الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع التاسع والعشرون: في آداب تلاوتها وكيفيتها
…
النوع التاسع والعشرون: في آداب تلاوته وكيفيتها
اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَمْحُ مَوْقِعِ النِّعَمِ عَلَى مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ أَوْ بَعْضَهُ بِكَوْنِهِ أَعْظَمَ الْمُعْجِزَاتِ لِبَقَائِهِ بِبَقَاءِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَلِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فَالْحُجَّةُ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَائِمَةٌ عَلَى كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لِأَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَشْرَفُ كُتُبِهِ جَلَّ وَعَلَا فَلْيَرَ مَنْ عِنْدَهُ القرآن أن الله أَنْعَمَ عَلَيْهِ نِعْمَةً عَظِيمَةً وَلْيَسْتَحْضِرْ مِنْ أَفْعَالِهِ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ حُجَّةً لَهُ لَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى طَلَبِ أُمُورٍ وَالْكَفِّ عَنْ أُمُورٍ وَذِكْرِ أَخْبَارِ قَوْمٍ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ فَصَارُوا عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ حِينَ زَاغُوا فَأَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَأُهْلِكُوا لَمَّا عَصَوْا وَلْيَحْذَرْ مَنْ عَلِمَ حَالَهُمْ أَنْ يَعْصِيَ فَيَصِيرَ مَآلُهُ مَآلَهُمْ فَإِذَا اسْتَحْضَرَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ عُلُوَّ شَأْنِهِ بِكَوْنِهِ طريقا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَدْرِهِ مُصْحَفًا لَهُ انْكَفَتَتْ نَفْسُهُ عِنْدَ التَّوْفِيقِ عَنِ الرَّذَائِلِ وَأَقْبَلَتْ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الْهَائِلِ وَأَكْبَرُ مُعِينٍ عَلَى ذَلِكَ حُسْنُ تَرْتِيلِهِ وَتِلَاوَتِهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ على مكث ونزلناه تنزيلا}
فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قَرَأَ الْقُرْآنَ أَنْ يُرَتِّلَهُ وَكَمَالُ تَرْتِيلِهِ تَفْخِيمُ أَلْفَاظِهِ وَالْإِبَانَةُ عن حروفه والإفصاح لجميعه بالتدبر حَتَّى يَصِلَ بِكُلِّ مَا بَعْدَهُ
وَأَنْ يَسْكُتَ بَيْنَ النَّفَسِ وَالنَّفَسِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ نَفَسُهُ وَأَلَّا يُدْغِمَ حَرْفًا فِي حَرْفٍ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا فِي ذَلِكَ أَنْ يَسْقُطَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بَعْضُهَا وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَرْغَبُوا فِي تَكْثِيرِ حَسَنَاتِهِمْ فَهَذَا الَّذِي وَصَفْتُ أَقَلُّ مَا يَجِبُ مِنَ التَّرْتِيلِ
وَقِيلَ: أَقَلُّ التَّرْتِيلِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يُبَيِّنُ مَا يَقْرَأُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْجِلًا فِي قِرَاءَتِهِ وَأَكْمَلُهُ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِيهَا مَا لَمْ يُخْرِجْهُ إِلَى التَّمْدِيدِ وَالتَّمْطِيطِ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِكَمَالِ التَّرْتِيلِ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى مَنَازِلِهِ فَإِنْ كَانَ يَقْرَأُ تَهْدِيدًا لَفَظَ بِهِ لَفْظَ الْمُتَهَدِّدِ وَإِنْ كَانَ يَقْرَأُ لَفْظَ تَعْظِيمٍ لَفَظَ بِهِ عَلَى التَّعْظِيمِ
وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ فِي التَّفَكُّرِ فِي مَعْنَى مَا يَلْفِظُ بِلِسَانِهِ فَيَعْرِفَ مِنْ كُلِّ آيَةٍ مَعْنَاهَا وَلَا يُجَاوِزَهَا إِلَى غَيْرِهَا حَتَّى يَعْرِفَ مَعْنَاهَا فَإِذَا مَرَّ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ وَقَفَ عِنْدَهَا وَفَرِحَ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا وَاسْتَبْشَرَ إِلَى ذَلِكَ وَسَأَلَ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ الْجَنَّةَ وَإِنْ قَرَأَ آيَةَ عَذَابٍ وَقَفَ عِنْدَهَا وَتَأَمَّلَ مَعْنَاهَا فَإِنْ كَانَتْ فِي الْكَافِرِينَ اعْتَرَفَ بِالْإِيمَانِ فَقَالَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَعَرَفَ مَوْضِعَ التَّخْوِيفِ ثُمَّ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعِيذَهُ مِنَ النَّارِ
وَإِنْ هُوَ مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا نداء للذين آمنوا فقال يأيها الَّذِينَ آمَنُوا وَقَفَ عِنْدَهَا وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ لَبَّيْكَ رَبِّي وَسَعْدَيْكَ وَيَتَأَمَّلُ مَا بَعْدَهَا مِمَّا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ فَيَعْتَقِدُ قَبُولَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ قَصَّرَ عَنْهُ فِيمَا مَضَى اعْتَذَرَ عَنْ فِعْلِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ فِي تَقْصِيرِهِ وذلك مثل قوله: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا}
وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِ أَهْلِهِ فِي صَلَاتِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَأَدَاءِ مَا يَلْزَمُهُمْ في طهاراتهم
وجناياتهم وَحَيْضِ النِّسَاءِ وَنِفَاسِهِنَّ وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَتَفَقَّدَ ذَلِكَ فِي أَهْلِهِ وَيُرَاعِيَهُمْ بِمَسْأَلَتِهِمْ عَنْ ذَلِكَ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ يُحْسِنُ ذَلِكَ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُ تَذْكِيرًا لَهُ وَتَأْكِيدًا لِمَا فِي قَلْبِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ كَانَ ذَلِكَ تَعْلِيمًا لَهُ ثُمَّ هَكَذَا يُرَاعِي صِغَارَ وَلَدِهِ وَيُعَلِّمُهُمْ إِذَا بَلَغُوا سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيَ سِنِينَ وَيَضْرِبُهُمْ إِذَا بَلَغُوا الْعَشْرَ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ فَمَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ قَدْ قَصَّرَ فِيمَا مَضَى اعْتَقَدَ قَبُولَهُ وَالْأَخْذَ بِهِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ وَإِنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَقَدْ عَرَفَهُ فَإِنَّهُ إِذَا مَرَّ بِهِ تَأَمَّلَهُ وَتَفَهَّمَهُ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} فَإِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ تَذَكَّرَ أَفْعَالَهُ فِي نَفْسِهِ وَذُنُوبَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الظُّلَامَاتِ وَالْغِيبَةِ وَغَيْرِهَا وَرَدَّ ظُلَامَتَهُ وَاسْتَغْفَرَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ قَصَّرَ فِي عَمَلِهِ وَنَوَى أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ وَيَسْتَحِلَّ كُلَّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شيء من هذه الظلامات مَنْ كَانَ مِنْهُمْ حَاضِرًا وَأَنْ يَكْتُبَ إِلَى مَنْ كَانَ غَائِبًا وَأَنْ يَرُدَّ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ فَيَعْتَقِدُ هَذَا فِي وَقْتِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ وَأَطَاعَ فَإِذَا فَعَلَ الْإِنْسَانُ هَذَا كَانَ قَدْ قَامَ بِكَمَالِ تَرْتِيلِ الْقُرْآنِ فَإِذَا وَقَفَ عَلَى آيَةٍ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا يَحْفَظُهَا حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهَا مَنْ يَعْرِفُ مَعْنَاهَا لِيَكُونَ مُتَعَلِّمًا لِذَلِكَ طَالِبًا لِلْعَمَلِ بِهِ وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا اعْتَقَدَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَقَلَّ مَا يَكُونُ وَإِنِ احْتَاطَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَوْكَدَ مَا فِي ذَلِكَ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ وَأَحْوَطَ لِأَمْرِ دِينِهِ
وَإِنْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ مِنَ الْآيِ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ خَبَرِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ فَلْيَنْظُرْ فِي ذَلِكَ وَإِلَى مَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْهُ فَيُجَدِّدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ شُكْرًا
وَإِنْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ مِنَ الْآيِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ أَضْمَرَ قَبُولَ الْأَمْرِ وَالِائْتِمَارِ وَالِانْتِهَاءِ عَنِ الْمَنْهِيِّ وَالِاجْتِنَابِ لَهُ فَإِنْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ مِنْ ذَلِكَ وَعِيدًا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَلْيَنْظُرْ إِلَى قَلْبِهِ فَإِنْ جَنَحَ إِلَى الرَّجَاءِ فَزَّعَهُ بِالْخَوْفِ وَإِنْ جَنَحَ إِلَى الْخَوْفِ فَسَحَ لَهُ فِي الرَّجَاءِ حَتَّى يَكُونَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ مُعْتَدِلَيْنِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَمَالُ الْإِيمَانِ
وَإِنْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ مِنَ الْآيِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي تَفَرَّدَ اللَّهُ بِتَأْوِيلِهِ فَلْيَعْتَقِدِ الْإِيمَانَ بِهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ
: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تأويله} يَعْنِي عَاقِبَةَ الْأَمْرِ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}
وَإِنْ كَانَ مَوْعِظَةً اتَّعَظَ بِهَا فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ هَذَا فَقَدْ نَالَ كَمَالَ التَّرْتِيلِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ النَّاسُ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ مَقَامَاتٍ:
الْأَوَّلُ: مَنْ يَشْهَدُ أَوْصَافَ الْمُتَكَلِّمِ فِي كَلَامِهِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِي خِطَابِهِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ وَتَكَلُّمِهِ بِخِطَابِهِ وَتَمَلِّيهِ بِمُنَاجَاتِهِ وَتَعَرُّفِهِ مِنْ صِفَاتِهِ فَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى اسْمٍ أَوْ وَصْفٍ أَوْ حُكْمٍ أَوْ إِرَادَةٍ أَوْ فِعْلٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ يُنْبِئُ عَنْ مَعَانِي الْأَوْصَافِ وَيَدُلُّ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَهَذَا مَقَامُ الْعَارِفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ وَلَا إِلَى قِرَاءَتِهِ وَلَا إِلَى تَعَلُّقِ الْإِنْعَامِ بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ مَقْصُورُ الْفَهْمِ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ مَوْقُوفُ الْفِكْرِ عَلَيْهِ مُسْتَغْرِقٌ بِمُشَاهَدَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَلِهَذَا قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ لَقَدْ تَجَلَّى اللَّهُ لِخَلْقِهِ بِكَلَامِهِ وَلَكِنْ لَا يُبْصِرُونَ
وَمِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ لَوْ طَهُرَتِ الْقُلُوبُ لَمْ تَشْبَعْ مِنَ التِّلَاوَةِ لِلْقُرْآنِ
الثَّانِي: مَنْ يَشْهَدُ بِقَلْبِهِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يُخَاطِبُهُ وَيُنَاجِيهِ بِأَلْطَافِهِ وَيَتَمَلَّقُهُ بإنعامه
وَإِحْسَانِهِ فَمَقَامُ هَذَا الْحَيَاءُ وَالتَّعْظِيمُ وَحَالُهُ الْإِصْغَاءُ وَالْفَهْمُ وَهَذَا لِعُمُومِ الْمُقَرَّبِينَ
الثَّالِثُ: مَنْ يَرَى أَنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ سُبْحَانَهُ فَمَقَامُ هَذَا السُّؤَالُ وَالتَّمَكُّنُ وَحَالُهُ الطَّلَبُ وَهَذَا الْمَقَامُ لِخُصُوصِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَلْقَى السَّمْعَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ سَمِيعِهِ مُصْغِيًا إِلَى سِرِّ كَلَامِهِ شَهِيدَ الْقَلْبِ لِمَعَانِي صِفَاتِهِ نَاظِرًا إِلَى قُدْرَتِهِ تَارِكًا لِمَعْقُولِهِ وَمَعْهُودِ عِلْمِهِ مُتَبَرِّئًا مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ مُعَظِّمًا لِلْمُتَكَلِّمِ مُتَفَرِّغًا إِلَى الْفَهْمِ بِحَالٍ مُسْتَقِيمٍ وَقَلْبٍ سَلِيمٍ وَصَفَاءِ يَقِينٍ وَقُوَّةِ عِلْمٍ وَتَمْكِينٍ سَمِعَ فَصْلَ الْخِطَابِ وَشَهِدَ غَيْبَ الْجَوَابِ لِأَنَّ التَّرْتِيلَ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّدَبُّرَ لِمَعَانِي الْكَلَامِ وَحُسْنَ الِاقْتِصَادِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ فِي الْإِفْهَامِ وَالْإِيقَافَ عَلَى الْمُرَادِ وَصِدْقَ الرَّغْبَةِ فِي الطَّلَبِ سَبَبٌ للاطلاع على المطلع من المسر الْمَكْنُونِ الْمُسْتَوْدَعِ وَكُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ الْخِطَابِ تَتَوَجَّهُ عَشْرَ جِهَاتٍ لِلْعَارِفِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ مَقَامٌ وَمُشَاهَدَاتٌ أَوَّلُهَا الْإِيمَانُ بِهَا وَالتَّسْلِيمُ لَهَا وَالتَّوْبَةُ إِلَيْهَا وَالصَّبْرُ عَلَيْهَا وَالرِّضَا بِهَا وَالْخَوْفُ مِنْهَا وَالرَّجَاءُ إِلَيْهَا وَالشُّكْرُ عَلَيْهَا وَالْمَحَبَّةُ لَهَا وَالتَّوَكُّلُ فِيهَا فَهَذِهِ الْمَقَامَاتُ الْعَشْرُ هِيَ مَقَامَاتُ الْمُتَّقِينَ وَهَى مُنْطَوِيَةٌ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ يَشْهَدُهَا أَهْلُ التَّمْكِينِ وَالْمُنَاجَاةِ وَيَعْرِفُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ لِأَنَّ كَلَامَ الْمَحْبُوبِ حَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ لَا يُنْذَرُ بِهِ إِلَّا حَيٌّ وَلَا يَحْيَا بِهِ إِلَّا مُسْتَجِيبٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} وقال تعالى: {إذا دعاكم لما يحييكم} وَلَا يَشْهَدُ هَذِهِ الْعَشْرَ مُشَاهَدَاتٍ إِلَّا مَنْ يَتَنَقَّلُ فِي الْعَشْرِ الْمَقَامَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الأحزاب أَوَّلُهَا مَقَامُ الْمُسْلِمِينَ وَآخِرُهَا مَقَامُ الذَّاكِرِينَ وَبَعْدَ مقام
الذِّكْرِ هَذِهِ الْمُشَاهَدَاتُ الْعَشْرِ فَعِنْدَهَا لَا تُمَلُّ الْمُنَاجَاةُ لِوُجُودِ الْمُصَافَاةِ وَعَلِمَ كَيْفَ تُجَلَّى لَهُ تِلْكَ الصِّفَاتُ الْإِلَهِيَّةُ فِي طَيِّ هَذِهِ الْأَدَوَاتِ وَلَوْلَا اسْتِتَارُ كُنْهِ جَمَالِ كَلَامِهِ بِكِسْوَةِ الْحُرُوفِ لما ثبت لسماع الكلام عرش ولا ترى وَلَا تَمَكَّنَ لِفَهْمِ عَظِيمِ الْكَلَامِ إِلَّا عَلَى حَدِّ فَهْمِ الْخَلْقِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَفْهَمُ عَنْهُ بِفَهْمِهِ الَّذِي قُسِمَ لَهُ حِكْمَةً مِنْهُ
قَالَ بعض العلماء: في القرآن ميادين وبساتين وَعَرَائِسُ وَدَيَابِيجُ وَرِيَاضٌ فَالْمِيمَاتُ مَيَادِينُ الْقُرْآنِ وَالرَّاءَاتُ بَسَاتِينُ الْقُرْآنِ وَالْحَاءَاتُ مَقَاصِيرُ الْقُرْآنِ وَالْمُسَبِّحَاتُ عَرَائِسُ الْقُرْآنِ وَالْحَوَامِيمُ دَيَابِيجُ الْقُرْآنِ وَالْمُفَصَّلُ رِيَاضُهُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِذَا دَخَلَ الْمُرِيدُ فِي الْمَيَادِينِ وَقَطَفَ مِنَ الْبَسَاتِينِ وَدَخَلَ الْمَقَاصِيرَ وَشَهِدَ الْعَرَائِسَ وَلَبِسَ الدَّيَابِيجَ وَتَنَزَّهَ فِي الرِّيَاضِ وَسَكَنَ غُرُفَاتِ الْمَقَامَاتِ اقْتَطَعَهُ عَمَّا سِوَاهُ وَأَوْقَفَهُ مَا يَرَاهُ وشغله المشاهد لَهُ عَمَّا عَدَاهُ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اعرفوا الْقُرْآنَ وَالْتَمِسُوا غَرَائِبَهُ وَغَرَائِبُهُ فُرُوضُهُ وَحُدُودُهُ فَإِنَّ القرآن عَلَى خَمْسَةٍ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَمُحْكَمٍ وَأَمْثَالٍ وَمُتَشَابِهٍ فَخُذُوا الْحَلَالَ وَدَعُوا الْحَرَامَ وَاعْمَلُوا بِالْمُحْكَمِ وَآمِنُوا بالتمشابه وَاعْتَبِرُوا بِالْأَمْثَالِ
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه: لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن
قَالَ ابْنُ سَبْعٍ فِي كِتَابِ شِفَاءِ الصَّدْرِ: هَذَا الَّذِي قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ مَسْعُودٍ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ تَفْسِيرِهِ الظَّاهِرِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِكُلِّ آيَةٍ سِتُّونَ أَلْفَ فَهْمٍ وَمَا بَقِيَ مِنْ فَهْمِهِ أَكْثَرُ وَقَالَ آخَرُونَ الْقُرْآنُ يَحْتَوِي عَلَى سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ عِلْمٍ إِذْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ عِلْمٌ ثُمَّ يَتَضَاعَفُ ذَلِكَ أَرْبَعًا إِذْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ وَحَدٌّ وَمَطْلَعٌ
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْعُلُومُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَفَى الْقُرْآنِ شَرْحُ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وأفعاله
فصل: في كراهة قراءة القرآن بلا تدبر
