الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللغَة: {أَغْلَالاً} جمع عُلّ هو القيد الذي يوضع في اليد، وقد تشدُّ به اليد مع العنق {مُّقْمَحُونَ} رافعوا الرؤوس مع غض البصر، قال أهل اللغة: الإقماح: رفع الرأس وغض البصر يقال: أقمح البعير إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشرب، قال بشر يصف سفينة:
ونحن على جوانبها قعودُ
…
نغضُّ الطرف كالإِبل القِماح
{سَدّاً} السَّد: الحاجز والمانع بين الشيئين {فَعَزَّزْنَا} عززه قوَّاه وشدَّ من أزره {تَطَيَّرْنَا} تشاءمنا، والتطير التشاؤم، وأصله الطير إذا طار الى جهة ال
يس
ار تشاءموا به {خَامِدُونَ} ميتون لا حراك بهم كما تخمد النار.
التفسِير: {يس} الحروف المقطعة في أوائل بعض السور الكريمة للتنبيه على إعجاز القرآن، وأنه مصوغ من جنس هذه الحروف الهجائية التي يعرفونها ويتكلمون بها، ولكنَّ نظمه البديع المعجز آيةٌ على كونه من عند الله وقال ابن عباس: معنى «يس» يا إنسان في لغة طيء، وقيل: هن اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم َ بدليل قوله بعده {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} وقيل معناه: يا سيد البشر قاله أبو بكر الوراق {والقرآن الحكيم} قسم من الله تعالى بالقرآن، والحكيم معناه المحكم، الذي لا يلحقه تغيير ولا تبديل، ولا يعتريه تناقض أو بطلان قال القرطبي: أُحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل وقال أبو السعود: أي المتضمن للحكمة أو الناطق بالحكمة من حيث نظُمه المعجز، المنطوي على بدائع الحكم. . والخلاصة فقد أقسم تعالى بهذا الكتاب المحكم، المعجز نظمه، وبديع معانيه، المتقن، في تشريعه وأحكامه، الذي بلغ أعلى طبقات البلاغة، على أن محمداً رسوله، وفي هذا القسم من التعظيم والتفخيم لشأن الرسول ما فيه {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} جواب القسم إنك يا محمد لمن المرسلين من رب العالمين لهداية الخلق قال ابن عباس: قالت كفار قريش: لست يا محمد مرسلاً، وما أرسلك الله إلينا، فأقسم الله بالقرآن العظيم المحكم أن محمداً صلى الله عليه وسلم َ من المرسلين {على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي على طريق ونهج مستقيم، لا انحراف فيه ولا اعوجاج، وهو الإسلام دين الرسل قبلك، والذين جاءوا بالإيمان والتوحيد قال الطبري: أي على طريق لا اعوجاج فيه من الهدى وهو الإسلام كما قال قتادة، والتنكير للفتخيم والتعظيم {تَنزِيلَ العزيز الرحيم} أي هذا القرآن الهادي المنير، تنزيلٌ من ربّ العزة جلا وعلا، والعزيز في ملكه، الرحيم بخلقه {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} أي لتنذر يا محمد بهذ القرآن العرب، الذين ما جاءهم رسولٌ ولا كتاب، لتطاول زمن الفترة عليهم، والمراد بالإنذار تخويفهم من عذاب الله {فَهُمْ غَافِلُونَ} أي فهم بسبب ذلك غافلون عن الهدى والإيمان، يتخبطون في ظلمات الشرك وعبادة الأوثان. . ثم بيَّن تعالى استحقاقهم للعذاب بإصرارهم على الكفر والتكذيب فقال {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤمِنُونَ} اللام موطئة للقسم أي والله لقد وجب عذاب النار على أكثر هؤلاء المشركين، بسبب إصرارهم على الكفر والإنكار، وعدم تأثرهم بالتذكير والإنذار، فهم لذلك لا يؤمنون بما جئتهم به يا محمد.
. ثم بيَّن تعالى سبب تركهم الإيمان فقال {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً فَهِىَ إِلَى الأذقان فَهُم مُّقْمَحُونَ} تمثيلٌ وتصوير لحال المشركين في ضلالهم بحال الذي جعل في يده غلٌّ وجمعت يده إلى عنقه، فبقي رافعاً رأسه لا يخفضه قال في الجلالين: وهذا تمثيل ولمراد أنه لا يُذعنون للإيمان،
ولا يخفضون رؤوسهم له قال ابن كثير: ومعنى الآية: إن جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء، كمن جُعل في عُنقه غلٌّ، وجمعت يداه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسه فصار مُقمحاً، والمُقمح هو الرافع رأسه، وكتفى بذكر الغُلِّ في العنق عن ذكر اليدين، لأن الغُلَّ إنما يُعرف فيما جمع اليدين مع العنق وقال أبو السعود: مثِّل حالهم بحال الذين غُلَّت أعناقهم {فَهِىَ إِلَى الأذقان} أي فالأغلال منتيهةٌ إلى أذقانهم، فلا تدعهم يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يُطاطئون رؤوسهم، غاضون أبصارهم، بحيث لا يكادون يرون الحقَّ، أو ينظرون إلى جهته {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} قال أبو السعود: وهذا تتمةٌ للتمثيل وتكميلٌ له أي وجعلنا من أمامهم سداً عظيماً، ومن ورائهم سداً كذلك {فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} أي فغظينا بهما أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يبصرون شيئاً أصلاً، لأنهم أصبحوا محصورين بين سدين هائلين، وهذا بيان لكمال فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغيُّ والجهالات، محرومين عن النظر في الأدلة والآيات، قال المفسرون: وهذا كله تمثل لسدِّ طرق الإيمان عليهم، بمد سُدَّت عليه الطرق فهو لا يهتدي لمقصوده {وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} أي يستوي عندهم إنذارك يا محمد وتخويفك لهم وعدمه، لأن من خيَّم على عقله ظلام الضلال، وعشعشت في قبله شهوات الطغيان، لا تنفعه القوارع والزواجر {لَا يُؤمِنُونَ} أي فهم بسبب ذلك لا يؤمنون، لأنَّ الإِنذار لا يخلق القلوب الميتة، إنما يوقظ القلب الحيَّ المستعد لتلقي الإيمان، وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم َ وكشف الحقيقة ما انطوت عليه قلوبهم من الطغيان {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} أي إنما ينفع إنذارك يا محمد من آمن بالقرآن وعمل بما فيه {وَخشِيَ الرحمن بالغيب} أي وخاف الله دون أن يراه قال أبو حيان:{وَخشِيَ الرحمن} أي المتصف بالرحمة، والرحمةُ تدعو إلى الرجاء، لكنه مع علمه برحمته يخشاه جلا وعلا، خوفاً من أن يسلبه ما أنعم به عليه ومعنى «بالغيب» أي بالخلوة عن مغيب الإِنسان عن عيون البشر {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} لما انتفع بالإنذار كان جديراً بالبشارة أي فبشره يا محمد بمغفرة عظيمة من الله لذنوبه، وأجر كريمٍ في الآخرة في جنات النعيم قال ابن كثير: الأجر الكريم هو الكثير الواسع، الحسن الجميل وذلك إنما يكون في الجنة.
. ولما ذكر تعالى أمر الرسالة ذكر بعدها أمر البعث والنشور فقال {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى} أي نبعهم من قبورهم بعد موتهم للحساب والجزاء {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ} قال الطبري: أي ونكتب ما قدَّموا في الدنيا من خير وشر، ومن صالح الأعمال وسيئها {وَآثَارَهُمْ} أي وآثار خطاهم بأرجلهم إلى المساجد، وفي الحديث عن جابر قال:«أراد بنو سَلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد والبقاع خالية فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال:» يا
بني سلمة دياركم تُكتب آثاركُم، دياركم تُكتب آثاركم «فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا» {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ} أي وكل شيء من الأشياء أوامرٍ من الأمور جمعناه وضبطناه في كتاب مسطور هو صحائف الأعمال كقوله تعالى {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] أي بكتاب أعمالهم، الشاهد عليهم بما علموه من خيرْ أو شرٍ، وقال مجاهد وقتادة: هو اللوح المحفوظ وقال ابو حيان: «نكتب ما قدَّموا» أي ونحصي، فعبَّر عن إحاطة علمه جل وعلا بأعمالهم بالكتابة التي تُضبط بها الأشياء. . ثم ذكر تعالى للمشريكن قصة أهل القرية الذين كذبوا الرسل فأهلكهم الله بصيحةٍ من السماء فقال {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية} أي واذكر يا محمد لقومك الذين كذبوك قصة أصحاب القرية «أنطاكية» التي هي في الغرابة كالمثل السائر والقول العجيب {إِذْ جَآءَهَا المرسلون} أي حين جاءهم رسلنا الذين أرسلناهم لهدايتهم قال القرطبي: وهذه القرية هي «أنطاكية» في قول جميع المفسرين أرسل الله إليهم ثلاثة رسل وهم «صادق» و «مصدوق» و «شمعون» أُمر صلى الله عليه وسلم َ بإنذار هؤلاء المشركين أن يحل بهم ما حلَّ بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل من الله، وقيل هم رسل عيسى {إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا} أي حين بعثنا إليهم رسولين فبادروهما بالتكذيب {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي قوَّيناهما وشددنا أزرهما برسولٍ ثالث {فقالوا إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} أين نحن رسل الله مرسلون لهدايتكم {قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} أي ليس لكم فضلٌ علينا وما أنتم إلا بشر مثلنا، فكيف أوحى الله إليكم دوننا؟ {وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ} أي لم ينزل الله شيئاً من الوحي والرسالة {إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ تَكْذِبُونَ} أي ما أنتم إلا قوم تكذبون في دعوى الرسالة {قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} أي أجابهم الرسل بقولهم الله يعلم أننا رسله إليكم، ولو كنا كذبة لانتقم منا أشدَّ الانتقام قال ابن جزي: أكدوا الخبر هنا باللام {لَمُرْسَلُونَ} لأنه جواب المنكرين، بخلاف الموضع الأول فإنه إخبارٌ مجرد {وَمَا عَلَيْنَآ إِلَاّ البلاغ المبين} أي وليس علينا إلا أن نبلغكم رسالة الله بلاغاً واضحاً جلياً لا غموض فيه، فإن آمنتم فلكم السعادة، وإن كذبتم فلكم الشقاوة قال أبو حيان: وفي هذا وعيدٌ لهم، ووصف البلاغ ب {المبين} لأنه الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإرسال، كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة صدق الرسل، من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الميت {قالوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي قال لهم أهل القرية: إنّا تشاءمنا بكم وبدعوتكم القبيحة لنا إلى الإيمان، وترك عبادة الأوثان قال المفسرون: ووجه تشاءمهم بالرسل أنهم دعوهم إلى دينٍ غير ما يدينون به، فساتغربوه واستقبحوه ونفرت منه عنه طبيعتهم المعوجة، فتشاءموا بمن دعا إليه كأنهم قالوا: أعاذنا الله مما
تدعوننا إليه، ثم توعَّدُوا الرسل بقولهم {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ} أي والله لئن لم تمتنعوا عن قولكم، ودعوتكم لنا إلى التوحيد، ورفض ديننا {لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لنرجمنَّكم بالحجارة حتى تموتوا، ولنقتلنَّكم شرَّ قِتلة {قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} أي قالت الرسل لهم: ليس شؤمكم بسببنا، وإنما شؤمكم بسببكم، وبكفركم، وعصيانكم، وسوء أعمالكم {أَئِن ذُكِّرْتُم} ؟ شرطٌ جوابه محذوف لدلالة السياق عليه أي أئن ذكرناكم ووعظناكم ودعوناكم إلى توحيد الله، تشاءمتم بنا وتوعدتمونا بالرجم والتعذيب؟ {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} أي ليس الامر كما زعمتم بل أنتم قومٌ عادتكم الإِسرافُ في العصيان والإِجرام، وهو توبيخٌ لهم مع الزجر والتقريع {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى} أي وجاء من أبعد أطراف المدينة رجل يعدو، يسرع في مشيه وهو «جبيب النجار» قال ابن كثير: إن أهل القرية همَّوا بقتل رسلهم، فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى لينصرهم من قومه، وهو حبيب النجار كان يعمل الحرير وهو الحباك، وكان كثير الصدقة يتصدق بنصف كسبه وقال القرطبي: كان حبيب مجذوماً ومنزله عند أقصى أبواب المدينة، وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم لعلهم يرحمونه ويكشفون ضُرَّه، فما استجابوا له، فلما أبصر الرسل ودعوه إلى الله قال: هل من آية؟ قالوا نعم نحن ندعو ربنا القادر فيفرج عنك ما بك! فقال إن هذا لعجيبٌ، إني إدعو هذه الآلهة سبعين سنة لتفرج عني فلم تستطع فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا نعم ربنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئاً ولا تضر، فآمن ودعوا ربهم فكشف الله ما به، فلمَّا همَّ قومه بقتل الرسل جاءهم مسرعاً وقال ما قصة القرآن {قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين} أي اتبعوا الرسل الكرام الداعين إلى توحيد الله، وإنما قال {ياقوم} تأليفاً لقلوبهم واستمالة لها لقبول النصيحة، ثم كرر القول تأكيداً وبياناً للسبب فقال {اتبعوا مَن لَاّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} أي اتبعوا هؤلاء الرسل الصادقين المخلصين، الذين لا يسألونكم أُجرة على الإِيمان، وهم على هدى وبصيرة فيما يدعونكم إليه من توحيد الله {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تلطفُ في الإرشاد لهم كأنه ينصح نفسه، ويختار لهم ما يختار لنفسه، ونفيه نوع تقريع على ترك عبادة خالقهم والمعنى أيُ شيء يمنعني من أن أعبد خالقي الذي أبدع خلقي؟ وإليه مرجعكم بعد الموت فيجازي كلاً بعمله؟ {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً} استفهام إنكاري أي كيف أتخذ من دون الله آلهة لا تسمع ولا تنفع ولا تغني عن عابدها شيئاً؟ {إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ لَاّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} أي هي في المهانة والحقارة بحيث لو أراد الله أن يُنزل بي شيئاً من الضر والأذى وشفعت لي لم تنفع شفاعتهم ولم يقدروا على إنقاذي، فكيف وهي أحجار لا تسمع ولا تنفع ولا تشفع؟ {وَلَا يُنقِذُونَ} أي ولا يقدرون على إنقاذي من عذاب الله {إني إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} أي إني إن عبدت غير الله واتخذت الأصنام آلهة لفي خسران ظاهر جلي.
. وبعد النصح التذكير أعلن إسلامه، م وأشهر إيمانه فقال {إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون} أي إني آمنت بربكم الذي خلقكم، فاسمعوا قولي واعلموا بنصيحتي قال
المفسرون: لما قال لهم ذلك ونصحهم وأعلن إيمانه، وثبوا عليه وثبة رجلٍ واحد فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه أذاهم قال الطبري: وثبوا عليه فوطئوه بأقدامهم حتى مات، وقيل: رموه بالحجارة حتى مات {قِيلَ ادخل الجنة} أي فلما مات قال الله له: ادخل الجنة مع الشهداء الأبرار، جزاءً على صدق إيمانك وفوزك بالشهادة قال ابن مسعود: إنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرجت أمعاؤه من دبره، وقال الله له {ادخل الجنة} فدخلها فهو يُرزق فيها، قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحُزنها ونَصَبها {قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين} أي فلما دخل الجنة وعاين ما أكرمه الله بها لإيمانه وصبره تمنى أن يعلم قومه بحاله، ليعلموا حسن مآله أي يا ليتهم يعملون بالسبب الذي من أجله غفر لي ربي ذنوبي، وأكرمني بدخول جنات النعيم قال ابن عباس: نصح قومه في حياته، ونصحهم بعد مماته قال أبو السعود: وإنما تمنَّى علم قومه بحاله ليحملهم ذلك عى اكتساب الثواب والأجر، بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان، جرياً على سنن الأولياء في الترحم على الأعداء {وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء} هذا تحقيرٌ لهم وتصغيرٌ لشأنهم {إِن كَانَتْ إِلَاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} أي ما كانت عقوبتهم إِلا صحيةً واحدة صاح بها جبريل، فإذا هم ميتون لا حراك بهم، قد أخمدت أنفاسهم حتَّى صاروا كالنار الخامدة قال المفسرون: وفي الآية استحقار لإِهلاكهم فإِنهم أذل وأهون على الله من أن يرسل الملائكة لإِهلاكهم، وقد روي أنه لما قُتل «حبيب النجار» غضب الله تعالى له، فعجَّل لهم النقمة فأمر جبريل فصاح بهم صحية واحدة، فماتوا عن آخرهم، فجعل طريق استئصالهم بالصيحة، ثم قال تعالى {ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلَاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي يا أسفاً على هؤلاء المكذبين لرسل الله المنكرين لآياته ويا حسرةً عليهم، ما جاءهم رسولٌ إلا كذبوه واستهزءوا به، وهكذا عادة المجرمين في كل زمان ومكان قال في حاشية البيضاوي: إنهم أحقاء بأن يتحسروا على أنفسهم أو يُتحسر عليهم، فإن الأمر لفخامته وشدته، بلغ إلى حيث إن كل من يتأتى منه التلهف إذا نظر إلى حال استهزائهم بالرسل تحسَّر عليهم، وقال: يا لها من حسرةٍ وخيبة على هؤلاء المحرومين، حيث بدَّلوا الإِيمان بالكفر، والسعادة بالشقاوة، وفي الآية تعريضٌ بكفار قريش حيث كذبوا سيد المرسلين.
ولمّا مثل حال كفار مكة بحال أصحاب القرية وبَّخ المشركين على عدم اعتبارهم بمن سبقهم فقال {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} أي ألم يتعظ هؤلاء المشركين بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل، ويعلموا أن هؤلاء المهلكين لا عودة لهم إلى الدنيا بعد هلاكهم؟ {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي وأن جميع الأمم
الماضية والآتية ستحضر للحساب والجزاء يوم القيامة بين يدي أحكم الحاكمين، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها؟ قال أبو حيان: وجاءت هذه الجملة بعد ذكر الإِهلاك تبيناً إلى أن الله تعالى لا يترك المهلكين بل بعد الهلاك جمعٌ وحساب، وثواب وعقاب.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
التأكيد بأكثر من مؤكد لأن المخاطب منكر مثل {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} فقد أُكد كل منها ب «إنَّ» و «اللام» ويسمى هذا الضرب إنكارياً.
2 -
الاستعارة التمثيلية {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً. .} الآية شبَّه حال الكفار في امتناعهم من الهدى والإيمان بمن غلت يده إلى عنقه بالسلاسلا والأغلال فأصبح رأسه مرفوعاً لا يستطيع خفاضاً له ولا التفاتاً، وبمن سُدَّت الطُرقُ في وجهه فلم يهتد لمقصوده، وذلك بطريق الاستعارة التمثيلية.
3 -
الطباق {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
…
ومِنْ خَلْفِهِمْ} .
4 -
طباق السلب {أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} .
5 -
الجناب الناقص {نَحْنُ نُحْيِي} لتغيير بعض الحروف.
6 -
الإِطناب بتكرار الفعل {اتبعوا المرسلين اتبعوا مَن لَاّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} .
