الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللغَة: {يُفْرَقُ} يُبيَّن ويُفصَّل {ارتقب} انتظر {يَغْشَى} يغطي ويحيط {نَبْطِشُ} نأخذ بشدة وعنف {فَتَنَّا} ابتلينا وامتحنا {تَعْلُواْ} تتكبروا وتتطاولوا {عُذْتُ} استجرتُ والتجأت إلىلله {أَسْرِ} سر ليلاً {رَهْواً} ساكناً، والرهو عند العرب الساكن قال الشاعر:
والخيلُ تمزع رهواً في أعنَّتها
…
كالطير تنجو من الشُئبوب ذي البرد
قال الجوهري: رها البحر أي سكن، وجاءت الخيل رهواً أي برفق وسكينة {مُنظَرِينَ} مؤخرين {نَعْمَةٍ} النَّعمة بفتح النون من التنعيم وهو سعة العيش والراحة، وبالكسر من المنة وهي العطية والإِفضال.
سَبَبُ النّزول: عن ابن مسعود قال: إن قريشاً لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم َ دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحطّ وجهدٌ حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر الى السماء فيرى مابينه وبينها كهيئة
الدخان
من الجهْد، فأنزل الله تعالى {فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} فأتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ فقيل يا رسول الله: استسق لمضر فإِنها قد هلكت، فاستسقى فُسقُوا فنزلت {إِنَّا كَاشِفُو العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} .
التفسير {حم} الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وقد تقدم {والكتاب المبين} أي أُقسم بالقرآن البيِّن الواضح، الفارق بين طريق الهدى والضلال، البيِّن في إِعجازه، الواضح في أحكامه، وجوابه {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} أي أنزلنا القرآن في ليلةٍ فاضلة كريمة هي ليلة القدر من شهر رضمان المبارك {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة:
1
85] قال ابن جزي: وكيفيةُ
إِنزاله فيها أنه أُنزل الى السماء الدنيا جملةٌ واحدة، ثم نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم َ شيئاً بعد شيء، وقيل: المعنى ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، قال القرطبي: ووصف الليلة بالبركة لما يُنزل الله فيها على عباده من البركات والخيرات والثواب {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} أي لننذر به الخلق، لأن من شأننا وعادتنا ألَاّ نترك الناس دون إِنذار وتحذيرٍ من العقاب، لتقوم الحجة عليهم {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أي في ليلة القدر يُفصل ويُبيَّن كلُّ أمرٍ محكم من أرزاق العباد وآجالهم وسائر أحوالهم فلا يُبدَّل ولا يُغيِّر قال ابن عباس: يحكم الله أمر الدنيا إلى السنة القابلة ما كان من حياةٍ، أو موت، أو رزقٍ قال المفسرون: إن الله تعالى ينسخ من اللوح المحفوظ في ليلة القدر، ما يكون في تلك السنة من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من خير وشر، وصالح وطالح، حتى إن الرجل ليمشي في الأسواق وينكحُ ويُولد له وقد وقع اسمه في الموتى {أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ} أي جميع ما نقدِّره في تلك الليلة وما نوحي به إلى الملائكة من شئون العباد، هو أمرٌ حاصل من جهتنا، بعلمنا وتدبيرنا {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي نرسل الأنبياء إلى البشر بالشرائع الإِلهية لهدايتهم وإرشادهم {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أي من أجل الرأفة والرحمة بالعباد قال في البحر: وضع الظاهر {رَّبِّكَ} موضع الضمير «رحمةً منا» إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} أي السميع لأقوال العباد، العليمُ بأفعالهم وأحوالهم {رَبِّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} أي الذي أنزل القرآ، وهو ربُّ السمواتِ والأرض وخالقهما ومالكهما ومن فيهما، إن كنتم من أهل الإِيمان واليقين {لَا إله إِلَاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي لا ربَّ غيره، ولا معبود سواه، لأنه المتصف بصفات الجلال والكمال، يُحيي الأموات، ويميت الأحياء {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين} أي وهو خالقكم وخالق من سقبكم من الأمم الماضين قال الرازي: والمقصودُ من الآية أن المنزل إذا كان موصوفاً بهذه الجلالة والكبرياء، كان المُنزل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} أي ليسوا