الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع العشرون: معرفة الْأَحْكَامِ مِنْ جِهَةِ إِفْرَادِهَا وَتَرْكِيبِهَا
وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ وَقَدِ انْتَدَبَ النَّاسُ لِتَأْلِيفِ إِعْرَابِ الْقُرْآنِ وَمِنْ أَوْضَحِهَا كِتَابُ الْحَوْفِيِّ وَمِنْ أَحْسَنِهَا كِتَابُ الْمُشْكِلُ وَكِتَابُ أَبِي الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيِّ وكتاب المنتخب الهمداني وَكِتَابُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ وَتَلَاهُمُ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ
قَالُوا: وَالْإِعْرَابُ يُبَيِّنُ الْمَعْنَى وَهُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ الْمَعَانِيَ وَيُوقِفُ عَلَى أَغْرَاضِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِكَ مَا أَحْسَنَ زَيْدًا وَلَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ وَكَذَلِكَ
فَرَّقُوا بِالْحَرَكَاتِ وَغَيْرِهَا بَيْنَ الْمَعَانِي فَقَالُوا مِفْتَحٌ للآلة التي يفتح بها ومفتح لموضع الفتح ومقص للآلة ومقص لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْقَصُّ وَيَقُولُونَ امْرَأَةٌ طَاهِرٌ مِنَ الْحَيْضِ لِأَنَّ الرَّجُلَ يُشَارِكُهَا فِي الطَّهَارَةِ.
وَعَلَى النَّاظِرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْكَاشِفِ عَنْ أَسْرَارِهِ النَّظَرُ فِي هَيْئَةِ الْكَلِمَةِ وَصِيغَتِهَا وَمَحَلِّهَا كَكَوْنِهَا مُبْتَدَأً أَوْ خَبَرًا أَوْ فَاعِلَةً أَوْ مَفْعُولَةً أَوْ فِي مَبَادِئِ الْكَلَامِ أَوْ فِي جَوَابٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَعْرِيفٍ أَوْ تَنْكِيرٍ أَوْ جَمْعِ قِلَّةٍ أَوْ كَثْرَةٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ
وَيَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَى مَا يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ مُفْرَدًا كَانَ أَوْ مُرَكَّبًا قَبْلَ الْإِعْرَابِ فَإِنَّهُ فَرْعُ الْمَعْنَى وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إِعْرَابُ فَوَاتِحِ السُّوَرِ إِذَا قُلْنَا بِأَنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَلِهَذَا قَالُوا فِي تَوْجِيهِ النَّصْبِ فِي كَلَالَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يورث كلالة} أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُرَادِ بِالْكَلَالَةِ هَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْمَيِّتِ أَوْ لِلْوَرَثَةِ أَوْ لِلْمَالِ فَإِنْ كَانَ اسْمًا لِلْمَيِّتِ فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحَالِ وَإِنَّ كَانَ تَامَّةٌ لَا خَبَرَ لَهَا بِمَعْنَى وَجَدَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً وَالْكَلَالَةُ خَبَرَهَا وَجَازَ أَنْ يُخْبِرَ عَنِ النَّكِرَةِ لِأَنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ بِقَوْلِهِ يُورَثُ وَالْأَوَّلُ أَوْجُهُ وَإِنْ كَانَتِ اسْمًا لِلْوَرَثَةِ فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُورَثُ لَكِنْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ ذا كلالة وعلى هذا فكان نَاقِصَةٌ وَيُورَثُ خَبَرٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَامَّةً فيورث صِفَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا فَتَكُونُ صِفَتُهُ وَإِنْ كَانَتِ اسْمًا لِلْمَالِ فَهِيَ مَفْعُولٌ ثَانٍ ليورث كَمَا تَقُولُ وَرَّثْتُ زَيْدًا مَالًا وَقِيلَ تَمْيِيزٌ وليس بشيء ومن جعل الكلالة الْوَارِثَةَ فَهِيَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ
مَحْذُوفٍ أَيْ وَارِثُهُ كَلَالَةً أَيْ يُورَثُ بِالْوِرَاثَةِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْكَلَالَةَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى قِرَاءَةِ: {يُورَثُ} بِفَتْحِ الرَّاءِ فَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: {يُورِثُ} بِكَسْرِهَا مُخَفَّفَةً أَوْ مُشَدَّدَةً فَالْكَلَالَةُ هِيَ الْوَرَثَةُ أَوِ الْمَالُ
وَمِنْ ذَلِكَ تُقَاةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} فِي نَصْبِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى تَفْسِيرِهَا فَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الِاتِّقَاءِ فَهِيَ مَصْدَرٌ كَقَوْلِهِ تعالى: {أنبتكم من الأرض نباتا} وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ أَمْرًا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ فَهِيَ نَصْبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ وَإِنْ كانت جمعا كرام ورماة فَهِيَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ
وَمِنْ ذَلِكَ إِعْرَابُ أحوى من قوله: {غثاء أحوى} وَفِيهِ قَوْلَانِ مُتَضَادَّانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَفَافِ وَالْيُبْسِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْأَسْوَدُ مِنْ شِدَّةِ الخضرة كما فسر: {مدهامتان} فعلى الأول هو صفة لغثاء وَعَلَى الثَّانِي هُوَ حَالٌ مِنَ الْمَرْعَى وَأُخِّرَ لِتَنَاسُبِ الْفَوَاصِلِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كفاتا أحياء وأمواتا} فَإِنَّهُ قِيلَ الْكِفَاتُ الْأَوْعِيَةُ وَمُفْرَدُهَا كَفْتٌ وَالْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ كِنَايَةٌ عَمَّا نَبَتَ وَمَا لَا يَنْبُتُ وَقِيلَ الْكُفَاتُ مَصْدَرُ كَفَتَهُ إِذَا ضَمَّهُ وَجَمَعَهُ فَعَلَى الْأَوَّلِ: {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} صِفَةٌ لِكِفَاتًا كَأَنَّهُ قِيلَ أَوْعِيَةٌ حَيَّةٌ وَمَيِّتَةٌ أَوْ حَالَانِ وَعَلَى الثَّانِي فَهُمَا مَفْعُولَانِ لِمَحْذُوفٍ وَدَلَّ عَلَيْهِ كِفَاتًا أَيْ يَجْمَعُ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {سَبْعًا من المثاني} فإنه إن كان المراد به القرآن فمن للتبعيض والقرآن حِينَئِذٍ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَإِنْ كانت الفاتحة فمن لِبَيَانِ الْجِنْسِ أَيْ سَبْعًا هِيَ الْمَثَانِي
تَنْبِيهٌ
قَدْ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ هَذَا تَفْسِيرُ معنى وهذا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّ تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُلَاحَظَةِ الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ وَتَفْسِيرُ الْمَعْنَى لَا يَضُرُّ مُخَالَفَةَ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} : تَقْدِيرُهُ مَثَلُكَ يَا مُحَمَّدُ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ وَاخْتَلَفَ الشَّارِحُونَ فِي فَهْمِ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ فَقِيلَ هُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى وَقِيلَ تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفَانِ حَذْفٌ مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ حَذْفُ دَاعِيهِمْ وَقَدْ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الثَّانِي وَحَذْفٌ مِنَ الثَّانِي وَهُوَ حَذْفُ الْمَنْعُوقِ وَقَدْ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الْأَوَّلِ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ
وَالثَّانِي: تَجَنُّبُ الْأَعَارِيبِ الْمَحْمُولَةِ عَلَى اللُّغَاتِ الشَّاذَّةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِالْأَفْصَحِ مِنْ لُغَةِ قُرَيْشٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ الْقُرْآنُ لَا يُعْمَلُ فِيهِ إِلَّا عَلَى مَا هُوَ فَاشٍ دَائِرٌ عَلَى أَلْسِنَةِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ دُونَ الشَّاذِّ النَّادِرِ الَّذِي لَا يُعْثَرُ عَلَيْهِ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ أَوْ مَوْضِعَيْنِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ غَلَطُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُعْرِبِينَ حِينَ جَعَلُوا مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الْجِوَارِ قوله تعالى: {وأرجلكم} فِي قِرَاءَةِ الْجَرِّ وَإِنَّمَا ذَلِكَ ضَرُورَةٌ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْفَصِيحُ وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِذَا أُمِنَ اللَّبْسُ وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجِيءُ مَعَ عَدَمِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَهُوَ هَاهُنَا مَوْجُودٌ وَأَيْضًا فَنَحْنُ فِي غِنْيَةٍ عَنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ إِنَّ الْعَرَبَ يَقْرُبُ عِنْدَهَا الْمَسْحُ مَعَ الْغُسْلِ لِأَنَّهُمَا أَسَاسُ الْمَاءِ فَلَمَّا تَقَارَبَا فِي الْمَعْنَى حَصَلَ الْعَطْفُ كَقَوْلِهِ:
* مُتَقَلِّدًا سيفا ورمحا *
وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْمُشَارَكَةُ فِي الْمَعْنَى حَسُنَ الْعَطْفُ وَإِلَّا امْتَنَعَ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ بَلْ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ بِأَحَدِ الْفِعْلَيْنِ عَنِ الْآخَرِ وَهَذَا بِخِلَافِ صَرْفِ مَا لَا يَنْصَرِفُ فِي قوله تعالى: {سلاسلا وأغلالا} فَإِنَّمَا أُجِيزَ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ رُدَّ إِلَى الْأَصْلِ وَالْعَطْفُ عَلَى الْجِوَارِ خُرُوجٌ عَنِ الْأَصْلِ فَافْتَرَقَا
الثَّالِثُ: تَجَنُّبُ لَفْظِ الزَّائِدِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوِ التَّكْرَارِ وَلَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ إِلَّا بِتَأْوِيلٍ كَقَوْلِهِمْ الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَنَحْوِهِ مُرَادُهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَخْتَلُّ مَعْنَاهُ بِحَذْفِهَا لَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ أَصْلًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحْتَمَلُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ فَضْلًا عَنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ
وَقَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ فِي الْمُعْتَمَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى جَوَازِ إِطْلَاقِ الزَّائِدِ فِي الْقُرْآنِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ الْقَوْمِ وَمُتَعَارَفِهِمْ وَهُوَ كَثِيرٌ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بِإِزَاءِ الْحَذْفِ هَذَا لِلِاخْتِصَارِ وَالتَّخْفِيفِ وَهَذَا لِلتَّوْكِيدِ وَالتَّوْطِئَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى الزِّيَادَةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ وَيَقُولُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْمَحْمُولَةُ عَلَى الزِّيَادَةِ جَاءَتْ لِفَوَائِدَ وَمَعَانٍ تَخُصُّهَا فَلَا أَقْضِي عَلَيْهَا بِالزِّيَادَةِ وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ دُرُسْتُوَيْهِ قَالَ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالزِّيَادَةِ إِثْبَاتُ مَعْنًى لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فَبَاطِلٌ لِأَنَّهُ عَبَثٌ فَتَعَيَّنَ أَنَّ إِلَيْنَا بِهِ حَاجَةً لَكِنَّ الْحَاجَاتِ إِلَى الْأَشْيَاءِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ فليست الحاجة إلى اللفظ الذي زيد عندها ولا زيادة كالحاجة إلى الألفاظ التي رأوها مزيدة عَلَيْهِ وَبِهِ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ
وَكَثِيرٌ مِنَ الْقُدَمَاءِ يُسَمُّونَ الزَّائِدَ صِلَةً وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ مُقْحَمًا وَيَقَعُ ذلك في عبارة مستوية
الرَّابِعُ: تُجَنُّبُ الْأَعَارِيبِ الَّتِي هِيَ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَالْمُنَافِيَةُ لِنَظْمِ الْكَلَامِ كَتَجْوِيزِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي {لِلْفُقَرَاءِ} في سورة الحشر أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: {وَلِذِي الْقُرْبَى} وَهَذَا فَصْلٌ كَبِيرٌ وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ إِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَرِيبُ بِقَرَابَتِهِ بَلْ لِكَوْنِهِ فَقِيرًا وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُهُ وَنَظِيرُهُ إعراب بعضهم {الذين ظلموا. . . . .} بَدَلًا مِنَ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ للناس حسابهم}
الْخَامِسُ: تَجَنُّبُ التَّقَادِيرِ الْبَعِيدَةِ وَالْمَجَازَاتِ الْمُعَقَّدَةِ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ جَمِيعُ مَا يُجَوِّزُهُ النُّحَاةُ فِي شعر امرئ القيس وغيره وأن نقول في نحو: {اغفر لنا} و: {اهدنا} فعلي دعاء أو سؤال ولا نقول فِعْلَيْ أَمْرٍ تَأَدُّبًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَلْزِمُ الْعُلُوَّ وَالِاسْتِعْلَاءَ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ
وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيُّ فِي الْبَصَائِرِ سَأَلْتُ السِّيرَافِيَّ عن قوله تعالى: {قائما بالقسط} بِمَ انْتَصَبَ قَالَ بِالْحَالِ قُلْتُ لِمَنِ الْحَالُ قَالَ لِلَّهِ تَعَالَى قُلْتُ فَيُقَالُ لِلَّهِ حَالٌ قَالَ إِنَّ الْحَالَ فِي اللَّفْظِ لَا لِمَنْ يُلْفَظُ بِالْحَالِ عَنْهُ وَلَكِنَّ التَّرْجَمَةَ لَا تَسْتَوْفِي حَقِيقَةَ الْمَعْنَى فِي النَّفْسِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَصُوغَ الْوَهْمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ صِيَاغَةً تَسْكُنُ إِلَيْهَا النَّفْسُ وَيَنْتَفِعُ بِهَا الْقَلْبُ ثُمَّ تَكُونُ حَقَائِقُ الْأَلْفَاظِ فِي مُفَادِهَا غَيْرَ مَعْلُومَةٍ وَلَا مَنْقُوضَةٍ بِاعْتِقَادٍ وَكَمَا أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى بُعْدٍ مِنَ اللَّفْظِ كَذَلِكَ الْحَقِيقَةُ عَلَى بُعْدٍ مِنَ الْوَهْمِ
السَّادِسُ: الْبَحْثُ عَنِ الْأَصْلِيِّ وَالزَّائِدِ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الذي بيده عقدة النكاح} فَإِنَّهُ قَدْ نَتَوَهَّمُ الْوَاوَ فِي الْأُولَى ضَمِيرَ الْجَمْعِ فَيُشْكِلُ ثُبُوتُ النُّونِ مَعَ أَنْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْوَاوُ هُنَا لَامُ الْكَلِمَةِ وَالنُّونُ ضَمِيرُ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ فَبَنَى الْفِعْلَ مَعَهَا عَلَى السُّكُونِ فَإِذَا وُصِلَ النَّاصِبُ أَوِ الْجَازِمُ لَا تُحْذَفُ النُّونُ وَمِثْلُهُ النِّسَاءُ يَرْجُونَ بِخِلَافِ الرِّجَالُ يَرْجُونَ فَإِنَّ الْوَاوَ فِيهِ ضَمِيرُ الْجَمْعِ وَالنُّونُ حِرَفُ عَلَامَةٍ لِلرَّفْعِ وَأَصْلُهُ يَرْجُوُونَ أُعِلَّتْ لَامُ الْكَلِمَةِ بِمَا يَقْتَضِيهِ التَّصْرِيفُ فَإِذَا دَخَلَ الْجَازِمُ حُذِفَ النُّونُ وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ فِيهِ اللَّفْظُ وَاخْتَلَفَ فِي التَّقْدِيرِ