7 -
الاستفهام للتوبيخ {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً} ؟
8 -
الحذف لدلالة السياق عليه {قِيلَ ادخل الجنة} أي فلما أشهر إيمانه قتلوه فقيل له ادخل الجنة.
9 -
جناس الاشتقاق بين {تَطَيَّرْنَا
…
. . وطَائِرُكُم} وبين {أَرْسَلْنَآ والمُّرْسَلُونَ} .
10 -
مراعاة الفواصل وهو من خصائص القرآن لما فيه من روعة البيان، وحسن الوقع على السمع، وهو كثير.
تنبيه: من محاسن التنزيل الكريم وبلاغته الخارقة، هو الإِيجاز في القصص والأنباء، والإِشارة إلى روحها وسرّها، لأن القصد من القصص التذكير والاعتبار، ولهذا لم يذكر في القصة اسم البلدة، ولا اسم الشخص الذي دعاهم إلى الله، ولا اسم الرسل الكرام، لأن كل ذلك ليس هو الهدف من القصة، وقس على هذا سائق قصص القرآن.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصة أهل القرية، وإهلاك الله له بالصيحة بسبب تكذيبهم المرسلين، ذكر هنا الأدلة والبراهين على القدرة والوحدانية، في إخراج الزروع والثمار، وتعاقب الليل والنهار، وفي الشمس والقمر يجرينا بقدرة الواحد القهار، ثم ذكر شبهات المشركين حول البعث وردَّ عليها بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة.
اللغَة: {وَآيَةٌ} علامة لأنها دالة على وجود الله قال أبو العتاهية:
فيا عجباً كيف يُعصى الإِلهُ
…
أمْ كيف يجْده الجاحِدُ؟
وللهِ في كل تحريكةٍ
…
وتسكينةٍ أبداً شاهد
وفي كل شيءٍ له آيةً
…
تدل على أنه وا حد
{الأزواج} الأصناف والأنواع {نَسْلَخُ} السَّلخ: الكشط والنزع قال تعالى {فانسلخ مِنْهَا} [الأعراف: 175] ويقال سلخ الجزار جلدة الشاة أي نزل الجلد عن اللحم {كالعرجون} من الانعراج وهو الانعطاف، والعرجون: عود عذق النخلة الذي فيه عناقيد الرطب قال الجوهري: هو أصل العذق الذي
يعوجُّ وتقتطع منه الشماريخ فيبقى على النخل ياسباً {المشحون} المملوء الموقر الثقيلة {صَرِيخَ} مغيث {يَخِصِّمُونَ} يختصمون في أمورهم غافلين عما حولهم {الأجداث} جمع جدث وهو القبر {يَنسِلُونَ} يسرعون في الخروج، يقال: عسل الذئبُ ونسل أي أسرع في المشي.
التفسِير: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا} أي ومن الآيات الباهرة، والعلامات الظاهرة الدالة على كمال قدرة الله ووحدانيته هذه الآية العظيمة، وهي الأرض الياسبة الهامدة التي لا نبات فيها ولا زرع، أحييناها بالمطر قال المفسرون: موتُ الأرض جدبها، وإِحياؤها بالغيث، فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج ولهذا قال تعالى بعده {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} أي وأخرجنا بهذا الماء أنواع الحبوب ليتغذوا به ويعيشوا قال القرطبي: نبَّههم تعالى بهذا على إحياء الموتى، وذكَّرهم على توحيده وكمال قدرته، بالأرض الميتة أحياها بالنبات، وإخراج الحب منها، فمن الحبِّ يأكلون وبه يتغذون {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي وجعلنا في الأرض بساتين ناضرة فيها من أنواع النخيل والعنب {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون} أي وجعلنا فيها ينابيع من الماء العذب، والأنهار السارحة شفي بلدان كثيرة {لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أي ليأكلوا من ثمرات ما ذُكر من الجنات والنخيل التي أنشأها لهم، ومما عملته أيديهم مما غرسوه وزرعوه بأنفسهم قال ابن كثير: لما امتنَّ على خلقه بإيجاد الزروع لهم، عطف بذكر الثمار وأنواعها وأصنافها، وما ذاك كله إلا من رحمة الله تعالى بهم، لا بسعيهم وكدِّهم، ولا بحولهم وقوتهم ولهذا قال {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} ؟ أي أفلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم؟ واختار ابن جرير أنَّ «ما» بمعنى الذي أي ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم أي من الذي غرسوه ونصبوه {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا} أين تنزَّه وتقدَّس الله العلي الجليل الذي خلق الأصناف كلها، والمختلفة الألوان والطعوم والأشكال من جميع الأشياء {مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} أي ممَّا تُخرج الأرضُ من النخيل والأشجار، والزروع والثمار، ومن أنفسهم من الذكور والإِناث، ومما لا يعملون من المخلوقات العجيبة والأشياء الغريبة كما قال تعالى
{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]{وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} أي وعلامةً أخرى لهم على كمال قدرتنا الليلُ نزيل عنه الضوء ونفصله عن النهار فإذا هم داخلون في الظلام، وفي الآية رمزٌ إلى أن
الأصل هو الظلام والنور عارض، فإذا غربت الشمس ينسلخ النهار من الليل ويكشف ويزول فيظهر الأصل وهو الظلمة {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} أي وآيةً أخرى لهم الشمس تسير بقدرة الله في فَلك لا تتجاوزه ولا تتخطاه لزمنٍ تستقر فيه، ولوقت تنتهي إليه وهو يوم القيامة حيث ينقطع جريانها عند خراب العالم قال ابن كثير: وفي قوله تعالى {لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} قولان: أحدهما: أن المراد مستقرها المكاني وهو تحت العرش مما يلي الأرض لحديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال: «يا أبا ذرٍ أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت: اللهُ ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش. .» الحديث. والثاني: أن المراد بمستقرها هو منتهى سيرها وهو يوم القيامة، حيث يبطل سيرها، وتسكن حركتها، وتُكور وينتهي هذا العالم إلى غايته، وقرىء (لا مستقر لها) أي لا قرار لها ولا سكون، بل هي سائرة ليلاً ونهاراً، لا تفتر ولا تقف {ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} أي ذلك الجري والدوران بانتظام وبحساب دقيق هو تقدير الإله العزيز في ملكه، العليم بخلقه {والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} أي والقمرَ قدرنا مسيره في منازل يسير فيها لمعرفة الشهور، وهي ثمانية وعشرون منزلاً في ثمانية وعشرين ليلة، ينزل كل ليلةٍ في واحد منها لا يتخطاها ولا يتعادها، فإذا كان في آخر ليلة دقَّ واستقوس {حتى عَادَ كالعرجون القديم} أي حتى صار كغصن النخل اليابس، وهو عنقود التمر حين يجف ويصفر ويتقوس قال ابن كثير: جعل الله القمر لمعرفة الشهور، كما جعل الشمس لمعرفة الليل والنهار، وفاوت بين سير الشمس وسير القمر، فالشمس تطلع كل يوم وتغرب آخره، وتنتقل في مطالعها ومغاربها صيفاً وشتاءْ، يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار، وهي كوكبٍ نهاري، وأما القمر فقدَّره منازل يطلع في أول ليلةٍ من الشهر ضئيلاً قليل النور، ثم يزداد نوراً في الليلة الثانية ويرتفع منزلة، ثم كلما ارتفع ازداد ضياؤه حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر حتى يصير كالعرجون القديم قال مجاهد: أي العذق اليابس وهو عنقود الرطب إذا عتق ويبس وانحنى، ثم يبدأ جديداً في أول الشهر الآخر {لَا الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر} أي لا يمكن للشمس ولا يصح لها أن تجتمع مع القمر بالليل فتمحو نوره، لأن ذلك يُخلُّ بتلوين النبات، ومصلحة العباد قال الطبري: أي لا الشمس يصلح لها إدراك القمر، فيُذهب ضوءها نوره فتكون الأوقات كلها نهاراً لا ليل فيها {وَلَا اليل سَابِقُ النهار} أي
ولا الليل يسبق النهار حتى يدركه فيذهب بضيائه فتكون الأوقات كلها ليلاً {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي وكلٌ من الشمس والقمر والنجوم تدور في فلك السماء قال الحسن: الشمس والقمر والنجوم في فَلك بين السماء والأرض، وغير ملصقة بشيء ولو كانت ملصقة ما جرت والغرضُ من الآية: بيانُ قدرة الله في تسيير هذا الكون بنظام دقيق، فالشمس لها مدار، والقمر له مدار، وكل كوكب من الكواكب له مدار لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه، ولا يطغى أحدهما على الآخر كما قال قتادة:«لكل حدٍّ وعلمٌ لا يعدوه، ولا يقصر دونه» حتى يأتي الأجل المعلوم بخراب العالم، فيجمع الله بين الشمس والقمر كما قال تعالى
{وَجُمِعَ الشمس والقمر} [القيامة: 9] فيختل نظام الكون، وتقوم القيامة، وتنتهي حياة البشرية عن سطح هذا الكوكب الأرضي {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون} أي وعلامة أخرى واضحة للناس على كمال قدرتنا أننا حملنا آباءهم الأقدمين وهم ذرية آدم في سفينة نوح عليه السلام التي أمره الله أن يحمل فيها من كلٍ زوجين اثنين قال في التسهيل: وإنما خصَّ ذريتهم بالذكر، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، ولأن فيه إشارة إلى حمل أعقابهم إلى يوم القيامة {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} أي وخلقنا لهم من مثل سفينة نوح السفن العظيمة التي يركبونها ويبلغون عليها أقصة البلدان، وإنما نسب الخلق إليه لأنها بتعليم الله جل وعلا للإِنسان وقال ابن عباس: هي الإِبل وسائر المركوبات، فهي في البر مثل السفن في البحر {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} ولو أردنا لأغرقناهم في البحر فلا مغيث لهم {وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ} أي ولا أحد يستطيع أن ينقذهم من الغرق {إِلَاّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إلى حِينٍ} أي لا ينقذهم أحد إلا نحن لأجل رحمتنا إياهم، وتمتيعنا لهم إلى انقضاء آجالهم. . بيَّن تعالى أن ركوبهم السفن في البحر من الآيات العظيمة، فإن سير السفينة بما فيها من الرجال والأثقال فوق سطح الماء آية باهرة فقد حملتهم قدرة الله ونواميسه التي تحكم الكون وتصرفه بحكم خواص السفن، وخوناص الماء، وخواص الريح، وكلُّها من أمر الله وخلقه وتقديره، والسفينة في البحر الخضم كالريشة في مهبِّ الهواء، وإلاّ تدركها رحمة الله فهي هالكة في لحظة من ليل أو نهار، والذين ركبوا البحار، وشاهدوا الأخطار، يدركون هول البحر المخيف، ويحسون معنى رحمة الله وأنها وحدها هي المنجي لهم من بين العواصف والتيارات، في هذا الخضم الهائل الذي تمسكه يد الرحمة ويعرفون معنى قوله تعالى {إِلَاّ رَحْمَةً مِّنَّا} فسبحان الله القدير الرحيم!! {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ} لما ذكَّرهم تعالى بدلائل قدرته، وآثار رحمته، أخبرنا هنا عن تعاميهم عن الحق، وأعراضهم عن الهدى والإيمان، مع كثرة الآيات الواضحات، والشواهد الباهرات والمعنى وإذا قيل للمشركين احذروا سخط الله وغضبه، واعتبروا بما حلَّ بالأمم السابقين قبلكم من العذاب بسبب تكذيبهم الرسل، واحذروا ما وراءكم من عذاب الآخرة لكي تُرحموا، وجواب الشرط محذوف تقديره أعرضوا واستكبروا ودلّ عليه قوله تعالى {إِلَاّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} قال القرطبي: والجواب محذوب والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا، ودليله الآية التي بعدها {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ} فاكتفى بهذا عن ذلك {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَاّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي وما تأتي هؤلاء المشركين علامة من العلامات والواضحة الدالة على صدق الرسول كالمعجزات الباهرة التي أيده الله بها إلا أعرضوا عنها على وجه التكذيب والاستهزاء قال أبو السعود: وإضافة الآيات إلى اسم الرب جل وعلا لتفخيم شأنها، المستتبع لتهويل ما اجترءوا عليه في حقها، والمراد بالآيات إما الآيات التنزيلية التي من جملتها الآيات الناقطة ببدائع صنع وسوابغ آلائه، أو الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات، التي من جملتها ما ذُكر من شئونه الشاهدة بوحدانيته تعالى، وتفرده بالألوهية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} أي وإذا قيل لهؤلاء الكفار بطريق النصيحة أنفقوا بعض ما أعطاكم الله من فضله على الفقراء والمساكين {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ} أي قال الكفار للمؤمنين تهكماً بهم: أنفق أموالنا على هؤلاء المساكين الذين أفقرهم الله؟ {إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} أي ما أنتم أيها المؤمنون إلا في ضلال ظاهر واضح حيث تأمروننا أن ننفق أموالنا على من أفقرهم الله قال ابن عباس: كان بمكة زنادقة فإذا أُمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله لا نفعل، أيفقره الله ونطعمه نحن؟ وغرضهم الرد على المؤمنين فكأنهم يقولون: لو كان الأمر كما تزعمون أن الله قادر، وأن الله رازق لأطعم هؤلاء الفقراء، فما بالكم تطلبون إطعامهم منا؟ وما علم هؤلاء السفهاء أن خزائن الأرزاق بيد الخلاق، وأنه تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعض الخلق ابتلاءً، لينظر كيف عطف الغني، وكيف صبر الفقير، فقد منع الدنيا عن الفقير لا بخلاً، وأمر الغنيَّ بالإنفاق عليه لا حاجة إلى ماله، ولكن للإبتلاء والله يفعل ما يشاء، لا اعتراض لأحدٍ في مشيئته ولا في حكمه
{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] ثم أخبر عن إنكار المشركين للآخرة، واستبعادهم لقيام الساعة فقال {وَيَقُولُونَ متى هَذَا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي متى يوم القيامة الذي تتوعدوننا به؟ ومتى هذا العذاب الذي تخوفوننا به إن كنتم صادقين في دعواكم أن هناك بعثاً ونشوراً وحساباً وعذاباً؟ قال تعالى ردّاً عليهم {مَا يَنظُرُونَ إِلَاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ} أي ما ينتظرون إلا صيحةً واحدة تأخذهم مفاجأة من حيث لا يشعرون {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} أي وهم يتخاصمون في معاملاتهم وأسواقهم، فلا يشعرون إلا بالصيحة قد أخذتهم، فيموتون في أماكنهم قال ابن كثير: وهذه والله أعلم نفخة الفزع، ينفخ إسرافيل في الصور والناسُ
في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم، فبينما هم كذلك إذْ أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور نفخةً يطوّلها ويمدُّها، فلا يبقى أحدٌ على وجه الأرض إلا حنى عنقه يتسمع الصوت من قبل السماء فذلك قوله تعالى {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} أي فلا يستطيع بعضه أن يوصي بعضاً بأمر من الأمور، ولا يستطيعون أن يرجعوا إلى أهلهم ومنازلهم لأن الأمر أسرع منه ذلك وفي الحديث:«لتقومنَّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوباً بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنَّ الساعةُ وهو يُليط حوضه أي يصلحه بالطين فلا يسقي فيه، ولتقومنَّ الساعةُ وقد رفع أُكلته إلى فيه لا يطعمها» ثم تكون هناك نفخة ثانية وهي «نفخة الصَّعق» التي يموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحيّ القيوم، ثم تكون النفخة الثالثة وهي «نفخة البعث والنشور» التي يخرج الناسُ بها من القبور، وهي التي أشارت إليها الآية الكريمة {وَنُفِخَ فِي الصور فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} أي ونفخ في الصور فإذا هؤلاء الأموات يخرجون من قبورهم يسرعون المشي قال الطبري:{يَنسِلُونَ} يخرجون سراعاً، والنَّسلان: الإِسراع في المشي {قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا} ؟ أي يقولون يا هلاكنا من الذين أخرجنا من قبورنا التي كنا فيها؟ قال ابن كثير: وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد، فإذا قالوا ذلك أجابتهم الملائكة أو المؤمنون {مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون} أي هذا الذي وعدكم الله به من البعث بعد الموت والحساب والجزاء، وصدق رسله الكرام فيما أخبرونا به عن الله {إِن كَانَتْ إِلَاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي ما كان أمر بعثهم إلا صيحةً واحدة يصيح بهم فيها إسرافيل فإذا هم جميع عندنا حاضرون قال الصَّاوي: وهذه الصيحة هي قول إسرافيل: أيتها العظام النخرة، والأوصال المتقطعة، والأجزاء المتفرقة، والشعور المتمزقة، إنَّ الله يأمركنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء ثم ينفخ في الصور فإذا هم مجموعون في موقف الحساب {فاليوم لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ففي هذا اليوم يوم القيامة لا تُظلم نفس شيئاً، سواءً كانت هذه النفس برَّة أو فاجرة، ولا يُحَمَّل الإِنسان وزر غيره وإنما يُجازى كلٌ بعمله قال أبو السعود: هذه حكاية لما سيقال لهم في الآخرة، حين يرون العذاب المُعدَّ لهم تحقيقاً للحق، وتقريعاً لهم.
. ولما أخبر عن مآل المجرمين أخبر عن حال الأبرار المتقين فقال {إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} أي إن أصحاب الجنة في ذلك اليوم يوم الجزاء مشغولون بما هم فيه من اللذات والنعيم عن التفكير بأهل النار، يتفكهون ويتلذذون بالحور العين، وبالأكل والشرب والسماع للأوتار قال أبو حيان: والظاهر أن الشغل هو النعيم الذي قد شغلهم عن كل ما يخطر بالبال وقال ابن عباس: شُغلوا بافتضاض الأبكار، وسماع الأوتار عن أهاليهم من أهل النار، لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا {هُمْ
وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الأرآئك مُتَّكِئُونَ} أي هم وزوجاتهم في ظلال الجنان والوارقة، حيث لا شمس فيها ولا زمهرير، متكئون على السرر المزيَّنة بالثياب والستور {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي لهم في الجنة، فاكهة كثيرة من كل أنواع الفواكة {وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} أي ولهم فيها ما يتمنون ويشتهون كقوله تعالى {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} [الزخرف: 71] {سَلَامٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} أي لهم سلامٌ كريم من ربهم الرحيم، وفي الحديث «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليه نور، فرفعوا رءوسهم فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله تعالى {سَلَامٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» .
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
التنكير والتفخيم والتعظيم {وَآيَةٌ لَّهُمُ} أي آية عظيمة باهرة على قدرة الله.
2 -
الطباق بين الموت والإحياء {الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا} وبين الليل والنهار.
3 -
الاستعارة التصريحية {وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} شبَّه إزالة ضوء النهار وانكشاف ظلمة اللليل بسلخ الجلد عن الشاة، واستعار اسم السلخ للإِزالة والإِخراج واشتق منه نسخ بمعنى نخرج منه النهار بطريق الاستعارة التصريحية، وهذا من بليغ الاستعارة، وبين الليل والنهار طباق.
4 -
التشبيه المرسل المجمل {حتى عَادَ كالعرجون القديم} وجه الشبه مركب من ثلاثة أشياء: الرقة، والانحناء، والصفرة، ولما لم يذكر سمي مجملاً.
