتين الذين ذكرهما أنها بدعة هو اجتهاد منه رضي الله عنه ومن رأي حجة على من لم يرى، وعلى ذلك فلا يصح وصف صلاة الضحى بأنها بدعة لا لغوية ولا شرعية محمودة، أو مذمومة.
الثاني – قوله: (حملهم البدعة هنا على المعنى اللغوي يجعلهم يعدون ما فعله سيدنا عمر ووافقه عليه الصحابة أمراً منكراً وبدعة ضلالة؛ لأن هؤلاء المصرين يجعلون كل بدعة ضلالة، وصلاة الصحابة التراويح جماعة إما أن يكون حسناً في الشرع أو سيئاً، فأما كونه سيئاً، فهو قول أهل البدع، وأما كونه حسناً فهو إجماع الأمة).
وقوله هذا فيه خلط عظيم إذ أنه فهم أن كل البدع اللغوية مذموم، فسوى بينها وبين البدعة الشرعية، ويمكن قلب الأمر عليه بأن نقول: إن جعل ما فعله عمر بدعة شرعية يخضعها للخلاف ويدخلها عند البعض في عموم البدع المذمومة لأن البدع الشرعية هي المقصودة أصالة بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف البدع اللغوية فهي أعم وأوسع من البدع الشرعية ويقصد بها مجرد الحدث وقد لا تكون مذمومة.
فإن ثبت ذلك فاعلم أن البدعة الشرعية أخص من البدعة اللغوية، ومن المقرر عند أهل الأصول (1) أن ثبوت الأخص بالضرورة يوجب ثبوت الأعم، إذ يلزم من كونها بدعة شرعية ثبوت كونها بدعة لغوية، وأما ثبوت الأعم فلا يوجب ثبوت الأخص فإن ثبوت كونها بدعة لغوية لا يوجب ثبوت كونها بدعة شرعية.
قال الشيخ الغامدي في "حقيقة البدعة"(1/ 416): (قول عمر رضي الله عنه: (نعمت البدعة هذه)، ينصرف إلى البدعة اللغوية لا الشرعية، وذلك لأمور:
الأول: أن صلاة التراويح جماعة قد ثبت فعلها جماعة ً على إمام واحد في عهده صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن يسمي عمر هذه السنة الثابتة بدعة إلا من باب اللغة.
الثاني: أن صرف قول عمر إلى البدعة اللغوية هو الأولى والأجمل بالفاروق ومنزلته رضي الله عنه، فهل يعقل أن يرضى عمر بالبدعة في دين الله وقد تلقى مع غيره من الصحابة قول النبي صلى الله عليه وسلم:(كل بدعة ضلالة)؟! مع ما عرف عنه رضي الله عنه من حرص على إتباع السنة ومحاربة البدعة، بل وقطع كل ذريعة تؤدي إلى البدعة.
الثالث: أنه يرد في استعمال الصحابة بعض المصطلحات الشرعية بمعانيها الأصلية في لغة العرب، كقول أُبي بن كعب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم:(أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذا ً تكفى همك ويغفر لك ذنبك) ومراده بقوله صلاتي: " دعائي "، كما في الرواية الأخرى للحديث ألا أجعل دعائي لك كله).
وكقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر ٍ من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له
…
) الحديث. والمراد: أنه طأطأ رأسه وانحنى له، والسجود بالمعنى الشرعي هو: الجلوس على الأعضاء السبعة عبادةً لله سبحانه، وليس هذا هو مراد أم المؤمنين في وصفها للبعير، وإنما مرادها المعنى اللغوي.
وقد فهم جماعة من العلماء هذا المراد من قول عمر رضي الله عنه ونصوا على ذلك في كلامهم، وإليك قول طائفة منهم على سبيل التمثيل:
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في جامع العلوم والحكم: (فكل من أحدث شيئا ً ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريءٌ منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة، وأما ما وقع
(1) انظر المستصفى للغزالي (1/ 34) وغيره.