تكره قراء الْقُرْآنِ بِلَا تَدَبُّرٍ وَعَلَيْهِ مَحَلُّ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِمَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَقُومُ بِالْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ "أَهَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ"
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي صِفَةِ الْخَوَارِجِ: "يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ وَلَا حَنَاجِرَهُمْ" ذَمَّهُمْ بِإِحْكَامِ أَلْفَاظِهِ وَتَرْكِ التَّفَهُّمِ لِمَعَانِيهِ
فَصْلٌ: فِي تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ" وَفِي رِوَايَةٍ أَفْضَلُكُمْ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ يَرْفَعُهُ: "إن القرآن مأدبة الله فتعلموا مأدبته مَا اسْتَطَعْتُمْ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: "تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ خَمْسَ آيَاتٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ جِبْرِيلَ عليه السلام خَمْسًا خَمْسًا" وَفِي رِوَايَةٍ "مَنْ تَعَلَّمَهُ خَمْسًا خَمْسًا لَمْ يَنْسَهُ"
قَالَ أصحابنا: تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَكَذَلِكَ حِفْظُهُ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ صَرَّحَ بِهِ الْجُرْجَانِيُّ فِي الشَّافِي وَالْعَبَّادِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَالْمَعْنَى فِيهِ كَمَا قَالَهُ الْجُوَيْنِيُّ أَلَّا يَنْقَطِعَ عَدَدُ التَّوَاتُرِ فِيهِ وَلَا يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ فَإِنْ قَامَ بِذَلِكَ قَوْمٌ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ وَإِلَّا فَالْكُلُّ آثِمٌ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ أَوِ الْقَرْيَةِ مَنْ يَتْلُو الْقُرْآنَ أَثِمُوا بِأَسْرِهِمْ وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ يَصْلُحُونَ لِلتَّعْلِيمِ وَطُلِبَ مِنْ بَعْضِهِمْ وَامْتَنَعَ لَمْ يَأْثَمْ فِي الْأَصَحِّ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي التِّبْيَانِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا صَحَّحَهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ أَنَّ الْمُفْتِيَ وَالْمُدَرِّسَ لَا يَأْثَمَانِ بِالِامْتِنَاعِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ غَيْرُهُ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ لَا تَفُوتُ بِالتَّأْخِيرِ فَإِنْ كَانَتْ تَفُوتُ لَمْ يَجُزِ الِامْتِنَاعُ كَالْمُصَلِّي يُرِيدُ تَعَلُّمَ الْفَاتِحَةِ وَلَوْ رَدَّهُ لَخَرَجَ الْوَقْتُ بِسَبَبِ ذَهَابِهِ إِلَى الْآخَرِ وَلِضِيقِ الْوَقْتِ عَنِ التَّعْلِيمِ
وَيَنْبَغِي تَعْلِيمُهُ عَلَى التَّأْلِيفِ الْمَعْهُودِ فَإِنَّهُ تَوْقِيفِيٌّ وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ سُئِلَ عَنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَنْكُوسًا قَالَ ذَاكَ مَنْكُوسُ الْقَلْبِ
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَجْهُهُ عِنْدِي أَنْ يَبْتَدِئَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ مِنْ آخِرِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ ثُمَّ يَرْتَفِعَ إِلَى الْبَقَرَةِ كَنَحْوِ مَا تَفْعَلُ الصِّبْيَانُ فِي الْكُتَّابِ لِأَنَّ السُّنَّةَ خِلَافُ هَذَا وَإِنَّمَا وَرَدَتِ الرُّخْصَةُ فِي تَعْلِيمِ الصَّبِيِّ وَالْعَجَمِيِّ مِنَ الْمُفَصَّلِ لِصُعُوبَةِ السُّوَرِ الطوال عليهما
مسألة: في جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن
وَيَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: "إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ" وَقِيلَ إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيُّ وَقَالَ اسْتَنْصَرَ النَّاسُ الْمُعَلِّمِينَ لِقَصْرِهِمْ زَمَانَهُمْ عَلَى مُعَاشَرَةِ الصِّبْيَانِ ثُمَّ النِّسَاءِ حَتَّى أَثَّرَ ذَلِكَ فِي عُقُولِهِمْ ثُمَّ لِابْتِغَائِهِمْ عَلَيْهِ الْأَجْعَالَ وَطَمَعِهِمْ فِي أَطْعِمَةِ الصِّبْيَانِ فَأَمَّا نفس التعليم فإنه يوجب التشريف والتفضيل
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ فِي كِتَابِ الْبُسْتَانِ: التَّعْلِيمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: لِلْحِسْبَةِ وَلَا يَأْخُذْ بِهِ عِوَضًا وَالثَّانِي أَنْ يُعَلِّمَ بِالْأُجْرَةِ وَالثَّالِثُ أَنْ يُعَلِّمَ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَإِذَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ قَبِلَ
فَالْأَوَّلُ: مَأْجُورٌ عَلَيْهِ وَهُوَ عَمَلُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَالثَّانِي: مُخْتَلَفٌ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً" وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَجُوزُ مِثْلُ عِصَامِ بْنِ يُوسُفَ وَنَصْرِ بْنِ يَحْيَى وَأَبِي نَصْرِ بْنِ سَلَّامٍ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: وَالْأَفْضَلُ لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يُشَارِطَ الأجرة للحفظ
وَتَعْلِيمِ الْكِتَابَةِ فَإِنْ شَارَطَ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَوَارَثُوا ذَلِكَ وَاحْتَاجُوا إِلَيْهِ
وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُعَلِّمًا لِلْخَلْقِ وَكَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَلِحَدِيثِ اللَّدِيغِ لَمَّا رَقَوْهُ بِالْفَاتِحَةِ وَجَعَلُوا لَهُ جُعْلًا وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "واضربوا لي معكم فيها بسهم"
فصل: في دوام تلاوة القرآن بعد تعلمه
وَلْيُدْمِنْ عَلَى تِلَاوَتِهِ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُثْنِيًا عَلَى مَنْ كَانَ دَأْبُهُ تِلَاوَةَ آيَاتِ اللَّهِ: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ} وَسَمَّاهُ ذِكْرًا وَتَوَعَّدَ الْمُعْرِضَ عَنْهُ وَمَنْ تَعَلَّمَهُ ثُمَّ نَسِيَهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عِقَالِهَا وَقَالَ بِئْسَمَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ هُوَ نسي واستذكروا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا فِي صُدُورِ الرِّجَالِ من النعم في عقالها"
مسألة: في استحباب الاستياك والتطهر للقراءة
يُسْتَحَبُّ الِاسْتِيَاكُ وَتَطْهِيرُ فَمِهِ وَالطِّهَارَةُ لِلْقِرَاءَةِ بِاسْتِيَاكِهِ وَتَطْهِيرِ بَدَنِهِ بِالطِّيبِ الْمُسْتَحَبِّ تَكْرِيمًا لِحَالِ التِّلَاوَةِ لَابِسًا مِنَ الثِّيَابِ مَا يَتَجَمَّلُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ لِكَوْنِهِ بِالتِّلَاوَةِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُنْعِمِ الْمُتَفَضِّلِ بِهَذَا الْإِينَاسِ فَإِنَّ التَّالِيَ لِلْكَلَامِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَالِمِ لِذِي الْكَلَامِ وَهَذَا غَايَةُ التَّشْرِيفِ مِنْ فَضْلِ الْكَرِيمِ الْعَلَّامِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ جَالِسًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ سُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ حَدِيثٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ أَكْرَهُ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مُتَّكِئٌ وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مُتَوَضِّئًا وَيَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ لَا يُقَالُ إِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ مَعَ الْحَدَثِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ سِوَى الْجَنَابَةِ وَفَى مَعْنَاهَا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ قَدِيمٌ فِي الْحَائِضِ تَقْرَأُ خَوْفَ النِّسْيَانِ
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ لَا بَأْسَ أَنْ يَقْرَأَ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ أَقَلَّ مِنْ آيَةٍ وَاحِدَةٍ قَالَ وَإِذَا أَرَادَتِ الْحَائِضُ التَّعَلُّمَ فَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُلَقَّنَ نِصْفَ آيَةٍ ثُمَّ تَسْكُتَ وَلَا تَقْرَأَ آيَةً وَاحِدَةً بِدُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَتُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ حَالَ خُرُوجِ الرِّيحِ وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ النَّوَاقِضِ كَاللَّمْسِ وَالْمَسِّ وَنَحْوِهِ فَيُحْتَمَلُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقْذَرٍ عَادَةً وَلِأَنَّهُ فِي حَالِ خُرُوجِ الرِّيحِ يبعد بخلاف هذه