5 -
تقديم المسند إليه لتقوية الحركم المنفي {لَا الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر} فإنه أبلغ من أن يقول (لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر) وأكد في إفادة أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها فإِنَّ قولك «أنت لا تكذب» بتقديم المسند إليه أبلغ من قولك «لا تكذب» فإِنه أشدُّ لنفي الكذب من العبارة الثانية فتدبر أسرار القرآن.
6 -
تنزيل غير العاقل منزلة العاقل {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} بدل يسبح، فقد عبر عن الشمس والقمر والكواكب بضمير جمع المذكر، والذي سوَّغ ذلك وصفهم بالسباحة لأنها من صفات العقلاء.
7 -
الاستعارة اللطيفة {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} المرقد هنا عبارة عن الممات، فشبهوا حال موتهم بحال نومهم لأنها أشبه الأشياء بها وأبلغ من قوله: من بعثنا من مماتنا.
8 -
الإِيجاز بالحذف {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن} أي تقول لهم الملائكة هذا ما وعدكم به الرحمن.
9 -
الطباق {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا} والاستفهام الذي يراد منه التهكم {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ} .
10 -
السجع غير المتكلف في ختام الآيات الكريمة مثل {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون} {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} ومثل {ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} و {حتى عَادَ كالعرجون القديم} وهو من المحسنات البديعية.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى حال السعداء الأبرار وما لهم في الجنة من النعيم المقيم، أعقبه بذكر حال الأشقياء الفجار وما لهم من الخزي والدمار، على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب، وختم السورة الكريمة بيان أدلة البعث بعد الموت، والحساب والجزاء.
اللغَة: {وامتازوا} تميزوا وانفصلوا، والتمييزُ: الفرق بين أمرين {جِبِلاًّ} بكسر الميم خلقاً
جمع جِبلَّة ومنه «والجبِلَّة الأولين» مشتق من جبل اللهُ الخلق أي خلقهم {لَطَمَسْنَا} الطمسُ: إذهابُ الشيء وأثره جملةً كأنه لم يوجد {اصلوها} ادخلوها وذوقوا سعيرها {لَمَسَخْنَاهُمْ} المسخ: التحويل من صورة إلى صورة منكرة {نُّعَمِّرْهُ} التعمير: إطالة العمر حتى يبلغ سن الشيخوخة {نُنَكِّسْهُ} التنكيس: قلب الشيء رأساً على عقب يقال: نكستُ الشيء نكساً إذا قبلته على رأسه ومنه {ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 65]{رَمِيمٌ} الرميم: البالي المفتَّت يقال رمَّ العظم أي بلى فهو رميم.
التفسِير: بعد أن بيَّن تعالى حال السعداء ذكر حال الأشقياء فقال {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} أي تميزوا وانفصلوا يا معشر الكفرة المجرمين عن عبادي المؤمنين، انفردوا عنهم وكونوا جانباً قال القرطبي: يقال لهم هذا عند الوقوف للسؤال، وحين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابنيءَادَمَ} الاستفهام للتوبيخ والتقريع، وهو تبويخٌ للكفرة المجرمين أي ألم أوصكم وآمركم يا بني آدم على ألسنة رسلي {أَن لَاّ تَعْبُدُواْ الشيطان} أي ألاّ تطيعوا الشيطان فيما دعاكم إليه من معصيتي؟ {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} تعليلٌ للنهي أي لأنه عدوٌ لكم ظاهر العداوة، فكيف يطيع الإِنسان عدوه؟ {وَأَنِ اعبدوني} أي وأمرتكم بأن تعبدوني وحدي، بتوحيدي وطاعتي وامتثال أمري {هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أي هذا هو الدين الصحيح، والطريق الحقُّ المستقيم {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} تأكيد للتعليل أي ولقد أضلَّ الشيطان خلقاً منكم كثيرين، وأغواهم عن سلوك طريق الحقَّ قال الطبري: أي صدَّ الشيطان منكم خلقاُ كثيراً عن طاعتي حتى عبده {أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} أي أفما كان لكم عقل يردعكم عن طاعة الشيطان ومخالفة أمر ربكم؟ وهو توبيخ آخر للكفرة الفجار. . ثم بشرهم بما ينتظرهم من العذاب فقال {اذه جَهَنَّمُ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي هذه نار جهنم التي أوعدكم بها الرسل وكذبتم بها قال الصاوي: هذا خطاب لهم وهم على شفير جهنم، والمقصود منه زيادة التبكيث والتقريع {اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي ذوقوا حرارتها وقاسوا أنواع عذابها اليوم بسبب كفركم في الدنيا، وهو أمر إهانةٍ وتحقير مثل قوله
{ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] ثم أخبر تعالى عن فضيحتهم يوم القيامة على رءوس الأشهاد فقال {اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ} أي في هذا اليوم يوم القيامة نختم على أفواه الكفار ختماً يمنعها عن الكلام {وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي تنطق عليهم جوارحهم أيديهم وأرجلهم
بأعمالهم القبيحة روى ابن جرير الطبري عن أبي موسى الأشعري أنه قال «يُدعى الكافر والمنافق يوم القيامة للحساب فيعرض عليه ربه عمله فيجحده ويقول: أي ربِّ وعزتك لقد كتب عليَّ هذا الملك ما لم أعمل، فيقول الملك: أما عملت كذا في كذا في مكان كذا فيقول: لا وعزتك أي رب ما عملته، فإذا فعل ذلك خُتم على فيه وتكلمت أعضاؤه ثم تلا {اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ} وفي الحديث» يقول العبد يا ربِّ ألم تجرني من الظلم؟ فيقول بلى، فيقول العبد فإِني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، ثم يختم على فيه ويقال لجوارجه انطقي، فتنطق بأعملاه ثم يُخلى بينه وبين الكلام فيقول: بُعداً لكنِّ وسحقاً فعنكن كنت أناضل « {وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ فاستبقوا الصراط فأنى يُبْصِرُونَ} أي ول شئنا لأعميانهم فابتدروا طريقهم ذاهبين كعادتهم فكيف يبصرون حنيئذٍ؟ قال ابن عباس: المعنى لو نشاء لأعميناهم عن الهدى فلا يهتدون أبداً إلى طريق الحقِّ، وهو تهديد لقريش {وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ على مَكَانَتِهِمْ} أي لو نشاء لمسخناهم مسخاً يقعدهم في مكانهم {فَمَا استطاعوا مُضِيّاً وَلَا يَرْجِعُونَ} أي إذا مسخوا في مكانهم لم يقدروا وأن يذهبوا ولا أن يرجعوا، وهو تهديد آخر للكفرة المجرمين، ثم ذكر تعالى دلائل قدرته على مسخ الكفار يتطاول الأعمار فقال {وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق} أي ومن نُطِل عمره نقبله في أطوار منتكساً في الخلق فيصير كالطفل لا يعلم شيئاً قال قتادة: يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا، فطولُ العمر يصيِّر الشباب هَرَماً، والقوة ضعفاً، والزيادة نقصاً {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} ؟ أي أفلا يعقلون أن من قدر على ذلك قادر على إعمائهم أو مسخهم؟ قال ابن جزي: والقصدُ من ذلك الاستدلال على قدرته تعالى على مسخ الكفار، كما قدر على تنكيس الإنسان إذا هرم {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ} أي وما علمنا محمداً الشعر، ولا يصح ولا يليق به أن يكون شاعراً قال القرطبي: هاذ ردٌّ على الكفار في قولهم إنه شاعر، وإن ما أتى به من قبيل الشعر، فالرسول صلى الله عليه وسلم َ ليس بشاعر، والقرآن ليس بشعر، لأن الشعر كلام مزخرف موزون، مبني على خيالات وأوهام واهية، حتى قيل» أعذبه أكذبه «فأين ذلك من القرآن العزيز الذي تنزَّه عن مماثلة كلام البشر!! وقد أكثر الناسُ في ذم الشعر ومدحه، وإِنما الإِنصاف ما قاله الشافعي رحمه الله» الشعر كلامٌ، والكلام منه حسنٌ، ومنه قبيح « {إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} أي ما هذا الذي تلوه محمد إلا عظة وتذكيرٌ من الله نجل وعلا لعباده، وقرآن واضح ساطع لا يلتبس به الشعر بحالٍ من الأحوال {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً} أي لينذر بهذا القرآن من كان حي القلب مستنير البصيرة، وهو المؤمنون لأنهم المنتفعون به {وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين} أي وتجب كلمة العذاب على الكافرين لأنهم كالأموات لا يعقلون ما يخاطبون به قال البيضاوي: وجعلهم في مقابلة من كان حياً إشعاراً بأنهم لكفرهم، وسقوط حجتهم، وعدم تأملهم، أمواتٌ في الحقيقة.
. ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه، وأعاد
ذكر دلائل القدرة والوحدانية ليستدلوا على وجوده جلَّ وعللا من آثاره فقال {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً} الهمزة للإِنكار والتعجيب أي أولم ينظروا نظر اعتبار، ويتفكروا فيما أبدعته أيدينا من غير واسطة، وبلا شريك ولا معين مما خلقناه لهم ولأجلهم من الأنعام وهي الإِبل والبقر والغنم، فيستدلوا بذلك على وحدانيتنا وكمال قدرتنا؟ { {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} أي فهم متصرفون فيها كيف يشاءون تصرف المالك بماله {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} قال ابن كثير: المعنى جعلهم يقهرونها وهي ذليلةٌ لهم لا تمتنع منه، بل لو جاء صغير إلى بعيرٍ لأناخه، ولو شاء لأقامه وساقه وهو ذليل منقاد معه، وكذا لو كان القطار مائة بعير لسار الجميع بسير الصغير، فسبحان من سخر هذا لعباده} ! {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي فمن هذه الأنعام ما يركبونه في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال كالإِبل التي هي سفن البر، ومنها ما يأكلون لحمه كالبقر والغنم {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} أي ولهم فيها منافع عديدة غير الأكل والركوب كالجلود والأصواف والأوبار، ولهم فيها مشارب أيضاً يشربون من ألبانها {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} أي أفلا يشكرون ربهم على هذه النعم الجليلة؟ والغرضُ من الآيات تعديدُ النعم وإِقامةُ الحجة عليهم. . ثم وبخهم وعنفهم في عبادة ما لا يسمع ولا ينفع من الأوثان والأصنام، وذلك نهاية الغيّ والضلال فقال {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} أي وعبد المشركون آلهة من الأحجار رجاء أن يُنصروا بها وهي صماء بكماء، لا تسمع الدعاء ولا تستجيب للنداء {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أي لا تستطيع هذه الآلهة المزعومة نصره بحالٍ من الأحوال، لا بشفاعة ولا بنصرةٍ أو أعانة {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ} أي وهؤلاء المشركون كالجند والخدم لأصنامهم في التعصب لهم، والذبِّ عنهم، وفدائهم بالروح والمال، مع أنهم لا ينفعوهم أيَّ نفع قال قتادة: المشركون يغضبون للآلهة في الدنيا، وهي لا تسوق إليه خيراً ولا تدفع عنه شراً، إنما هي أصنام والمشركون كأنهم خدام وقال القرطبي: المعنى إنهم قد رأوا هذه الآيات من قدرتنا، ثم اتخذوا من دوننا آلهة لا قدرة لها على فعل شيء أصلاً، والكفار يمنعون منهم ويدفعون عنهم، فهم لهم بمنزلة الجند، والأصنام لا تستطيع أن تنصرهم.
{فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} أي لا تحن يا محمد على تكذيبهم لك، واتهامهم بأنك شاعرٌ أو ساحر، وهذه تسليةٌ للنبي عليه السلام، وهنا تمَّ الكلام ثم قال تعالى {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي نحن أعلم بما يخفونه في صدورهم، وما يظهرونه من أقوالهم وأفعالهم، فنجازيهم عليه، وكفى بربك أنه على كل شيء شهيد. . ثم أقام الدليل القاطع، والبرهان الساطع، على البعث والنشور فقال {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ} استفهامٌ إِنكاريٌ للتوبيخ والتقريع أي أولم ينظر هذا الإِنسان الكافر نظر اعتبار، ويتفكر في قدرة الله فيعلم أنّا خلقناه من شيءٍ مهينٍ حقير هو النطفة «المني» الخارج من مخرج النجاسة؟ {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} أي فإذا هو شديد الخصومة والجدال بالباطل، يخاصم ربه وينكر قدرته، ويكذب بالبعث والنشور، أفليس الإِله الذي قدر على خلق
الإِنسان من نطفة، قادر على أن يخلقه مرة أُخرى عند البعث؟ قال المفسرون: نزلت في «أُبي بن خلف» «جاء بعظم رميم، وفتَّته في وجه النبي الكريم وقال ساخراً: أتزعم يا محمد أنَّ الله يُحيينا بعد أن نصبح رفاتاً مثل هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم َ له: نعم يبعثك ويدخلك النار» {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أي وضرب لنا هاذ الكافر المثل بالعظم الرميم، مستبعداً على الله إعادة خلق الإِنسان بعد موته وفنائه، ونسي أنا أنشأناه من نطفةٍ ميتة وركبنا فيه الحياة، نسي خلقه العجيب وبدأه الغريب، وجوابه من نفسه حاضر {قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} أي وقال هذا الكافر: من يحيي العظام وهي بالية أشدَّ البلى، متفتتةٌ متلاشية؟ قال الصاوي: أي أورد كلاماً عجيباً في الغرابة هو كالمثل، حيث قاسَ قدرتنا على قدرة الخلق {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي قل يا محمد تخريساً وتبكيتاً لهذا الكافر وأمثاله: يخلقها ويحييها الذي أوجدها من العدم، وأبدع خلقها أول مرة من غير شيء، فالذي قدر على البداءة، قادر على الإعادة {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} أي يعلم كيف يخلق ويُبدع، فلا يصعب عليه بعث الأجساد بعد الفناء {الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً} أي الذي جعل لكم بقدرته من الشجر الأخضر ناراً تحرق الشجر، لا يمتنع عليه فعل ما أراد، ولا يعجزه إحياء العظام البالية وإعادتها خلقاً جديداً وقال أبو حيان: ذكر تعالى لهم ما هو أغرب من خلق الإِنسان من النطفة، وهو إبراز الشيء من ضده، وذلك أبدع شيء وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر، ألا ترى الماء يطفىء النار ومع ذلك خرجت مما هو مشتمل على الماء، والأعراب تُوري النار من المرخ والعُفار، وفي أمثالهم «في كل شيء نار، واستمجد المرخ والعُفار» ولقد أحسن القائل:
جمعُ النقيضين من أسرار قدرته
…
هذا السَّحابُ به ماءٌ به نارٌ
{فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ} أي فإذا أنتم تقدحون النار من هذا الشرج الأخضر {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} ؟ أي أوَليس الذي خلق السموات والأرض مع كبر جرمهما، وعظم شأنهما قادر على أن يخلق أجساد بني آدم بعد فنائها؟ {بلى وَهُوَ الخلاق العليم} أي بلى هو القادر على ذلك، فهو الخلَاّق المبدع في الخلق والتكوين، العليم بكل شيء {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي لا يصعب عليه جل وعلا شيء لأن أمره بين الكاف والنوت، فمتى أراد تعالى شيئاً وجد، بدون تعب ولا جهد، ولا كلفة ولا عناء {فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي تنزَّه وتمجد عن صفات النقص الإلهُ العظيم الجليل، الذي بيده المُلك الواسع، والقدرة التامة على كل الأشياء {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي وإليه وحده مرجع الخلائق للحساب والجزاء. . ختم تعالى السورة الكريمة بهذا الختم الرائع، الدال على كمال القدرة، وعظمةِ الملك والسلطان، الذي تفرد به خالق الأكوان.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
طباق السلب {أَن لَاّ تَعْبُدُواْ الشيطان
…
وَأَنِ اعبدوني} فالأول سلب، والآخر إيجاب.
2 -
الاستفهام الإِنكار للتوبيخ والتقري {أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} ؟ {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} ؟ .
3 -
الطباق بين {مُضِيّاً وَيَرْجِعُونَ} {يُسِرُّونَ وَيُعْلِنُونَ} وهو من المحسنات البديعية.
4 -
التشبيه البليغ {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ} أي كالجند في الخدمة والدفاع، حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً.
5 -
ذكر العام بعد الخاص {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} بعد قوله {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} الآية وفائدته تفخيم النعمة، وتعظيم المنة.
6 -
المقابلة {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً} الآية قابل بين الإِنذار والإِعذار، وبين المؤمنين والكفار {وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين} وهو من ألطف التعبير.
7 -
الاستعارة التمثيلية {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً} الأنعام تخلق ولا تعمل، ولكنه شبه اختصاصه بالخلق والتكوين بمن يعمل أمراً بيديه ويصنعه بنفسه، واستعار لفظ العمل للخلق بطريق الاستعارة التمثليلة.
8 -
صيعة المبالغة {خَصِيمٌ مُّبِينٌ} . . {الخلاق العليم} .
9 -
الاستعارة التمثيلية {أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} شبه سرعة تأثير قدرته تعالى ونفاذها في الأشياء بأمر المطاع من غير توقف ولا امتناع، فإِذا أراد شيئاً وجد من غير إبطاءٍ ولا تأخير، وهو من لطائف الاستعارة.
فَائِدَة: الملكوت صيغة مبالغة من المُلك، ومعناه الملك الواقع التام مثل الجبروت والرحموت للمبالغة.
تنبيه: قال العلامة ابن كثير: «ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم َ أنه تمثل يوم الخندق بأبيات ابن رواحة» اللهم لولا أنت ما اهتدينا «وما ثبت أنه قال يوم حنين وهو راكب على بغلته» أنا النبي لا كذب: أنا ابن عبد المطلب «وقوله» هل أنت إلا أصبعٌ دميت: وفي سبيل الله ما لقيت «الخ إنما وقع اتفاقاً من غير قصد إلى قول الشعر، بل جرى هذا على لسانه صلى الله عليه وسلم َ عفواً وكل هذا لدينا في قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ} ا. هـ. فتدبره فإِنه نفيس.
