المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع الثامن والعشرون: هل في القرآن شيء أفضل من شيء - البرهان في علوم القرآن - جـ ١

[بدر الدين الزركشي]

فهرس الكتاب

- ‌1 - بَدْر الدِّينِ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن بهادر الزركشي

- ‌2 - مؤلفاته

- ‌3 - كتاب البرهان

- ‌4 - نسخ الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌النَّوْعُ الْأَوَّلُ:مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ النُّزُولِ

- ‌النَّوْعُ الثَّانِي: مَعْرِفَةُ الْمُنَاسَبَاتِ بَيْنَ الْآيَاتِ

- ‌النوع الثالث: معرفة الفواصل ورؤوس الآي

- ‌النوع الرابع: في جَمْعُ الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ

- ‌النوع الخامس: علم المتشابه

- ‌النَّوْعُ السَّادِسُ: عَلَمُ الْمُبْهَمَاتِ

- ‌النَّوْعُ السَّابِعُ: فِي أَسْرَارِ الْفَوَاتِحِ وَالسُّوَرِ

- ‌النَّوْعُ الثَّامِنُ: فِي خَوَاتِمِ السُّوَرِ

- ‌النَّوْعُ التَّاسِعُ: مَعْرِفَةُ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ

- ‌النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ عَلَى كَمْ لُغَةٍ نَزَلَ

- ‌النَّوْعُ الثَّانِي عَشَرَ: فِي كَيْفِيَّةِ إِنْزَالِهِ

- ‌النوع الثاث عَشَرَ: فِي بَيَانِ جَمْعِهِ وَمَنْ حَفِظَهُ مِنَ الصحابة رضي الله عنهم

- ‌النَّوْعُ الرَّابِعَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ تَقْسِيمِهِ بِحَسَبِ سُوَرِهِ وترتيب السور والآيات وعددها

- ‌النوع الخامس عشر: معرفة أسمائه واشتقاقاتها

- ‌النوع السَّادِسَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ

- ‌النوع السَّابِعَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ مَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ

- ‌النَّوْعُ الثَّامِنَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ غَرِيبِهِ

- ‌النَّوْعُ التَّاسِعَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ التَّصْرِيفِ

- ‌النوع العشرون: معرفة الْأَحْكَامِ مِنْ جِهَةِ إِفْرَادِهَا وَتَرْكِيبِهَا

- ‌النوع الحادي والعشرون: مَعْرِفَةُ كَوْنِ اللَّفْظِ وَالتَّرْكِيبِ أَحْسَنَ وَأَفْصَحَ

- ‌النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ تَوْجِيهِ الْقِرَاءَاتِ وَتَبْيِينُ وَجْهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كُلُّ قَارِئٍ

- ‌النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ

- ‌النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: عِلْمُ مَرْسُومِ الْخَطِّ

- ‌النَّوْعُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ فَضَائِلِهِ

- ‌النوع السابع والعشرون: معرفة خواصيه

- ‌النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: هَلْ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ شَيْءٍ

- ‌النوع التاسع والعشرون: في آداب تلاوتها وكيفيتها

- ‌النَّوْعُ الثَّلَاثُونَ: فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ فِي التَّصَانِيفِ وَالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ اسْتِعْمَالُ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ

- ‌النَّوْعُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الْأَمْثَالِ الْكَائِنَةِ فِيهِ

الفصل: ‌النوع الثامن والعشرون: هل في القرآن شيء أفضل من شيء

‌النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: هَلْ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ شَيْءٍ

وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِبَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ الْكُلَّ كَلَامُ اللَّهِ وَكَذَلِكَ أَسْمَاؤُهُ تَعَالَى لَا تَفَاضُلَ بَيْنَهُمَا وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى تَفْضِيلُ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ خَطَأٌ وَكَذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ تُعَادَ سُورَةٌ أَوْ تُرَدَّدُ دُونَ غَيْرِهَا احْتَجُّوا بِأَنَّ الْأَفْضَلَ يُشْعِرُ بِنَقْصِ الْمَفْضُولِ وَكَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ لَا نَقْصَ فِيهِ

قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه ما أنزل الله في التوارة وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلَ أُمِّ الْقُرْآنِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعْطِي لِقَارِئِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الثَّوَابِ مِثْلَ مَا يُعْطِي لِقَارِئِ أُمِّ الْقُرْآنِ إِذِ اللَّهُ بِفَضْلِهِ فَضَّلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ وَأَعْطَاهَا مِنَ الْفَضْلِ عَلَى قِرَاءَةِ كَلَامِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى غَيْرَهَا مِنَ الْفَضْلِ عَلَى قِرَاءَةِ كَلَامِهِ قَالَ وَقَوْلُهُ أَعْظَمُ سُورَةٍ أَرَادَ بِهِ فِي الْأَجْرِ لَا أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ

وَقَالَ قَوْمٌ بِالتَّفْضِيلِ لِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْفَضْلُ رَاجِعٌ إِلَى عِظَمِ الْأَجْرِ وَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ بِحَسْبِ انْفِعَالَاتِ النَّفْسِ وَخَشْيَتِهَا وَتَدَبُّرِهَا وَتَفَكُّرِهَا عِنْدَ وُرُودِ أَوْصَافِ الْعُلَا وَقِيلَ بَلْ يَرْجِعُ لِذَاتِ اللَّفْظِ وَأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرحيم} وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ وَآخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ مِنَ الدَّلَالَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ لَيْسَ مَوْجُودًا مثلا في {تبت يدا

ص: 438

أبي لهب وتب} وَمَا كَانَ مِثْلَهَا فَالتَّفْضِيلُ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَعَانِي الْعَجِيبَةِ وَكَثْرَتِهَا لَا مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ

وَمِمَّنْ قَالَ بِالتَّفْضِيلِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ

وَتَوَسَّطَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فَقَالَ: كَلَامُ اللَّهِ فِي اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فِي غَيْرِهِ، فَـ {قُلْ هو الله أحد} أفضل من {تبت يدا أبي لهب وتب} وَعَلَى ذَلِكَ بَنَى الْغَزَالِيُّ كِتَابَهُ الْمُسَمَّى بِجَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ:"إِنِّي لَأُعَلِّمُكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَلِحَدِيثِ أُبَّيِ بْنِ كَعْبٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ يَا أُبَيُّ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ قَالَ قُلْتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قَالَ فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: "لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ"

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ

وَفِي التِّرْمِذِيِّ غَرِيبًا عَنْهُ مَرْفُوعًا: "لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامٌ وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ فِيهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ"

وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ "فِيهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَهَى سَنَامُ آيِ الْقُرْآنِ وَلَا تُقْرَأُ فِي دَارٍ فِيهَا شَيْطَانٌ إِلَّا خَرَجَ مِنْهَا" وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا قَبْلَهُ بِأَفْضَلِيَّةِ الْفَاتِحَةِ لِأَنَّ تِلْكَ بِاعْتِبَارِ السُّوَرِ وَهَذِهِ بِاعْتِبَارِ الْآيَاتِ

وَقَالَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ الْخُوَيِّيُّ كَلَامُ الله أَبْلَغُ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَهَلْ يَجُوزُ

ص: 439

أَنْ يُقَالَ بَعْضُ كَلَامِهِ أَبْلَغُ مِنْ بَعْضٍ؟ جَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ لِقُصُورِ نَظَرِهِمْ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ هَذَا الْكَلَامُ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ لَهُ حُسْنٌ وَلُطْفٌ وَذَاكَ فِي مَوْضِعِهِ لَهُ حُسْنٌ وَلُطْفٌ وَهَذَا الْحَسَنُ فِي مَوْضِعِهِ أَكْمَلُ مِنْ ذَاكَ فِي مَوْضِعِهِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ إن {قل هو الله أحد} أبلغ من {تبت يدا أبي لهب وتب} يَجْعَلُ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ وَذِكْرِ أَبِي لَهَبٍ وَبَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالدُّعَاءِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: {تَبَّتْ يدا أبي لهب وتب} دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْخُسْرَانِ فَهَلْ تُوجَدُ عِبَارَةٌ لِلدُّعَاءِ بِالْخُسْرَانِ أَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ وَكَذَلِكَ فِي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لَا تُوجَدُ عِبَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ أَبْلَغُ مِنْهَا فَالْعَالِمُ إِذَا نَظَرَ إِلَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} فِي بَابِ الدُّعَاءِ وَالْخُسْرَانِ وَنَظَرَ إِلَى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فِي بَابِ التَّوْحِيدِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا أَبْلَغُ مِنَ الْآخَرِ وَهَذَا الْقَيْدُ يَغْفُلُ عَنْهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ عِلْمُ الْبَيَانِ