في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد وخرج ورآهم يصلون كذلك، فقال:(نعمت البدعة هذه).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (
…
أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فُعل ابتداء من غير مثال سابق، وأما البدعة الشرعية فما لم يدل عليه دليل شرعي - إلى أن قال - ثم ذلك العمل الذي دل عليه الكتاب والسنة ليس بدعة في الشريعة، وقد عُلم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد به كل عمل مبتدأ، فإن دين الإسلام بل كل دين جاء به الرسل فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد ما ابتدئ من الأعمال التي لم يشرعها هو صلى الله عليه وسلم.
وقال رحمه الله: (
…
كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلالة، وما سمي بدعة وثبت حسنه بأدلة الشرع فأحد الأمرين فيه لازم: إما أن يقال ليس ببدعة في الدين، وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة، كما قال:(نعمت البدعة هذه)
…
).
وقال في موضع آخر: (ولا يحتج محتج بجمع التراويح ويقول: (نعمت البدعة هذه) فإنها بدعة في اللغة
…
).
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: (والبدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية كقوله: " فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة "، وتارة تكون بدعة لغوية، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم (نعمت البدعة هذه).
وتحدث الشاطبي معبرا عن ما يشبه هذه المعاني في معرض رده على المستحسن للبدع، والمستدل عليها بقول عمر رضي الله عنه، فقال: (
…
إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه، لا لأنها بدعة في المعنى، فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي، وعند ذلك فلا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه؛ لأنه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه
…
).
وقال في موضع آخر موجها كلام العز في تسمية بعض المصالح المرسلة بدعا: (
…
وصار من القائلين بالمصالح المرسلة وسماها بدعا في اللفظ كما سمى عمر رضي الله عنه الجمع في قيام رمضان في المسجد بدعة)).
سادسا - "ما رآه المسلمون حسنا":
قال الشيخ الغامدي في "حقيقة البدعة"(1/ 382) ما مختصره: (ومن الشُبه التي يتمسك بها المحسّن للبدع: قوله (1) قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلبَ محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، بعد قلب محمد، فوحد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء" وفي بعض الروايات زيادة: (وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه.
وهذا الحديث الذي يستدل به المحسن للبدع، لم يرد مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا عند الخطيب في تاريخ بغداد (4/ 165) عن أنس بن مالك رضي الله عنه وفي سنده أبو داود النخعي وهو سليمان بن عمرو، وقد تفرد بروايته، كما قال الخطيب، وهو كذاب كما قال الذهبي في الميزان (2/ 216) ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: كان يضع الحديث، فالحديث موضوع، وقد ذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 80 (وذَكَر تفرد النخعي، وكلام أحمد عنه ثم قال: وهذا الحديث إنما يعرف من كلام ابن مسعود، أما الأسانيد الأخرى المذكورة فكلها جاءت به موقوفاً على ابن مسعود، وهذا ما جعل الزيلعي في نصب الراية يقول: (غريب مرفوعاً ولم أحده إلا موقوفاً على ابن مسعود).
وقال ابن القيم بعد أن أورد هذا الأثر ( .. ليس من كلام رسول الله وإنما يضيفه إلى كلام من لا علم له بالحديث، وإنما هو ثابت عن ابن مسعود)
…
ومما سبق يتضح أن هذا الأثر الذي يستدل به محسّن البدع، لا تصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل هو من كلام ابن مسعود رضي الله عنه هذا من جهة السند، وقد يبقى فيه شائبةُ احتجاج عند من يترك المحكمات من النصوص، ويتعلق بما اشتبه ليبرر بذلك ما أملاه عليه نظره وهواه فيقول: هذا من كلام صحابي جليل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ عنه، أو يقول: هذا الكلام من قبيل المرفوع حكماً، لكونه مما لا يُدرك بالعقل. ولمناقشة هذه الشبه لابد من وقفات:
الوقفة الأولى:
المتأمل للآثار الواردة على الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرى
(1) ولم أجد للغماري ولا الحميري كلاما صريحا في الاستدلال بهذا الأثر على قولهم.
