الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ تَوْجِيهِ الْقِرَاءَاتِ وَتَبْيِينُ وَجْهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كُلُّ قَارِئٍ
وَهُوَ فَنٌّ جَلِيلٌ وَبِهِ تُعْرَفُ جَلَالَةُ الْمَعَانِي وَجَزَالَتُهَا وَقَدِ اعْتَنَى الْأَئِمَّةُ بِهِ وَأَفْرَدُوا فِيهِ كُتُبًا مِنْهَا كِتَابُ الْحُجَّةِ لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَكِتَابُ الْكَشْفِ لِمَكِّيٍّ وَكِتَابُ الْهِدَايَةِ لِلْمَهْدَوِيِّ وَكُلٌّ مِنْهَا قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى فَوَائِدَ وَقَدْ صَنَّفُوا أَيْضًا فِي تَوْجِيهِ الْقِرَاءَاتِ الشَّوَاذِّ وَمِنْ أَحْسَنِهَا كِتَابُ الْمُحْتَسِبِ لِابْنِ جِنِّي وَكِتَابُ أَبِي الْبَقَاءِ وَغَيْرِهِمَا
وَفَائِدَتُهُ كَمَا قَالَ الْكَوَاشِيُّ: أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى حَسَبِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ أَوْ مُرَجِّحًا إِلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تُرَجَّحُ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى تَرْجِيحًا يَكَادُ يُسْقِطُ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى وَهَذَا غَيْرُ مَرْضِيٍّ لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا مُتَوَاتِرَةٌ وَقَدْ حَكَى أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ فِي كِتَابِ الْيَوَاقِيتِ عَنْ ثَعْلَبَ أَنَّهُ قَالَ إِذَا اخْتَلَفَ الْإِعْرَابُ فِي الْقُرْآنِ عَنِ السَّبْعَةِ لَمْ أُفَضِّلْ إِعْرَابًا عَلَى إِعْرَابٍ فِي الْقُرْآنِ فَإِذَا خَرَجْتُ إِلَى الْكَلَامِ كَلَامِ النَّاسِ فَضَّلْتُ الْأَقْوَى وَهُوَ حَسَنٌ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ وَقَدْ حَكَى اخْتِلَافَهُمْ فِي تَرْجِيحِ: {فَكُّ رقبة} بِالْمَصْدَرِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ فَقَالَ وَالدِّيَانَةُ تَحْظُرُ الطَّعْنَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الَّتِي قَرَأَ بِهَا الْجَمَاعَةُ وَلَا يَجُوزُ أن تكون
مَأْخُوذَةً إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قَالَ: "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" فَهُمَا قِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُقَدَّمَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ: السَّلَامَةُ عِنْدَ أَهْلِ الدِّينِ أَنَّهُ إِذَا صَحَّتِ الْقِرَاءَتَانِ عَنِ الْجَمَاعَةِ أَلَّا يُقَالَ أَحَدُهُمَا أَجْوَدُ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَأْثَمُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَكَانَ رُؤَسَاءُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا
وَقَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ رحمه الله: قَدْ أَكْثَرَ الْمُصَنِّفُونَ فِي الْقِرَاءَاتِ وَالتَّفَاسِيرِ مِنَ التَّرْجِيحِ بَيْنَ قِرَاءَةِ {مَلِكِ} وَ {مالك} حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ يُبَالِغُ إِلَى حَدٍّ يَكَادُ يُسْقِطُ وَجْهَ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى وَلَيْسَ هَذَا بِمَحْمُودٍ بَعْدَ ثُبُوتِ الْقِرَاءَتَيْنِ وَاتِّصَافِ الرَّبِّ تَعَالَى بِهِمَا ثُمَّ قَالَ حَتَّى إِنِّي أُصَلِّي بِهَذِهِ فِي رَكْعَةٍ وَبِهَذِهِ فِي رَكْعَةٍ
وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَقَدْ ذَكَرَ التَّوْجِيهَ فِي قِرَاءَةِ {وَعَدْنَا} وَ {واعدنا} لَا وَجْهَ لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ وَبَعْضٍ فِي مَشْهُورِ كُتُبِ الْأَئِمَّةِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْقُرَّاءِ وَالنَّحْوِيِّينَ وَلَيْسَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى الطَّرِيقِ حَتَّى يَأْتِيَ هَذَا الْقَوْلُ بَلْ مَرْجِعُهُ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ أَوْ ظُهُورِ الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْقَارِئَ يَخْتَارُ رِوَايَةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ تَجَرَّأَ بَعْضُهُمْ عَلَى قراءة الجمهور في: {فنادته الملائكة} فَقَالَ أَكْرَهُ التَّأْنِيثَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فِي زَعْمِهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ وَكَذَلِكَ كَرِهَ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ بِغَيْرِ تَاءٍ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ جَمْعٌ
وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ وَالْقِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ إِحْدَاهُمَا الْبَتَّةَ وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ {فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ} مَا يُؤَيِّدُ أَنَّ الملائكة مراد به الواحد
فصل: في توجيه القراءة الشاذة
وَتَوْجِيهُ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ أَقْوَى فِي الصِّنَاعَةِ مِنْ تَوْجِيهِ الْمَشْهُورَةِ وَمِنْ أَحْسَنِ مَا وُضِعَ فِيهِ كِتَابُ الْمُحْتَسِبِ لِأَبِي الْفَتْحِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسْتَوْفَ وَأَوْسَعُ مِنْهُ كِتَابُ أَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ وَقَدْ يُسْتَبْشَعُ ظَاهِرُ الشَّاذِّ بَادِيَ الرَّأْيِ فَيَدْفَعُهُ التَّأْوِيلُ كَقِرَاءَةِ: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعَمُ وَلَا يُطْعِمُ}
عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ لِلْمَفْعُولِ دُونَ الثَّانِي وَتَأْوِيلُ الضَّمِيرِ فِي: {وَهُوَ} رَاجِعٌ إِلَى الْوَلِيِّ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوَّرَ} بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَفْعُولٍ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِاسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الباري فَإِنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْلِ كَأَنَّهُ قَالَ الَّذِي بَرَأَ الْمُصَوَّرَ
وَكَقِرَاءَةِ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عباده العلماء} وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ الْخَشْيَةَ هُنَا بِمَعْنَى الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ لَا الْخَوْفِ وَكَقِرَاءَةِ: {فَإِذَا عَزَمْتُ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى التَّكَلُّمِ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَأْوِيلُهُ عَلَى مَعْنَى فَإِذَا أَرْشَدْتُكَ إِلَيْهِ وَجَعَلْتُكَ تَقْصِدُهُ وَجَاءَ قَوْلُهُ: {عَلَى اللَّهِ} عَلَى الِالْتِفَاتِ وَإِلَّا لَقَالَ: {فَتَوَكَّلْ عَلَيَّ} وَقَدْ نُسِبَ الْعَزْمُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِ أُمِّ سَلَمَةَ ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ لِي وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَقَوْلُهُ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}