قُلْتُ: وَلَعَلَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَلْفِتُ عَنِ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ إِنَّ كلام الله شيء واحد أولا عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَا يَتَنَوَّعُ فِي ذَاتِهِ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وأخر متشابهات} فَجَعَلَهُ شَيْئَيْنِ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ بِعَدَمِهِ وَأَنَّهُ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ

قُلْنَا: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ لَا مَزِيَّةَ لِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ قَوْلُنَا: شَيْءٍ مِنْهُ يُوهِمُ التَّبْعِيضَ وَلَيْسَ لِكَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ بَعْضٌ وَلَكِنْ بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّفْسِيرِ وَفَهْمِ السَّامِعِينَ اشْتَمَلَ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُخَاطَبَاتِ وَلَوْلَا تَنَزُّلُهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِعِ لَمَا وَصَلْنَا إِلَى فَهْمِ شَيْءٍ مِنْهُ

ص: 440

وقال الحليمي قد ذكرنا أخبار تدل على جوار الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نأت بخير منها أو مثلها} وَمَعْنَى ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى أَشْيَاءَ:

أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ آيَتَا عَمَلٍ ثَابِتَتَانِ فِي التِّلَاوَةِ إِلَّا أَنَّ إِحْدَاهُمَا مَنْسُوخَةٌ وَالْأُخْرَى نَاسِخَةٌ فَنَقُولُ إِنَّ النَّاسِخَ خَيْرٌ أَيْ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا أَوْلَى بِالنَّاسِ وَأَعْوَدُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ آيَاتُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ خَيْرٌ مِنْ آيَاتِ الْقَصَصِ لِأَنَّ الْقَصَصَ إِنَّمَا أُرِيدَ بِهَا تَأْكِيدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّبْشِيرِ وَلَا غِنَى بِالنَّاسِ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَقَدْ يَسْتَغْنُونَ عَنِ الْقَصَصِ فَكُلُّ مَا هُوَ أَعْوَدُ عَلَيْهِمْ وَأَنْفَعُ لَهُمْ مِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَحْصُلُ تَبَعًا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ

وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْآيَاتِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى تَعْدِيدِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَانِ صِفَاتِهِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى عَظْمَتِهِ وَقُدْسِيَّتِهِ أَفْضَلُ أَوْ خَيْرٌ بِمَعْنَى أَنَّ مُخْبَرَاتِهَا أَسْنَى وَأَجَلُّ قَدْرًا

وَالثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: سُورَةٌ خَيْرٌ مِنْ سُورَةٍ أَوْ آيَةٌ خَيْرٌ مِنْ آيَةٍ بِمَعْنَى أَنَّ الْقَارِئَ يَتَعَجَّلُ بِقِرَاءَتِهَا فَائِدَةً سِوَى الثَّوَابِ الْآجِلِ وَيَتَأَدَّى مِنْهُ بِتِلَاوَتِهَا عِبَادَةٌ كَقِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ فَإِنَّ قَارِئَهَا يَتَعَجَّلُ بِقِرَاءَتِهَا الِاحْتِرَازَ مِمَّا يَخْشَى وَالِاعْتِصَامَ بِاللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَيَتَأَدَّى بِتِلَاوَتِهَا مِنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادَةً لِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى جَدُّهُ بِالصِّفَاتِ الْعُلَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِقَادِ لَهَا وَسُكُونِ النَّفْسِ إِلَى فَضْلِ الذِّكْرِ وَبَرَكَتِهِ فَأَمَّا آيَاتُ الْحِكَمِ فَلَا يَقَعُ بِنَفْسِ تِلَاوَتِهَا إِقَامَةُ حُكْمٍ وَإِنَّمَا يَقَعُ بِهَا علم

