الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: علاقة البدع بغيرها:
المبحث الأول: العلاقة بين البدع والمعاصي:
أولا - وجوه اجتماع البدعة مع المعصية:
قال الشيخ الجيزاني في "قواعد معرفة البدع"(ص/28): (وجوه اجتماع البدعة مع المعصية:
1 -
أن كلاً منهما منهي عنه (1)، مذموم شرعًا، وأن الإثم يلحق فاعله، ومن هذا الوجه فإن البدع تدخل تحت جملة المعاصي. وبهذا النظر فإن كل بدعة معصية، وليس كل معصية بدعة (2).
2 -
أن كلاً منهما متفاوت، ليس على درجة واحدة؛ إذ المعاصي تنقسم - باتفاق العلماء - إلى ما يكفَّر به، وإلى كبائر وإلى صغائر، وكذلك البدع؛ فإنها تنقسم إلى ما يُكفَّر به، وإلى كبائر وإلى صغائر (3).
3 -
أنهما مؤذنان باندراس الشريعة وذهاب السنة؛ فكلما كثرت المعاصي والبدع وانتشرت كلما ضعفت السنن، وكلما قويت السنن وانتشرت كلما ضعفت المعاصي والبدع، فالبدعة والمعصية - بهذا النظر - مقترنان في العصف بالهدى وإطفاء نور الحق، وهما يسيران نحو ذلك في خطين متوازيين. يوضح هذا:
4 -
أن كلاً منهما مناقض لمقاصد الشريعة، عائد على الدين بالهدم والبطلان.
ثانيا - وجوه الافتراق بين البدعة والمعصية
(4):
1 -
تنفرد المعصية بأن مستند النهي عنها - غالبًا - هو الأدلة الخاصة، من نصوص الوحي أو الإجماع أو القياس، بخلاف البدعة؛ فإن مستند النهي عنها - غالبًا - هو
(1) البدع على وجه العموم، والمعاصي على وجه الخصوص غالبا.
(2)
وأما من ناحية النظرة الشمولية لهما فإنه يكون بينهما عموم وخصوص وجهي.
(3)
وقد سبق الكلام على تفاوت مراتب البدع، وانقسامها إلى صغائر وكبائر.
(4)
وبعض هذه الفروق متداخل، وانظر: الاعتصام (1/ 233)، و"قواعد معرفة البدع" للشيخ الجيزاني (ص/30)، وبحث:"ضوابط البدعة وقواعدها الأصولية والفقهية" للشيخ نزيه عفون (ص/85)، و"علم أصول البدع" للشيخ علي الحلبي (ص/85)، وغيرها.
الأدلة العامة، ومقاصد الشريعة، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم:" كل بدعة ضلالة ".
2 -
وتنفرد البدعة بكونها مضاهية للمشروع؛ إذ هي تضاف إلى الدين، وتلحق به، بخلاف المعصية فإنها مخالفة للمشروع، إذ هي خارجة عن الدين، غير منسوبة إليه، اللهم إلا أن فُعلت هذه المعصية على وجه التقرب، فيجتمع فيها - من وجهين مختلفين - أنها معصية وبدعة في آن واحد.
3 -
وتنفرد البدعة بكونها جرمًا عظيمًا بالنسبة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع؛ إذ حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة، ورمي للشرع بالنقص والاستدراك، وأنها لم تكتمل بعد، بخلاف سائر المعاصي؛ فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غض من جانبها، بل صاحب المعصية متنصل منها، مقر بمخالفته لحكمها.
4 -
وتنفرد المعصية بكونها جرمًا عظيمًا بالنسبة إلى مجاوزة حدود الله بالانتهاك؛ إذ حاصلها عدم توقير الله في النفوس بترك الانقياد لشرعه ودينه، وكما قيل:(لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت)، بخلاف البدعة؛ فإن صاحبها يرى أنه موقر لله، معظم لشرعه ودينه، ويعتقد أنه قريب من ربه، وأنه ممتثل لأمره، ولهذا كان السلف يقبلون رواية المبتدع إذا لم يكن داعية إلى بدعته، ولم يكن ممن يستحل الكذب، بخلاف من يقترف المعاصي فإنه فاسق، ساقط العدالة، مردود الرواية باتفاق.