مسألة: في التعوذ وقراءة البسملة عند التلاوة
يُسْتَحَبُّ التَّعَوُّذُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فَإِنْ قَطْعَهَا قَطْعَ تَرْكٍ وَأَرَادَ الْعَوْدَ جَدَّدَ وَإِنْ قَطَعَهَا لَعُذْرٍ عَازِمًا عَلَى الْعَوْدِ كَفَاهُ التَّعَوُّذُ الْأَوَّلُ مَا لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ وَلَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَ كُلِّ سُورَةٍ تَحَرُّزًا مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِلَّا كَانَ قَارِئًا بَعْضَ السُّوَرِ لَا جَمِيعَهَا فَإِنْ قَرَأَ مِنْ أَثْنَائِهَا اسْتُحِبَّ لَهُ الْبَسْمَلَةُ أَيْضًا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِيمَا نَقَلَهُ الْعَبَّادِيُّ
وَقَالَ الْفَاسِيُّ فِي شَرْحِ الْقَصِيدَةِ: كَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَأْخُذُ عَلَيْنَا فِي الْأَجْزَاءِ الْقُرْآنِيَّةِ بِتَرْكِ الْبَسْمَلَةِ وَيَأْمُرُنَا بِهَا فِي حزب: {الله لا إله إلا هو} وفى حزب {إليه يرد علم الساعة} لِمَا فِيهِمَا بَعْدَ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ قُبْحِ اللَّفْظِ وَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ إِذَا ابْتَدَأَ مِثْلَ ذَلِكَ نَحْوَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} {وهو الذي
أنشأ جنات} لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَقَدْ كَانَ مَكِّيٌّ يَخْتَارُ إِعَادَةَ الْآيَةِ قَبْلَ كُلِّ حِزْبٍ مِنَ الْحِزْبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ
مَسْأَلَةٌ
وَلْتَكُنْ تِلَاوَتُهُ بَعْدَ أَخْذِهِ الْقُرْآنَ مِنْ أَهْلِ الْإِتْقَانِ لِهَذَا الشَّأْنِ الْجَامِعِينَ بَيْنَ الدِّرَايَةِ وَالرِّوَايَةِ وَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْتَمِعُ به جبريل في رمضان فيدراسه القرآن
مسألة: في قراءة القرآن في المصحف أفضل أم على ظهر قلب
وَهَلِ الْقِرَاءَةُ فِي الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ أَمْ عَلَى ظَهْرِ الْقَلْبِ أَمْ يَخْتَلِفُ الْحَالُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا أَنَّهَا مِنَ الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهِ عِبَادَةٌ فَتَجْتَمِعُ الْقِرَاءَةُ وَالنَّظَرُ وَهَذَا قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْغَزَالِيُّ قَالَ وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى. . . . . . وَتَأَمُّلِ الْمُصْحَفِ وَجُمَلِهِ وَيَزِيدُ فِي الْأَجْرِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَقَدْ قِيلَ الْخَتْمَةُ فِي الْمُصْحَفِ بِسَبْعٍ وَذُكِرَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَقْرَءُونَ فِي الْمُصْحَفِ وَيَكْرَهُونَ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمٌ وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي الْمُصْحَفِ
وَدَخَلَ بَعْضُ فُقَهَاءِ مِصْرَ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَسْجِدَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْمُصْحَفُ فَقَالَ شَغَلَكُمُ الْفِقْهُ عَنِ الْقُرْآنِ إِنِّي لَأُصَلِّي الْعَتَمَةَ وَأَضَعُ الْمُصْحَفَ فِي يَدِي فَمَا أُطْبِقُهُ حَتَّى الصُّبْحِ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ كَانَ أَبِي يَقْرَأُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سُبْعًا مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَتْرُكُهُ نَظَرًا
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حديث أبي سعيد بن عون المكي عن عثمان بن عبيد اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قِرَاءَةُ الرَّجُلِ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ أَلْفُ دَرَجَةٍ وَقِرَاءَتُهُ فِي الْمُصْحَفِ تُضَاعَفُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَلْفَيْ دَرَجَةٍ" وَأَبُو سَعِيدٍ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ لَا بَأْسَ بِهِ
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقَيْنِ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ القرآن في المصحف كانت له ألفا حَسَنَةٍ وَمَنْ قَرَأَهُ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ فَأَظُنُّهُ قال كألف حَسَنَةٍ" وَفَى الطَّرِيقِ الْأُخْرَى قَالَ دَرَجَةٍ وَجَزَمَ بِأَلْفٍ إِذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي الْمُصْحَفِ
وَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: "مَنْ قَرَأَ مِائَتَيْ آيَةٍ كُلَّ يَوْمٍ نَظَرًا شُفِّعَ فِي سَبْعَةِ قُبُورٍ حَوْلَ قَبْرِهِ وَخُفِّفَ الْعَذَابُ عَنْ وَالِدَيْهِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ"
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ بِسَنَدِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَضْلُ الْقُرْآنِ نَظَرًا عَلَى مَنْ قَرَأَ ظَاهِرًا كَفَضْلِ الْفَرِيضَةِ عَلَى النَّافِلَةِ" وَبِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ إِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ نشر المصحف يقرأ فيه
وروى أبو دَاوُدَ بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: "النَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ وَالنَّظَرُ فِي وَجْهِ الْوَالِدَيْنِ عِبَادَةٌ وَالنَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ"
وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ كَانَ يُعْجِبُهُمُ النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ هُنَيْهَةً قَالَ بَعْضُهُمْ وَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مُصْحَفٌ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ آيَاتٍ يَسِيرَةً وَلَا يَتْرُكَهُ مَهْجُورًا
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى ظَهْرِ الْقَلْبِ أَفْضَلُ وَاخْتَارَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَقَالَ فِي أَمَالِيهِ قِيلَ الْقِرَاءَةُ فِي الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ فِعْلَ الْجَارِحَتَيْنِ وَهُمَا اللِّسَانُ وَالْعَيْنُ وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِرَاءَةِ التدبر لقوله تعالى: {ليدبروا آياته} وَالْعَادَةُ تَشْهَدُ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْمُصْحَفِ يُخِلُّ بِهَذَا الْمَقْصُودِ فَكَانَ مَرْجُوحًا
وَالثَّالِثُ: وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ إِنْ كَانَ الْقَارِئُ مِنْ حِفْظِهِ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَجَمْعِ الْقَلْبِ أَكْثَرُ مِمَّا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْمُصْحَفِ فَالْقِرَاءَةُ مِنَ الْحِفْظِ أَفْضَلُ وَإِنِ اسْتَوَيَا فَمِنَ الْمُصْحَفِ أفضل قال وهو مراد السلف
مسألة
في استحباب الجهر بالقراءة يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ صَحَّ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمُ
الْجَهْرَ بِبَعْضِ الْقِرَاءَةِ وَالْإِسْرَارَ بِبَعْضِهَا لِأَنَّ الْمُسِرَّ قَدْ يَمَلُّ فَيَأْنَسُ بِالْجَهْرِ وَالْجَاهِرُ قَدْ يَكِلُّ فَيَسْتَرِيحُ بِالْإِسْرَارِ إِلَّا أَنَّ مَنْ قَرَأَ بِاللَّيْلِ جَهَرَ بِالْأَكْثَرِ وَإِنْ قَرَأَ بِالنَّهَارِ أَسَرَّ بِالْأَكْثَرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِالنَّهَارِ فِي مَوْضِعٍ لَا لَغْوَ فِيهِ وَلَا صَخَبَ وَلَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ فَيَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يَرْفَعُهُ: "الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ" نَعَمْ مَنْ قَرَأَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ جَهْرًا يَشْغَلُهُمْ بِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يصلون في المسجد فقال: "يأيها النَّاسُ كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ على بعض في القراءة"
مسألة: في كراهة قطع القرآن لمكالمة الناس
وَيُكْرَهُ قَطْعُ الْقُرْآنِ لِمُكَالَمَةِ النَّاسِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا انْتَهَى فِي الْقِرَاءَةِ إِلَى آيَةٍ وَحَضَرَهُ كَلَامٌ فَقَدِ اسْتَقْبَلَهُ الَّتِي بَلَغَهَا وَالْكَلَامُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْثِرَ كَلَامَهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ وَأَيَّدَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يتكلم حتى يفرغ منه
