الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث - توجيهاتهم الأخرى لأدلة ذم البدع:
قالوا بحمل هذه الأحاديث على المعاصي (1):
قال الشيخ سليم الهلالي في "البدعة وأثرها السيء"(ص/85): (لا يجوز حمل قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" على المعاصي التي نهى عنها الشارع الحكيم بخصوصها مثل الزنا، السرقة، الربا
…
الخ؛ لأن هذا تعطيل لفائدة الحديث، وهو نوع من التحريف والإلحاد، وفيه من المفاسد أشياء:
(أ) سقوط الاعتماد على هذا الحديث، فإن المنهي عنه علم حكمه بذلك التخصيص.
(ب) إن اسم البدعة يكون عديم التأثير.
(ت) ليس كل بدعة جاء نهي عنها خاص، وليس كل ما جاء فيه نهي خاص بدعة، فالتكلم بأحد الاسمين وإرادة الآخر تلبيس وتدليس.
(ث) مساواة البدع بالمعاصي، والحقيقة أن البدع شر من المعاصي
…
(جـ) وقصر البدع على الأمور المنهي عنها بخصوصها لا ينطبق على البدع؛ لأن البدع لا يدل على شرعيتها دليل أصلاً، أما العاصي فدل الدليل على شرعية اجتنابها والبعد عنها).
قالوا بحمل هذه الأحاديث على البدع المذمومة:
قال الحميري في (ص/37): (البدعة في هذا الحديث - أي قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" - تشمل البدعة الواحدة والأكثر، والبدعة الحسنة والبدعة السيئة.
ومما جاء بصيغة التخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: "من ابتدع بدعة ضلالة، لا ترضي الله ورسوله، كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً"، ففي هذا الحديث خصص الرسول صلى الله عليه وسلم البدعة المحرمة بأن تكون سيئة لا توافق عليها الشريعة.
والقاعدة الأصولية أنه إذا ورد عن الشارع لفظ عام ولفظ خاص قدم الخاص، لأن في تقديم الخاص عملاً بكلا النصين بخلاف ما لو قدم العام فإن فيه إلغاء للنص الخاص.
فيكون المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم "كل بدعة ضلالة": البدعة السيئة وهي: ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام
…
(1) وقد سبق بيان وجوه الاتفاق والافتراق بين البدع والمعاصي فراجعها.
قال الإمام الحافظ الفقيه محيي الدين النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه والسلام: (وكل بدعة ضلالة) هذا عام مخصوص، والمراد غالب البدع. قال أهل اللغة: هي كل شيء عمل على غير مثال سابق).
وقال في (ص/112): (الأعم والأغلب في إطلاقات لفظ البدعة عند السلف، إنما كان في ما يقابل السنة من البدع السيئة الضالّة، حتى شاع على لسانهم إطلاق كلمة البدعة في الشيء الحادث الذي يصادم أصول الشريعة وأدلتها العامة، أو يكون فيه إبطال لسنة، أو تضييع لفريضة، كما شاع على ألسنتهم إطلاق لفظ المبتدع على أرباب هذه الحوادث والبدع، وشاع أيضاً إطلاق لفظ المبتدعة على الفرق الخارجة عن نهج أهل السنة والجماعة، ولذلك قال الشهاب الخفاجي في شرح الشفا: البدعة إذا أطلقت يراد بها السيئة. وقال ابن الأثير: وأكثر ما يستعمل المبتدع عرفاً في الذم).
والجواب من وجوه:
الأول – أن هذا الحديث لا يصح فرواه الترمذي وغيره من طريق كثير بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعا: " إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا" والحديث ضعيف جدا فمداره على كثير بن عمرو، قال عنه أحمد بن حنبل: منكر الحديث، ليس بشاء، وقال عنه أبو داود: كان أحد الكذابين، وقال عنه الشافعي: ذاك أحد الكذابين أو أحد أركان الكذب، وقال النسائي والدارقطني: متروك الحديث، وقال أبو حاتم بن حبان: روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على وجه التعجب، وقال أبو أحمد بن عدى: عامة ما يرويه لا يتابع عليه.
وترى أن الحميري لم يسق من الحديث إلا ما يظن أنه يوافق استدلاله، مع أن طرفه الأول يشهد لما سبق وأن قررناه من أن معنى سن السنة الحسنة: إحياء وتذكير الناس بما تركوه من سنة النبي وليس الإنشاء والاختراع إلا أننا لا نستدل إلا بما صح من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني – قال الشيخ الغامدي في "حقيقة البدعة"(1/ 381): (إن في هذا الحديث دليلاً على إبطال البدع، وذلك بالحض على إحياء سنة قد أميتت، فإنه وعد بالأجر لمن أحيا سنةً ميتةً، لا لمن يخترع شيئاً جديداً، ثم يطلق عليه سنة حسنة، لأن الذي ورد في
الحديث، إحياء سنة ثابتة نُسيت أو تُركت، وليس فيه إحداث ما لم يثبت، فدل هذا على أن المراد التحذير من الابتداع، لأنه في مقابل الإتباع، ولأنه ملازم للضلال في كل الأحوال).
الثالث – وعلى الفرض جدلا صحة الحديث فإن ما زعمه من التخصيص بهذا الحديث بقوله: (والقاعدة الأصولية أنه إذا ورد عن الشارع لفظ عام ولفظ خاص قدم الخاص) لا يستقيم، وذلك لأمرين:
أ- أن المنطوق موافق لدلالة العام، وكما هو مقرر في علم الأصول أن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يقتضي التخصيص لاختلال أحد شرطي الاستثناء، وهو مخالفة المستثنى للمستثنى منه في الحكم.
ب - أن المفهوم غير معتبر؛ لأن المنطوق جاء موافقا للواقع.
قال العلامة الشنقيطي في "أضواء البيان"(5/ 364): (تقرر في فن الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة، كون تخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع فيرد النص ذاكرا لوصف الموافق للواقع ليطبق عليه الحكم، فتخصيصه بالذكر إذا ليس لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق، بل لتخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع.
ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]؛ لأن قوله: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} وصف مطابق للواقع؛ لأنهم يدعون معه غيره بلا برهان، فذكر الوصف لموافقته الواقع، لا لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق.
ومن أمثلته في القرآن أيضا قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28]؛ لأنه نزل في قوم والوا اليهود دون المؤمنين، فقوله من دون المؤمنين ذكر لموافقته للواقع لا لإخراج المفهوم، عن حكم المنطوق ومعلوم أن اتخاذ
المؤمنين الكافرين أولياء، ممنوع على كل حال، وإلى هذا أشار في مراقي السعود في ذكره موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله:
أو امتنان أو وفاق الواقع
…
والجهل والتأكيد عند السامع).
ومن أمثلته أيضا في القرآن (1) قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(1) انظر "أضواء البيان"(1/ 264).
[النور: 33]، فروى مسلم في "صحيحه" عن جابر رضي الله عنه قال: " أن جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها: مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، فكان يكرههما على الزنا، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} الآية.
الرابع – أن قولهم هذا مخالف لفهم وعمل الصحابة رضوان الله عليه من إنكارهم لبعض البدع التي تتنزل على أقوالهم في قسم البدعة الحسنة كإنكار ابن مسعود على الحلق الذين يذكرون بالحصى ذكرا جماعيا، وكإنكار ابن عمر على من زاد في ذكر العطس وعلى من ثوب في الظهر، ونحو ذلك مما سبق ذكره.