اللغَة: {الزاجرات} الزجر: الدفع عن الشيء بقوةٍ أو صياح، والزجرة: الصيحةُ من قولك: زجر الراعي الغنم إذا صاح عليها فرجعت لصوته {مَّارِدٍ} عاتي متمرد {ثَاقِبٌ} محرق شديد النفاذ {وَاصِبٌ} دائم لا ينقطع {لَاّزِبٍ} ملتزق بعضه ببعض {مَّعِينٍ} شراب نابع من العيون {غَوْلٌ} الغول: كل ما يغتال العقل ويفسده قال أبو عبيدة: الغول ما يغتال العقل ويذهبه وأنشد قول ابن إياس:
ومازالتِ الخمر تغتالنا
…
وتذهب بالأول فالأول
{بِكَأْسٍ} قال أهل اللغة: العرب تقول للإِناء إِذا كان فيه خمر كأس، فإِذا لم يكن فيه خمرا قالوا: إِناء وقدح قال الشاعر:
وكأسٍ شربتُ على لذةٍ
…
وأُخرى تداويتُ منها بها
{يُنزَفُونَ} يسكرون يقال: نُزف الرجل فهو نزيف ومنزوف إذا سكر قال الشاعر:
لعمري لئن أنزفتمو أو صحوتمو
…
لبئس النَّدامى كنتم آل أبجرا
التفسِير: {والصافات صَفَّا} افتتح تعالى هذه السورة بالقسم ببعض مخلوقاته، إظهارً لعظم شأنها، وكبر فوائدها، وتنبيهاً للعباد على جلاله قدرها والمعنى: أقسم بهذه الطوائف من الملائكة، الصافات قوائهما في الصلاة، أو أجنحتها في ارتقاب أمر الله قال ابن مسعود: هم الملائكة تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفاً، وفي الحديث «ألا تصفُّون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا: وكيف يا رسول الله؟ قال: يُتمون الصفوف المتقدمة، ويتراصون في الصف» أقسم تعالى بالملائكة تنبيهاً على جلالة قدرهم، وكثرة عبادتهم، فهم مع عظيم خلقهم ورفعة شأنهم لا ينفكون عن عبادة الله، يصطفون للعبادة كاصطفاف المؤمنين في الصلاة، مع الخشوع والخضوع للعزيز الجبار، الذي دانت له الخلائق، وخضعت لجلال هيبته الرقاب، بما فيهم حَمَلة العرش والملائكة الأطهار {فالزاجرات زَجْراً} أي الملائكة التي تزجر السحاب، يسوقونه إلى حيث شاء الله، من الزجر بمعنى السوق والحث {فالتاليات ذِكْراً} وصفٌ ثالثُ للملائكة الأبرار، إشادةً بذكر محاسنهم ومناقبهم العلوية أي وأقسمُ بالملائكة التالين لآيات الله على أنبيائه وأوليائه، مع التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} هذا هو المقسم عليه أي إن إلهكم الذي تعبدونه أيها الناس إله واحدٌ لاشريك له، قال مقاتل: إِن الكفار بمكة قالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ وكيف يسع هذا الخلق إله فرد؟ فأقسم الله بهؤلاء تشريفاً، ثم بيَّن تعالى معنى وحدانيته وألوهيته فقال {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي هو تعالى خالق السموات والأرض ومالكهما وما بينهما من المخلوقات والموجودات، فإن وجودهما وانتظامهما على هذا النمط البديع، من أوضح الدلائل على وجود الله ووحدانيته {وَرَبُّ المشارق} أي وهو رب مشارق الشمس ومغاربها في الشتاء والصيف قال الطبريب: واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالة الكلام عليه ثم أخبر عن قدرته بتزيين السماء بالكواكب، بعد أن أخبر عن وحدانيته فقال {إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} أي زينا السماء القريبة منكم بالكواكب المنيرة المضيئة، التي تبدو وكأنها جواهر تتلألأ {وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} أي وللحفظ من كل شيطان عاتٍ متمرد، خارج عن طاعة الله قال قتادة: خلقت النجومُ
لثلاث: رجوماً للشياطين، ونوراً يُهتدى بها، وزينةً للسماء الدنيا وقال أبو حيان: خصَّ السماء الدنيا بالذكر لأنها هي التي تُشاهد بالأبصار، وفيها وحدها يكون الحفظ من الشياطين {لَاّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى} أي لا يقدرون أن يستمعوا إلى الملائكة الذين هم في العالم العلوي، وقيل المعنى: لئلا يتسمَّعوا إلى الملأ الأعلى {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ} أي ويُرجمون بالشهب من كل جهةٍ يقصدون السماء منها {دُحُوراً} أي طرداً لهم عن السماع لأخبار السماء قال الطبري: أي مطرودين، من الدحر وهو الدَّفعُ والإِبعاد {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} أي ولهم في الآخرة عذاب موصول لا ينقطع {إِلَاّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} أي إلَاّ من اختلص شيئاً مسارقةً {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} أي فلحقه شهاب مضيءٌ، نافذ بضوئه وشعاعه فأحرقه قال المفسرون: قد يخطف الشيطان المارد خطفةً سريعة مما يدور في الملأ الأعلى، فيتبعه شهابٌ يلاحقه في هبوطه فيصيبه ويحرقه حرقاً قال القرطبي: وليست الشهب التي يرجم بها الشياطين من الكواكب الثواب، لأن الثابتة تجري ولا تُرى حركتها، وهذه الشهب تُرى حركاتها {فاستفتهم} أي فسلْ يا محمد هؤلاء المنكرين للبعث {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ} أي أيهم أقوى بُنيةً وأشد خلْقاً هل هم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والمخلوقات العظيمة العجيبة؟ {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَاّزِبٍ} أي من طينٍ زخوٍ لا قوة فيه قال الطبري: وإِنما وصفه باللزوب لأنه ترابٌ مخلوطٌ بماء، وكذلك خُلِق ابنُ آدم من ترابٍ وماء، ونار وهواء، والترابٌ إِذا خُلط بماءٍ صار طيناً لازباً، والغرضُ من الآية إِقامةُ البرهان على إعادة الإِنسان، فالذي خلقه من العدم وخلق هذه الخلائق، قادرٌ على إعادة الأجسام بعد الفناء {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} أي بل عجبتَ يا محمد من تكذيبهم للبعث مع رؤيتهم آثار قدرة الله الباهرة، وهم يسخرون منك ومما تقول لهم في ذلك قال أبو السعود: المعنى عجبتَ من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإِنكارهم للبعث، وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث {وَإِذَا ذُكِّرُواْ لَا يَذْكُرُونَ} أي وإِذا وُعظوا بالقرآن وخوّفوا به، لا يتعظون ولا يتدبرون {وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} أي وإِذا رأوا آية باهرة، أو معجزة قاهرة تدل على صدقكك كانشقاق القمر، وتكليم الشجر والحجر، يبالغون في السخرية أو يدعون غيرهم للسخرية والاستهزاء {وقالوا إِن هاذآ إِلَاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي ما هذا الذي جئتنا به يا محمد إلا سحر واضح بيِّن قال في البحر: والإِشارة ب «هذا» إلى ما ظهر على يديه عليه السلام من الخارق المعجز {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} الاستفهام للإِنكار والاستهزاء أي أئذا أصبحت أجسادنا بالية، وتفتَّت أجزاؤها إلى تراب وعظام سوف نبعث؟ {أَوَ آبَآؤُنَا الأولون} أي أو آباؤنا الأولون كذلك سيُبعثون؟ قال الزمخشري: أي أيبعث أيضاً آباؤنا؟ وهذا زيادة في استبعاد الأمر، يعنون أنهم أقدم، فبعثُهم أبعدُ وأبطل {قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} أي قل لهم نعم تُبعثون وأنتم صاغرون {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} أي وما هي إلا صيحة
واحدة ينفخ فيها إسرافيل في الصور للقيام من القبور {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} أي فإِذا هم قيامٌ في أرض المحشر ينظر بعضهم إلى بعض قال القرطبي: الزجرةُ: الصيحةُ وهي النفخةُ الثانية، وسميت زجرة لأن مقصودها الزجر، كزجر الإِبل، والخيل عند السَّوق.
. ثم أخبر تعالى عن حسرتهم وندامتهم عند معاينتهم مأهوال القيامة فقال {وَقَالُواْ ياويلنا هذا يَوْمُ الدين} أي يا هلاكنا وخسارتنا هذا يوم الجزاء والحساب!! فتقول لهم الملائكة على سبيل التوبيخ والتقريع {هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي هذا يوم الفصف بين الخلائق الذي كنتم تنكرونه وتكذبون به قال البيضاوي: الفصلُ: القضاءُ والتفريق بين المحسن والمسيء {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} أي اجمعوا الظالمين وأشباههم من العصاة والمجرمين، كل إنسان مع نظرائه قال القرطبي: الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، والسارق مع السارق وقال ابن عباس: اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات، وعنه المراد به أشباههم من العصاة {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي وما كانوا يعبدون من الأوثان والأصنام، وذلك زيادةً في تحسيرهم وتخجيلهم {فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} أي فعرفوهم طريق الجحيم ووجهوهم إليها، وفي لفظ {اهدوهم} تهكم وسخرية، فإذا لم يهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم، فليهتدوا اليوم إلى صراط الجحيم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} أي احبسوهم عند الصراط لأنهم سيسألون عن جميع أقوالهم وأفعالهم، ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً وأنتم هنا جميعاً؟ وكلكم في حاجة إلى الناصر والمعين؟ قال المفسرون: هذا إشارة إلى قول أبي جهل يوم بدر «نحن جميعٌ منتصر» وأصل {تناصرون} تتناصرون حذفت إحدى التاءين تخفيفاً، قال تعالى {بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ} أي بل هم اليوم أذلاء منقادون، عاجزون عن الانتصار، سواء منهم العابدون والمعبودون {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} أي أقبل الرؤساء والأتباع يتلاومون ويتخاصمون قال أبو السعود: وسؤالهم إنما هو سؤال توبيخ بطريق الخصومة والجدال {قالوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} أي قال الأتباع منهم للمتبوعين: إِنكم كنتم تأتوننا من قبل الحقِّ، وتزينون لنا الباطل، وتصدوننا عن اتباع طريق الهدى قال الطبري: أي كنتم تأتوننا من قبل الدين والحق، فتخدعوننا بأقوى الوجوه، قال: واليمين في كلام العرب: القوه والقدرة كقول الشاعر:
إِذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ
…
تلقَّاها عرابةُ باليمين
وقيل: المراد تأتوننا بطريق الوسوسة عن يميننا كما هو المعتاد في حالة الوسوسة بالأسرار
غالباً {قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي يقول لهم الرؤساء: لم نحملكم نحن على الضلال ولم نمنعكم من الإِيمان، بل كفرتم ولم تؤمنوا باختياركم قال ابن كثير: أي ليس الأمر كما تزعمون، بل كانت قلوبكم منكرةً للإِيمان، قابلةً للكفر والعصيان {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} أي ما كان لنا عليكم من قوة وقدرة نقهركم بها عن متابعتنا {بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ} أي بل فيكم فجور وطغيان واستعداد للعصيان، فلذلك استجبتم لنا واتبعتمونا {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ} أي فوجب علينا جميعاً وعيد الله لنا بالعذاب {إِنَّا لَذَآئِقُونَ} أي فإِنا لذائقو هذا العذاب لا محالة {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} أي فزينا لكم الباطل، ودعوناكم إلى الغيّ لأننا كنا على غيٍّ وضلال، قال تعالى مخبراً عن حالهم {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} أي فإِنهم يوم القيامة مشتركون في العذاب، كما كانوا مشتركين في الغواية، ولكنْ كما قال تعالى {وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39] {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين} أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بالأشقياء المجرمين، ثم بيَّن تعالى السبب فقال {إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إله إِلَاّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} أي إذا قيل لهم قولوا {لَا إله إِلَاّ الله} يتكبَّرون ويتعظَّمون {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} ؟ أي ويقولون عندما يُدعون إلى التوحيد: أنترك عبادة الأوثان لقول شاعرٍ مجنون؟ يعنون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال تعالى رداً عليهم {بَلْ جَآءَ بالحق وَصَدَّقَ المرسلين} أي ليس الأمرَ كما يفترون بل جاءهم محمد بالتوحيد والإِسلام الذي هو الحقُّ الأبلج، وجاء بمثل ما جاء به الرسل قبله قال أبو حيان: جمع المشركون بين إِنكار الوحدانية، وإِنكار الرسالة، ثم خلطوا في كلامهم بقولهم «شاعر مجنون» فإن الشاعر عنده من الفهم والحذق ماينظم به المعاني الغريبة، ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة، ومن كان مجنوناً لا يصل إلى شيء من ذلك، فكلامهم تخليط وهذيان {إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم} أي إنكم أيها المجرمون لمعذبون أشد العذاب {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي لا تُعاقبون إلا جزاء مثل عملكم قال الصاوي: لأن الشريكون جزاؤه بقدره، بخلاف الخير فجزاؤه بأضعاف مضاعفة. . ولمّا ذكر شئاً من أحوال الكفار وعذابهم، ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ونعيمهم، على طريقة القرآن في الموازنة بين الفريقين ترغيباً وترهيباً فقال {إِلَاّ عِبَادَ الله المخلصين} الاستثناء منقطع أي لكنْ عباد الله المُخلَصين الموحدين، فإِنهم لا يذوقون العذاب، ولا يناقشون الحساب، بل يتجاوز الله عن سيئاتهم، يُجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
. ثم أخبر عن جزائهم فقال {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ} أي أولئك الأخيار الأبرار لهم رزقهم في الجنة صباحاً ومساءً كما قال تعالى {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62] وقال أبو السعود: معلوم الخصائص من حسن المنظر، ولذة الطعم، وطيب الرائحة، ثم فسر الرزق بقوله:{فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ} أي فواكهُ متنوعة من جميع ما يشتهون، وهم في الجنة معزَّزون مكرَّمون، وخصَّ الفواكه بالذكر لأن كل ما يؤُكل في الجنة إِنما هو على سبيل التفكه والتلذذ {فِي جَنَّاتِ النعيم} أي في رياضٍ وبساتين يتنعمون فيها {على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} أي على أسرَّة مكلَّلة بالدر والياقوت، تدور بهم كيف شاءوا قال مجاهد:{مُّتَقَابِلِينَ} أي لا ينظر بعضُهم إلى قفا بعض تواصً وتحابياً {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} لما ذكر الطعام أعقبه بذكر الشراب أي يطوف عليهم خدم الجنة بكأسٍ من الخمر من نهر جارٍ خارج من عيون الجنة قال الصاوي: وصف به حمر الجننة لأنه يجري كالماء النابع وقال ابن عباس: كل كأسٍ في القرآن فهي الخمر، والمعين هي الجارية {بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} أي هذه الخمر بيضاء ذات لذةً للشاربين، يلتذ بها من شربها قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} أي ليس فيها ما يغتال عقولهم فيفسدها، ولا هم يسكرون بشربها كما تفعل خمر الدنيا قال ابن كثير: نزَّه الله سبحانه خمر الجنة عن الآفات التي هي في خمر الدنيا، من صداع الرأس، ووجع البطن، وذهاب العقل، فخمر الجنة طعمها طيب كلونها، والمراد بالغول هنا صُداع الرأس قاله ابن عباس، وقال قتادة: هو صداع الرأس ووجع البطن وتلك أجمل أوصاف الشراب، التي تحقق لذة الشُّرَّاب، وتنفي أكداره وأضراره، فلا خُمار يصدر الرءوس، ولا سكر ولا عربدة يُذهب لذة الاستمتاع كما هي الحال في خمرة الدنيا {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف} أي وعندهم الحور العين، العفيفات اللواتي قصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم حياءً وعفةً، قال ابن عباس:{قَاصِرَاتُ الطرف} أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن {عِينٌ} أي وهنَّ مع العفة واسعات جميلات العيون قال الطبري: أي نُجل العيون جمع عيناء وهي المرأة الواسعة العين مع الحسن والجمال، وهي أحسن ما تكون من العيون {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} أي كأنهن اللؤلؤ المكنون في أصدافه قاله ابن عباس واستشهد بقوله تعالى {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} [الواقعة: 2223] وقال الحسن: {المكنون} المصون الذي لم تمسَّه الأيدي. . والغرضُ أنهنَّ مع هذا الجمال الباهر، مصونات كالدُّر في أصدافه، مع رقةٍ لطفٍ ونعومة {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} لا تبتذله الأيدي ولا العيون، والعربُ تشبّه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها قال أبو حيان: ذكر تعالى في هذه الآيات أولاً الرزق وهو ما تلذذ به الأجسام، وثانياً الإِكرام وهو ما تتلذذ به النفوس، ثم ذكر المحل وهو جنات النعيم، ثم لذة التآنس والاجتماع {على سُرُرٍ
مُّتَقَابِلِينَ} وهو أتم للسرور وآنس، ثم ذكر المشروب وهو الخمر التي تدار عليهم بالكؤوس ولا يتناولونها بأنفسهم، ثم ختم باللذة الجسدية أبلغ الملاذ وهي التآنس بالنساء ثم أخبر تعالى عما يتحدث به أهل الجنة للأنس والسور، وهم على موائد الشراب يتلذذون بكل ممتع، وينعمون بتجاذب أطراف الحديث فقال {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} أي جلسوا يتحدثون عما جرى لهم في الدنيا، يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا وثمرة الإِيمان {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} أي قال قائل من أهل الجنة إني كان لي في الدنيا صديقً وجليس ينكر البعث {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين} أي يقول لي أتصدِّق
بالبعث والجزاء؟ {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} ؟ أي هل إذا متنا وأصبحنا ذراتٍ من التراب وعظاماً نخرة، أئنا لمحاسبون ومجزيون بأعمالنا؟ يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب والاستبعاد {قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} ؟ أي قال ذلك المؤمن لإِخوانه في الجنة: هل أنتم مطَّلعونن إلى النار لننظر كيف حال ذلك القريب؟ قال تعالى {فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} أي فنظر فأبصر صاحبه الكافر في وسط الجحيم يتلظى سعيرها {قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} أي فخاطبه المؤمن شامتاً وقال له: واللهِ لقد قاربت أن تهلكني بإِغوائك {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين} أي ولولا فضلُ الله عليَّ بتثبيتي على الإِيمان، لكنتُ معك في النار محضراً ومعذباً في الجحيم، ثم يخاطبه مستهزءاً ساخراً كما كان ذلك الكافر يستهزىء به في الدنيا {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَاّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} ؟ أي هل لا تزال على اعتقادك بأننا لن نموت إلا موتةً واحدة، وأنه لا بعث ولا جزاء ولا حساب ولا عذاب؟ وهو أسلوب ساخر لاذع يظهر فيه التشفي من ذلك القرين الكافر، والتحدث بنعمة الله عليه قال تعالى {إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم} أي إن هذا النعيم الذي ناله أهل الجنة لهو الفوز العظيم {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} أي لمثل هذا الجزاء الكريم يجب أن يعمل العاملون ويجتهد المجتهدون.
قال المفسرون: أشارت الآيات الكريمة إلى قصة شريكين كان لهما ثمانية آلاف درهم، فكان أحدهما يعبد الله ويقصِّر في التجارة والنظر إلى أمور الدنيا، وكان الآخر مقبلاً على تكثير ماله، فانفصل من شريكه لتقصيره، وكان لكما اشترى داراً أو جارية أو بستاناً أو نحو ذلك عوضه على المؤمن وفخر عليه بكثرة ماله، وكان المؤمن إذا سمع ذلك يتصدَّق بنحوٍ من ذلك ليشتري له به قصراً في الجنة، فإذا لقيه صديقه قال ما صنعت بمالك؟ قال: تصدقت به لله! فكان يسخر منه ويقول: أئنك لمن المصدِّقين؟ فكان أمرها ما قصَّ الله علينا في كتابه العزيز.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الطباق {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} لأن السخرية في مقابلة التعجب.
2 -
التأكيد بإِن واللم {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} ومقتضى الكلام يقتضيه لإِنكار المخاطبين للوحدانية.
3 -
الأسلوب التهكمي {فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} وردت الهداية بطريق التهكم، لأن الهداية تكون إلى طريق النعيم لا الجحيم.