5 -
ولأجل ذلك أيضًا فإن المعصية تنفرد بأن صاحبها قد يُحدِّث نفسه بالتوبة والرجوع، بخلاف المبتدع؛ فإنه لا يزداد إلا إصرارًا على بدعته لكونه يرى عمله قربة، خاصة أرباب البدع الكبرى كما قال تعالى:(أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَنًا) وقد
قال سفيان الثوري: (البدعة أحب إلى إبليس من المعصية (1)؛ لأن المعصية يتاب منها والبدع لا يتاب منها).
(1) وتحت هذا العنوان عرض السيوطي في "الأمر بالإتباع والنهي عن الابتداع" بعض الآثار فقال (ص/81): (وقال سفيان الثوري رحمه الله: من سمع مبتدعاً لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة.
ولما مرض سليمان الهيثمي بكى بكاء شديداً فقيل له: ما يبكيك؟ الجزع من الموت؟ فقال: لا، ولكن مررت على قدري فسلمت عليه فأخاف أن يحاسبني ربي عليه.
وقال الفضيل بن عياض: قال: إذا رأيت مبتدعاً في طريق فخذ في طريق آخر، ولا يرفع لصاحب بدعة إلى الله عمل، ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام.
وقال: من زَوَّج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها.
وقال: من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له
…
).
وروى ابن وضاح بسنده عن أبى بكر بن عياش قال: (كان عندنا فتى يقاتل ويشربُ وذكر أشياء من الفسق، ثم أنه تَقَرّأ فدخل في التشيع، فسمعت حبيب بن أبي ثابت وهو يقول: لأنت يوم كنت تقاتل وتفعل خير منك اليوم).
وقد وضح تقي الدين معنى كون البدعة لا يتاب منها فقال في "مجموع الفتاوى"(10/ 9): (ومعنى قولهم إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ دينا لم يشرعه الله ولا رسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسنا فهو لا يتوب ما دام يراه حسنا لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه. أو بأنه ترك حسنا مأمورا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله. فما دام يرى فعله حسنا وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب. ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال
…
).
6 -
ولذلك فإن جنس البدعة أعظم من جنس المعصية، ذلك أن فتنة المبتدع في أصل الدين، وفتنة المذنب في الشهوة، وهذا كله إنما يطرد ويستقيم إذا لم يقترن بأحدهما قرائن وأحوال تنقله عن رتبته.
ومن الأمثلة على هذه القرائن والأحوال: أن المخالفة - معصية كانت أو بدعة - تعظم رتبتها إذا اقترن بها المداومة والإصرار عليها أو الاستخفاف بها أو استحلالها أو المجاهرة بها أو الدعوة إليها ويقل خطرها إذا اقترن بها التستر والاستخفاء أو عدم الإصرار عليها أو الندم والرجوع عنها.
ومن الأمثلة على هذه القرائن أيضًا: أن المخالفة في ذاتها تعظم رتبتها بعظم المفسدة، فما كانت مفسدته ترجع إلى كلي في الدين فهو أعظم مما كانت مفسدته ترجع إلى جزئي فيه، وكذلك: ما كانت مفسدته متعلقة بالدين فإنه أعظم مما كانت مفسدته متعلقة بالنفس.
والحاصل أن الموازنة بين البدع والمعاصي لا بد فيها من مراعاة الحال والمقام، واعتبار المصالح والمفاسد، والنظر إلى مآلات الأمور؛ فإن التنبيه على خطورة البدع والمبالغة في تعظيم شأنها ينبغي ألا يفضي - في الحال أو المآل - إلى الاستخفاف بالمعاصي والتحقير من شأنها، كما ينبغي أيضًا ألا يفضي التنبيه على خطورة المعاصي