المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

اللغَة: {استغشوا} غطوا غشَّاه أَي غطاه، والغشاء الغطاء {مِّدْرَاراً} غزيراً - صفوة التفاسير - جـ ٣

[محمد علي الصابوني]

الفصل: اللغَة: {استغشوا} غطوا غشَّاه أَي غطاه، والغشاء الغطاء {مِّدْرَاراً} غزيراً

اللغَة: {استغشوا} غطوا غشَّاه أَي غطاه، والغشاء الغطاء {مِّدْرَاراً} غزيراً متتابعاً {أَطْوَاراً} أحوالاً مختلفة طوراً بعد طور قال الشاعر:

«والمرء يخلق طوراً بعد أطوار»

{فِجَاجاً} واسعات جمع فج وهو الطريق الواسعة {كُبَّاراً} كبيراً بالغ الغاية في الكبر {دَيَّاراً} أحداً يدور أو يتحرك على ظهر الأرض {تَبَاراً} هلاكاً ودماراً.

التفسِيْر: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا‌

‌ نُوح

اً إلى قَوْمِهِ} أي بعثنا شيخ الأنبياء نوحاً عليه السلام إِلى سكان جزيرة العرب قال الألوسي: واشتهر أنه عليه السلام كان يسكن أرض الكوفة وهناك أرسل {أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي بأن خوف قومك وحذرهم إن لم يؤمنوا من عذاب شديد مؤلم، وهو عذاب الطوفان في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة {قَالَ ياقوم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي فدعاهم إلى الله وقال لهم: إني لكم منذر، موضح لحقيقة الأمر، أُنذركم وأُخوفكم عذاب الله، فأمري واضح ودعوتي ظاهرة قال المفسرون: نوح عليه السلام أول نبي أرسل، ويقال له: شيخ

ص: 426

المرسلين، لأنه أطولهم عمراً فقد مكث في قومه كما قص القرآن الكريم {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَاّ خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14] يدعوهم إلى الله، ومع طول هذه المدة لم يؤمن معه إلا قليل، وقد أفرد القرآن قصته في هذه السورة الكريمة التي تسمى «سورة نوح» من بدء الدعوة إِلى نهايتها، حيث أهلك الله قومه بالطوفان، وهو أحد الرسل الكبار من أولي العزم وهم خمسة «نوح، ابراهيم، موسى، عيسى، محمد» صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد شاع الكفر في زمانه وذاع، واشتهر قومه بعبادة الأوثان، واكثروا من البغي والظلم والعصيان، فبعث الله لهم نوحاً عليه اسلام وكان من خبرهم مع نبيهم ما قصه الله علينا في القرآن {أَنِ اعبدوا الله واتقوه وَأَطِيعُونِ} أي فقال لهم: اعبدوا الله وحده، واتركوا محارمه، واجتنبوا مآثمه، وأطيعوني فيما أمرتكم به من طاعة الله، وترك عبادة الأوثان والأصنام {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} أي إنكم إن فعلتم ما أمرتكم به، يمحو الله عنكم ذنوبكم التي اقترفتموها، وإنما قال {مِّن ذُنُوبِكُمْ} أي بعض ذنوبكم التي حصلت قبل الإِسلام، لأن الإِيمان يجب ما قبله من الذنوب لا ما بعده {وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي ويمد في أعماركم إن أطعتم ربكم، إلى وقت مقدر ومقرر في علم الله تعالى، مع التمتع بالحياة السعيدة، والعيش الرغيد قال المفسرون: المراد بتأخير الأجل هو التأخير بلا عذاب، أي يمهلهم في الدنيا بدون عذاب إلى انتهاء آجالهم، وأما العمر فهو محدود لا يتقدم ولا يتأخر {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] ولهذا قال بعده {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لَا يُؤَخَّرُ} أي إن عمر الإِنسان عند الله محدود، لا يزيد ولا ينقص، وإنما أضيف الأجل إلى الله سبحانه لأنه هو الذي كتبه وأثبته {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لو كنتم تعلمون ذلك لسارعتم إلى الإِيمان {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} أي قال نوح بعد أن بذل غاية الجهد، وضاقت عليه الحيل: يا رب إِني دعوت قومي إلى الإِيمان والطاعة، في الليل والنهار، من غير فتور ولا توانٍ {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلَاّ فِرَاراً} أي فلم يزدهم دعائي لهم إلى الإِيمان إلا هرباً، وشروداً عن الحق، وإعراضاً عنه.