موقنين فيما يظهرونه من الإِيمان في قولهم: اللهُ خالقنا، بل هم في شكٍ من أمر البعث، فهم يلعبون ويسخرون ويهزءون قال شيخ زاده: التفت من الخطاب للغيبة فقال {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} تحقيراً لشأنهم، وإيعاداً لهم عن موقف الخطاب، لكونهم من أهل الشك والامتراء، وكونُ أفعالهم الهزء واللعب لعدم التفاتهم إلى البراهين القاطعة، وعدم تمييزهم بين الحق والباطل، والضار والنافع، ثم لما بيَّن أن شأنهم الحماقة والطغيان التفت إلى حبيبه صلى الله عليه وسلم َ تسليةً له، وإقناطاً من إيمانهم فقال {فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} أي فانتظر يا محمد عذابهم يوم تأتي السماءُ بدخانٍ كثيف، بيّنٍ واضح يراه كل أحد قال ابن مسعود: إن قريشاً لما عصت الرسول صلى الله عليه وسلم َ دعا عليهم فقال:
«اللهم اشدُد وطأتك على مضر واجعل عليهم سنين كسني يوسف» فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف، وكان الرجل يُحدِّث أخاه فيسمع صوته ولا يراه لشدة الدخانا المنتشر بين السماء والأرض،
ثم قال ابن مسعود: خمسٌ قد مضين: «الدخانُ، والرومُ، والقمر، والبطشة، واللزام» وقال ابن عباس: لم يمض الدخان بل هو من أمارات الساعة، وهو يأتي قُبيل القيامة، يصيبُ المؤمن منه مثلُ الزكام، ويُنضجُ رءوس الكافرين والمنافقين، حتى يصبح رأس الواحد كالرأس المشوي، ويغدو كالسكران فيملأ الدخان جوفه ويخرج من منخريه وأُذنيه ودبره {يَغْشَى الناس هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي يشمل كفار قريش ويعمهم من كل جانب ويقولون حين يصيبهم الدخان: هذا عذاب أليم {رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ} أي ويقولون مستغيثين: ربَّنا ارفع عنا العذاب فإِننا مؤمنون بمحمد وبالقرآن إن كشفته عنا قال البيضاوي: وهذا وعدٌ بالإِيمان إن كشف العذاب عنهم {أنى لَهُمُ الذكرى} ؟ استبعداٌ لإِيمانهم أي من أين يتذكرون ويتعظون عند كشف العذاب؟ {وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ} أي والحال أنه قد أتاهم رسولٌ بيّن الرسالة، مؤيدٌ بالبينات الباهرة، والمعجزات القاهرة، ومع هذا لم يؤمنوا به ولم يتعبوه؟ {ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} أي ثم أعرضوا عنه وبهتوه، ونسبوه إلى الجنون وحاشاه فهل يُتوقع من قومٍ هذه صفاتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟! قال الإِمام الفخر: إن كفار مكة كان لهم في ظهور القرآن نعلى محمد صلى الله عليه وسلم َ قولان: منهم من يقول: إن محمداً يتعلم هذا الكلام من بعض الناس، ومنهم من كان قول: إنه مجنون والجنُّ تلقي عليه هذا الكلام حال تخبطه {إِنَّا كَاشِفُو العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} أي سنكشف عنكم العذاب زمناً قليلاً ثم تعودون إلى ما كنتم عليه من الشرك والعصيان قال الرازي: والمقصودُ التنبيه على أنهم لا يوفون بعهدهم، وأنهم في حال العجز يتضرعون إلى الله تعالى، فإذا زال الخوف عادوا إلى الكفر وتقليد الأسلاف قال ابن مسعود: لما كشف عنهم العذاب باستسقاء النبي صلى الله عليه وسلم َ عادوا إلى تكذبيه {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} نَبْطِشُ أي واذكر يوم نبطش بالكفار بطشتنا الكبرى انتقاماً منهم، والبطشُ: الأخذُ بقوة وشدة قال ابن مسعود: «البطشة الكبرى» يوم «بدر» وقال ابن عباس: هي يوم القيامة قال ابن كثير: الظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يومُ بدر يومَ بطشةٍ أيضاً وقال الرازي: القول الثاني أصح لأن يوم بدر لا يبلغ هذا المبلغ الذي يوصف به هذا الوصف العظيم، ولأن الانتقام التام إنما يحصل يوم القايمة، ولمّا وصف بكونها «كبرى» وجب أنتكون أعظلم أنواع البطش على الإِطلاق، وذلك إنما يكون في القيامة، ثم ذكَّر كفار قريش بما حلَّ بالطاغين من قوم فرعون فقال {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} أي ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون وهم أقباط مصر {وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} أي وجاءهم رسولٌ شريف الحسب والنسب، من أكرم عباد الله وهو موسى الكليم عليه
أفضل الصلاة والتسليم {أَنْ أدوا إِلَيَّ عِبَادَ الله} أي فقال لهم موسى: ادفعوا إليَّ عبادَ الله وأطلقوهم من العذاب، يدريد بني إِسرائيل كقوله تعالى
{فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 47]{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي إني رسولٌ مؤتمنٌ على الوحي غير متهم، وأنا لكم ناصح فاقبلوا بنصحي {وَأَن لَاّ تَعْلُواْ عَلَى الله} أي لا تتكبروا على الله ولا تترفَّعوا عن طاعته {إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي قد جئتكم بحجةٍ واضحة، وبرهانٍ ساطع، يعترف بهما كل عاقل {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ} أي التجأت إليه تعالى واستجرت به من أن تقتلوني قال القرطبي: كأنهم توعَّدوه بالقتل فاستجار بالله {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فاعتزلون} أي وإن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل ما أتيتكم به من الحجة، فكفوا عن أذاي وخلُّوا سبيلي قال ابن كثير: أي لاتتعرضوا لي ودعوا الأمر مسالمةً إلى أن يقضي الله بيننا {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هؤلاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} أي فدعا عليهم لمّا كذبوه قائلاً: يا ربِّ إن هؤلاء قوم مجرمون فانتقم منهم {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} في الكلام حذف تقديره فأوحينا إليه وقلنا له: أسرِ بعبادي أي أخرج ببني إسرائيل ليلاً فإن فرعون وقومه يتبعونكم، يوكن ذلك سبباً لهلاكهم {واترك البحر رَهْواً} أي واترك البحر ساكناً منفرجاً على هيئته بعد أن تجاوزه {إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} أي إنَّ فرعون وقومه سيغرقون فيه قال في التسهيل: لمَّا جاوز موسى البحر أراد أن يضربه بعصاه فينطبق كما ضربه فانفلق، فأمره الله بأن يتركه ساكناً كما هو ليدخله فرعون وقومه فيغرقوا فيه، وإنما أخبره تعالى بذلك ليبقى فارغ القلب من شرهم وإِيذائهم، مطمئناً إلى أنهم لن يدركوا بني إسرئيل، ثم أخبر تعالى عن هلاكهم فقال {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} كم للتكثير أي لقد تركوا كثيراً من البساتين والحدائق الغناء والأنهار والعيون الجارية {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} أي ومزارع عديدة فيها أنواع المزروعات ومجالس ومنازل حسنة قال قتادة:{وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} هي المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها {وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ} أي وتنعم بالعيش مع الحسن والنضارة كانوا فيها ناعمين بالرفاعية وكمال السرور قال الإِمام الفخر: بيَّن تعالى أنهم بعد غرقهم تركوا هذه الأشياء الخمسة هي: الجنات، والعيون، والزروع، والمقام الكريم وهو المجالس والمنازل الحسنة ونعمة العيش بفتح النون هي حسنُه ونضارته {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} أي كذلك فعلنا بهم حيث أهلكناهم وأورثنا ملكهم وديارهم لقومٍ آخرين، كانوا مستعبدين في يد القبط وهم بنو إسرائيل قال ابن كثير: والمراد بهم بنو إسرائيل فقد استولوا بعد غرق فرعون وقومه على الممالك القبطية، والبلاد المصرية كما قال تعالى
{وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137] وقال تعالى في مكان آخر {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59]{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض} أي فما حزن على فقدهم أحد، ولا تأثر بموتهم
كائن من الخلق {وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} أي ما كانوا مؤخرين وممهلين إلى وقت آخر. بل عُجّل عقابهم في الدنيا قال القرطبي: تقول العرب عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض، أي عمَّت مصيبتُه الأشياء حتى بكته الأرض والسماء، والريح والبرق قال الشاعر:
فيما شجر الخابور مالك مورقاً
…
كأنك لم تجزع لموتِ طريف
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغةٌ في وجوب الجزع والبكاء عليه والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد، وقيل هو على حذف مضاف أي ما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى إهلاك فرعون وقومه، أردفه بذكر إحسانه لبني إسرائيل، ليشركوا ربهم على إنعامه وإحسانه، ثم حذَّر كفار مكة من بطش الله وانتقامه، وختم السورة الكريمة ببيان حال الأشقياء والسعداء في يوم الفصل والجزاء.