مسألة: في حكم قراءة القرآن بالعجمية
لَا تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِالْعَجَمِيَّةِ سَوَاءٌ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ أم لا في الصلاة وخارجها لقوله تعالى: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا} وقوله: {ولو جعلناه قرآنا أعجميا}
وَقِيلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ مُطْلَقًا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ لَكِنْ صَحَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ حَكَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي شَرْحِ البزرودي
وَاسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ قِرَاءَتُهُ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْإِعْجَازُ لِنَقْصِ التَّرْجَمَةِ عَنْهُ وَلِنَقْصِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْسُنِ عَنِ الْبَيَانِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ دُونَ سَائِرِ الْأَلْسِنَةِ وَإِذَا لَمْ تَجُزْ قِرَاءَتُهُ بِالتَّفْسِيرِ الْعَرَبِيِّ لِمَكَانِ التَّحَدِّي بِنَظْمِهِ فَأَحْرَى أَنْ لَا تَجُوزَ التَّرْجَمَةُ بِلِسَانِ غَيْرِهِ وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ الْقَفَّالُ مِنْ أَصْحَابِنَا عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِالْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ قِيلَ لَهُ فَإِذَنْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ قَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ هُنَاكَ يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ مُرَادِ اللَّهِ وَيَعْجِزَ عَنِ الْبَعْضِ أَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ مُرَادِ اللَّهِ أَيْ فَإِنَّ التَّرْجَمَةَ إِبْدَالُ لَفْظَةٍ بِلَفْظَةٍ تَقُومُ مَقَامَهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ بِخِلَافِ التَّفْسِيرِ وَمَا أَحَالَهُ الْقَفَّالُ مِنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنُ بْنُ فَارِسٍ فِي فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا فَقَالَ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ التَّرَاجِمِ عَلَى أَنْ يَنْقُلَ الْقُرْآنَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَلْسُنِ كَمَا نُقِلَ الْإِنْجِيلُ عَنِ السُّرْيَانِيَّةِ إِلَى الْحَبَشِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَتُرْجِمَتِ التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَسَائِرُ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ الْعَجَمَ لَمْ تَتَّسِعْ فِي الْكَلَامِ اتِّسَاعَ الْعَرَبِ أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ أَرَدْتَ أَنْ تَنْقُلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إليهم على سواء} لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ
تَأْتِيَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُؤَدِّيَةً عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي أُودِعَتْهُ حَتَّى تَبْسُطَ مَجْمُوعَهَا وَتَصِلَ مَقْطُوعَهَا وَتُظْهِرَ مَسْتُورَهَا فَتَقُولَ إِنْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ قَوْمٍ هُدْنَةٌ وَعَهْدٌ فَخِفْتَ مِنْهُمْ خِيَانَةً وَنَقْضًا فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّكَ قَدْ نَقَضْتَ مَا شَرَطْتَهُ لَهُمْ وَآذِنْهُمْ بِالْحَرْبِ لِتَكُونَ أَنْتَ وَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِالنَّقْضِ على سواء وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الكهف سنين عددا} انْتَهَى
فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ قِرَاءَتِهِ بِالْفَارِسِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ لِعَدَمِ إِمْكَانِ تَصَوُّرِهِ وَرَأَيْتُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّرْجَمَةِ مَخْصُوصٌ بِالتِّلَاوَةِ فَأَمَّا تَرْجَمَتُهُ لِلْعَمَلِ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى بَيَانِ المحكم منه والغريب المعنى بمقدار الضرورة مِنَ التَّوْحِيدِ وَأَرْكَانِ الْعِبَادَاتِ وَلَا يُتَعَرَّضَ لِمَا سِوَى ذَلِكَ وَيُؤْمَرَ مَنْ أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ بِتَعَلُّمِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكْتُبْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَيْصَرَ إِلَّا بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ مُحْكَمَةٍ لِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَالتَّبَرِّي مِنَ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّ النَّقْلَ مِنْ لِسَانٍ إِلَى لِسَانٍ قَدْ تَنْقُصُ التَّرْجَمَةُ عَنْهُ كَمَا سَبَقَ فَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْمُتَرْجَمِ عِنْدَهُ وَاحِدًا قَلَّ وُقُوعُ التَّقْصِيرِ فِيهِ بِخِلَافِ الْمَعَانِي إِذَا كَثُرَتْ وَإِنَّمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِضَرُورَةِ التَّبْلِيغِ أَوْ لِأَنَّ مَعْنَى تِلْكَ الْآيَةِ كَانَ عِنْدَهُمْ مُقَرَّرًا فِي كُتُبِهِمْ وَإِنْ خَالَفُوهُ
وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الدُّخَانِ: أَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ بِشَرِيطَةٍ وَهَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْقَارِئُ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهَا شَيْئًا أَصْلًا قَالُوا وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ تَشْهَدُ أَنَّهَا إِجَازَةٌ كَلَا إِجَازَةٍ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ خُصُوصًا الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ
مُعْجِزٌ فِيهِ مِنْ لَطَائِفِ الْمَعَانِي وَالْإِعْرَابِ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ لِسَانٌ مِنْ فَارِسِيَّةٍ وَغَيْرِهَا
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يُحْسِنُ الْفَارِسِيَّةَ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ عَنْ تَحْقِيقٍ وَتَبَصُّرٍ وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ صَاحِبَيْهِ فِي القراءة بالفارسية
مسألة: في عدم جواز القراءة بالشواذ
وَلَا تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِالشَّوَاذِّ وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِهِ فَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ كَانَ يَمُدُّ مَدًّا يَعْنِي أَنَّهُ يُمَكِّنُ الْحُرُوفَ وَلَا يَحْذِفُهَا وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْقُرَّاءُ بِالتَّجْوِيدِ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّرْتِيلُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِسْرَاعِ فَقِرَاءَةُ حِزْبٍ مُرَتَّلٍ مَثَلًا فِي مِقْدَارٍ مِنَ الزَّمَانِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ حِزْبَيْنِ فِي مثله بالإسراع
مسألة: في استحباب قراءة القرآن بالتفخيم
يُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهُ بِالتَّفْخِيمِ وَالْإِعْرَابِ لِمَا يُرْوَى نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ قَالَ الْحَلِيمِيُّ مَعْنَاهُ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى قِرَاءَةِ الرِّجَالِ وَلَا يُخْضَعَ الصَّوْتُ فِيهِ كَكَلَامِ النِّسَاءِ قَالَ وَلَا يَدْخُلُ فِي كَرَاهَةِ الْإِمَالَةِ الَّتِي هِيَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْقُرَّاءِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ نَزَلَ بِالتَّفْخِيمِ فَرُخِّصَ مَعَ ذَلِكَ فِي إِمَالَةِ مَا يَحْسُنُ إِمَالَتُهُ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عليه السلام
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَ فِي قِرَاءَتِهِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عِشْرُونَ حَسَنَةً وَمَنْ قَرَأَهُ بِغَيْرِ إِعْرَابٍ كَانَ له بكل حرف عشر حسنات"
مسألة: في فصل السور بعضها عن بعض