4 -
الإِيجاز بالحذف {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إله إِلَاّ الله} أي قولوا لا إ له إلا الله، وحذف لدلالة السياق عليه.
5 -
الالتفات من الغيبة إلى الخطاب {إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم} والأصل إنهم لذائقو وإنما التفت لزيادة التقبيح والتشنيع عليهم.
6 -
الكناية {قَاصِرَاتُ الطرف} كنَّى بذلك عن الحور العين لأنهم عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن.
7 -
التشبيه المرسل والمجمل {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} حذف منه وجه الشبه فأصبح مجملاً.
8 -
مراعاة الفواصل وهو المحسنات البديعية مثل {شِهَابٌ ثَاقِبٌ، عَذابٌ وَاصِبٌ، طِينٍ لَاّزِبٍ} إلى آخر.
اللغَة: {فالزاجرات} الزجر: الدفع عن الشيء بقوةٍ أو صياح، والزجرة: الصيحةُ من قولك: زجر الراعي الغنم إذا صاح عليها فرجعت لصوته {مَّارِدٍ} عاتي متمرد {ثَاقِبٌ} محرق شديد النفاذ {وَاصِبٌ} دائم لا ينقطع {لَاّزِبٍ} ملتزق بعضه ببعض {مَّعِينٍ} شراب نابع من العيون {غَوْلٌ} الغول: كل ما يغتال العقل ويفسده قال أبو عبيدة: الغول ما يغتال العقل ويذهبه وأنشد قول ابن إياس:
ومازالتِ الخمر تغتالنا
…
وتذهب بالأول فالأول
{بِكَأْسٍ} قال أهل اللغة: العرب تقول للإِناء إِذا كان فيه خمر كأس، فإِذا لم يكن فيه خمرا قالوا: إِناء وقدح قال الشاعر:
وكأسٍ شربتُ على لذةٍ
…
وأُخرى تداويتُ منها بها
{يُنزَفُونَ} يسكرون يقال: نُزف الرجل فهو نزيف ومنزوف إذا سكر قال الشاعر:
لعمري لئن أنزفتمو أو صحوتمو
…
لبئس النَّدامى كنتم آل أبجرا
التفسِير: {والصافات صَفَّا} افتتح تعالى هذه السورة بالقسم ببعض مخلوقاته، إظهارً لعظم شأنها، وكبر فوائدها، وتنبيهاً للعباد على جلاله قدرها والمعنى: أقسم بهذه الطوائف من الملائكة، الصافات قوائهما في الصلاة، أو أجنحتها في ارتقاب أمر الله قال ابن مسعود: هم الملائكة تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفاً، وفي الحديث «ألا تصفُّون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا: وكيف يا رسول الله؟ قال: يُتمون الصفوف المتقدمة، ويتراصون في الصف» أقسم تعالى بالملائكة تنبيهاً على جلالة قدرهم، وكثرة عبادتهم، فهم مع عظيم خلقهم ورفعة شأنهم لا ينفكون عن عبادة الله، يصطفون للعبادة كاصطفاف المؤمنين في الصلاة، مع الخشوع والخضوع للعزيز الجبار، الذي دانت له الخلائق، وخضعت لجلال هيبته الرقاب، بما فيهم حَمَلة العرش والملائكة الأطهار {فالزاجرات زَجْراً} أي الملائكة التي تزجر السحاب، يسوقونه إلى حيث شاء الله، من الزجر بمعنى السوق والحث {فالتاليات ذِكْراً} وصفٌ ثالثُ للملائكة الأبرار، إشادةً بذكر محاسنهم ومناقبهم العلوية أي وأقسمُ بالملائكة التالين لآيات الله على أنبيائه وأوليائه، مع التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} هذا هو المقسم عليه أي إن إلهكم الذي تعبدونه أيها الناس إله واحدٌ لاشريك له، قال مقاتل: إِن الكفار بمكة قالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ وكيف يسع هذا الخلق إله فرد؟ فأقسم الله بهؤلاء تشريفاً، ثم بيَّن تعالى معنى وحدانيته وألوهيته فقال {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي هو تعالى خالق السموات والأرض ومالكهما وما بينهما من المخلوقات والموجودات، فإن وجودهما وانتظامهما على هذا النمط البديع، من أوضح الدلائل على وجود الله ووحدانيته {وَرَبُّ المشارق} أي وهو رب مشارق الشمس ومغاربها في الشتاء والصيف قال الطبريب: واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالة الكلام عليه ثم أخبر عن قدرته بتزيين السماء بالكواكب، بعد أن أخبر عن وحدانيته فقال {إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} أي زينا السماء القريبة منكم بالكواكب المنيرة المضيئة، التي تبدو وكأنها جواهر تتلألأ {وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} أي وللحفظ من كل شيطان عاتٍ متمرد، خارج عن طاعة الله قال قتادة: خلقت النجومُ لثلاث: رجوماً للشياطين، ونوراً يُهتدى بها، وزينةً للسماء الدنيا وقال أبو حيان: خصَّ السماء الدنيا بالذكر لأنها هي التي تُشاهد بالأبصار، وفيها وحدها يكون الحفظ من الشياطين {لَاّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى} أي لا يقدرون أن يستمعوا إلى الملائكة الذين هم في العالم العلوي، وقيل المعنى: لئلا يتسمَّعوا إلى الملأ الأعلى {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ} أي ويُرجمون بالشهب من كل جهةٍ يقصدون السماء منها {دُحُوراً} أي طرداً لهم عن السماع لأخبار السماء قال الطبري: أي مطرودين، من الدحر وهو الدَّفعُ والإِبعاد {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} أي ولهم في الآخرة عذاب موصول لا ينقطع {إِلَاّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} أي إلَاّ من اختلص شيئاً مسارقةً {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} أي فلحقه شهاب مضيءٌ، نافذ بضوئه وشعاعه فأحرقه قال المفسرون: قد يخطف الشيطان المارد خطفةً سريعة مما يدور في الملأ الأعلى، فيتبعه شهابٌ يلاحقه في هبوطه فيصيبه ويحرقه حرقاً قال القرطبي: وليست الشهب التي يرجم بها الشياطين من الكواكب الثواب، لأن الثابتة تجري ولا تُرى حركتها، وهذه الشهب تُرى حركاتها {فاستفتهم} أي فسلْ يا محمد هؤلاء المنكرين للبعث {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ} أي أيهم أقوى بُنيةً وأشد خلْقاً هل هم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والمخلوقات العظيمة العجيبة؟ {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَاّزِبٍ} أي من طينٍ زخوٍ لا قوة فيه قال الطبري: وإِنما وصفه باللزوب لأنه ترابٌ مخلوطٌ بماء، وكذلك خُلِق ابنُ آدم من ترابٍ وماء، ونار وهواء، والترابٌ إِذا خُلط بماءٍ صار طيناً لازباً، والغرضُ من الآية إِقامةُ البرهان على إعادة الإِنسان، فالذي خلقه من العدم وخلق هذه الخلائق، قادرٌ على إعادة الأجسام بعد الفناء {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} أي بل عجبتَ يا محمد من تكذيبهم للبعث مع رؤيتهم آثار قدرة الله الباهرة، وهم يسخرون منك ومما تقول لهم في ذلك قال أبو السعود: المعنى عجبتَ من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإِنكارهم للبعث، وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث {وَإِذَا ذُكِّرُواْ لَا يَذْكُرُونَ} أي وإِذا وُعظوا بالقرآن وخوّفوا به، لا يتعظون ولا يتدبرون {وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} أي وإِذا رأوا آية باهرة، أو معجزة قاهرة تدل على صدقكك كانشقاق القمر، وتكليم الشجر والحجر، يبالغون في السخرية أو يدعون غيرهم للسخرية والاستهزاء {وقالوا إِن هاذآ إِلَاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي ما هذا الذي جئتنا به يا محمد إلا سحر واضح بيِّن قال في البحر: والإِشارة ب «هذا» إلى ما ظهر على يديه عليه السلام من الخارق المعجز {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} الاستفهام للإِنكار والاستهزاء أي أئذا أصبحت أجسادنا بالية، وتفتَّت أجزاؤها إلى تراب وعظام سوف نبعث؟ {أَوَ آبَآؤُنَا الأولون} أي أو آباؤنا الأولون كذلك سيُبعثون؟ قال الزمخشري: أي أيبعث أيضاً آباؤنا؟ وهذا زيادة في استبعاد الأمر، يعنون أنهم أقدم، فبعثُهم أبعدُ وأبطل {قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} أي قل لهم نعم تُبعثون وأنتم صاغرون {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} أي وما هي إلا صيحة واحدة ينفخ فيها إسرافيل في الصور للقيام من القبور {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} أي فإِذا هم قيامٌ في أرض المحشر ينظر بعضهم إلى بعض قال القرطبي: الزجرةُ: الصيحةُ وهي النفخةُ الثانية، وسميت زجرة لأن مقصودها الزجر، كزجر الإِبل، والخيل عند السَّوق.
. ثم أخبر تعالى عن حسرتهم وندامتهم عند معاينتهم مأهوال القيامة فقال {وَقَالُواْ ياويلنا هذا يَوْمُ الدين} أي يا هلاكنا وخسارتنا هذا يوم الجزاء والحساب!! فتقول لهم الملائكة على سبيل التوبيخ والتقريع {هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي هذا يوم الفصف بين الخلائق الذي كنتم تنكرونه وتكذبون به قال البيضاوي: الفصلُ: القضاءُ والتفريق بين المحسن والمسيء {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} أي اجمعوا الظالمين وأشباههم من العصاة والمجرمين، كل إنسان مع نظرائه قال القرطبي: الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، والسارق مع السارق وقال ابن عباس: اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات، وعنه المراد به أشباههم من العصاة {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي وما كانوا يعبدون من الأوثان والأصنام، وذلك زيادةً في تحسيرهم وتخجيلهم {فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} أي فعرفوهم طريق الجحيم ووجهوهم إليها، وفي لفظ {اهدوهم} تهكم وسخرية، فإذا لم يهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم، فليهتدوا اليوم إلى صراط الجحيم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} أي احبسوهم عند الصراط لأنهم سيسألون عن جميع أقوالهم وأفعالهم، ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً وأنتم هنا جميعاً؟ وكلكم في حاجة إلى الناصر والمعين؟ قال المفسرون: هذا إشارة إلى قول أبي جهل يوم بدر «نحن جميعٌ منتصر» وأصل {تناصرون} تتناصرون حذفت إحدى التاءين تخفيفاً، قال تعالى {بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ} أي بل هم اليوم أذلاء منقادون، عاجزون عن الانتصار، سواء منهم العابدون والمعبودون {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} أي أقبل الرؤساء والأتباع يتلاومون ويتخاصمون قال أبو السعود: وسؤالهم إنما هو سؤال توبيخ بطريق الخصومة والجدال {قالوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} أي قال الأتباع منهم للمتبوعين: إِنكم كنتم تأتوننا من قبل الحقِّ، وتزينون لنا الباطل، وتصدوننا عن اتباع طريق الهدى قال الطبري: أي كنتم تأتوننا من قبل الدين والحق، فتخدعوننا بأقوى الوجوه، قال: واليمين في كلام العرب: القوه والقدرة كقول الشاعر:
إِذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ
…
تلقَّاها عرابةُ باليمين
وقيل: المراد تأتوننا بطريق الوسوسة عن يميننا كما هو المعتاد في حالة الوسوسة بالأسرار غالباً {قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي يقول لهم الرؤساء: لم نحملكم نحن على الضلال ولم نمنعكم من الإِيمان، بل كفرتم ولم تؤمنوا باختياركم قال ابن كثير: أي ليس الأمر كما تزعمون، بل كانت قلوبكم منكرةً للإِيمان، قابلةً للكفر والعصيان {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} أي ما كان لنا عليكم من قوة وقدرة نقهركم بها عن متابعتنا {بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ} أي بل فيكم فجور وطغيان واستعداد للعصيان، فلذلك استجبتم لنا واتبعتمونا {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ} أي فوجب علينا جميعاً وعيد الله لنا بالعذاب {إِنَّا لَذَآئِقُونَ} أي فإِنا لذائقو هذا العذاب لا محالة {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} أي فزينا لكم الباطل، ودعوناكم إلى الغيّ لأننا كنا على غيٍّ وضلال، قال تعالى مخبراً عن حالهم {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} أي فإِنهم يوم القيامة مشتركون في العذاب، كما كانوا مشتركين في الغواية، ولكنْ كما قال تعالى {وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39] {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين} أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بالأشقياء المجرمين، ثم بيَّن تعالى السبب فقال {إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إله إِلَاّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} أي إذا قيل لهم قولوا {لَا إله إِلَاّ الله} يتكبَّرون ويتعظَّمون {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} ؟ أي ويقولون عندما يُدعون إلى التوحيد: أنترك عبادة الأوثان لقول شاعرٍ مجنون؟ يعنون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال تعالى رداً عليهم {بَلْ جَآءَ بالحق وَصَدَّقَ المرسلين} أي ليس الأمرَ كما يفترون بل جاءهم محمد بالتوحيد والإِسلام الذي هو الحقُّ الأبلج، وجاء بمثل ما جاء به الرسل قبله قال أبو حيان: جمع المشركون بين إِنكار الوحدانية، وإِنكار الرسالة، ثم خلطوا في كلامهم بقولهم «شاعر مجنون» فإن الشاعر عنده من الفهم والحذق ماينظم به المعاني الغريبة، ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة، ومن كان مجنوناً لا يصل إلى شيء من ذلك، فكلامهم تخليط وهذيان {إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم} أي إنكم أيها المجرمون لمعذبون أشد العذاب {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي لا تُعاقبون إلا جزاء مثل عملكم قال الصاوي: لأن الشريكون جزاؤه بقدره، بخلاف الخير فجزاؤه بأضعاف مضاعفة. . ولمّا ذكر شئاً من أحوال الكفار وعذابهم، ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ونعيمهم، على طريقة القرآن في الموازنة بين الفريقين ترغيباً وترهيباً فقال {إِلَاّ عِبَادَ الله المخلصين} الاستثناء منقطع أي لكنْ عباد الله المُخلَصين الموحدين، فإِنهم لا يذوقون العذاب، ولا يناقشون الحساب، بل يتجاوز الله عن سيئاتهم، يُجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
. ثم أخبر عن جزائهم فقال {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ} أي أولئك الأخيار الأبرار لهم رزقهم في الجنة صباحاً ومساءً كما قال تعالى {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62] وقال أبو السعود: معلوم الخصائص من حسن المنظر، ولذة الطعم، وطيب الرائحة، ثم فسر الرزق بقوله:{فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ} أي فواكهُ متنوعة من جميع ما يشتهون، وهم في الجنة معزَّزون مكرَّمون، وخصَّ الفواكه بالذكر لأن كل ما يؤُكل في الجنة إِنما هو على سبيل التفكه والتلذذ {فِي جَنَّاتِ النعيم} أي في رياضٍ وبساتين يتنعمون فيها {على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} أي على أسرَّة مكلَّلة بالدر والياقوت، تدور بهم كيف شاءوا قال مجاهد:{مُّتَقَابِلِينَ} أي لا ينظر بعضُهم إلى قفا بعض تواصً وتحابياً {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} لما ذكر الطعام أعقبه بذكر الشراب أي يطوف عليهم خدم الجنة بكأسٍ من الخمر من نهر جارٍ خارج من عيون الجنة قال الصاوي: وصف به حمر الجننة لأنه يجري كالماء النابع وقال ابن عباس: كل كأسٍ في القرآن فهي الخمر، والمعين هي الجارية {بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} أي هذه الخمر بيضاء ذات لذةً للشاربين، يلتذ بها من شربها قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} أي ليس فيها ما يغتال عقولهم فيفسدها، ولا هم يسكرون بشربها كما تفعل خمر الدنيا قال ابن كثير: نزَّه الله سبحانه خمر الجنة عن الآفات التي هي في خمر الدنيا، من صداع الرأس، ووجع البطن، وذهاب العقل، فخمر الجنة طعمها طيب كلونها، والمراد بالغول هنا صُداع الرأس قاله ابن عباس، وقال قتادة: هو صداع الرأس ووجع البطن وتلك أجمل أوصاف الشراب، التي تحقق لذة الشُّرَّاب، وتنفي أكداره وأضراره، فلا خُمار يصدر الرءوس، ولا سكر ولا عربدة يُذهب لذة الاستمتاع كما هي الحال في خمرة الدنيا {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف} أي وعندهم الحور العين، العفيفات اللواتي قصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم حياءً وعفةً، قال ابن عباس:{قَاصِرَاتُ الطرف} أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن {عِينٌ} أي وهنَّ مع العفة واسعات جميلات العيون قال الطبري: أي نُجل العيون جمع عيناء وهي المرأة الواسعة العين مع الحسن والجمال، وهي أحسن ما تكون من العيون {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} أي كأنهن اللؤلؤ المكنون في أصدافه قاله ابن عباس واستشهد بقوله تعالى {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} [الواقعة: 2223] وقال الحسن: {المكنون} المصون الذي لم تمسَّه الأيدي. . والغرضُ أنهنَّ مع هذا الجمال الباهر، مصونات كالدُّر في أصدافه، مع رقةٍ لطفٍ ونعومة {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} لا تبتذله الأيدي ولا العيون، والعربُ تشبّه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها قال أبو حيان: ذكر تعالى في هذه الآيات أولاً الرزق وهو ما تلذذ به الأجسام، وثانياً الإِكرام وهو ما تتلذذ به النفوس، ثم ذكر المحل وهو جنات النعيم، ثم لذة التآنس والاجتماع {على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} وهو أتم للسرور وآنس، ثم ذكر المشروب وهو الخمر التي تدار عليهم بالكؤوس ولا يتناولونها بأنفسهم، ثم ختم باللذة الجسدية أبلغ الملاذ وهي التآنس بالنساء ثم أخبر تعالى عما يتحدث به أهل الجنة للأنس والسور، وهم على موائد الشراب يتلذذون بكل ممتع، وينعمون بتجاذب أطراف الحديث فقال {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} أي جلسوا يتحدثون عما جرى لهم في الدنيا، يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا وثمرة الإِيمان {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} أي قال قائل من أهل الجنة إني كان لي في الدنيا صديقً وجليس ينكر البعث {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين} أي يقول لي أتصدِّق بالبعث والجزاء؟ {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} ؟ أي هل إذا متنا وأصبحنا ذراتٍ من التراب وعظاماً نخرة، أئنا لمحاسبون ومجزيون بأعمالنا؟ يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب والاستبعاد {قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} ؟ أي قال ذلك المؤمن لإِخوانه في الجنة: هل أنتم مطَّلعونن إلى النار لننظر كيف حال ذلك القريب؟ قال تعالى {فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} أي فنظر فأبصر صاحبه الكافر في وسط الجحيم يتلظى سعيرها {قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} أي فخاطبه المؤمن شامتاً وقال له: واللهِ لقد قاربت أن تهلكني بإِغوائك {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين} أي ولولا فضلُ الله عليَّ بتثبيتي على الإِيمان، لكنتُ معك في النار محضراً ومعذباً في الجحيم، ثم يخاطبه مستهزءاً ساخراً كما كان ذلك الكافر يستهزىء به في الدنيا {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَاّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} ؟ أي هل لا تزال على اعتقادك بأننا لن نموت إلا موتةً واحدة، وأنه لا بعث ولا جزاء ولا حساب ولا عذاب؟ وهو أسلوب ساخر لاذع يظهر فيه التشفي من ذلك القرين الكافر، والتحدث بنعمة الله عليه قال تعالى {إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم} أي إن هذا النعيم الذي ناله أهل الجنة لهو الفوز العظيم {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} أي لمثل هذا الجزاء الكريم يجب أن يعمل العاملون ويجتهد المجتهدون.