. ثم وصف نفورهم وصور إعراضهم أبلغ تصوير فقال {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} أي ك لما دعوتهم إلى الإِقرار بوحدانية الله والعمل بطاعته، ليكون سبباً في مغفرة ذنوبهم قال في التسهيل: ذكر المغفرة التي هي سبب عن الإِيمان، والعمل بطاعته، ليكون سبباً في مغفرة ذنوبهم قال في التسهيل: ذكر المغفرة التي هي سبب عن الإِيمان، ليظهر قبح إعراضهم عنه، فإنهم أعرضوا عن سعادتهم {جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ} أي سدوا آذانهم لئلا يسمعوا دعوتي {واستغشوا ثِيَابَهُمْ} أي غطوا رؤوسهم ووجوههم بثابهم، لئلا يسمعوا كلامي أو يروني قال في البحر: والظاهر أن ذلك حقيقة، سدوا مسامعهم حتى لا يسمعوا ما دعاهم إِليه، وتغَطَّوا بثيابهم حتى لا ينظروا إليه، كراهة وبغضاً من سماع النصح ورؤية الناصح، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن المبالغة في إعراضهم عمَّا دعاهم إليه، فهم بمنزلة من سد سمعه، ومنع بصره {

ص: 427

وَأَصَرُّواْ واستكبروا استكبارا} أي واستمروا على الكفر والطغيان، واستكبروا عن الإِيماتن استكباراً عظيماً، وفيه إشارة إلى فرط عنادهم، وغلوهم في الضلال {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} أي دعوتهم علناً على رؤوس الأشهاد، مجاهراً يدعوتي لهم دون خوف أو تحفظ {ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} أي أخبرتهم سراً وعلناً، خيفةً وجهراً، وسلكت معهم كل طريق في الدعوة إِليك قال المفسرون: والعطف بثُمَّ يشعر بأن الإِعلان والإِسرار الأخيرين، كانا طريقة ثالثة سلكها نوح في الدعوة، غير طريقة السر المحضة، وغير طريقة الجهر المحضة، فكان في الطريقة الثالثة يعلن لهم الدعوة مرة حيث يصلح الإِعلان، ويسرها لهم أخرى حيث يتوقع نفع الإِسرار، ثم وضح ما وعظهم به سراً وعلانية فقال {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} أم آمنوا بالله وتوبوا عن الكفر والمعاصي، فإن ربكم تواب رحيم، يغفر الذنب ويقبل التوب {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} أي ينزل المطر عليكم غزيراً متتابعاً، شديد الانسكاب {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} أي يكثر أموالكم وأولادكم {وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} أي ويجعل لكم الحدائق الفسيحة، ذات الأشجار المظلمة المثمرة، ويجعل لكم الأنهار تجري خلالها. . أطمعهم نوح عليه السلام بالحصول على بركات السماء وبركات الأرض، إن هم آمنوا بالله الذي بيده مفاتح هذه الخزائن، وأتاهم من طريق القلب لتحريك العواطف، ولبيان أن ما هم في من انحباس الأمطار، وما حرموه من الرزق والذرية، إنما سببه كفرهم بالله الذي بيده وحده إرسال المطر، وإِغداق الرزق، والإِمداد بالأموال والبنين، وأنه لا ينبغي لهم أن يكفروا بهذا الإِله القادر، ويعبدوا آلهة أخرى اخترعوها، لا تضر ولا تنفع، ثم عاد فهزَّ نفوسهم هزاً، وعطفها نحو الإِيمان بأسلوب آخر من أساليب البيان فقال {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} أي ما لكم أيها القوم لا تخافون عظمة الله وسلطانه، ولا ترهبون له جانباً! {قال ابن عباس: اي ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته} {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} أي وقد خلقكم في أطوار مختلفة، وأدوار متباينة، طوراً نطفة، وطوراً علقة، وطوراً مضغة، إلى سائر الأحوال العجيبة، فتبارك الله أحسن الخالقين.