وَأَنْ يَفْصِلَ كُلَّ سُورَةٍ عَمَّا قَبْلَهَا إِمَّا بِالْوَقْفِ أَوِ التَّسْمِيَةِ وَلَا يَقْرَأَ مِنْ أُخْرَى قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأُولَى وَمِنْهُ الْوَقْفُ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْمَعْنَى قَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَهُمْ لِوَقْفِهِ صلى الله عليه وسلم فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى كُلِّ آيَةٍ وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ قَالَ أَبُو مُوسَى وَلِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى آخِرِ السُّوَرِ لَا شَكَّ فِي اسْتِحْبَابِهِ وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَمَا فِي سُورَةِ الْفِيلِ مَعَ قُرَيْشٍ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله وَقَدْ ذَكَرَ حَدِيثَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً وَمُتَابَعَةُ السُّنَّةِ أَوْلَى فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقِرَاءَاتِ مِنْ تَتَبُّعِ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ
وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَقِدَ جَزِيلَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ أَهَّلَهُ لِحِفْظِ كِتَابِهِ وَيَسْتَصْغِرَ عَرَضَ الدُّنْيَا أَجْمَعَ فِي جَنْبِ ما مَا خَوَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجْتَهِدَ فِي شُكْرِهِ وَمِنْهَا تَرْكُ الْمُبَاهَاةِ فَلَا يَطْلُبْ بِهِ الدُّنْيَا بَلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَأَلَّا يَقْرَأَ فِي الْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ وَأَنْ يَكُونَ ذَا سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ مُجَانِبًا لِلذَّنْبِ مُحَاسِبًا نَفْسَهُ يُعْرَفُ الْقُرْآنُ فِي سَمْتِهِ وَخُلُقِهِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ كِتَابِ الْمَلِكِ وَالْمُطَّلِعُ عَلَى وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَلْيَتَجَنَّبِ الْقِرَاءَةَ فِي الْأَسْوَاقِ قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ وَأَلْحَقَ بِهِ الْحَمَّامَ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ فِي الطَّرِيقِ سِرًّا حَيْثُ لا لغو فيها
مسألة: في ترك خلط سورة بسورة
عَدَّ الْحَلِيمِيُّ مِنَ الْآدَابِ تَرْكَ خَلْطِ سُورَةٍ بِسُورَةٍ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْآتِيَ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَحْسَنُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ لِكِتَابِ اللَّهِ مَأْخُوذٌ مِنْ جِهَةِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخَذَهُ عَنْ جِبْرِيلَ فَالْأَوْلَى بِالْقَارِئِ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى التَّأْلِيفِ الْمَنْقُولِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ تَأْلِيفُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ تَأْلِيفِكُمْ وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ قِرَاءَةِ آيَةٍ آيَةٍ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَقْرَأُ يَخْفِضُ صَوْتَهُ وَبِعُمَرَ يَجْهَرُ بِصَوْتِهِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقَالَ "وَقَدْ سَمِعْتُكَ يَا بِلَالُ وَأَنْتَ تَقْرَأُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَقَالَ كَلَامٌ طَيِّبٌ يَجْمَعُهُ اللَّهُ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ فَقَالَ كُلُّكُمْ قَدْ أَصَابَ"
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ قَالَ بِلَالٌ أَخْلِطُ الطَّيِّبَ بِالطَّيِّبِ فَقَالَ اقْرَأِ السُّورَةَ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ قَالَ عَلَى نَحْوِهَا وَهَذِهِ زِيَادَةٌ مَلِيحَةٌ وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا قَرَأْتَ السُّورَةَ فَأَنْفِذْهَا
وَرَوَى عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ أَمَّ النَّاسَ فَقَرَأَ مِنْ سُوَرٍ شَتَّى ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى النَّاسِ حِينَ انْصَرَفَ فَقَالَ شَغَلَنِي الْجِهَادُ عَنْ تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ
وَرَوَى الْمَنْعَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ثُمَّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى الْكَرَاهَةِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ كَمَا أَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بِلَالٍ وَكَمَا اعْتَذَرَ خَالِدٌ عَنْ فِعْلِهِ وَلِكَرَاهَةِ ابْنِ سِيرِينَ لَهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ بَعْضَهُمْ رَوَى حَدِيثَ بِلَالٍ وَفِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ وَهُوَ أَثْبَتُ وَأَشْبَهُ بِنَقْلِ الْعُلَمَاءِ انْتَهَى
وَرَوَاهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ وَزَادَ مَثَلُ بِلَالٍ كَمَثَلِ نَحْلَةٍ غَدَتْ تَأْكُلُ مِنَ الْحُلْوِ وَالْمُرِّ ثُمَّ يَصِيرُ حُلْوًا كُلُّهُ
قَالَ: وَإِنَّمَا شَبَّهَهُ بِالنَّحْلَةِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَأْكُلُ من الثمرات حلوها وَحَامِضِهَا وَرَطْبِهَا وَيَابِسِهَا وَحَارِّهَا وَبَارِدِهَا فَتُخْرِجُ هَذَا الشِّفَاءَ وَلَيْسَتْ كَغَيْرِهَا مِنَ الطَّيْرِ تَقْتَصِرُ عَلَى الْحُلْوِ فَقَطْ لِحَظِّ شَهْوَتِهِ فَلَا جَرَمَ أَعَاضَهَا اللَّهُ الشِّفَاءَ فِيمَا تُلْقِيهِ كَقَوْلِهِ: "عَلَيْكُمْ
بِأَلْبَانِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهَا تَرُمُّ مِنْ كُلِّ الشَّجَرِ" فَتَأْكُلُ فَبِلَالٌ رضي الله عنه كَانَ يَقْصِدُ آيَاتِ الرَّحْمَةِ وَصِفَاتِ الْجَنَّةِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ السُّورَةَ عَلَى نَحْوِهَا كَمَا جَاءَتْ مُمْتَزِجَةً كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِدَوَاءِ الْعِبَادِ وَحَاجَتِهِمْ وَلَوْ شَاءَ لَصَنَّفَهَا أَصْنَافًا وَكُلُّ صِنْفٍ عَلَى حِدَةٍ وَلَكِنَّهُ مَزَجَهَا لِتَصِلَ الْقُلُوبَ بِنِظَامٍ لَا يُمَلُّ قَالَ: وَلَقَدْ أَذْهَلَنِي يَوْمًا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن}
فقلت: يا لطيف عملت أَنَّ قُلُوبَ أَوْلِيَائِكَ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ عَنْكَ وَتَتَرَاءَى لَهُمْ تِلْكَ الْأَهْوَالُ لَا تَتَمَالَكُ فَلَطَفْتَ بِهِمْ فَنَسَبْتَ {الْمُلْكَ} إِلَى أَعَمِّ اسْمٍ فِي الرَّحْمَةِ فَقُلْتَ {الرَّحْمَنَ} لِيُلَاقِيَ هَذَا الِاسْمُ تِلْكَ الْقُلُوبَ الَّتِي يَحِلُّ بِهَا الْهَوْلُ فَيُمَازِجَ تِلْكَ الْأَهْوَالَ وَلَوْ كَانَ بَدَلُهُ اسْمًا آخَرَ مِنْ عَزِيزٍ وَجَبَّارٍ لَتَفَطَّرَتِ الْقُلُوبُ فَكَانَ بِلَالٌ يَقْصِدُ لِمَا تَطِيبُ بِهِ النُّفُوسُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى نِظَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ أَعْلَمُ بالشفاء
مسألة: في استحباب استيفاء الحروف عند القراءة
يُسْتَحَبُّ اسْتِيفَاءُ كُلِّ حَرْفٍ أَثْبَتَهُ قَارِئٌ قَالَ الْحَلِيمِيُّ هَذَا لِيَكُونَ الْقَارِئُ قَدْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ مَا هُوَ قُرْآنٌ فَتَكُونَ خَتْمَةٌ أَصَحَّ مِنْ خَتْمَةٍ إِذَا تَرَخَّصَ بِحَذْفِ حَرْفٍ أَوْ كَلِمَةٍ قُرِئَ بِهِمَا أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ كُلِّ مَنِ اسْتَوْفَى كُلَّ فِعْلٍ امْتَنَعَ عَنْهُ كَانَتْ صَلَاتُهُ أَجْمَعَ مِنْ صَلَاةِ مَنْ تَرَخَّصَ فحذف منها مالا يضر حذفه
فصل: في ختم القرآن
وَيُسْتَحَبُّ خَتْمُ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأِ الْقُرْآنَ
فِي كُلِّ سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ سُئِلَ أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عليه كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُجَزِّئُ الْقُرْآنَ قَالَ كَانَ يُجَزِّئُهُ ثَلَاثًا وَخَمْسًا وَكَرِهَ قَوْمٌ قِرَاءَتَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَحَمَلُوا عَلَيْهِ حَدِيثَ "لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ" رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ
وَالْمُخْتَارُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَالِ الشَّخْصِ فِي النَّشَاطِ وَالضَّعْفِ وَالتَّدَبُّرِ وَالْغَفْلَةِ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه كَانَ يَخْتِمُهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ خَتْمِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ في كتاب البستان ينبغي أن الْقُرْآنَ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الزِّيَادَةِ وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ فَقَدْ أَدَّى لِلْقُرْآنِ حَقَّهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَضَهُ عَلَى جِبْرِيلَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا مَرَّتَيْنِ
