الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجه ثالث إن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر
…
وإذا كان كذلك فالبدع من جملة المعاصي وقد ثبت التفاوت في المعاصي فكذلك يتصور مثله في البدع، فمنها ما يقع في الضروريات أي أنه إخلال بها ومنها ما يقع في رتبة الحاجيات ومنها ما يقع في رتبة التحسينيات وما يقع في رتبة الضروريات منه ما يقع في الدين أو النفس أو النسل أو العقل أو المال
…
] (1).
المبحث الثاني: بيان وجه خروج المكروه تنزيهاً عن حكم البدع:
قال الشاطبي: [إذا تقرر أن البدع ليست في الذم ولا في النهى على رتبة واحدة وأن منها ما هو مكروه كما أن منها ما هو محرم فوصف الضلالة لازم لها وشامل لأنواعها لما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة "، لكن يبقى هاهنا إشكال وهو أن الضلالة ضد الهدى لقوله تعالى:
…
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} وقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِل} وأشباه ذلك مما قوبل فيه بين الهدى والضلال فإنه يقتضي أنهما ضدان وليس بينهما واسطة تعتبر في الشرع فدل على أن البدع المكروهة خروج عن الهدى، ونظيره في المخالفات التي ليست ببدع المكروه من الأفعال كالالتفات اليسير في الصلاة من غير حاجة، والصلاة وهو يدافعه الأخبثان وما أشبه ذلك. ونظيره في الحديث:" نهينا عن اتباع الجنائز ولم يحرم علينا " فالمرتكب للمكروه لا يصح أن يقال فيه مخالف ولا عاص مع أن الطاعة ضدها المعصية، وفاعل المندوب مطيع؛ لأنه فاعل ما أمر به فإذا اعتبرت الضد لزم أن يكون فاعل المكروه عاصيا؛ لأنه فاعل ما نهى عنه، لكن ذلك غير صحيح؛ إذا فلا يطلق عليه عاص فكذلك لا يكون فاعل البدعة المكروهة ضالا وإلا فلا فرق بين اعتبار الضد في الطاعة واعتباره في الهدى فكما يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة فكذلك يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية وإلا فلا يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة كما لا يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية.
إلا أنه قد تقدم عموم لفظ الضلالة لكل بدعة فليعم لفظ المعصية لكل فعل مكروه لكن هذا باطل فما لزم عنه كذلك.
(1) الاعتصام (2/ 36: 39).
والجواب أن عموم لفظ الضلالة لكل بدعة ثابت كما تقدم بسطه، وما التزمتم في الفعل المكروه غير لازم فإنه لا يلزم في الأفعال أن تجرى على الضدية المذكورة إلا بعد استقراء الشرع ولما استقرينا موارد الأحكام الشرعية وجدنا للطاعة والمعصية واسطة متفقا عليها أو كالمتفق عليها وهى المباح وحقيقته أنه ليس بطاعة من حيث هو مباح، فالأمر والنهي ضدان بينهما واسطة لا يتعلق بها أمر ولا نهى وأنما يتعلق بها التخيير، وإذا تأملنا المكروه حسبما قرره الأصوليون وجدناه ذا طرفين طرف من حيث هو منهي عنه فيستوي مع المحرم في مطلق النهى فربما يتوهم أن مخالفة نهى الكراهية معصية من حيث اشترك مع المحرم في مطلق المخالفة، غير أنه يصد عن هذا الإطلاق الطرف الآخر وهو أن يعتبر من حيث لا يترتب على فاعلة ذم شرعي ولا إثم ولا عقاب فخالف المحرم من هذا الوجه وشارك المباح فيه لأن المباح لا ذم على فاعله ولا إثم ولا عقاب فتحاموا أن يطلقوا على ما هذا شأنه عبارة المعصية، وإذا ثبت هذا ووجدنا بين الطاعة والمعصية واسطة يصح أن يدخل تحتها المكروه لم يصح أن يتناوله ضد الطاعة فلا يطلق عليه لفظ المعصية بخلاف الهدى والضلال فإنه لا واسطة بينهما في الشرع يصح أن ينسب إليها لفظ المكروه من البدع، وقد قال الله تعالى:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} فليس إلا حق وهو الهدى والضلال وهو باطل فالبدع المكروهة ضلال.
وأما ثانيا فإن إثبات قسم الكراهة في البدع على الحقيقة مما ينظر فيه فلا يغتر المغتر بإطلاق المتقدمين من الفقهاء لفظ المكروه على بعض، وإنما حقيقة المسالة أن البدع ليست على رتبة واحدة في الذم كما تقدم بيانه وأما تعيين الكراهة التي معناها نفى إثم فاعلها وارتفاع الحرج البتة فهذا مما لا يكاد يوجد عليه دليل من الشرع ولا من كلام الأئمة على الخصوص، أما الشرع ففيه ما يدل على خلاف ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد على من قال أما أنا فأقوم الليل ولا أنام وقال الآخر أما أنا فلا أنكح النساء إلى آخر ما قالوا فرد عليهم ذلك صلى الله عليه وسلم وقال:" من رغب عن سنتي فليس مني " وهذه العبارة أشد شيء في الإنكار ولم يكن ما التزموا إلا فعل مندوب أو ترك مندوب إلى فعل مندوب آخر وكذلك ما
في الحديث أنه عليه السلام رأى رجلا قائما في الشمس فقال: "ما بال هذا نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مره فليجلس وليتكلم وليستظل وليتم صومه " قال مالك أمره أن يتم ما كان لله عليه فيه طاعة ويترك ما كان عليه فيه معصية
…
وكليه قوله: " كل بدعة ضلالة " شاهدة لهذا المعنى والجميع يقتضي التأثيم والتهديد والوعيد وهي خاصية المحرم
…
وأما كلام العلماء فإنهم وإن أطلقوا الكراهية في الأمور المنهي عنها لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط وإنما هذا اصطلاح للمتأخرين حين أرادوا أن يفرقوا بين القبلتين، فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع وأشباه ذلك، وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحا أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ويتحامون هذه العبارة خوفا مما في الآية من قوله:{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} وحكى مالك عمن تقدمه هذا المعنى. فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها أكره هذا ولا أحب هذا وهذا مكروه وما أشبه ذلك فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط، فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزيه
…
وأما ثالثا فإنا إذا تأملنا حقيقة البدعة دقت أو جلت وجدناها مخالفة للمكروه من المنهيات المخالفة التامة، وبيان ذلك من أوجه أحدها أن مرتكب المكروه إنما قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متكلا على العفو اللازم فيه ورفع الحرج الثابت في الشريعة فهو إلى الطمع رحمة الله أقرب وأيضا فليس عقده الإيماني بمتزحزح؛ لأنه يعتقد المكروه مكروها كما يعتقد الحرام حراما وإن ارتكبه فهو يخاف الله ويرجوه والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان، فكذلك مرتكب المكروه يرى أن الترك أولى في حقه من الفعل وأن نفسه الأمارة زينت له الدخول فيه، ويود لو لم يفعل وأيضا فلا يزال إذا تذكر منكسر القلب طامعا في الإقلاع سواء عليه أخذ في أسباب الإقلاع أم لا. ومرتكب أدنى البدع يكاد يكون على ضد هذه الأحوال