. ثم نبههم إلى دلائل القدرة والوحدانية، منبثة في هذا الكون الفسيح فقال {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً} أي ألم تشاهدوا يا معشر القوم عظمة الله وقدرته، وتنظروا نظر اعتبار، وتفكر وتدبر، كيف أن الله العظيم الجليل خلق سبع سموات سماء فوق سماء، متطابقة بعضها فوق بعض، وهي في غاية الإِبداع والإِتقان!! {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} أي وجعل القمر في السماء الدنيا، منوراً لوجه الأرض في ظلمة الليل قال الإِمام الفخر: القرم في السماء الدنيا وليس في السموات بأسرها، وهذا كما يقال: السلطان في العراق ليس المراد ان ذاته حاصلة في كل أنحائها، بل إن ذاته في حيز من جملة أنحاء العراق، فكذا ههنا وقال في البحر: والقمر في السماء الدنيا، وصح كون السموات ظرفاً للقمر لأنه لا يلزممن الظرف أن يملأ المظروف، تقول

ص: 428

زيد في المدينة وهو في جزء منها {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} أي وجعل الشمس مصباحاً مضيئاً يستضيء به أهل الدنيا كما يستضيء الناس بالسراج في بيوتهم، ولما كان نور الشمس أشدّ، وأتم، وأكمل في الانتفاع من نور القمر، عبر عن الشمس بالسراج لأنه يضيء بنفسه، وعبر عن القمر بالنور لأنه يستمد نوره من غيره، ويؤيده ما تقرر في علم الفلك من أن نور الشمس ذاتي فيها، ونور القمر عرضي مكتسب من نورها، فسبحان من أحاط بكل شيء علماً {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} بعد أن ذكر دليل الآفاق، ذكر هنا دليل الأنفس، وذلك لأن في ذكر هذه الأمور، دلالة واضحة على عظمة الله، وقدرته وباهر مصنوعاته والمعنى خلقكم وأنشأكم من الأرض كما يخرج النبات، وسلَّكم من تراب الأرض كما يسل النبات منها قال المفسرون: لما كان إخراجهم وإِنشاؤهم إنما يتم بتناولهم عناصر الغذاء الحيوانية والنباتية المستمدة من الأرض، كانوا من هذه الجهة متشابهين للنباتات التي تنمو بامتصاص غذائها من الأرض، فلذا سمى خلقهم وإنشاءهم إنباتاً، أو يكون ذلك إشارة إلى خلق آدم حيث خلق من تراب الأرض، ثم جاءت منه ذريته، فصح نسبتهم إلى أنهم أنبتوا من الأرض {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} أي يرجعكم إلى الأرض بعد موتكم فتدفنون فيها، ثم يخرجكم منها يوم البعث والحشر للحساب والجزاء، وأكده بالمصدر {إِخْرَاجاً} لبيان أن ذلك واقع لا محالة، وهذه الآية كقوله تعالى

{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} [طه: 55]{والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً} أي جعلها فسيحة ممتدة ممهدة لكم، تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه قال في التسهيل: شبه الأرض بالبساط في امتدادها واستقرار الناس عليها، وأخذ بعضهم من الآية أنها غير كروية، وفي ذلك نظر وقال الألوسي: وليس الآية دلالة على أن الأرض مبسوطة غير كروية، لأن الكرة العظيمة يرى كل من عليها ما يليه مسطحاً، ثم إن اعتقاد الكرية أو عدمها ليس بلازم في الشريعة، لكن كريتها كالأمر اليقيني، ومعنى جعلها بساطاً أي تتقلبون عليها كالبساط {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} أي لتسلكوا في الأرض طرقاً واسعة في أسفاركم، وتنقُّلكم في أرجائها؟؟ ولما أصروا على العصيان، وقابلوه بأقبح الأقوال والأفعال، حكى عنهم ما قصه القرآن {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} أي إنهم بالغوا في تكذيبي وعصيان أمري {واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَاّ خَسَاراً} أي واتَّبعوا اغنياءهم ورؤساءهم، الذين أبطرتهم الأموال والأولاد،