أنه من أشد الناس على البدع وأهلها، صغيرها وكبيرها كقوله رضي الله عنه (اقتصادٌ في سنةٍ خيٌر من اجتهاد في بدعة) وقوله:(أيها الناس إنكم ستحدثون ويُحْدَثُ لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول). وقوله (اتبعوا آثارنا فقد كُفيتم). وقوله: (اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفيتم كل ضلالة) وقوله: (عليكم بالعلم، وإياكم والتبدّع والتنطّع والتعمّق، وعليكم بالعتيق) وهو الذي أنكر على المجمعين في مسجد الكوفة ذكرهم لله بصورة جماعية، وقال لهم:(لقد فَضُلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علماً، أو لقد جئتم ببدعة ظلماً إلى أن قال والذي نفسي بيده لئن أخذتم آثار القوم ليسبقنكم سبقاً بعيداً ولئن حرتُم يميناً وشمالاً لتضلُنَّ ضلالاً بعيداً).
والآثار الواردة عنه في ذم البدع والتحذير منها كثيرة، فهل يُعقل أن يقال بعد ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه يقول بحسن بعض البدع، أو بجواز إحداث شيء يُتقرب به إلى الله، لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
الوقفة الثانية:
إن العلماء استشهدوا بهذا الأثر في غير ما استدل به محسنو البدع، وعلموا من لفظه ومعناه، غير ما اشتبه على هؤلاء وهذه الاستدلالات، تدور حول عدة معان:
الأول: أن هذا الأثر جاء في فضل الصحابة رضوان الله عليهم، وعلو منزلتهم، وارتفاع مكانتهم، يدلُّ على هذا المعنى: ما جاء في الأثر من تصريح بفضلهم .. ويدل عليه الجزء الذي يستدل به المبتدع وهو قوله: (وما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن
…
) ولذلاك وضعه الحاكم في مستدركه في كتاب معرفة الصحابة ولم يرو إلا هذا الجزء من الأثر، وكذلك فعل البيهقي في كتاب الاعتقاد، إذ أدخله في باب القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك صنع الساعاتي في ترتيبه لمسند الإمام أحمد، حيث جعل هذا الأثر في كتاب المناقب، باب ذكر مناقبهم على الإجمال، وقد سبقهم في هذا التصنيف الإمام أحمد، في كتابه فضائل الصحابة، وبما يشبه هذا التصنيف، كان صنيع الحافظ أبي نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة واستدل به ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى:{اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} .
الثاني: هذا الأثر يجيء في أدلة صحة خلافة الصديق رضي الله عنه، وقد استدل به غير واحد، فمنهم على سبيل المثال صاحب الرياض النضرة في مناقب العشرة، بعد أن أورده بالزيادة الواردة في المستدرك وغيره وهي: (وقد رأي الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه قال: (وهذا من أقوى الأدلة على صحة خلافته رضي الله عنه فإن
الإجماع قطعي) وكذلك ابن كثير في البداية والنهاية حيث قال بعد إيراده للأثر من مسند أحمد: (وهذا الأثر فيه حكاية إجماع الصحابة في تقديم الصديق).
وقد جمع بين هذا المعنى والذي قبله، شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث استدل بهذا الأثر في منهاج السنة على فضل الصحابة جميعاً، وعلى فضل أبي بكر على وجه الخصوص، في سياق رده على الرافضي، الذي زعم أن الذين بايعوا الصديق، إنما كانوا أصحاب جهل وطلب للدنيا، أخزاه الله ورضي الله، عن جميع صحابة نبيه.
الثالث: يجيء الاستدلال بهذا الأثر، عند أهل العلم في باب الإجماع عند ذكر حجيته، وممن استدل به ابن قدامه في الروضة وأبو الخطاب الكلوذاني في التمهيد والخطيب في الفقيه والمتفقه وابن القيم في إعلام الموقعين وفي الفروسية.