اللغَة: {عَالِياً} متكبراً جباراً {بَلَاءٌ} اختبار وامتحان {مُنشَرِينَ} مبعوثين بعد الموت، وأنشر الله الموتى أحياهم {قَوْمُ تُبَّعٍ} ملوك اليوم، وكانوا يسمون ملوكهم التبابعة قال الجوهري:
التبابعة ملوك اليمن، واحدهم تُبَّع، وقال أهل اللغة: تُبَّع لقب للملك منهم كالقياصرة للروم، والأكاسرة للفرس، والخلفاء للمسلمين {يَوْمَ الفصل} يوم القيامة {مَّوْلًى} قريب وناصر {المهل} النحاس المذاب {الأثيم} الفاجر من أثِمَ الرجل يأثم إِذا وقع في الإِثم والفجور {اعتلوه} جرُّوه وسوقوه بغنفٍ وشدَّة {سُندُسٍ} رقيق الديباج {إِسْتَبْرَقٍ} غليظ الديباج {عِينٍ} واسعات الأعين جمع عيناء {ارتقب} انتظر.
التفسِير: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بني إِسْرَائِيلَ مِنَ العذاب المهين} أي والله لقد أنقدنا بني إسرائيل من العذاب الشديد، المفرط في الإِذلال والإِهانة، وهو قتل أبنائهم واستخدام نسائهم، وإرهاقهم في الأعمال الشاقة {مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين} أي من طغيان فرعون وجبروته إنه كان متكبراً جباراً، متجاوزاً الحد في الطغيان والإِجرام قال الصاوي: هذه من جملة تعداد النعم على بني إسرائيل، والمقصود من ذلك تسليته صلى الله عليه وسلم َ وتبشيره بأنه سينجيه وقومه المؤمنين من أيدي المشركين، فإِنهم لم يلغوا في التجبر مثل فرعون وقومه {وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين} أي اصطفيناهم وشرفناهم على علمٍ منا باستحقاقهم لذلك الشرف على جميع الناس في زمانهم قال قتادة: على أهل زمانهم، لا على أمة محمد لقوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] {وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيات مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُّبِينٌ} أي وآتيناهم من الحجج والبراهين وخوارق العادات ما فيه اختبار وامتحان ظاهر جليٌ لمن تدبَّر وتبصَّر قال الرازي: والآياتُ مثل فلق البحر، وتظليل الغمام، وإِنزال المنِّ والسلوى وغيرها من الآيات الباهرة، التي ما أظهر الله مثلها على أحدٍ سواهم {إِنَّ هؤلاء لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَاّ مَوْتَتُنَا الأولى} أي إن كفار قريش ليقولون: لن نموت إلا موتةً واحدةً وهي موتتنا الأولى في الدنيا، وفي قوله تعالى {هؤلاء} تحقيرٌ لهم وازدراءٌ بهم قال المفسرون: لمَّا كان الحديث في أول السورة عن كفار مكة، وجاءت قصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإِصرار على الضلالة والكفر، رجع إلى الحديث عن كفار قريش، والغرضُ من قولهم {إِنْ هِيَ إِلَاّ مَوْتَتُنَا الأولى} إِنكار البعث كأنهم قالوا: إِذا متنا فلا بعث ولا حياة ولا نشور، ثم صرحوا بذلك بقولهم {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} أي وما نحن بمبمعوثين {فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} خطابٌ للرسول صلى الله عليه وسلم َ والمؤمنين على وجه التعجيز أي أحيو لنا آبائنا ليخبرونا بصدقكم إن كنتم صادقين في أن هناك حياةً بعد هذه الحياة قال الإِمام الفخر: إن الكفار احتجوا على نفي الحشر والنشر بأن قالوا: إن كان البعث والنشور ممكناً معقولاً فجعلوا لنا إحياء من مات من آبائنا ليصير ذلك دليلاً عندنا على صدق دعواكم في البعث يوم القيامة وقال القرطبي: قال هذا أبو جهل، قال يا محمد: إن كنت صادقاً في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا أحدهما: قُصي بن كلاب فإِنه كان رجلاً صادقاً، لنسأله كما يكون بعد الموت {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} استفهام انكار مع
التهديد أي أهؤلاء المشركون أقى وأشدُّ أم أهل سبأ ملوك اليمن؟ الذين كانوا أكثر أموالاً، وأعظم نعيماً من كفار مكة؟ {والذين مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ} أي والذين سبقوهم من الأمم العاتية أهلكناهم، وخربنا بلادهم، وفرقناهم شذر مذر قال أبو السعود: والمراد بهم عاد وثمود وأضرابهم من كل جبار عنيد، أولي بأسٍ شديد، فأولئك كانوا أقوى من هؤلاء، وقد أهلكهم الله مع ما كنوا عليه من غاية القوة والشدة، فإِهلاك هؤلاء أولى {إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} تعليل للإِهلاك أي أهلنكاهم ودمرناهم بسبب إِجرامهم، وفيه وعيد وتهديد لقريش أن يفعل الله بهم ما فعل بقوم تُبَّع والمكذبين.