قال المفسرون: أشارت الآيات الكريمة إلى قصة شريكين كان لهما ثمانية آلاف درهم، فكان أحدهما يعبد الله ويقصِّر في التجارة والنظر إلى أمور الدنيا، وكان الآخر مقبلاً على تكثير ماله، فانفصل من شريكه لتقصيره، وكان لكما اشترى داراً أو جارية أو بستاناً أو نحو ذلك عوضه على المؤمن وفخر عليه بكثرة ماله، وكان المؤمن إذا سمع ذلك يتصدَّق بنحوٍ من ذلك ليشتري له به قصراً في الجنة، فإذا لقيه صديقه قال ما صنعت بمالك؟ قال: تصدقت به لله! فكان يسخر منه ويقول: أئنك لمن المصدِّقين؟ فكان أمرها ما قصَّ الله علينا في كتابه العزيز.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الطباق {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} لأن السخرية في مقابلة التعجب.
2 -
التأكيد بإِن واللم {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} ومقتضى الكلام يقتضيه لإِنكار المخاطبين للوحدانية.
3 -
الأسلوب التهكمي {فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} وردت الهداية بطريق التهكم، لأن الهداية تكون إلى طريق النعيم لا الجحيم.
4 -
الإِيجاز بالحذف {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إله إِلَاّ الله} أي قولوا لا إ له إلا الله، وحذف لدلالة السياق عليه.
5 -
الالتفات من الغيبة إلى الخطاب {إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم} والأصل إنهم لذائقو وإنما التفت لزيادة التقبيح والتشنيع عليهم.
6 -
الكناية {قَاصِرَاتُ الطرف} كنَّى بذلك عن الحور العين لأنهم عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن.
7 -
التشبيه المرسل والمجمل {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} حذف منه وجه الشبه فأصبح مجملاً.
8 -
مراعاة الفواصل وهو المحسنات البديعية مثل {شِهَابٌ ثَاقِبٌ، عَذابٌ وَاصِبٌ، طِينٍ لَاّزِبٍ} إلى آخر.
اللغَة: {فالزاجرات} الزجر: الدفع عن الشيء بقوةٍ أو صياح، والزجرة: الصيحةُ من قولك: زجر الراعي الغنم إذا صاح عليها فرجعت لصوته {مَّارِدٍ} عاتي متمرد {ثَاقِبٌ} محرق شديد النفاذ {وَاصِبٌ} دائم لا ينقطع {لَاّزِبٍ} ملتزق بعضه ببعض {مَّعِينٍ} شراب نابع من العيون {غَوْلٌ} الغول: كل ما يغتال العقل ويفسده قال أبو عبيدة: الغول ما يغتال العقل ويذهبه وأنشد قول ابن إياس:
ومازالتِ الخمر تغتالنا
…
وتذهب بالأول فالأول
{بِكَأْسٍ} قال أهل اللغة: العرب تقول للإِناء إِذا كان فيه خمر كأس، فإِذا لم يكن فيه خمرا قالوا: إِناء وقدح قال الشاعر:
وكأسٍ شربتُ على لذةٍ
…
وأُخرى تداويتُ منها بها
{يُنزَفُونَ} يسكرون يقال: نُزف الرجل فهو نزيف ومنزوف إذا سكر قال الشاعر:
لعمري لئن أنزفتمو أو صحوتمو
…
لبئس النَّدامى كنتم آل أبجرا
التفسِير: {والصافات صَفَّا} افتتح تعالى هذه السورة بالقسم ببعض مخلوقاته، إظهارً لعظم شأنها، وكبر فوائدها، وتنبيهاً للعباد على جلاله قدرها والمعنى: أقسم بهذه الطوائف من الملائكة، الصافات قوائهما في الصلاة، أو أجنحتها في ارتقاب أمر الله قال ابن مسعود: هم الملائكة تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفاً، وفي الحديث «ألا تصفُّون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا: وكيف يا رسول الله؟ قال: يُتمون الصفوف المتقدمة، ويتراصون في الصف» أقسم تعالى بالملائكة تنبيهاً على جلالة قدرهم، وكثرة عبادتهم، فهم مع عظيم خلقهم ورفعة شأنهم لا ينفكون عن عبادة الله، يصطفون للعبادة كاصطفاف المؤمنين في الصلاة، مع الخشوع والخضوع للعزيز الجبار، الذي دانت له الخلائق، وخضعت لجلال هيبته الرقاب، بما فيهم حَمَلة العرش والملائكة الأطهار {فالزاجرات زَجْراً} أي الملائكة التي تزجر السحاب، يسوقونه إلى حيث شاء الله، من الزجر بمعنى السوق والحث {فالتاليات ذِكْراً} وصفٌ ثالثُ للملائكة الأبرار، إشادةً بذكر محاسنهم ومناقبهم العلوية أي وأقسمُ بالملائكة التالين لآيات الله على أنبيائه وأوليائه، مع التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} هذا هو المقسم عليه أي إن إلهكم الذي تعبدونه أيها الناس إله واحدٌ لاشريك له، قال مقاتل: إِن الكفار بمكة قالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ وكيف يسع هذا الخلق إله فرد؟ فأقسم الله بهؤلاء تشريفاً، ثم بيَّن تعالى معنى وحدانيته وألوهيته فقال {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي هو تعالى خالق السموات والأرض ومالكهما وما بينهما من المخلوقات والموجودات، فإن وجودهما وانتظامهما على هذا النمط البديع، من أوضح الدلائل على وجود الله ووحدانيته {وَرَبُّ المشارق} أي وهو رب مشارق الشمس ومغاربها في الشتاء والصيف قال الطبريب: واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالة الكلام عليه ثم أخبر عن قدرته بتزيين السماء بالكواكب، بعد أن أخبر عن وحدانيته فقال {إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} أي زينا السماء القريبة منكم بالكواكب المنيرة المضيئة، التي تبدو وكأنها جواهر تتلألأ {وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} أي وللحفظ من كل شيطان عاتٍ متمرد، خارج عن طاعة الله قال قتادة: خلقت النجومُ لثلاث: رجوماً للشياطين، ونوراً يُهتدى بها، وزينةً للسماء الدنيا وقال أبو حيان: خصَّ السماء الدنيا بالذكر لأنها هي التي تُشاهد بالأبصار، وفيها وحدها يكون الحفظ من الشياطين {لَاّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى} أي لا يقدرون أن يستمعوا إلى الملائكة الذين هم في العالم العلوي، وقيل المعنى: لئلا يتسمَّعوا إلى الملأ الأعلى {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ} أي ويُرجمون بالشهب من كل جهةٍ يقصدون السماء منها {دُحُوراً} أي طرداً لهم عن السماع لأخبار السماء قال الطبري: أي مطرودين، من الدحر وهو الدَّفعُ والإِبعاد {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} أي ولهم في الآخرة عذاب موصول لا ينقطع {إِلَاّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} أي إلَاّ من اختلص شيئاً مسارقةً {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} أي فلحقه شهاب مضيءٌ، نافذ بضوئه وشعاعه فأحرقه قال المفسرون: قد يخطف الشيطان المارد خطفةً سريعة مما يدور في الملأ الأعلى، فيتبعه شهابٌ يلاحقه في هبوطه فيصيبه ويحرقه حرقاً قال القرطبي: وليست الشهب التي يرجم بها الشياطين من الكواكب الثواب، لأن الثابتة تجري ولا تُرى حركتها، وهذه الشهب تُرى حركاتها {فاستفتهم} أي فسلْ يا محمد هؤلاء المنكرين للبعث {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ} أي أيهم أقوى بُنيةً وأشد خلْقاً هل هم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والمخلوقات العظيمة العجيبة؟ {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَاّزِبٍ} أي من طينٍ زخوٍ لا قوة فيه قال الطبري: وإِنما وصفه باللزوب لأنه ترابٌ مخلوطٌ بماء، وكذلك خُلِق ابنُ آدم من ترابٍ وماء، ونار وهواء، والترابٌ إِذا خُلط بماءٍ صار طيناً لازباً، والغرضُ من الآية إِقامةُ البرهان على إعادة الإِنسان، فالذي خلقه من العدم وخلق هذه الخلائق، قادرٌ على إعادة الأجسام بعد الفناء {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} أي بل عجبتَ يا محمد من تكذيبهم للبعث مع رؤيتهم آثار قدرة الله الباهرة، وهم يسخرون منك ومما تقول لهم في ذلك قال أبو السعود: المعنى عجبتَ من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإِنكارهم للبعث، وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث {وَإِذَا ذُكِّرُواْ لَا يَذْكُرُونَ} أي وإِذا وُعظوا بالقرآن وخوّفوا به، لا يتعظون ولا يتدبرون {وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} أي وإِذا رأوا آية باهرة، أو معجزة قاهرة تدل على صدقكك كانشقاق القمر، وتكليم الشجر والحجر، يبالغون في السخرية أو يدعون غيرهم للسخرية والاستهزاء {وقالوا إِن هاذآ إِلَاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي ما هذا الذي جئتنا به يا محمد إلا سحر واضح بيِّن قال في البحر: والإِشارة ب «هذا» إلى ما ظهر على يديه عليه السلام من الخارق المعجز {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} الاستفهام للإِنكار والاستهزاء أي أئذا أصبحت أجسادنا بالية، وتفتَّت أجزاؤها إلى تراب وعظام سوف نبعث؟ {أَوَ آبَآؤُنَا الأولون} أي أو آباؤنا الأولون كذلك سيُبعثون؟ قال الزمخشري: أي أيبعث أيضاً آباؤنا؟ وهذا زيادة في استبعاد الأمر، يعنون أنهم أقدم، فبعثُهم أبعدُ وأبطل {قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} أي قل لهم نعم تُبعثون وأنتم صاغرون {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} أي وما هي إلا صيحة واحدة ينفخ فيها إسرافيل في الصور للقيام من القبور {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} أي فإِذا هم قيامٌ في أرض المحشر ينظر بعضهم إلى بعض قال القرطبي: الزجرةُ: الصيحةُ وهي النفخةُ الثانية، وسميت زجرة لأن مقصودها الزجر، كزجر الإِبل، والخيل عند السَّوق.
. ثم أخبر تعالى عن حسرتهم وندامتهم عند معاينتهم مأهوال القيامة فقال {وَقَالُواْ ياويلنا هذا يَوْمُ الدين} أي يا هلاكنا وخسارتنا هذا يوم الجزاء والحساب!! فتقول لهم الملائكة على سبيل التوبيخ والتقريع {هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي هذا يوم الفصف بين الخلائق الذي كنتم تنكرونه وتكذبون به قال البيضاوي: الفصلُ: القضاءُ والتفريق بين المحسن والمسيء {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} أي اجمعوا الظالمين وأشباههم من العصاة والمجرمين، كل إنسان مع نظرائه قال القرطبي: الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، والسارق مع السارق وقال ابن عباس: اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات، وعنه المراد به أشباههم من العصاة {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي وما كانوا يعبدون من الأوثان والأصنام، وذلك زيادةً في تحسيرهم وتخجيلهم {فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} أي فعرفوهم طريق الجحيم ووجهوهم إليها، وفي لفظ {اهدوهم} تهكم وسخرية، فإذا لم يهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم، فليهتدوا اليوم إلى صراط الجحيم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} أي احبسوهم عند الصراط لأنهم سيسألون عن جميع أقوالهم وأفعالهم، ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً وأنتم هنا جميعاً؟ وكلكم في حاجة إلى الناصر والمعين؟ قال المفسرون: هذا إشارة إلى قول أبي جهل يوم بدر «نحن جميعٌ منتصر» وأصل {تناصرون} تتناصرون حذفت إحدى التاءين تخفيفاً، قال تعالى {بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ} أي بل هم اليوم أذلاء منقادون، عاجزون عن الانتصار، سواء منهم العابدون والمعبودون {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} أي أقبل الرؤساء والأتباع يتلاومون ويتخاصمون قال أبو السعود: وسؤالهم إنما هو سؤال توبيخ بطريق الخصومة والجدال {قالوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} أي قال الأتباع منهم للمتبوعين: إِنكم كنتم تأتوننا من قبل الحقِّ، وتزينون لنا الباطل، وتصدوننا عن اتباع طريق الهدى قال الطبري: أي كنتم تأتوننا من قبل الدين والحق، فتخدعوننا بأقوى الوجوه، قال: واليمين في كلام العرب: القوه والقدرة كقول الشاعر:
إِذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ
…
تلقَّاها عرابةُ باليمين
وقيل: المراد تأتوننا بطريق الوسوسة عن يميننا كما هو المعتاد في حالة الوسوسة بالأسرار غالباً {قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي يقول لهم الرؤساء: لم نحملكم نحن على الضلال ولم نمنعكم من الإِيمان، بل كفرتم ولم تؤمنوا باختياركم قال ابن كثير: أي ليس الأمر كما تزعمون، بل كانت قلوبكم منكرةً للإِيمان، قابلةً للكفر والعصيان {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} أي ما كان لنا عليكم من قوة وقدرة نقهركم بها عن متابعتنا {بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ} أي بل فيكم فجور وطغيان واستعداد للعصيان، فلذلك استجبتم لنا واتبعتمونا {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ} أي فوجب علينا جميعاً وعيد الله لنا بالعذاب {إِنَّا لَذَآئِقُونَ} أي فإِنا لذائقو هذا العذاب لا محالة {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} أي فزينا لكم الباطل، ودعوناكم إلى الغيّ لأننا كنا على غيٍّ وضلال، قال تعالى مخبراً عن حالهم {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} أي فإِنهم يوم القيامة مشتركون في العذاب، كما كانوا مشتركين في الغواية، ولكنْ كما قال تعالى {وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39] {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين} أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بالأشقياء المجرمين، ثم بيَّن تعالى السبب فقال {إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إله إِلَاّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} أي إذا قيل لهم قولوا {لَا إله إِلَاّ الله} يتكبَّرون ويتعظَّمون {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} ؟ أي ويقولون عندما يُدعون إلى التوحيد: أنترك عبادة الأوثان لقول شاعرٍ مجنون؟ يعنون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال تعالى رداً عليهم {بَلْ جَآءَ بالحق وَصَدَّقَ المرسلين} أي ليس الأمرَ كما يفترون بل جاءهم محمد بالتوحيد والإِسلام الذي هو الحقُّ الأبلج، وجاء بمثل ما جاء به الرسل قبله قال أبو حيان: جمع المشركون بين إِنكار الوحدانية، وإِنكار الرسالة، ثم خلطوا في كلامهم بقولهم «شاعر مجنون» فإن الشاعر عنده من الفهم والحذق ماينظم به المعاني الغريبة، ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة، ومن كان مجنوناً لا يصل إلى شيء من ذلك، فكلامهم تخليط وهذيان {إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم} أي إنكم أيها المجرمون لمعذبون أشد العذاب {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي لا تُعاقبون إلا جزاء مثل عملكم قال الصاوي: لأن الشريكون جزاؤه بقدره، بخلاف الخير فجزاؤه بأضعاف مضاعفة. . ولمّا ذكر شئاً من أحوال الكفار وعذابهم، ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ونعيمهم، على طريقة القرآن في الموازنة بين الفريقين ترغيباً وترهيباً فقال {إِلَاّ عِبَادَ الله المخلصين} الاستثناء منقطع أي لكنْ عباد الله المُخلَصين الموحدين، فإِنهم لا يذوقون العذاب، ولا يناقشون الحساب، بل يتجاوز الله عن سيئاتهم، يُجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
. ثم أخبر عن جزائهم فقال {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ} أي أولئك الأخيار الأبرار لهم رزقهم في الجنة صباحاً ومساءً كما قال تعالى {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62] وقال أبو السعود: معلوم الخصائص من حسن المنظر، ولذة الطعم، وطيب الرائحة، ثم فسر الرزق بقوله:{فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ} أي فواكهُ متنوعة من جميع ما يشتهون، وهم في الجنة معزَّزون مكرَّمون، وخصَّ الفواكه بالذكر لأن كل ما يؤُكل في الجنة إِنما هو على سبيل التفكه والتلذذ {فِي جَنَّاتِ النعيم} أي في رياضٍ وبساتين يتنعمون فيها {على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} أي على أسرَّة مكلَّلة بالدر والياقوت، تدور بهم كيف شاءوا قال مجاهد:{مُّتَقَابِلِينَ} أي لا ينظر بعضُهم إلى قفا بعض تواصً وتحابياً {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} لما ذكر الطعام أعقبه بذكر الشراب أي يطوف عليهم خدم الجنة بكأسٍ من الخمر من نهر جارٍ خارج من عيون الجنة قال الصاوي: وصف به حمر الجننة لأنه يجري كالماء النابع وقال ابن عباس: كل كأسٍ في القرآن فهي الخمر، والمعين هي الجارية {بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} أي هذه الخمر بيضاء ذات لذةً للشاربين، يلتذ بها من شربها قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} أي ليس فيها ما يغتال عقولهم فيفسدها، ولا هم يسكرون بشربها كما تفعل خمر الدنيا قال ابن كثير: نزَّه الله سبحانه خمر الجنة عن الآفات التي هي في خمر الدنيا، من صداع الرأس، ووجع البطن، وذهاب العقل، فخمر الجنة طعمها طيب كلونها، والمراد بالغول هنا صُداع الرأس قاله ابن عباس، وقال قتادة: هو صداع الرأس ووجع البطن وتلك أجمل أوصاف الشراب، التي تحقق لذة الشُّرَّاب، وتنفي أكداره وأضراره، فلا خُمار يصدر الرءوس، ولا سكر ولا عربدة يُذهب لذة الاستمتاع كما هي الحال في خمرة الدنيا {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف} أي وعندهم الحور العين، العفيفات اللواتي قصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم حياءً وعفةً، قال ابن عباس:{قَاصِرَاتُ الطرف} أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن {عِينٌ} أي وهنَّ مع العفة واسعات جميلات العيون قال الطبري: أي نُجل العيون جمع عيناء وهي المرأة الواسعة العين مع الحسن والجمال، وهي أحسن ما تكون من العيون {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} أي كأنهن اللؤلؤ المكنون في أصدافه قاله ابن عباس واستشهد بقوله تعالى {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} [الواقعة: 2223] وقال الحسن: {المكنون} المصون الذي لم تمسَّه الأيدي. . والغرضُ أنهنَّ مع هذا الجمال الباهر، مصونات كالدُّر في أصدافه، مع رقةٍ لطفٍ ونعومة {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} لا تبتذله الأيدي ولا العيون، والعربُ تشبّه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها قال أبو حيان: ذكر تعالى في هذه الآيات أولاً الرزق وهو ما تلذذ به الأجسام، وثانياً الإِكرام وهو ما تتلذذ به النفوس، ثم ذكر المحل وهو جنات النعيم، ثم لذة التآنس والاجتماع {على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} وهو أتم للسرور وآنس، ثم ذكر المشروب وهو الخمر التي تدار عليهم بالكؤوس ولا يتناولونها بأنفسهم، ثم ختم باللذة الجسدية أبلغ الملاذ وهي التآنس بالنساء ثم أخبر تعالى عما يتحدث به أهل الجنة للأنس والسور، وهم على موائد الشراب يتلذذون بكل ممتع، وينعمون بتجاذب أطراف الحديث فقال {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} أي جلسوا يتحدثون عما جرى لهم في الدنيا، يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا وثمرة الإِيمان {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} أي قال قائل من أهل الجنة إني كان لي في الدنيا صديقً وجليس ينكر البعث {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين} أي يقول لي أتصدِّق بالبعث والجزاء؟ {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} ؟ أي هل إذا متنا وأصبحنا ذراتٍ من التراب وعظاماً نخرة، أئنا لمحاسبون ومجزيون بأعمالنا؟ يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب والاستبعاد {قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} ؟ أي قال ذلك المؤمن لإِخوانه في الجنة: هل أنتم مطَّلعونن إلى النار لننظر كيف حال ذلك القريب؟ قال تعالى {فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} أي فنظر فأبصر صاحبه الكافر في وسط الجحيم يتلظى سعيرها {قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} أي فخاطبه المؤمن شامتاً وقال له: واللهِ لقد قاربت أن تهلكني بإِغوائك {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين} أي ولولا فضلُ الله عليَّ بتثبيتي على الإِيمان، لكنتُ معك في النار محضراً ومعذباً في الجحيم، ثم يخاطبه مستهزءاً ساخراً كما كان ذلك الكافر يستهزىء به في الدنيا {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَاّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} ؟ أي هل لا تزال على اعتقادك بأننا لن نموت إلا موتةً واحدة، وأنه لا بعث ولا جزاء ولا حساب ولا عذاب؟ وهو أسلوب ساخر لاذع يظهر فيه التشفي من ذلك القرين الكافر، والتحدث بنعمة الله عليه قال تعالى {إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم} أي إن هذا النعيم الذي ناله أهل الجنة لهو الفوز العظيم {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} أي لمثل هذا الجزاء الكريم يجب أن يعمل العاملون ويجتهد المجتهدون.