وَكَذَلِكَ يُبْحَثُ عَمَّا تَقْتَضِيهِ الصِّنَاعَةُ فِي التَّقْدِيرِ وَلَا يُؤْخَذُ بِالظَّاهِرِ فَفِي نحو قوله تعالى: {لا مرحبا بهم} يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ: {مَرْحَبًا} نَصَبَ اسْمَ لَا وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ شَرْطَ عَمَلِهَا فِي الِاسْمِ أَلَّا يَكُونَ مَعْمُولًا لِغَيْرِهَا وَإِنَّمَا نُصِبَ بفعل مضمر يجب إضماره {لَا} دُعَاءٌ، وَ {بِهِمْ} بَيَانٌ لِلْمَدْعُوِّ عَلَيْهِمْ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ أَيْ لَا يَسْمَعُونَ مَرْحَبًا وَأَجَازَ فِي جُمْلَةِ:{لَا مَرْحَبًا} أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً وَأَنْ تَكُونَ حَالًا أَيْ هَذَا فَوْجٌ مَقُولًا لَهُ: {لَا مَرْحَبًا} وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَدَّرَ مَقُولًا فَمَقُولًا هُوَ الْحَالُ وَ: {لَا مَرْحَبًا} مَحْكِيَّةٌ بِالْقَوْلِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {واعلموا أن فيكم رسول الله} يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الظَّرْفَ قَبْلَهُ خَبَرُ أَنَّ عَلَى التَّقْدِيمِ وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
فِيهِمْ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّهُ لَوْ أَطَاعَكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَإِنَّمَا: {فِيكُمْ} حَالٌ وَالْمَعْنَى وَاعْلَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ فِيكُمْ لَوْ أَطَاعَكُمْ لَكَانَ كَذَا
وَمِنْهُ قوله تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا} وقوله: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} فَإِنَّ الْجَوَابَ وَقَعَ فِيهِمَا بَعْدَ النَّفْيِ مَقْرُونًا بِالْفَاءِ وَفِي الْأُولَى حُذِفَتِ النُّونُ وَفِي الثَّانِيَةِ أَثْبَتَهَا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَجَوَابُهُ أَنَّ حَذْفَ النون جوابا للنفي هو على أحد معنى نَصْبٍ مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا أَيْ مَا يَكُونُ إِتْيَانٌ وَلَا حَدِيثٌ وَالْمَعْنَى الثَّانِي إِثْبَاتُ الْإِتْيَانِ وَنَفْيُ الْحَدِيثِ أَيْ مَا تَأْتِينَا مُحَدِّثًا أَيْ تَأْتِينَا غَيْرَ مُحَدِّثٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْآيَةِ وَأَمَّا إِثْبَاتُ النُّونِ فَعَلَى الْعَطْفِ
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نتبعه} وقوله: {أبشر يهدوننا} حَيْثُ انْتَصَبَ بَشَرًا فِي الْأَوَّلِ وَارْتَفَعَ فِي الثَّانِي فَيُقَالُ مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ نَصْبَ بَشَرًا عَلَى الِاشْتِغَالِ وَالشَّاغِلُ لِلْعَامِلِ مَنْصُوبٌ فَصَحَّ لِعَامِلِهِ أَنْ يُفَسِّرَ نَاصِبًا وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَالشَّاغِلُ مَرْفُوعٌ مُفَسِّرٌ رَافِعًا وَهَذَا كَمَا تَقُولُ أَزَيْدٌ قَامَ؟ فَزَيْدٌ مَرْفُوعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ لطلب أداء الْفِعْلِ فَهَذَا فِي الِاشْتِغَالِ وَالشَّاغِلُ مَرْفُوعٌ وَتَقُولُ فِيمَا الشَّاغِلُ فِيهِ مَنْصُوبٌ أَزَيْدًا ضَرَبْتَهُ؟
وَقَرِيبٌ مِنْهُ إِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ عَلَى نَصْبِ قَلِيلٍ فِي: {فشربوا منه إلا قليلا} اختلفوا في: {ما فعلوه إلا قليل} وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ: {قَلِيلًا} الْأَوَّلُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُوجَبٍ وَالثَّانِي اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَنْفِيٍّ
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَجْمَعُوا عَلَى النَّصْبِ فِي: {فلا يؤمنون إلا قليلا} مَعَ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ مُوجَبٍ؟ قِيلَ لِأَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ وَهُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ فَالتَّقْدِيرُ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا
وَمِثْلُهُ: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} فِي سُورَةِ الحديد قَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ بِرَفْعِ: {كَلٍّ} وَوَافَقَ الْجَمَاعَةَ على النصب في النساء وَالْفَرْقُ أَنَّ الَّذِي فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ شُغِلَ الْخَبَرُ بِهَاءٍ مُضْمَرَةٍ وَلَيْسَ قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ فَيُخْتَارُ لِأَجْلِهَا النَّصْبُ فَرُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَأَمَّا الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فَإِنَّمَا اخْتِيرَ فِيهَا النَّصْبُ لِأَنَّ قَبْلَهُ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ وَهِيَ قوله: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ}
تَنْبِيهٌ
قَدْ يَتَجَاذَبُ الْإِعْرَابُ وَالْمَعْنَى الشَّيْءَ الْوَاحِدَ وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ يُلِمُّ بِهِ كَثِيرًا وَذَلِكَ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ أَنَّ الْمَعْنَى يَدْعُو إِلَى أَمْرٍ وَالْإِعْرَابَ يمنع منه قالوا والتمسك بصحة المعنى يؤول لِصِحَّةِ الْإِعْرَابِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ عَلَى رجعه لقادر يوم تبلى السرائر} فَالظَّرْفُ الَّذِي هُوَ {يَوْمٌ} يَقْتَضِي الْمَعْنَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ رَجْعٌ أَيْ أَنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَقَادِرٌ لَكِنَّ الْإِعْرَابَ يَمْنَعُ مِنْهُ لِعَدَمِ جَوَازِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ بِأَجْنَبِيٍّ يُجْعَلُ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلًا مُقَدَّرًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ
وَكَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تدعون إلى الأيمان فتكفرون} فَالْمَعْنَى يَقْتَضِي تَعَلُّقَ إِذْ بِالْمَقْتِ وَالْإِعْرَابُ يَمْنَعُهُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ بِالْخَبَرِ فَيُقَدَّرُ لَهُ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقْتُ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ إن ربهم بهم يومئذ لخبير} فالمعنى أن العامل في إذا خبير والإعراب يمنعه لأن ما بعد إِنَّ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا فَاقْتَضَى أَنْ يُقَدَّرَ لَهُ الْعَامِلُ
تَنْبِيهٌ
عَلَى النَّحْوِيِّ بَيَانُ مَرَاتِبِ الْكَلَامِ فَإِنَّ مَرْتَبَةَ الْعُمْدَةِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ الْفَضْلَةِ وَمَرْتَبَةَ الْمُبْتَدَأِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ الْخَبَرِ وَمَرْتَبَةَ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ وَإِنْ كَانَا فَضْلَتَيْنِ وَمَرْتَبَةَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَإِذَا اتَّصَلَ الضَّمِيرُ بِمَا مَرْتَبَتُهُ التَّقْدِيمُ وَهُوَ يَعُودُ عَلَى مَا مَرْتَبَتُهُ التَّأْخِيرُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا لَفْظًا وَمَرْتَبَةً وَإِذَا اتَّصَلَ الضَّمِيرُ بِمَا مَرْتَبَتُهُ التَّأْخِيرُ وَهُوَ يَعُودُ عَلَى مَا مَرْتَبَتُهُ التَّقْدِيمُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُقَدَّمًا لَفْظًا مُؤَخَّرًا رُتْبَةً فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ فِي دَارِهِ زَيْدٌ لِاتِّصَالِ الضَّمِيرِ بِالْخَبَرِ وَمَرْتَبَتُهُ التَّأْخِيرُ وَلَا يَجُوزُ صَاحِبُهَا فِي الدَّارِ لِاتِّصَالِ الضَّمِيرِ بِالْمُبْتَدَأِ وَمَرْتَبَتُهُ التقديم