ص: 429

فهلكوا وخسروا سعادة الدارين، فصاروا أسوة لهم في الخسار {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً} أي ومكر بهم الرؤساء مكراً عظيماً متناهياً في الكبر قال الألوسي:{وكُبَّاراً} مبالغة في الكبر أي كبيراً في الغاية، وذلك احتيالهم في الدين، وصدهم الناس عنه، وإغراؤهم وتحريضهم على أذية نوح عليه السلام {وَقَالُواْ لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} أي لاتتركوا عبادة الأوثان والأصنام، وتعبدوا رب نوح {وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} أي ولا تتركوا على جه الخصوص هذه الأصنام الخمسة وداً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً قال الصاوي: وهذه أسماء أصنام كانوا يعبدونها، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمهم عندهم، ولذا خصوها بالذكر، وهذا من شدة كفرهم، وفرط تعنتهم في المكر والاحتيال، فقد كانوا يلبسون ثوب المتنصح المخلص، ويسلكون في تثبيت الضعفاء على عبادة الآباء شتى الأساليب في المكر والخداع {وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً} أي وقد أضل كبراؤهم خلقاً وناساً كثيرين، بما زينوا لهم من طرق الغواية والضلال، ثم دعا عليهم بالضلال فقال {وَلَا تَزِدِ الظالمين إِلَاّ ضَلَالاً} أي ولا تزدهم يا رب على طغيانهم وعدوانهم، إلا ضلالاً فوق ضلالهم قال المفسرون: دعا عليهم لما يئس من إيمانهم بإِخبار الله له بقوله {لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَاّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] فاستجاب الله دعاءه وأغرقهم، ولهذا قال تعالى {مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} أي من أجل ذنوبهم وإجرامهم، وإصرارهم على الكفر والطغيان، أُغرقوا بالطوفان وأدخلوا النيران قال في التسهيل: وهاذ من كلام الله تعالى إخباراً عن أمرهم، و {ما} في {مما} زائدة للتأكيد، وإنما قدم هذا المجرور للتأكيد أيضاً، ليبين أن إغراقهم وإدخالهم النار إنما كان بسبب خطاياهم وهي الكفر وسائر المعاصي {فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً} أي لم يجدوا من ينصرهم أو يدفع عنهم عذاب الله قال أبو السعود: وفيه تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله تعالى، وأنها غير قادرة على نصرهم، وتهكم بهم {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} أي لا تترك أحداً على وجه الأرض من الكافرين قال في التسهيل: و {دَيَّاراً} من الأسماء المستعملة في النفي العام يقال: ما في الدار ديار أي ما فيها أحد.

. ثم علل ذلك بقوله {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} أي إنك إن أبقيت منهم أحداً، أضلوا عبادك عن طريق الهدى {وَلَا يلدوا إِلَاّ فَاجِراً كَفَّاراً} أي ولا يأتي من أصلابهم إلا كل فاجر وكافر قال الإِمام الفخر: فإِن قيل: كيف عرف نوح ذلك؟ قلنا بالاستقراء، فإِنه لبث فيهم ألف سنة إِلا خمسين عاماً، فعرف طباعهم وجربهم، وكان الرجل ينطلق بابنه إليه ويقول: يا بني إحذر فإِنه كذاب، وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك، فلذلك قال {وَلَا يلدوا إِلَاّ فَاجِراً كَفَّاراً} . . ولما دعا على الكفار أعقبه بالدعاء للمؤمنين فقال {رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} بدأ بنفسه ثم بأبويه، ثم عمَّم لجميع المؤمنين والمؤمنات، ليكون ذلك أبلغ وأجمع {وَلَا تَزِدِ الظالمين إِلَاّ تَبَاراً} أي ولا تزد يا رب من جحد بآياتك وكذب رسلك، إلا هلاكاً وخساراً في الدنيا والآخرة.

ص: 430

البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

الطباق بين {أَعْلَنْتُ. . وَأَسْرَرْتُ} وبين {جِهَاراً. . وإِسْرَاراً} وبين {لَيْلاً. . وَنَهَاراً} وبين {يُعِيدُكُمْ. . وَيُخْرِجُكُمْ} .

2 -

المجاز المرسل {جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ} المراد رؤوس الأصابع فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء.

3 -

الاستعارة التبعية {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} شبه إِنشاءهم وخلقهم في أدوار بالنبات الذي تخرجه الأرض، واشتق من لفظ البنات أنبتكم على طريق الاستعارة التعبية.