قال المفسرون: أشارت الآيات الكريمة إلى قصة شريكين كان لهما ثمانية آلاف درهم، فكان أحدهما يعبد الله ويقصِّر في التجارة والنظر إلى أمور الدنيا، وكان الآخر مقبلاً على تكثير ماله، فانفصل من شريكه لتقصيره، وكان لكما اشترى داراً أو جارية أو بستاناً أو نحو ذلك عوضه على المؤمن وفخر عليه بكثرة ماله، وكان المؤمن إذا سمع ذلك يتصدَّق بنحوٍ من ذلك ليشتري له به قصراً في الجنة، فإذا لقيه صديقه قال ما صنعت بمالك؟ قال: تصدقت به لله! فكان يسخر منه ويقول: أئنك لمن المصدِّقين؟ فكان أمرها ما قصَّ الله علينا في كتابه العزيز.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الطباق {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} لأن السخرية في مقابلة التعجب.
2 -
التأكيد بإِن واللم {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} ومقتضى الكلام يقتضيه لإِنكار المخاطبين للوحدانية.
3 -
الأسلوب التهكمي {فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} وردت الهداية بطريق التهكم، لأن الهداية تكون إلى طريق النعيم لا الجحيم.
4 -
الإِيجاز بالحذف {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إله إِلَاّ الله} أي قولوا لا إ له إلا الله، وحذف لدلالة السياق عليه.
5 -
الالتفات من الغيبة إلى الخطاب {إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم} والأصل إنهم لذائقو وإنما التفت لزيادة التقبيح والتشنيع عليهم.
6 -
الكناية {قَاصِرَاتُ الطرف} كنَّى بذلك عن الحور العين لأنهم عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن.
7 -
التشبيه المرسل والمجمل {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} حذف منه وجه الشبه فأصبح مجملاً.
8 -
مراعاة الفواصل وهو المحسنات البديعية مثل {شِهَابٌ ثَاقِبٌ، عَذابٌ وَاصِبٌ، طِينٍ لَاّزِبٍ} إلى آخر.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما أعده للأبرار في دار النعيم، ذكر ما أعده للأشرار في دار الجحيم، ليظهر التمييز بين الفريقين، ثم ذكر قصة «نوح» وقصة «إبراهيم» وما فيهما من العظات والعبر للمعتبرين.
اللغَة: {نُّزُلاً} النُّزُل: الضيافة والتكرمة، وأصله ما يُعد للأضياف من الطعام والشراب وغيرهما {طَلْعُهَا} ثمرها، سُمي طلعاً لطلوعه {لَشَوْباً} خلطاً ومزاجاً من شاب الطعام يشوبه إِذا خلطه بشيء آخر {يُهْرَعُونَ} يُسرعون قال الفراء: الإِهراع: الإِسراع مع رعدة، وقال المبرّد: المُهرع: المستحثُّ يقال: جاء فلان يُهرعن إلى النار، إِذا استحثَّه البرد إِليها {شِيعَتِهِ} شيعة الرجل أعوانه وأنصاره، ومن سار على طريقته ومنهاجه {أَإِفْكاً} كذباً وباطلاً {سَقِيمٌ} مريض وعليل {فَرَاغَ} راغ إِليه: أقبل عليه ومال نحوه خفيةً وأصله من الميل قال الشاعر:
ويُريك من طَرف اللسان حلاوةً
…
ويروغ فيك كما يروغ الثعلب
{يَزِفُّونَ} يُسرعون في مشيهم {وَتَلَّهُ} صرعه وكبَّه على وجهه.
التفسِير: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} أي أنعيم الجننة خيرٌ ضيافةً وعطاءً أم شردة الزقوم التي في جهنم؟ أيهما خيرٌ وأفضل؟ فالفواكه والثمار طعام أهل الجنة، وشجرة الزقوم طعام أهل النار، والغرض منه توبيخ الكفار {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ} أي إِنا جعلنا شجرة الزقوم فتنةً وابتلاءً لأهل الضلالة قال المفسرون: لما سمع الكفارُ ذكر شجرة الزقوم قالوا: كيف يكون في النار شجرة، والنار تُحرق الشجر؟ وكان أبو جهل يقول لأصحابه: أتدون ما الزقوم؟ إِنه الزُّبد والتمر، ثم يأتيهم به ويقول: تزقَّموا، هذا الذي يخوفنا به محمد {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم} أي تنبت في قعر جهنم ثم هي متفرعة فيها {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} أي ثمرها وحملها كأنه رءوس الشياطين في تناهي القبح والبشاعة قال ابن كثير: وإنما شبهها برءوس الشياطين، وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين، لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر {فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} أي فإن هؤلاء الكفار لشدة جوعهم مضطرون إلى الأكل منها حتى تمتلىء منها بطونهم، فهي طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة، وفي الحديث «لو أن قطرةً من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه» {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} أي ثم إن لهم بعدما شبعوا منها وغلبهم العطش لمزاجاً من ماء حار قد انتهت حرارته يشاب به الطعام أي يخلط ليجمع لهم بين مرارة الزقوم، وحرارة الحميم، تغليظاً لعذابهم {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم} أي ثم مصيرهم ومرجعهم إلى دركات الجحيم قال مقاتل: الحميم خارج الجحيم، فهم يوردون الحميم لشربه ثم يردون إلى الجحيم وقال أبو السعود: الزقوم والحميم نُزل يُقدَّم إِليهم قبل دخولها {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ} أي وجدوهم على الضلالة فاقتدوا بهم {فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} أي فهم يُسرعون في اتباع خطاهم من غير دليل ولا برهان قال مجاهد: شبَّهه بالهرولة كمن يُسرع إِسراعاً نحو الشيء {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين} أي ضلَّ قبل قومك أكثر الأمم الماضية {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ} أي أرسلنا فيهم رسلاً كثيرين يخفونهم من عذاب الله ولكنه تمادوا في الغيّ والضلال {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} أي فانظر يا محمد كيف كان مصير أمر هؤلاء المكذبين؟ ألم نهلكهم فنضيرهم عبرةً للعباد؟ {إِلَاّ عِبَادَ الله المخلصين}
أي لكنْ عبادَ الله المؤمنين الذين أخلصهم تعالى لطاعته فإنهم نجوا من العذاب.
. ثم شرع في بيان قصة نوح فقال {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المجيبون} اللام موطئة للقسم أي وبالله لقد استغاث بنا نوحٌ لما كذبه قومه فلنعم المجيبون نحن له، وصيعة الجمع {المجيبون} للعظمة والكبرياء قال الصاوي: ذكر تعالى في هذه السورة سبع قصص: قصة نوح، وقصة إبراهيم، وقصية الذبيح إسماعيل، وقصة موسى وهارون، وقصة إلياس، وقصة لوط، وقصة يونس، وكل ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم َ وتحذيراً لمن كفر من أمته {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} أي ونجيناه ومن آمن معه من أهلُه وأتباعُه من الغرق قال المفسرون: وكانوا ثمانين ما بين رجل وامرأة {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين} أي وجعلنا ذرية نوح هم الذين بقوا في الأرض بعد هلاك قومه قال ابن عباس: أهل الأرض كلُّهم من ذرية نوح قال في التسهيل: وذلك لأنه لما غرق الناس في الطوفان، ونجا نوح ومن كان معه في السفينة، تناس الناسُ من أولاده الثلاثة «سام، وحام، ويافث» {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} أي تركنا عليه ثناءً حسناً في كل أمة إلى يوم القيامة {سَلَامٌ على نُوحٍ فِي العالمين} أي سلام عاطر من الله تعالى والخلائق على نوح باقٍ على الدوام بدون انقطاع {نَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي هكذا نجزي من أحسن من العباد، نبقي له الذكر الجميل إلى آخر الدهر {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} أي كان مخلصاً في العبودية لله، كامل الإِيمان واليقين قال في حاشية البيضاوي: علَّل هذه التكرمة السنية بكونه من أُولي الإِحسان، ثم علَّل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً، إظهاراً لجلالة قدر الإِيمان وأصالة أمره، وجعل الدنيا مملؤءةً من ذريته تبقيه لذكره الجميل في ألسنة العالمين {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين} أي أغرقنا الكافرين الذين لم يؤمنوا بنوح عن آخرهم، فلم تبق منهم عينٌ تطرف ولا ذكرٌ ولا أثر. . ثم شرع تعالى في بيان قصة إبراهيم فقال {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ} أي وإِن من من أنصار نوح واعوانه وممن كان على منهاجه وسنته إبراهيم الخليل، قال البيضاوي: وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة، وكان بينهما نبيان هما «هود» و «صالح» صلوات الله عليهم أجمعين {إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي حين جاء ربه بقلبٍ نقي طاهر، مُخلص من الشك والشرك {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} أي حين قال لأبيه آزر وقومه موبخاً لهم: ما الذي تعبدونه من الأوثان والأصنام؟ وهو إِنكار لهم وتوبيخ {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ} ؟ أي أتعبدون آلهة من دون الله من أجل الإِفك والكذب والزور؟ وإِنما قدَّم المفعول لأجله {أَإِفْكاً} على المفعول به لأجل التقبيح عليهم بأنهم على إِفكٍ وباطل في شركهم والأصل: أتريدون آلهة من دون الله إفكاً؟ قال القرطبي: والإِفكُ أسوأ الكذب وهو الذي لا يثبتُ ويضطرب {فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين} استفهام توبيخ وتحذير أيْ أيَّ شيءٍ تظنون بربِّ العالمين؟ هل تظنون أنه يترككم بلا عقاب وقد عبدتم غيره؟ قال الطبري: المعنى أيَّ
شيءٍ تظنون أيها القوم أنه يصنع بكم إن لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} لما وبخهم على عبادة غير الله أراد أن يريهم أن أصنامهم لا تضر ولا تنفع، وأراد أن يخلو بها حتى يكسرها، فاحتال للبقاء وعدم الخروج معهم إلى العيد، فنظر في السماء على عادتهم حيث كانوا نجامين وأوهمهم أن النجوم تدل على أنه سيسقم غداً فقال: إِني سقيم أي سأمرض إن خرجتُ معكم، وهذا ليس بكذبٍ وإنما هو من المعارض الجائزة لمقصد شرعي كما ورد «إِنَّ المعاريض لمندوحةً عن الكذب» أو أراد أنه سقيم القلب من عبادتهم للأوثان {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أي فتركوه إعراضاً عنه وخرجوا إلى عيدهم {فَرَاغَ إلى آلِهَتِهِمْ} أي فلما ذهبوا وتركوه توجه إلى الأصنام ومال إليها في خفية قال ابن كثير: أي ذهب إليها بعد ما خرجوا في سرعةٍ واختفاء {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} ؟ أي ألا تأكلون من هذا الطعام؟ قال ابن كثير: وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديهما طعاماً قرباناً لتُبارك لهم فيه {مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ} ؟ أي ما لكم لا تجيبوني على سؤالي قال أبو حيان: وعرضُ الأكل عليها واستفهامها عن النطق إِنما هو على سبيل الهزء، لأنها منحطةٌ عن ربتة عابديها إذ هم يأكلون وينطقون بخلافها {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين} أي فأقبل على الأصنام مستخفياً يحطمها بيمينه بفأسٍ كان معه قال البيضاوي: وتقييدُه باليمين للدلالة على قوته وقوةُ الآلة تستدعي قوة الفعل وقال القرطبي: خصَّ الضرب باليمين لأنها أقوى والضربُ بها أشد {فأقبلوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} أي أقبلوا نحوه مسرعين كأن بعضهم يدفع بعضاً، فلما أدركوه قالوا: ويحكَ نحن نعبدها وأنت تكسرها؟ فأجابهم موبخاً {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} ؟ أي أتبعدون أصناماً نحتموها بأيديكم، وصنعتموها بأنفسكم؟ {والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أي واللهُ جل وعلا خلقكم وخلق عملكم، وكلُّ الأشياء مخلوقة له، فكيف تعبدون المخلوق وتتركون الخاق، أليس لكم عقل ايها الناسُ؟ قال ابن جزي: ذهب بعض المفسرين إلى أن {ما} مصدرية والمعنى: اللهُ خلقكم وأعمالكم، وهذه الآية عندهم قاعدةً في خلق أفعال العباد، وذهب بعضهم إلى أن {ما} موصولة بمعنى الذي والمعنى: خلقكم وخلق أصنامكم التي تعملونها، وهذا أليقٌ بسياق الكلام، وأقوى في قصد الاحتجاج على الذين عبدوا الأصنام.
{قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم} أي ابنوا له مكاناً وأضرموه ناراً ثم ألقوه في تلك النار المتأججة المستعرة قال المفسرون: لما غلبهم إبراهيم عليه السلام في الحجة، مالوا إلى الغلبة بقوة البطش والشدة، وتشاوروا فيما بينهم ثم قرروا أن يطرحوه في النار انتصارً لأصنامهم وآلهتهم {فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين} أي أرادوا المكر بإبراهيم واحتالوا لإهلاكه، فنجيناه من النار وجعلناها برداً وسلاماً عليه، وجعلناهم الأذلين المقهورين لأنه لم ينفذ فيه مكرهم، ولا كيدهم {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} لما نجاه الله من النار، وخلّصه من كيد
الفجار، هجر قومه واعتزلهم والمعنى إني مهاجر من بلد قومي إلى حيث أمرني ربي قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع سارة إلى أرض الشام {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين} أي ارزقني ولداً من الصالحين يؤنسني في غُربتي قال ابن كثير: يريد أولاداً مطيعين يكونون عوضاً عن قومه وعشيرته الذين فارقهم {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} أي فاستجبنا دعاءه وبشرناه بغلامٍ يكون حليماً في كبره قال أبو السعود: جمع الله له فيه بشارات ثلاث: بشارة أنه غلام، وأنه يبلغ أوان الحُلم، وأنه يكون حليماً، لأن الصغير لا يوصف بذلك، وأيُّ حلم يعادل حلمه عليه السلام حين عرض عليه أبوه الذبح فقال {قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} !! وجمهور المفسرين على أن هذا الغلام المبشر به هو «اسماعيل» لأن الله تعالى قال بعد تمام قصة الذبيح {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين} فدل ذلك على أن الذبيح هو إسماعيل {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي} أي فلما ترعرع وشبَّ وبلغ السنَّ الذي يمكنه أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه قال المفسرون: وهو سن الثالثة عشرة {قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ} أي إِني أُمرت في المنام أنْ أذبحك، قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحيٌ وتلا الآية وقال محمد بن كعب: كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاضاً ورقوداً، لأن الأنبياء تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم {فانظر مَاذَا ترى} ؟ أي فانظر في الأمر، ما رأيك فيه؟ قال ابن كثير: وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلَده وعزمه على طاعة الله وطاعة أبيه.
فإن قيل: لم شاوره في أمرٍ هو حتمٌ من الله فالجواب: أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه، ولكنْ ليعلم ما عنده فيثبت قلبه ويوطِّن نفسه على الصبر، فأجابه بأحسن جواب {قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} أي امرض لما أمرك الله به من ذبحي، فستجدني صابراً إن شاء الله، وهو جواب من أوُتي الحلم والصبر وامتثال الأمر، والرضا بقضاء الله {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي فلما استسلما الأب والابن لأمر الله، وصرعه على وجهه ليذبحه قال ابن عباس:{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أكبَّه على وجهه {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ} هذه جواب «لمَّا» والواو مقحمة أي ناديناه يا إبراهيم قد نفَّذْتْ ما أُمرت به، وحصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح، روي أنه أمرَّ السكين بقوته على حلقه مراراً فلم يقطع قال الصاوي: والحكمة في هذه القصة أن إبراهيم اتخذه الله تعالى خليلاً، فلما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت شعبةٌ من قبله بمحبة ولده، فأُمر بذبح المحبوب لتظهر صفاء الخلة، فامتثل أمر به وقدَّم محبته على محبة ولده، قال ابن عباس: فلما عزم على ذبح ولده ورماه على شقة قال الإِبن: يا أبتِ اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف ثيابك لئلا ينتضح عليها شيءٌ من دمي فتراه أمي فتحزن، وأحدَّ شفرتك وأسرعْ بها على حلقي ليكون الموت أهونَ عليَّ، وإِذا أتيتَ أمي فاقْرئْها مني السلام، وإن رأيتَ أن
تردَّ قميصي عليها فافعل فإنه عسى أن يكون أسلى لها عيني، فقال له إبراهيم: نعم العونُ أنت يا بني على أمر الله {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} تعليلٌ لتفريج الكربة أي كما فرجنا شدتك كذلك نجازي المحسنين بتفريج الشدة عنهم ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً {إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين} أي إن هذا لهو الابتلاء والامتحان الشاق الواضح، الذي يتميز فيه المخلص من المنافق {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي وفديناه بكبسٍ عظيم من الجنة فداءً عنه قال ابن عباس: كبش عظيم قد رعى في الجنة أربعين خريفاً {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} أي وأبقينا عليه ثناءً حسناً إلى يوم الدين {سَلَامٌ على إِبْرَاهِيمَ} أي سلام منا على إبراهيم عاطرٌ كريم {كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} كرَّر ذكر الجزاء مبالغة في الثناء ثم علَّل ذلك بأنه كان من الراسخين في الإِيمان مع الإِيقان والاطمئنان {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين} وبشرناه بغلامٍ آخر بعد تلك الحادثة هو إِسحق الذي سيكون نبياً قال ابن عباس: بُشِّرَ بنبوته حين وُلد، وحين نُبّىء، وتكاد تكون الآية صريحةً في أن الذبيح هو «إسماعيل» لا «إسحاق» {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ} أي أفضنا على إبراهيم وإِسحاق بركات الدنيا والدين {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} أي ومن ذريتهما محسنٌ ومسيء قال الطبري: المحسنُ هو المؤمن، والظالم لنفسه هو الكافر وقال أبو حيان: وفي الآية وعيدٌ لليهود ومن كان من ذريتهما ممن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم َ وفيها دليل على أن البرَّ قد يلد الفاجر ولا يلحقه من ذلك عبيب ولا منقصة.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبيدع نوجزها فيما يلي:
1 -
الأسلوب التهكمي {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} ؟ التعبير ب «خيرٌ» تهكم بهم.