الرابع: مما سبق يتبين أن المراد بقوله: (ما رآه المسلمون
…
) الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، بدليل سياق الأثر: (ثم ينظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن
…
).
ويؤيد أن المقصود بالمسلمين في الأثر الصحابة، ما سبق نقله والإشارة إليه من أقوال العلماء، حيث دلت في مجموعها على هذا المعنى، وبذلك لا يبقى لمحتج بهذا الأثر على استحسان بعض البدع أي مستمسك، فإن لم يكن ظاهر اللفظ متضحاً لصاحب الشبهة، فإنه يتوجه إلى الإجماع، كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله في الرد على من استدل بهذا الأثر:(إن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن، والأمة لا تجتمع على باطل، فاجتماعهم على حسن شيء يدل على حسنه شرعاً، لأن الإجماع يتضمن دليلاً شرعياً، الحديث دليل عليكم لا لكم - إلى أن قال- إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم، فيلزم استحسان العوام، وهو باطل بإجماع). وقال الحافظ أبو محمد بن حزم الظاهري رحمه الله: (واحتجوا في الاستحسان بقولٍ يجري على ألسنتهم وهو: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)، وهذا لا نعلمه بسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه أصلاً، وأما الذي لا شك فيه فإنه لا يوجد البتة في مسند صحيح، وإنما نعرفه عن ابن مسعود ثم ذكر سنده إلى ابن مسعود وأورد الأثر ثم قال: وهذا لو أتى من وجه صحيح لما كان لهم فيه متعلق؛ لأنه إنما يكون إثبات إجماع المسلمين فقط، لأنه لم يقل ما رآه بعض المسلمين حسناً فهو حسن
…
).
وقد سبق الإلماح إلى استدلال العلماء بهذا الأثر في باب الإجماع، وهنا جاء أن المراد من الأثر كما يدل سياقه، صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تنافي بين ذلك، ولا حجة فيه على تحسين أية بدعةٍ، بل على العكس من ذلك، فأما إجماع الأمة فإنه لا يمكن أن يكون على خلاف دليل صحيح صريح غير منسوخ كقوله صلى الله عليه وسلم:" وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ".
ولأجل ذلك تقرر عند علماء الإسلام، أن إجماع الأمة حق فلا تجتمع على ضلالة، فإذا كان الأمر كذلك، والنص بأن " كل بدعة ضلالة " أصبح الدليل الذي يستدل به المحسن للبدع ضده.
وأما على أن المراد إجماع الصحابة، فإن الأثر ينقلب على المستدل به على حسن البدع، ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على ذم كل البدع صغيرها وكبيرها، وحذروا منها، ونهوا عن مجالسة أصحابها، بل وحذروا من كل ذريعة تؤدي إلى البدعة، ولم يُنقل عن أحد منهم التوقف في شأن بدعة محدثة في دين الله، بل كان موقفهم كما تشهد بذلك سيرتهم: اعتقادُ أن كل المحدثات ضلال وانحراف عن سواء الصراط، فإذا كان هذا هو حالهم، فهو إجماع منهم على قبح سائر البدع، وحسن محاربتهم وأهلها، وهنا يأتي، مكان الاستدلال بقول ابن مسعود رضي الله عنه: ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح
…
) وقد رأى جميع الصحابة أن الاعتصام بالسنة أمر حسن محمود، وأن ترك البدع والتحذير منها أمر لازم ممدوح، وأن إحداث شيء من البدع سيء وقبيح).
وهذا أخر ما وقفت عليه من أدلتهم لتحسين بعض البدع الشرعية، ولا حجة لهم في أيها، فثبت أن عموم الذم للبدع الشرعية محفوظ ولم يثبت تخصيصه كما زعموا، ولله الفضل والمنة، وسوف نتوقف في المبحث التالي بإذن الله على توجيهات أخرى لهم لأحاديث ذم البدع، فالله المستعان.