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ أَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنْ يَخْتِمَ فِي سَبْعٍ أَوْ ثَلَاثٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّ ابْنِ عَمْرٍو لِمَا عَلِمَ مِنْ تَرْتِيلِهِ فِي قِرَاءَتِهِ وَعَلِمَ مِنْ ضَعْفِهِ عَنِ اسْتَدَامَتِهِ أَكْثَرَ مِمَّا حَدَّ لَهُ وَأَمَّا مَنِ اسْتَطَاعَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا تُمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَقَالَ مَا أَحْسَنَ ذَلِكَ إِنَّ الْقُرْآنَ إِمَامُ كُلِّ خَيْرٍ
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ إِنَّمَا الْآيَةُ مِثْلُ التَّمْرَةِ كُلَّمَا مَضَغْتَهَا اسْتَخْرَجْتَ حَلَاوَتَهَا فَحُدِّثَ بِهِ أَبُو سُلَيْمَانَ فَقَالَ صَدَقَ إِنَّمَا يُؤْتَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَنَّهُ إِذَا ابْتَدَأَ السُّورَةَ أَرَادَ آخرها
مسألة: في ختم القرآن في الشتاء وفي الصيف
يُسَنُّ خَتْمُهُ فِي الشِّتَاءِ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَفَى الصَّيْفِ أَوَّلَ النَّهَارِ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ لِأَحْمَدَ فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ وَيَجْمَعُ أَهْلَهُ عِنْدَ خَتْمِهِ وَيَدْعُو
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا خَتَمَ أَوَّلَ النَّهَارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُمْسِيَ وَإِذَا خَتَمَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ رَوَاهُ أَبُو داود
مسألة: في التكبير بين السور ابتداء من سورة الضحى
يسحب التَّكْبِيرُ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الضُّحَى إِلَى أَنْ يَخْتِمَ وَهَى قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ أَخَذَهَا ابْنُ كثير عن مجاهد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيٍّ وأبي عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَوَّاهُ وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ مَوْقُوفًا عَلَى أُبَيٍّ بِسَنَدٍ مَعْرُوفٍ وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي التَّشْدِيدِ وَاسْتَأْنَسَ لَهُ الْحَلِيمِيُّ بِأَنَّ الْقِرَاءَةَ تَنْقَسِمُ إِلَى أَبْعَاضٍ
مُتَفَرِّقَةٍ فَكَأَنَّهُ كَصِيَامِ الشَّهْرِ وَقَدْ أُمِرَ النَّاسُ أَنَّهُ إِذَا أَكْمَلُوا الْعِدَّةَ أَنْ يُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاهُمْ فَالْقِيَاسُ أَنْ يُكَبِّرَ الْقَارِئُ إِذَا أَكْمَلَ عِدَّةَ السُّوَرِ
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ التَّكْبِيرَ كَانَ لِاسْتِشْعَارِ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ قَالَ وَصِفَتُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّوَرِ أَنَّهُ كُلَّمَا خَتَمَ سُورَةً وَقَفَ وَقْفَةً ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ وَقَفَ وَقْفَةً ثُمَّ ابْتَدَأَ السُّورَةَ الَّتِي تَلِيهَا إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ ثُمَّ كَبَّرَ كَمَا كَبَّرَ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ أَتْبَعَ التَّكْبِيرَ الْحَمْدَ وَالتَّصْدِيقَ وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالدُّعَاءَ
وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ يُكَبِّرُ الْقَارِئُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ إِذَا بَلَغَ وَالضُّحَى بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ تَكْبِيرَةٌ إِلَى أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ وَلَا يَصِلْ آخِرَ السُّورَةِ بِالتَّكْبِيرِ بَلْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ وَكَأَنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ تَأَخَّرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيَّامًا فَقَالَ نَاسٌ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَدَّعَهُ صَاحِبُهُ وَقَلَاهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ وَلَا يُكَبِّرْ فِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَنَّ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى الزِّيَادَةِ فِي الْقُرْآنِ بِأَنْ زِيدَ عَلَيْهِ فَيُتَوَهَّمُ أنه من القرآن فيثبتوه فيه
مسألة: في تكرير الإخلاص
مِمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ تَكْرِيرِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ عِنْدَ الْخَتْمِ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى
الْمَنْعِ وَلَكِنَّ عَمَلَ النَّاسِ عَلَى خِلَافِهِ
قَالَ: بَعْضُهُمْ وَالْحِكْمَةُ فِي التَّكْرِيرِ مَا وَرَدَ أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ خَتْمَةٌ
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ ثَلَاثًا بَعْدَ الْوَاحِدَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْخَتْمَةُ فَيَحْصُلُ خَتْمَتَانِ
قُلْنَا: مَقْصُودُ النَّاسِ خَتْمَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّ القارئ إذا قَرَأَهَا ثُمَّ أَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُصُولِ خَتْمَةٍ إِمَّا الَّتِي قَرَأَهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ وَإِمَّا الَّتِي حَصَلَ ثَوَابُهَا بِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ ثَلَاثًا وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ ختمة أخرى
مسألة: فيما يفعله القارئ عند ختم القرآن
ثُمَّ إِذَا خَتَمَ وَقَرَأَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَقَرَأَ خَمْسَ آيَاتٍ مِنَ الْبَقَرَةِ إِلَى قَوْلِهِ: {هم المفلحون} لأن آيَةٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ بَعْضُ آيَةٍ وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الحث على تكرار الختم وختمة بَعْدَ خَتْمَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَتَعَقَّبُ الْخَتْمَ
فَائِدَةٌ
رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي بِالْقُرْآنِ وَاجْعَلْهُ لِي أَمَانًا وَنُورًا وَهُدًى وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ ذَكِّرْنِي مِنْهُ مَا نُسِّيتُ وَعَلِّمْنِي مِنْهُ مَا جَهِلْتُ وَارْزُقْنِي تِلَاوَتَهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَاجْعَلْهُ لِي حُجَّةً يَا رَبِّ الْعَالَمِينَ رَوَاهُ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ بِأَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُنْظَرْ فِيهِ
مَسْأَلَةٌ: في آداب الاستماع
اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ وَالتَّفَهُّمُ لِمَعَانِيهِ مِنَ الْآدَابِ الْمَحْثُوثِ عَلَيْهَا وَيُكْرَهُ التَّحَدُّثُ بِحُضُورِ الْقِرَاءَةِ قَالَ الشَّيْخُ أبو محمد بن محمد عَبْدِ السَّلَامِ وَالِاشْتِغَالُ عَنِ السَّمَاعِ بِالتَّحَدُّثِ بِمَا لَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الِاسْتِمَاعِ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى الشَّرْعِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بَأْسَ بالتحدث للمصلحة
مسألة: في حكم من يشرب شيئا كتب من القرآن
وَأَفْتَى الشَّيْخُ أَيْضًا بِالْمَنْعِ مِنْ أَنْ يَشْرَبَ شَيْئًا كُتِبَ مِنَ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ تُلَاقِيهِ النَّجَاسَةُ الباطنة
وفيما قاله لِأَنَّهَا فِي مَعْدِنِهَا لَا حُكْمَ لَهَا
وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالْجَوَازِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْعِمَادُ النِّيهِيُّ تِلْمِيذُ الْبَغَوِيِّ فِيمَا رَأَيْتُهُ بِخَطِّ ابْنِ الصَّلَاحِ
قَالَ: لَا يَجُوزُ ابْتِلَاعُ رُقْعَةٍ فِيهَا آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَوْ غَسَلَهَا وَشَرِبَ مَاءَهَا جَازَ وَجَزَمَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالرَّافِعِيُّ بِجَوَازِ أَكْلِ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي كُتِبَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ
وَقَالَ: الْبَيْهَقِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي ذِكْرِ مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ أَنَّهُ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ وَقِيلَ إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَ رُقْعَةً فِي الطَّرِيقِ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَأَخَذَهَا فَلَمْ يَجِدْ لَهَا مَوْضِعًا فَأَكَلَهَا فأري فيما يرى للنائم كَأَنَّ قَائِلًا قَدْ قَالَ لَهُ قَدْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِاحْتِرَامِكَ لِتِلْكَ الرُّقْعَةِ فَكَانَ بَعْدَ ذلك يتكلم بالحكمة
مسألة:
القيام للمصاحف بدعة
وَقَالَ الشَّيْخُ أَيْضًا فِي الْقَوَاعِدِ الْقِيَامُ لِلْمَصَاحِفِ بِدْعَةٌ لَمْ تُعْهَدْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ
وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي التِّبْيَانِ مِنِ اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ وَالْأَمْرِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ وَعَدَمِ التَّهَاوُنِ بِهِ وَسُئِلَ الْعِمَادُ بْنُ يُونُسَ الْمَوْصِلِيُّ عَنْ ذَلِكَ هَلْ يُسْتَحَبُّ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ يُكْرَهُ خَوْفَ الْفِتْنَةِ؟ فَأَجَابَ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ مَسْمُوعٌ وَالْكُلُّ جَائِزٌ وَلِكُلٍّ نيته وقصده
مسألة: في حكم الأوراق البالية من المصحف
وَإِذَا احْتِيجَ لِتَعْطِيلِ بَعْضِ أَوْرَاقِ الْمُصْحَفِ لِبَلَاءٍ وَنَحْوِهِ فَلَا يَجُوزُ وَضْعُهُ فِي شِقٍّ أَوْ غَيْرِهِ لِيُحْفَظَ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ وَيُوطَأُ وَلَا يَجُوزُ تَمْزِيقُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْطِيعِ الْحُرُوفِ وَتَفْرِقَةِ الْكَلِمِ وَفِي ذَلِكَ إِزْرَاءٌ بِالْمَكْتُوبِ كَذَا قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ قَالَ وَلَهُ غَسْلُهَا بِالْمَاءِ وَإِنْ أَحْرَقَهَا بِالنَّارِ فَلَا بَأْسَ أَحْرَقَ عُثْمَانُ مَصَاحِفَ فِيهَا آيَاتٌ وَقِرَاءَاتٌ مَنْسُوخَةٌ وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ الْإِحْرَاقَ أَوْلَى مِنَ الْغَسْلِ لِأَنَّ الْغُسَالَةَ قَدْ تَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ وَجَزَمَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ بِامْتِنَاعِ الْإِحْرَاقِ وَأَنَّهُ خِلَافُ الِاحْتِرَامِ وَالنَّوَوِيُّ بِالْكَرَاهَةِ فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ
وَفَى الْوَاقِعَاتِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُصْحَفَ إذا بلي لا يحرق بل تحفر لَهُ فِي الْأَرْضِ وَيُدْفَنُ
وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَيْضًا وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِيهِ لِتَعَرُّضِهِ لِلْوَطْءِ بالأقدام
مسألة: في أحكام تتعلق باحترام المصحف وتبجيله
وَيُسْتَحَبُّ تَطْيِيبُ الْمُصْحَفِ وَجَعْلُهُ عَلَى كُرْسِيٍّ وَيَجُوزُ تَحْلِيَتُهُ بِالْفِضَّةِ إِكْرَامًا لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَأَلَتُ مَالِكًا عَنْ تَفْضِيضِ الْمَصَاحِفِ فَأَخْرَجَ إِلَيْنَا مُصْحَفًا فَقَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي أَنَّهُمْ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَأَنَّهُمْ فَضَّضُوا الْمَصَاحِفَ عَلَى هَذَا وَنَحْوِهِ وَأَمَّا بِالذَّهَبِ فَالْأَصَحُّ يُبَاحُ لِلْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْجَوَازَ بِنَفْسِ الْمُصْحَفِ دُونَ عَلَاقَتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ وَالْأَظْهَرُ التَّسْوِيَةُ
وَيُحْرَمُ تَوَسُّدُ الْمُصْحَفِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ لِأَنَّ فِيهِ إِذْلَالًا وَامْتِهَانًا وَكَذَلِكَ مَدُّ الرِّجْلَيْنِ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ كُتُبِ الْعِلْمِ
وَيُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ الْمُصْحَفِ لِأَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ كَانَ يُقَبِّلُهُ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى تَقْبِيلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَلِأَنَّهُ هَدِيَّةٌ لِعِبَادِهِ فَشُرِعَ تَقْبِيلُهُ كَمَا يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ
وَعَنْ أَحْمَدَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ الْجَوَازُ وَالِاسْتِحْبَابُ وَالتَّوَقُّفُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِفْعَةٌ وَإِكْرَامٌ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ قِيَاسٌ وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ فِي الْحَجَرِ لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ
وَيَحْرُمُ السَّفَرُ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ لِلْحَدِيثِ فِيهِ خوف أن تناله أيديهم وقيل كَثُرَ الْغُزَاةُ وَأُمِنَ اسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَيْهِ لَمْ يُمْنَعْ لقوله "مخافة أن تناله أيديهم"
وَيَحْرُمُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ نَجَسٍ وَكَذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَتُكْرَهُ كِتَابَتُهُ فِي الْقِطَعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ وَعَنْهُ تَنَوَّقَ رَجُلٌ فِي {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَغُفِرَ لَهُ
وَقَالَ: الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ لَيْتَنِي قَدْ رَأَيْتُ الْأَيْدِيَ تُقْطَعُ فِيمَنْ كَتَبَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَعْنِي لَا يَجْعَلُ لَهُ سِنَّاتٍ قَالَ وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ ذَلِكَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً
وَيُسْتَحَبُّ تَجْرِيدُ الْمُصْحَفِ عَمَّا سِوَاهُ وَكَرِهُوا الْأَعْشَارَ وَالْأَخْمَاسَ مَعَهُ وَأَسْمَاءَ السُّوَرِ وَعَدَدَ الْآيَاتِ وَكَانُوا يَقُولُونَ جَرِّدُوا الْمُصْحَفَ وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ يَجُوزُ لأن النقط ليس له قرار فَيُتَوَهَّمَ لِأَجْلِهَا مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ قُرْآنًا وَإِنَّمَا هِيَ دَلَالَاتٌ عَلَى هَيْئَةِ الْمَقْرُوءِ فَلَا يَضُرُّ إِثْبَاتُهَا لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "جَرِّدُوا الْقُرْآنَ" وَفِي رِوَايَةٍ "لَا تُلْحِقُوا بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ" وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي أَوَاخِرِ الصَّوْمِ وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِهِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَقَالَ قَوْلُهُ جَرِّدُوا يُحْتَمَلُ فِيهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَيْ جَرِّدُوهُ فِي التِّلَاوَةِ وَلَا تَخْلِطُوا بِهِ غَيْرَهُ
وَالثَّانِي: أَيْ جَرِّدُوهُ فِي الْخَطِّ مِنَ النَّقْطِ وَالتَّعْشِيرِ
قُلْتُ: الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ الطَّبَرَانِيَّ أَخْرَجَ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّعْشِيرَ فِي الْمُصْحَفِ وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ وَقَالَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَذْهَبُ بِهِ إِلَى نَقْطِ الْمَصَاحِفِ
وَيُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَرِهَ التَّعْشِيرَ فِي الْمُصْحَفِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَبْيَنُ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ لَا تَخْلِطُوا بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ لِأَنَّ مَا خَلَا الْقُرْآنَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يُؤْخَذُ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
وَلَيْسُوا بِمَأْمُونِينَ عَلَيْهَا وَقَوِيَ هَذَا الْوَجْهُ بِمَا أَخْرَجَهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ لَمَّا خَرَجْنَا إِلَى الْعِرَاقِ خَرَجَ مَعَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُشَيِّعُنَا فَقَالَ إِنَّكُمْ تَأْتُونَ أَهْلَ قَرْيَةٍ لَهُمْ دَوِيٌّ بِالْقُرْآنِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ فَلَا تَشْغَلُوهُمْ بِالْأَحَادِيثِ فَتَصُدُّوهُمْ جَرِّدُوا الْقُرْآنَ
قَالَ فَهَذَا مَعْنَاهُ أَيْ لَا تَخْلِطُوا مَعَهُ غَيْرَهُ
خَاتِمَةٌ
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ صَالِحٍ حَدِيثَ "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عِنْدَ ظَالِمٍ لَيَرْفَعَ مِنْهُ لُعِنَ بِكُلِّ حِرَفٍ عَشْرَ لَعَنَاتٍ"