قَالَ: ثُمَّ لَوْ قِيلَ فِي الْجُمْلَةِ: إِنَّ الْقُرْآنَ خَيْرٌ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ بِمَعْنَى أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالتِّلَاوَةِ وَالْعَمَلِ وَاقِعٌ بِهِ دُونَهَا والثواب بحسب بِقِرَاءَتِهِ لَا بِقِرَاءَتِهَا أَوْ أَنَّهُ مِنْ

ص: 441

حَيْثُ الْإِعْجَازُ حُجَّةُ النَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ وَتِلْكَ الْكُتُبُ لَمْ تَكُنْ مُعْجِزَةً وَلَا كَانَتْ حُجَجَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمْ وَالْحُجَجُ غَيْرَهَا وَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا نَظِيرَ مَا مَضَى

وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ سُورَةً أَفْضَلُ مِنْ سُورَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اعْتَدَّ قِرَاءَتَهَا كَقِرَاءَةِ أَضْعَافِهَا مِمَّا سِوَاهَا وَأَوْجَبَ بِهَا مِنَ الثَّوَابِ مَا لَمْ يُوجِبْ بِغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ بَلَغَ بِهَا هَذَا الْمِقْدَارَ لَا يَظْهَرُ لَنَا كَمَا يقال إن قوما أفضل من قوم وَشَهْرًا أَفْضَلُ مِنْ شَهْرٍ بِمَعْنَى أَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ تَفْضُلُ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِهِ وَالذَّنَبَ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنَ الذَّنْبِ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ وَكَمَا يُقَالُ إِنَّ الْحَرَمَ أَفْضَلُ مِنَ الْحِلِّ لأنه يتأدى فيه من المناسك مالا يَتَأَدَّى فِي غَيْرِهِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ تَكُونُ كَصَلَاةٍ مُضَاعَفَةٍ مِمَّا تُقَامُ فِي غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

فصل: في أعظمية آية الكرسي

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا صَارَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ أَعْظَمَ لِعِظَمِ مُقْتَضَاهَا فَإِنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَشْرُفُ بِشَرَفِ ذَاتِهِ وَمُقْتَضَاهُ وَمُتَعَلَّقَاتِهِ وَهَى فِي آيِ الْقُرْآنِ كَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فِي سُوَرِهِ إِلَّا أَنَّ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ تَفْضُلُهَا بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا سُورَةٌ وَهَذِهِ آيَةٌ فَالسُّورَةُ أَعْظَمُ مِنَ الْآيَةِ لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّحَدِّي بِهَا فَهِيَ أَفْضَلُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي لَمْ يُتَحَدَّ بِهَا

وَالثَّانِي: أَنَّ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ اقْتَضَتِ التَّوْحِيدَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ حَرْفًا وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ اقْتَضَتِ التَّوْحِيدَ فِي خَمْسِينَ حَرْفًا فَظَهَرَتِ الْقُدْرَةُ فِي الْإِعْجَازِ بِوَضْعِ مَعْنًى مُعَبَّرٍ عَنْهُ مَكْتُوبٍ مَدَدُهُ السَّبْعَةُ الْأَبْحُرِ لَا يَنْفَدُ عَدَدُ حُرُوفِهِ خَمْسُونَ كَلِمَةً ثُمَّ يُعَبَّرُ عَنْ مَعْنَى الْخَمْسِينَ كَلِمَةً خَمْسَةَ عَشَرَ كَلِمَةً وَذَلِكَ كُلُّهُ بَيَانٌ لِعِظَمِ الْقُدْرَةِ وَالِانْفِرَادِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُنَيِّرِ الْمَالِكِيُّ كَانَ جَدِّي رحمه الله يَقُولُ اشْتَمَلَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ عَلَى مَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ

ص: 442

موضعا فيها اسم الله ظَاهِرًا فِي بَعْضِهَا وَمُسْتَكِنًّا فِي بَعْضٍ وَيَظْهَرُ لِلْكَثِيرِ مِنَ الْعَادِّينَ فِيهَا سِتَّةَ عَشَرَ إِلَّا على حَادِّ الْبَصِيرَةِ لِدِقَّةِ اسْتِخْرَاجِهِ 1 اللَّهُ 2 هُوَ 3 الْحَيُّ 4 الْقَيُّومُ 5 ضَمِيرُ لَا تَأْخُذُهُ 6 ضَمِيرُ لَهُ 7 ضَمِيرُ عِنْدَهُ 8 ضَمِيرُ إِلَّا بِإِذْنِهِ 9 ضَمِيرُ يَعْلَمُ 10 ضَمِيرُ عِلْمِهِ 11 ضَمِيرُ شَاءَ 12 ضَمِيرُ كُرْسِيُّهُ 13 ضَمِيرُ يَؤُودُهُ 14 وَهُوَ 15 الْعَلِيُّ 16 الْعَظِيمُ فَهَذِهِ عِدَّةُ الْأَسْمَاءِ

وَأَمَّا الْخَفِيُّ فِي الضَّمِيرِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ فِي قَوْلِهِ حِفْظُهُمَا فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ الضَّمِيرُ الْبَارِزُ وَلَا بُدَّ لَهُ من فاعل وهو والله وَيَظْهَرُ عِنْدَ فَكِّ الْمَصْدَرِ فَتَقُولُ وَلَا يَؤُودُهُ أَنْ يَحْفَظَهُمَا هُوَ

قَالَ وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو عبد الله محمد بن الْفَضْلِ الْمُرْسِيُّ قَدْ رَامَ الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ لَمَّا أَخْبَرْتُهُ عَنِ الْجَدِّ فَقَالَ يُمْكِنُ أَنْ تُعَدَّ مَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْأَسْمَاءِ المشتقة كل واحد مِنْهَا بِاثْنَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَحْمِلُ ضَمِيرًا ضَرُورَةَ كَوْنِهِ مُشْتَقًّا وَذَلِكَ الضَّمِيرُ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِهَا اسْمٌ وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى آخَرَ مُضْمَرٍ فَتَكُونُ جُمْلَةُ الْعَدَدِ عَلَى هَذَا أَحَدًا وَعِشْرِينَ اسْمًا فَأَجْرَيْتُ مَعَهُ وَجْهًا لَطِيفًا وَهُوَ أَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَقَّ لَا يَحْتَمِلُ الضَّمِيرَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَمًا عَلَى الْأَصَحِّ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ وَلَوْ فَرَضْنَاهَا مُحْتَمِلَةً لِلضَّمَائِرِ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ فَالْمُشْتَقُّ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَوْصُوفِهِ بِاعْتِبَارِ تَحَمُّلِهِ ضَمِيرَهُ أَلَا تَرَاكَ إذا قلت زيد كريم إذا وَجَدْتُ كَرِيمًا إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى زَيْدٍ لِأَنَّ فِيهِ ضَمِيرَهُ حَتَّى لَوْ جَرَّدْتَ النَّظَرَ إِلَيْهِ لَمْ تَجِدْهُ مُخْتَصًّا بِزَيْدٍ بَلْ لَكَ أَنْ تُوقِعَهُ عَلَى كُلِّ مَوْصُوفٍ بِالْكَرَمِ مِنَ النَّاسِ وَلَا تَجِدُهُ مُخْتَصًّا بِزَيْدٍ إِلَّا بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى ضَمِيرِهِ فَلَيْسَ الْمُشْتَقُّ إِذًا مُسْتَقِلًّا بِوُقُوعِهِ عَلَى مَوْصُوفِهِ إِلَّا بِضَمِيمَةِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ فَلَا يمكن أن تجعله لَهُ حُكْمُ الِانْفِرَادِ عَنِ الضَّمِيرِ مَعَ الْحُكْمِ بِرُجُوعِهِ إِلَى مُعَيَّنٍ أَلْبَتَّةَ قَالَ فَرَضِيَ عَنْ هَذَا الْبَحْثِ وَصَوَّبَهُ