4 -

ذكر المصدر للتأكيد مثل {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} و {أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} و {استكبروا استكبارا} ويسمى هذا في علم البديع بالإِطناب.

5 -

ذكر الخاص بعد العام {وَقَالُواْ لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً} الآية وعكسه ذكر العام بعد الخاص {رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} وكلاهما من باب الإِطناب، وهو من المحسنات البديعية.

6 -

السجع المرصع مراعاة لرؤوس الآيات مثل {مِّدْرَاراً، أَنْهَاراً، وَقَاراً، أَطْوَاراً} الخ.

فَائِدَة: استدل العلماء على عذاب القبر بقوله تعالى {مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} قالوا: المراد بها نار القبر وعذابه، لأنه تعالى عطف بالفاء، والفاء تفيد الترتيب مع التعقيب، ونار الآخرة لم يذوقوها بعد، فدل على أن المراد عذاب القبر، وهو استدلال لطيف.

ص: 431

اللغَة: {الرشد} الحق والصواب {جَدُّ} الجد لغة: العظمة والجلال والسلطان يقال: جد فلان في عيني أي عظم وجل، والجد: الحظُّ، وأبو الأب {حَرَساً} جمع حارس او اسم جمع كخدم يقال: حرس وحُراس، والحارس: الحافظ للشيء يرعاه ويرقبه {قِدَداً} متفرقة مختلفة جمع قدة قال الشاعر:

«إذ هم طرائق في أهوائهم قدد»

{غَدَقاً} كثيراً واسعاً {القاسطون} الجائرون عن

ص: 433

طريق الحق، يقال قسط الرجل إِذا جار {صَعَداً} شاقاً يعلو الإِنسان ويغلبه فلا يطيقه يقال: فلان في صعد من أمره أي في مشقة {يَسْلُكْهُ} يدخله {لِبَداً} متراكمين بعضهم فوق بعض يقال: تلبد الشيء أي تراكم بعضه فوق بعض {مُلْتَحَداً} ملجأ وحرزاً يتحصن به الإِنسان.

التفسِير: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن} أي قل يا محمد لقومك: إن ربي أوحى إلي جماعة من الجن استمعوا لتلاوتي للقرآن، فآمنوا به وصدقوه وأسلموا {فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} أي فقالوا لقومهم حين رجعوا إِليهم: إنا سمعنا قرآناً عجيباً، مؤثراً في حسن نظمه، وبلاغة أسلوبه، وما حواه من بديع الحِكَم والعظات و {عَجَباً} مصدر وصف به للمبالغة قال المفسرون: استمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وهو يقرأ القرآن في صلاة الفجر، ولم يشعر بهم ولا باستماعهم، وإنما أخبر به الرسول بواسطة الوحي بدليل قوله {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} ويؤيده ما قصه الله على نبيه في سورة الأحقاف من خبرهم {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29] والغرض من الإِخبار عن استماع الجن، توبيخ وتقريع قريش والعرب في كونهم تباطئوا عن الإِيمان، إذ كانت الجن خيراً منهم وأسرع إلى الإِيمان، فإنهم من حين ما سمعوا القرآن استعظموه وآمنوا ورجعوا إلى قومهم منذرين، بخلاف العرب الذين نزل بلسانهم، فإنهم كذبوا واستهزءوا وهم يعلمون أنه كلام معجز، وأن محمداً أمي لا يقرأ ولا يكتب، وشتان ما بين موقف الإِنس والجن!! {يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ} أي يهدي هذا القرآن إلى الحق والرشاد والصواب فصدقنا به {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} أي ولن نعود إلى ما كنا عليه من الشرك، ولن نجعل الله شريكاً بعد اليوم من خلقه قال الخازن: وفي الآية دليل على أن أولئك النفر كانوا مشركين {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا} أي تعالت عظمة ربنا وجلاله {مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً} أي ليس له زوجة ولا ولد، لأن الزوجة تتخذ للحاجة، والولد للاستئناس، والله تعالى منزه عن النقائص {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً} أي وأن الأحمق الجاهل فينا كان ينسب إلى الله ما لا يليق بجلاله وقدسيته ويقول قولاً شططاً بعيداً عن الحق وحدِّ الاعتدال قال مجاهد: السفيه هو إبليس دعاهم إلى عبادة غير الله {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} أي كنا نظن أن أحداً لن يكذب على الله تعالى لا من الإِنس ولا من الجن في نسبة الصاحبة والولد إليه، فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به علمنا أنهم كانوا يكذبون على الله في ذلك قال الطبري: وإنما أنكر هؤلاء النفر من الجن أن تكون علمت أن أحداً يجترىء على الكذب على الله لما سمعت القرآن، لأنهم قبل أن يسمعوه وقبل أن يعلموا تكذيب الله للزاعمين لله الصاحبة والولد كانوا يحسبون أن إِبليس صادق، فما سمعوا القرآن أيقنوا أنه كان كاذباً في ذلك فسموه سفيهاً {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ

ص: 434

الجن} أي كان خلائق من الإِنس يستجيرون برجال من الجن {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} أي فزاد الإِنس الجن باستعاذتهم بهم إِثماً وطغياناً، وعتواً وضلالاً قال أبو السعود: كان الرجل إِذا أمسى في واد قفر وخالف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد الجن وكبيرهم، فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا: سدنا الإِنس والجن، فزاد الرجال الجن تكبراً وعتواً، فذلك قوله {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً} أي وأن كفار الإِنس ظنوا كما ظننتم يا معشر الجن، أن الله لن يبعثُ أحداً بعد الموت، فقد أنكروا البعث كما أنكرتموهن أنتم {وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} يقول الجن: وأنا طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها، فوجدانها قد ملئت بالملائكة الكثيرين الذين يحرسونها، وبالشهب المحرقة التي تقذف من يحاول الاقتراب منها {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} أي كنا قبل بعثة محمد نطرق السماء لنستمع إلى أخبارها ونلقيها إلى الكهان {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} أي فمن يحاول الآن استراق السمع، يجد شهاباً ينتظره بالمرصاد يحرقه ويهلكه {وَأَنَّا لَا ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض} أي لا نعلم نحن معشر الجن ما الله فاعل بسكان الأرض، ولا نعلم هل امتلاء السماء بالحرس والشهب لعذاب يريد الله أن ينزله بأهل الأرض؟ {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} أي أم لخير يريده الله بهم، بأن يبعث فيهم رسولاً مرشداً يرشدهم إلى الحق؟ وهذا من أدب الجن حيث نسبوا الخير إلى الله، ولم ينسبوا الشر إليه فقالوا {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} قال ابن كثير: وقد كانت الكواكب يرمى بها قبل ذلك، وهذا هو الذي حملهم على تطلب السبب، فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فرأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقرأ بأصحابه في الصلاة، فعرفوا أن هذا هو الذي حفظت من أجله السماء، فدنوا منه حرصاً على سماع القرآن ثم أسلموا {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي منا قوم صالحون أبرار، عاملون بما يرضي الله، ومنا قوم ليسوا صلحاء قال في التسهيل: وأرادوا بقولهم {دُونَ ذَلِكَ} أي الذي ليس صلاحهم كاملاً، أو الذين ليس لهم صلاح {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} أي كنا فرقاً شتى، ومذاهب مختلفة، فمنا الصالح ومنا الطالح، وفينا التقي والشقي {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الأرض وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} أي علمنا وأيقنا أن الله قادر علينا، وأننا في قبضته وسلطانه أينما كنا، لن نعجزه بهرب، ولن نتفلت من عقابه إذا أراد بنا سوءاً قال القرطبي: أي علمنا بالاستدلال والتفكر في آيات الله، أنا في قبضته وسلطانه لن نفوته بهرب ولا غيره.

. ثم عادوا إلى شكر الله تعالى على نعمة الإِيمان واهتدائهم بسماع آيات القرآن فقالوا {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى آمَنَّا بِهِ} أي لما سمعنا القرآن العظيم آمنا به وبمن أنزله، وصدقنا محمداً صلى الله عليه وسلم َ في