2 -
الجناح الناقس {المُنذِرين. . والمُنْذَرين} لأن المراد بالأول الرسل، وباللثاني الأمم.
3 -
التشبيه {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} أي في الهول والشناعة ويسمى تشبيهاً مرسلاً مجملاً.
4 -
الاستعارة التبعية {إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} شبَّه إقباله على ربه مخلصاً بقلبه بمن قدم علىلملك بتحفةٍ ثمينة جميلة ففاز بالرضى والقبول ففيه استعارة تبعية.
5 -
الطباق بين {مُحْسِنٌ. . وَظَالِمٌ} .
6 -
جناس الاشتقاق بين {ابنوا. . بُنْيَاناً} .
7 -
الكنابة اللطيفة {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} كنَّة به عن الثناء الحسن الجميل.
8 -
مراعاة الفواصل مثل {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الخ وهو من المحسنات البديعية، وهو من خصائق القرآن وفيه من الروعة والجمال، وحسن الوقع على السمع ما يزيده روعةً وجمالاً.
المنَاسَبَة: لما ذكر قصة الخليل إبراهيم، وقصة الذبيح والفداء، أعقبها بذكر قصص بعض الأنبياء، كموسى وهارون، ويونس ولوط، وما في هذه القصة من العظات والعبر، وختم السورة الكريمة ببيان أن النصر والغلبة للرسل وأتباعهم المؤمنين.
اللغَة: {أَبَقَ} هرب {المشحون} المملوء {سَاهَمَ} قارع أي ضرب القُرعة قال المبرّد: وأصله من السهام التي تُجال {المدحضين} المغلوبين، وأصله من الزرق، يُقال: دَحضت حجته وأدحضها اللهُ أي غُلب وهُزم قال الشاعر:
قتلنا المُدْحضين بكلِّ فجٍّ
…
فقد قرَّت بقتلهم العُيون
{مُلِيمٌ} آتٍ يُلام عليه {العرآء} الأرض الفيحاء لا شجر فيها، ولا معلم، قال الفراء، العراءُ المكانُ الخالي {يَقْطِينٍ} القرعُ المعروف والمسمَّى بالدباء، قال الجوهري: اليقطين ما لا ساق له كشجر القرع ونحوه {سَاحَتِهِمْ} الساحةُ: الفناء.
التفسِير: {وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وَهَارُونَ} اللام موطئة للقسم أي وعزتنا وجلالنا لقد أنعمنا على موسى وهارون بأنواع النعم والمنافع الدينية والدنيوية ومنها نعمة النبوة والرسالة {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الكرب العظيم} أي ونجيناهما وقومهما بني إسرائيل من الغم والمكروه العظيم، وهو استعباد فرعون إياهم مع التعذيب بقتل الأبناء، واستحياء النساء {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ الغالبين} الضمير يعود على موسى وهارون وبني إسرائيل أي ونصرناهم على أعدائهم الأقباط فكانوا الغالبين عليهم بعد أن كانوا تحت أيديهم مقهورين {وَآتَيْنَاهُمَا الكتاب المستبين} أي أعطيناهما الكتاب البليغ في بيانه، الكامل في حدووده وأحكامه، وهو التوراة {وَهَدَيْنَاهُمَا الصراط المستقيم} أي وهديناهما الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه قال الطبري: وهو الإسلام دينُ الله الذي ابتعث به أنبياءه {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين} أي تركنا عليهما الثناء الجميل، والذكر الحسن {سَلَامٌ على موسى وَهَارُونَ} أي سلام منا على موسى وهارون {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} أي كذلك نفعل بمن أحسن وأخلص العبودية لله {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين} أي وإِنَّ الياس أحد أنبياء بني إسرائيل لمن الرسل الكرام الذين أرسلتُهم لهداية الخلق قال أبو السعود: هو إلياس بن ياسين من سبط هارون أخي موسى {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ} أي حين قال لقومه من بني إسرائيل ألا تخافون الله في عبادتكم غيره؟ {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين} أتعبدون هذا الصنم المسمَّى بعلاً وتتركون عبادة ربكم أحسن الخالقين؟ {الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَآئِكُمُ الأولين} أي تتركون عبادة أحسن الخالقين، الذي هو ربكم وربُّ آبائكم السابقين قال القرطبي: و «بعل» اسم صنم لهم كانوا يعبدونه وبذلك سميت مدينتهم بعلبك، والمعنى: أتدون رباً اختلقتموه وهو هذا الصنم، وتتركون أحسن من يقال له خالق وهو «الله» ربكم وربَّ آبائكم الأولين؟ {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي فكذبوا نبيَّهم فإِنهم لمحضرون في العذاب {إِلَاّ عِبَادَ الله المخلصين} أي لكنْ عباد الله المؤمنين فإِنهم نجوا من العذاب {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} أي تركنا على إلياس الثناء الحسنت الجميل إلى يوم الدين {سَلَامٌ على إِلْ يَاسِينَ} أي سلام منا عليه وعلى آل ياسين قال المفسرون: المراد ب {إل ياسين} هو إلياس ومن آمن معه جمعوا معه تغليباً كما قالوا للمهلَّب وقومه المهلَّبون، واختار الطبري أنه اسم لإِلياس فيقال: إلياس، وإل ياسين مثل ميكال وميكائيل، وأنه له اسمين فيسمى «إلياس» و {إل ياسين} {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} تقدم
تفسيره، وإنما ختم الآيات بعد ذكر كل رسول بالسلام عليه، وبهاتين الآيتين الكريمتين لبيان فصل الإِحسان والإِيمان، وأن هؤلاء الرسل الكرام كانوا جميعاً من المتصفين بهذه الصفات، فلذلك استحقوا التحية والسلام، والذكر الحسن بين الأنام، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين {وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين} أي وإِنَّ لوطاً لأحد رسلنا لهداية قومه {إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} أي ذكر حين خلصناه من العذاب هو ومن آمن معه من أهله وأولاده {إِلَاّ عَجُوزاً فِي الغابرين} أي إلا امرأته الكافرة فإِنها لم تؤمن فكانت من الباقين في العذاب ومن الهالكين {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين} أي ثم أهلكنا المكذبين من قومه أشدَّ أهلاك وأفظعه، وذلك بقلب قراهم حيث جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل، ولهذا عبَّر ب {دَمَّرْنَا} {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وباليل} أي وإنكم يا أهل مكة لتمرون على منازلهم في أسفاركم وتشاهدون آثار هلاكهم صباحاً ومساءً، وليلاً ونهاراً {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ؟ أي أتشاهدون ذلك ثم لا تعتبرون؟ ألا تخافون أن يصيبكم مثل ما أصابهم؟ {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين} أي وإن يونس لأحد رسلنا المرسلين لهداية قومه {إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون} أي اذكر حين هرب إلى السفينة المملوءة بالرجال {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين} أي فقارع أهل السفينة فكان من المغلوبين بالقرعة فألقوه في البحر قال المفسريون: إن يونس ضاق صدراً بتكذيب قومه، فأنذرهم بعذاب قريب، وغاردهم مغضباً لأنهم كذبوه، فقاده الغضب إلى شاطىء البحر حيث ركب سفينة مشحونة، فناوأتها الرياح والأمواج، فقال الملاحون: ههنا عبدٌ أبق من سيده، ولا بدَّ لنجاة السفينة من إلقائه في الماء لتنجو من الغرق، فاقترعوا فخرجت القُرعة على يونس فألقوه في البحر {فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ} أي فابتلعه الحوت وهو آتٍ بما يُلام عليه من تخليه عن المهمة التي أرسله الله بها، وترك قومه مغاضباً لهم، وخروجه بغير إِذنٍ من ربه {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} أي لولا أنه كان من الذاكرين الله كثيراً في حياته {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، وأصبح بطنه قبراً له فلم ينج أبداً، ولكنه سبَّح اللهَ واستغفره وناداه في بطن الحوت بقوله
{لَاّ إله إِلَاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] فاستجاب الله تضرعه ونداءه {فَنَبَذْنَاهُ بالعرآء وَهُوَ سَقِيمٌ} أي فألقيناه من بطن الحوت على الساحل، بالأرض الفضاء التي لا شجر فيها ولا ظل، وهو سقيم مريض مما ناله من الكرب قال عطاء: أوحى الله تعالى إلى الحوت إني قد جعلت بطنك له سجناً، ولم أجعله لك طعاماً، فلذلك بقي سالماً لم يتغير منه شيء {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} أي وأنبتنا فوقه شجرة لتظله وتقيه حرَّ الشمس، وهي شجرة القرع ذات الأوراق العريضة قال ابن جزي: وإِنما خصَّ القرع بالذكر لأنه يجمع كبر الورق، وبرد الظل، والذبابُ لا يقربه، فإن لحم يونس لما خرج من البحر كان لا يحتمل الذباب، وكان هذا من تدبير الله ولطفه، فلما استكمل قوته وعافيته ردَّه الله إلى قومه ولهذا قال {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} أي وأرسلناه بعد ذلك إلى قومه الذين هرب منهم وهم مائة ألفٍ بل يزيدون قال المفسرون: كانوا مائة وعشرين ألفاً وقيل: وسبعين ألفاً، وهم أهل نينوى بجهة الموصل، و «أو»
بمعنى بل أي بل يزيدون {فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} أي فآمنوا بعد أن شاهدوا أمارات العذاب الذي وُعدوا به فأبقيناهم ممتعين في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم قال في التسهيل: روي أنهم خرجوا بالأطفال وأولاد البهائم، وفرقوا بينهم وبين الأمهات، وناحوا وتضرعوا إلى الله، فرفع الله العذاب عنهم. . ولما انتهى من الحديث عن الرسل رجع إلى الحديث عن المكذبين من كفار مكة فقال {فاستفتهم أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون} ؟ أي اسأل يا محمد واستخبر كفار مكة على سبيل التوبيخ والتقريع لهم كيف زعموا أن الملائكة بنات الله، فجعلوا للهِ الإِناث ولأنفسهم الذكور؟ إنهم يكرهون البنات ولا يرضون نسبتهنَّ لأنفسهم، فيكيف يرضونها لله عز وجل ويختصون بالبنين؟ {أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} توبيخٌ آخر على بهتانهم واستهزاء بهم وتجهيل أي بل أخلقنا الملائكة الأطهار حين خلقناهم، وجعلناهم إناثاً وهم شاهدون لذلك حين يقولون مثل هذا البهتان؟ {أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله} أي ألا فانتبهوا أيه الناس إن هؤلاء المشركين من كذبهم وافترائهم ينسبون إلى الله الذرية والولد {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي وهم كاذبون قطعاً في قولهم الملائكة بناتُ الله قال أبو السعود: والآية استئناف مسوقٌ لإِبطال أصل مذهبهم الفاسد، ببيان أن مبناه ليس إلا الإِفك الصريح، والافتراء القبيح، من غير أن يكون لهم دليلٌ قعطاً {أَصْطَفَى البنات على البنين} ؟ توبيخٌ وتقريع أي هل اختار جل وعلا البناتِ وفضلهن عن البنين؟ {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ؟ تسفيهٌ لهم وتجهيل أيْ أيُّ شيء حصل لكم حتى حكمتم بهذا الحكم الجائر؟ كيف يختار لنفسه أخسَّ الجنسين على زعمكم؟ {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أي أفليس لكم تمييز وإدراك تعرفون به خطأ هذا الكلام؟ قال أبو السعود: أي أفلا تتذكرون بطلان هذا ببديهة العقل، فإِنه مركوزٌ في عقل كل ذكي وغبي {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ} توبيخ آخر أي أم لكم برهان بيّن وحجة وا ضحة على أن الله اتخذ الملائكة بناتٍ له؟ {فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي فأتوا بهذا الكتاب الذي يشهد بصحة دعواكم فيما تزعمون.
. والغرضُ تعجيزهم وبيان أنهم لا يستندون في أقوالهم الباطلة على دليل شرعي، ولا منطق عقلي. . وينتقل إلى أسطورةٍ أُخرى لفَّقها المشركون، حيث زعموا أن هناك صلة بين الله سبحانه وبين الجنِّ، وأنه من التزاوج بين الله تعالى والجِنَّة ولدت الملائكة فيقول {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} أي جعل المشركومن بين الله وبين الجنِّ قرابة ونسباً، حيث قالوا إنه نكح من الجنِّ فولدت له الملائكة {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء: 43] ثم زعموا أن الملائكة إناث، وأنهن بنات الله {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي لقد علمت الشياطين أنهم محضرون في العذاب قال الصاوي: وهذا زيداة في تبكيتهم وتكذيبهم كأنه قيل: هؤلاء الذين عظمتموهم وجعلتموهم بنات الله، أعلمُ بحالكم وما يئون إليه أمركم {سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزَّه وتقدَّس الله عما يصفه به هؤلاء الظالمون {إِلَاّ عِبَادَ الله المخلصين} استثناء منقطع أي لكنْ عباد الله
المخلصين فإِنهم ينزهون الله تعالى عما يصفه به هؤلاء {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَاّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} أي فإنكم أيها الكفار وكل ما تعبدونه من الأصنام والشياطين لستم بقادرين على أن تُضلوا أحداً من عباد الله، إلَاّ من قضى الله عليه الشقاوة، وقدَّر أنه يدخل النار ويصلاها، ثم ذكر تعالى اعتراف الملائكة بالعبودية لله فقال {وَمَا مِنَّآ إِلَاّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} أي وما منا ملك إلا له مرتبة ومنزلة ووظيفة لا يتعداها، فمنا الموكَّل بالأرزاق، ومنا الموكَّل بالآجال، ومنَّا من يتنزل بالوحي، ولكلٍ منزلته من العبادة، والتقريب، والتشريف {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون} أي الواقفون في العبادة صفوفاً {وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} أي المنزهون الله سبحانه عن كلا ما يليق بعظمته وكبريائه، نسبّح الله في كل وقتٍ وحين قال في التسهيل: وفي هذا الكلام الذي قالته الملائكة ردًّ على من قال إنهم بناتُ الله، وشركاء الله، لأنه اعترفوا على أنفسهم بالعبودية والطاعة لله، والتنزيه له جل وعلا {وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين} الضمر لكفار قريش و {وَإِن} هي المخففة من «إنَّ» الثقيلة أي وإن كان الحال والشأن أن كفار مكة كانوا قبل أن ينزل عليهم القرآن يقولون لو نزل علينا كتاب من كتب الأولين كالتوراة والإِنجيل لكنا أعظم إيماناً منهم، وأكثر عبادةً وإخلاصاً للهِ منهم، فلما جاءهم القرآن كفروا به ولهذا قال {فَكَفَرُواْ بِهِ} أي فكفروا وكذبوا بالقرآن أشرف الكتب السماوية {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي فسوف يرون عاقبة كفرهم بآيات الله، وهو وعيد وتهديد {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين} أي سبق وعدنا وقضاؤنا للرسل الكرام {إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} أي إنهم هم المنصورون على أعدائهم، والإشارة إلى قوله تعالى
{كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21]{وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} أي وإن جندنا المؤمنين لهم الغالبون في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالحجة والبرهان، وفي الآخرة بدخول الجنان قال المفسرون: نصرُ الله للمؤمنين محقق، ولا يقدح في ذلك انهزامهم في بعض المعارك، فإن القاعدة هي بالظفر والنصرة، وإنما يُغلبون في بعض الأحيان بسبب تقصيرٍ منهم أو ابتلاءً ومحنة {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ} أي أعرض عنه يا محمد إلى مدة يسيرة، إلى أن تؤمر بقتالهم {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أي وأبصرهم حين ينزل بهم العذاب، فسوف يبصرون عاقبة كفرهم {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} استفهام إنكاري للتهديد أي أيستعجلون بعذاب الله؟ روي أنه لما نزل {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} استهزءوا وقالوا متى هذا يكون؟ فنزلت الآية ثم قال تعالى {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين} أي لا يستبعدوا ذلك فإن العذاب إذا نزل بفناء المكذبين فبئس هذا الصباح صباحهم، شبهه بجيسٍ هجم عليهم وقت الصباح فقطع دابرهم {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} كرره تأكيداً للتهديد وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم َ {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزه وتقدس ذو العزة والجبروت عما يصفه به المشركون {وَسَلَامٌ على المرسلين والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} أي وسلامٌ منا على الرسل الكرام، والحمد لله في البد والختام لله ربَ الخلائق أجمعين. نزَّه تعالى نفسه عما وصفه به الكفار مما لا يليق به سبحانه، فإنه حكى عنهم في هذه
السورة أقوالاً كثيرة شنيعة، وختم بتعميم السلام على الرسل الكرام وبحمده سبحانه، وهو تعليم للعباد.
البَلَاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الطباق {تَدْعُونَ. . وَتَذَرُونَ} وبين {البنات. . والبنين} .
2 -
تتابع التوبيخ وتكراره مثل {أَلِرَبِّكَ البنات} ؟ {أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً} ؟ {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ؟ {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ؟ {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ} ؟ وكلها للتوبيخ والتبكيت.
3 -
التأكيد بعدة مؤكدات لتحقيق المعنى وتقريره مثل {إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} فقد أُكدت كل من الجملتين بإن واللام.
4 -
الاستعارة التصريحية {إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون} شبه خروجه بغير إذن ربه بإِباق العبد من سيّده.
5 -
الالتفات من الخطاب إلى الغيبة {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} الأصل وتجعلون، والالتفاتُ للإِشارة إلى أنهم ليسوا أهلاً للخطاب، وهم بعيدون من رحمة ربَ الأرباب.
6 -
الاستعارة التمثيلية {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} مثل للعذاب النازل بهم بجيش هجم عليهم فأناخ بفنائهم بغتة، ونصحهم بعض النصاح فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم، حتى أجتاحهم الجيش. قال الزمخشري: وما فصحت هذه الجملة ولا كانت لها الروعة التي يروقك موردها إلا لمجيئها على طريقة التمثيل.
فَائِدَة: روى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «من سَّره أن يكتال بالمكيال الأوفى فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ على المرسلين والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} » .