ص: 443

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس " إِنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ صِحَّتُهُ بِالِاعْتِرَافِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَهُوَ مُقَرَّرٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ فَجُعِلَتْ قَلْبَ الْقُرْآنِ لِذَلِكَ وَاسْتَحْسَنَهُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ

قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: سَمِعْتُهُ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذَا الْكَلَامِ

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه آلُ حم دِيبَاجُ الْقُرْآنِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِكُلِّ شَيْءٍ لُبَابٌ وَلُبَابُ الْقُرْآنِ آلُ حم أَوْ قَالَ الحواميم

وقال مسعر بن كدام كان يقال لَهُنَّ الْعَرَائِسُ

رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ

وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ إِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ انْطَلَقَ يَرْتَادُ لِأَهْلِهِ مَنْزِلًا فَمَرَّ بِأَثَرِ غَيْثٍ فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ فِيهِ وَيَتَعَجَّبُ مِنْهُ إِذْ هَبَطَ عَلَى رَوْضَاتٍ دَمِثَاتٍ فَقَالَ عَجِبْتُ مِنَ الْغَيْثِ الْأَوَّلِ فَهَذَا أَعْجَبُ وَأَعْجَبُ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ مَثَلَ الْغَيْثِ الْأَوَّلِ مَثَلُ عُظْمِ الْقُرْآنِ وَإِنَّ مَثَلَ هَذِهِ الرَّوْضَاتِ الدَّمِثَاتِ مَثَلُ آلِ حم فِي الْقُرْآنِ أَوْرَدَهُ الْبَغَوِيُّ

وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ كَرَاهَةَ أَنْ يُقَالَ الْحَوَامِيمُ وَإِنَّمَا يُقَالُ آلُ حم

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتَ قَالَ: "شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ" خَصَّ هَذِهِ السُّوَرَ بِالشَّيْبِ لِأَنَّهُنَّ أَجْمَعُ لِكَيْفِيَّةِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا

ص: 444

مِنْ غَيْرِهِنَّ وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرَى الْقِيَامَةَ رَأَيَ الْعَيْنِ فليقرأ: {إذا الشمس كورت}

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: "إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ وقل يأيها الْكَافِرُونَ تَعْدِلُ رُبُعَهُ " وَقَالَ: فِي كُلٍّ مِنْهُمَا غَرِيبٌ

وَقَدْ تَكَلَّمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى حديث: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ" وَحَكَى خِلَافَ النَّاسِ فِيهِ فَقِيلَ لِأَنَّهُ سَمِعَ شَخْصًا يُكَرِّرُهَا تَكْرَارَ مَنْ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَخَرَجَ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا

وَفِيهِ بُعْدٌ عَنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ

قِيلَ: لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى قَصَصٍ وَشَرَائِعَ وَصِفَاتٍ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كُلُّهَا صِفَاتٌ فَكَانَتْ ثُلُثًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَاعْتَرَضَ عَلَى ذَلِكَ بِاسْتِلْزَامِ كَوْنِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآخِرِ الْحَشْرِ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ

وَقِيلَ تعدل في الثواب وهو الذي يشهد لظاهر الْحَدِيثِ

قُلْتُ: ضَعَّفَ ابْنُ عَقِيلٍ هَذَا وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَلَهُ أَجْرُ ثُلُثِ الْقُرْآنِ

لِقَوْلِهِ: صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ"

ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى أَنِّي أَقُولُ السُّكُوتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْكَلَامِ فِيهَا وَأَسْلَمُ ثُمَّ أَسْنَدَ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ" مَا وَجْهُهُ فَلَمْ يَقُمْ لِي فِيهَا عَلَى أَمْرٍ وَقَالَ لِي إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا فَضَّلَ كَلَامَهُ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ جَعَلَ لِبَعْضِهِ أَيْضًا فَضْلًا

ص: 445

فِي الثَّوَابِ لِمَنْ قَرَأَهُ تَحْرِيضًا عَلَى تَعَلُّمِهِ لَا أَنَّ مَنْ قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ وَلَوْ قَرَأَهَا مِائَتَيْ مرة

قال أبو عمرو وَهَذَانِ إِمَامَانِ بِالسُّنَّةِ مَا قَامَا وَلَا قَعَدَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ

قُلْتُ: وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ إِنَّ الْقُرْآنَ قِسْمَانِ: خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ وَالْخَبَرُ قِسْمَانِ خَبَرٌ عَنِ الْخَالِقِ وَخَبَرٌ عَنِ الْمَخْلُوقِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ أَخْلَصَتِ الْخَبَرَ عَنِ الْخَالِقِ فَهِيَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ثُلُثُ الْقُرْآنِ

فَائِدَةٌ: في أي آية في القرآن أرجى

اخْتُلِفَ فِي أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا:

الْأَوَّلُ: آيَةُ الدَّيْنِ وَمَأْخَذُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْشَدَ عِبَادَهُ إِلَى مَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ حَتَّى انْتَهَتِ الْعِنَايَةُ بِمَصَالِحِهِمْ إِلَى أَنْ أَمَرَهُمْ بِكِتَابَةِ الدَّيْنِ الْكَبِيرِ وَالْحَقِيرِ فَبِمُقْتَضَى ذَلِكَ يُرْجَى عَفْوُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ لِظُهُورِ أَمْرِ الْعِنَايَةِ الْعَظِيمَةِ بِهِمْ حَتَّى فِي مَصْلَحَتِهِمُ الْحَقِيرَةِ

الثَّانِي: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لكم} وَهَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ إِثْرَ حَدِيثِ الْإِفْكِ عَنِ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ

الثَّالِثُ: قَالَ الشِّبْلِيُّ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قد

ص: 446

سلف}

فالله تعالى لما أذن الكافرين بدخول الباكل إِذَا أَتَوْا بِالتَّوْحِيدِ وَالشَّهَادَةِ أَتَرَاهُ يُخْرِجُ الدَّاخِلَ فِيهَا وَالْمُقِيمَ عَلَيْهَا

الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهَلْ نجازي إلا الكفور}

الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العذاب على من كذب وتولى}

السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}

السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شاكلته}

الثَّامِنُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}

حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْخَمْسَةَ الْأَخِيرَةَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ فِي رُءُوسِ الْمَسَائِلِ

التَّاسِعُ: رَأَيْتُ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ لِلْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيِّ صَاحِبِ الْحَاكِمِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ: سَأَلَتُ الشَّافِعِيَّ: أَيُّ آيَةٍ أَرْجَى؟ قَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذا متربة} قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ أَرْجَى حَدِيثٍ لِلْمُؤْمِنِ؟ قَالَ: حَدِيثُ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُدْفَعُ إِلَى كُلٍّ مُسْلِمٍ رَجُلٌ مِنَ الْكُفَّارِ فَيَذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ"

الْعَاشِرُ: وَالْحَادِي عَشَرَ: رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ الْتَقَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَرْجَى عِنْدَكَ فَقَالَ عَبْدُ الله بن عمرو: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} قال

ص: 447

لَكِنْ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بلى ولكن ليطمئن قلبي} هَذَا لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فرضي الله تعالى من إبراهيم بقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ

وَقَالَ النَّحَّاسُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: {فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} فَقَالَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}

وَأَمَّا أَخْوَفُ آيَةٍ فَعَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ التي أعدت للكافرين} ولو قيل إنها {سنفرغ لكم أيها الثقلان} لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ سَمِعْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ خَفِيرِ الْحَارَةِ لَمْ أنم

ص: 448