ص: 435

رسالته {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً} أي فمن يؤمن بالله تعالى فلا يخشى نقصاناً من حسناته ولا ظلماً بزيادة سيئاته قال ابن عباس: لا يخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يزاد في سيئاته، لأن البخس النقصان، والرهق العدوان {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون} أي وأنا بعد سماعنا القرآن منا من أسلم، وصدق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم َ، ومنا من جار عن الحق وكفر قال المفسرون: يقال قسط الرجل إذا جار، وأقسط إِذ عدل، اسم الفاعل من الأول قاسط، ومن الثاني مقسط ومنه {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين} [البقرة: 222] وأما القاسط فهو الظالم الجائر {فَمَنْ أَسْلَمَ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً} أي فمن اعتنق الإِسلام واتبع الرسول عليه السلام، فأولئك الذين قصدوا الرشد، واهتدوا إلى طريق السعادة والنجاة {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} أي وأما الكافرون الجائرون عن طريق الحق والإِيمان، فسيكونون وقوداً لجهنم، توقد بهم كما توقد بكفار الإِنس. . وإلى هنا انتهى كلام الجن، مما يدعل على قوة إيمانهم، وصدقهم وإِخلاصهم، ثم قال تعالى مخبراً عن أهل مكة {وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة} أي لو آمن هؤلاء الكفار، واستقاموا على شريعة الله {لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً} أي لبسطنا لهم في الرزق، ووسعنا عليهم في الدنيا، زيادة على ما يحصل لهم في الآخرة من النعيم الدائم، وبذلك يحوزون عز الدنيا والآخرة قال في التسهيل: الماء الغدق: الكثير، وذلك استعارة في توسيع الرزق، والطريقة هي الإِسلام وطاعة الله والمعنى: لو استقاموا على ذلك لوسع الله أرزاقهم فهو كقوله {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} [الأعراف: 96]{لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي لنختبرهم به أيشركون أم يكفرون؟ {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} أي ومن يعرض عن طاعة الله وعبادته، يدخله ربه عذاباً شديداً شاقاً لا راحة فيه قال قتادة:{صَعَداً} عذاباً لا راحة فيه وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإِذا انتهى إِلى أعلاها حُدِر إلى جهنم {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلَا تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً} هذا من جملة الموحى به للرسول {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} والمعنى وأوحي إلى أن المساجد وبيوت العبادة هي مختصة بالله، فلا تعبدوا فيها غيره وأخلصوا له العبادة فيها قال مجاهد: كان اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم، أشركوا بالله فيها، فأمر الله عز وجل نبيه والمؤمنين أن يخلصوا الدعوة لله إذا دخلوا المساجد كلها {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ} أي وأنه لما قام محمد صلى الله عليه وسلم َ يعبد ربه {كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} أي كاد الجن يركب بعضهم بعضاً من شدة الازدحام، حرصاً على سماع القرآن قال ابن عباس: كادوا ينقضون عليه لاستماع القرآن، وإنما وصفه تعالى بالعبودية، ولم يذكره باسمه زيادة في تشريفه وتكريمه عليه السلام {قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين طلبوا منك أن ترجع عن دينك: إنما أعبد ربي وحده، ولا أشرك مع الله غيره بشراً ولا صنماً قال الصاوي: سبب نزولها أن كفار قريش قالوا له: إنك جئت

ص: 436

بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا فنحن نجيرك وننصرك فنزلت {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً} أي قل يا محمد في محاجَّة هؤلاء: إني لا أقدر أن أدفع عنكم ضراً، ولا أجلب لكم نفعاً، وإنما الذي يملك هذا هو الله رب العالمين {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} أي قل لهم أيضاً: إنه لن ينقذني من عذاب الله أحد إن عصيته، ولن أجد لي نصيراً ولا ملجأًمنه، فكيف أجيبكم إلى ما طلبتم؟ قال قتادة:{مُلْتَحَداً} ملجأً ونصيراً {إِلَاّ بَلَاغاً مِّنَ الله وَرِسَالَاتِهِ} أي لا أجد ملجأً إلا إذا بلغت رسالة ربي، ونصحتكم وأرشدتكم كما أمرني الله فحينئذ يجيرني ربي من العذاب كقوله تعالى

{ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] قال ابن كثير: أي لا يجيرني منه ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها عليَّ {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أي ومن كذب الله ورسوله، ولم يؤمن بلقاء الله، وأعرض عن سماع الآيات وتدبر الرسالات، فإن جزاءه جهنم لا يخرج منها أبداً وإنما جمع {خَالِدِينَ} حملاً على معنى {مَنْ} لأن لفظها مفرد ومعناها جمع {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} أي حتى إذا رأى المشركون ما يوعدون من العذاب {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} أي فسيعلمون حنيئذ من هم أضعف ناصراً ومعيناً، وأقل نفراً وجنداً؟ هل هم؟ أم المؤمنون الموحدون؟ ولا شك أن الله ناصر عباده المؤمنين، فهم الأقوى ناصراً والأكثر عدداً، لأن الله معهم وملائكته الأَبرار {قُلْ إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} ؟ أي قل لهم يا محمد: ما أدري هل هذا العذاب الذي وعدتم به قريب زمنه {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً} أي أم هو بعيد له مدة طويلة وأجل محدود؟ قال المفسرون: كان صلى الله عليه وسلم َ كلما خوف المذكبين نار جهنم، وحذرهم أهوال الساعة، أظهروا الاسخفاف بقوله، وسألوه متى هذا العذاب؟ ومتى تقوم هذه الساعة؟ فأمره تعالى أن يقول لهم: لا أدري وقت ذلك، هل هو قريب أم بعيد؟ {عَالِمُ الغيب فَلَا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً} أي هو جل وعلا عالم بما غاب عن الأبصار، وخفي عن الأنظار، فلا يطلع على غيبه أحداً من خلقه {إِلَاّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} أي إلا من اختاره الله وارتضاه لرسالته ونبوته، فيظهره الله على ما يشاء من الغيب قال المفسرون: لا يطلع الله على غيبه أحداً إلا بعض الرسل، فإنه يطلعهم على بعض الغيب، ليكون معجزة لهم، فإن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإِخبار عن بعض المغيبات، كما قال عن عيسى

{وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49]{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} أي فإنه تعالى يرسل من أمام الرسول ومن خلفه، ملائكة وحرساً يحفظونه من الجن، ويحرسونه في ضبط ما يلقيه تعالى إليه من علم الغيب قال الطبري: أي فإنه تعالى يرسل من أمامه ومن خلفه حرساً وحفظةً يحفظونه من الجن {لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} أي ليعلم الله علم ظهور فإنه تعالى عالم بما كان وما

ص: 437

يكون أن رسله الكرام قد بلغوا عنه وحيه كما أوحاه إليهم محفوظاً من الزيادة والنقصان قال ابن كثير: المعنى أن الله يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعاً لا محالة {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أي أحاط علمه بما عند الرسل، فلا يخفى عليه شيء من أمورهم {وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} أي علم تعالى علم ضبط واستقصاء جميع الأشياء، المنبثَّة في الأرضين والسموات من القطر، والرمل، وورق الشجر، وزبد البحار، فلا يغيب عنه شيء، ولا يفخى عليه أمر، فكيف لا يحيط علماً بما عند رسله من رسالاته ووحيه، التي أمرهم بتبليغها إلى خلقه؟ وكيف يمكن لرسله أن يفرطوا في تلك الرسالات، أو يزيدوا أو ينقصوا أو يحرفوا فيها أو يغيروا، وهو تعالى محيط بها، محص لجميع الأشياء جليلها وحقيرها؟

{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لَا يَعْلَمُهَآ إِلَاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59] .

البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

الوصف بالمصدر للمبالغة {قُرْآناً عَجَباً} أي عجيباً في حسن إيجازه، وروعة إعجازه.

2 -

طباق السلب {فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} لأن الإِيمان نفي للشرك.

3 -

جناس الاشتقاق {نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} لما بين اللفظتين من الاشتقاق اللطيف.

4 -

الأسلوب الرفيع بنسبة الخير إلى الله، دون الشر أدباً مع الخالق {وَأَنَّا لَا ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} ؟ وبين لفظ «الشر» و «الرشد» طباقٌ في المعنى.

5 -

الطباق بين {الإنس. . والجن} وبين {ضَرّاً. . ورَشَداً} وبين {المسلمون والقاسطون} .

6 -

الاستعارة اللطيفة {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} استعارة الطرائق للمذاهب المختلفة، وهو من لطيف الاستعارة.

7 -

توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات مثل {أَحَداً، وَلَداً، رَّصَداً، رَشَداً، صَعَداً، عَدَداً} الخ وهو ما يسمى في علم البديع بالسجع المرصع والله أعلم.

ص: 438