. ثم نبه تعالى إلى دلائل البعث وهو خلق العالم بالحقِّ فقال {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} أي ما خلقنا هذا الكون وما فيه من المخلوقات البديعة لعباً وعبثاً {مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلَاّ بالحق} أي ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات إالا بالعدل والحقِّ المبين، لنجازي المحسن بإِحسانه والمسيء بإِساءته {ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون ذلك فينكرون البعث والجزاء قال المفسرون: إن الله تعالى خلق النوع الإِنساني، وخلق ما ينتظم به أسباب معاشهم، من السقف المرفوع، والمهاد المفروش، وما بينهما من عجائب المصنوعات، وبدائع المخلوقات، ثم كلفهم بالإِيمان والطاعة، فآمن البعض وكفر البعض، فلا بدَّ إذاً من دار جزاء يثاب فيها المحسن، ويعاقب فيها المسيء، لتجزى كل نفسٍ بما كسبت، ولو لم يحصل البعث والجزاء لكان هذا الخلق لهواً وعبثاً، وتنزَّه الله عن ذلك، ولهذا قال بعده {إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} أي إن يوم القيامة موعد حساب الخلائق أجمعين، سُمي {يَوْمَ الفصل} لأنه الله تعالى يفصل فيه بين الخلق كما قال {يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 3] {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} أي في ذلك اليوم الرهيب، لا يدفع قريب عن قريبه، ولا صديقٌ عن صديقه، ولا ينفع أحدٌ أحداً ولا ينصره ولو كان قريبه كقوله {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لَاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً}
[لقمان: 33]{إِلَاّ مَن رَّحِمَ الله} استثناء متصل أي لا يغني قريبٌ عن قريب إلا المؤمنين فإِنه يُؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض وقيل: منقطع أي لكنْ من رحمه الله ُ فإِنه يشفع وينفع قال ابن عباس: يريد المؤمن فإِنه تشفع له الأنبياء والملائكة {إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم} أي هو المنتقم من أعدائه، الرحيمُ بأوليائه. . ولما ذكر الأدلة على القيامة، أردفه بوصف ذلك اليوم العصيب، فذكر وعيد الكفار أولاً ثم وعند الأَبرار ثانياً للجمع بين الترهيب والترغيب فقال {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم} أي إن هذه الشجرة الخبيثة شجرة الزقوم التي تنبتُ في أصل الجحيم، طعام كل فاجر، ليس له طعام غيرها قال أبو حيان: الأثيمُ صفة مبالغة وهو الكثير الآثام، وفُسِّر بالمشرك {كالمهل يَغْلِي فِي البطون} أي هي في شناعتها وفظاعتها إذا أكلها الإِنسان كالنحاس المذاب الذي تناهى حرُّه، فهو يُجرجر في البطن {كَغَلْيِ الحميم} أي كغليان الماء الشديد الحرارة قال القرطبي: وشجرة الزقوم هي الشجرة التي خلقها الله في جهنم، وسمَّاها الشجرة
الملعونة، فإِذا جاع أهل النار التجئوا إليها فأكلوا منها، فغلبت في بطونهم كما يغلي الماء الحار، وشبَّه تعالى ما يصير منها إلى بطونهم بالمُهل وهو النحاس المذاب، والمرادُ بالأثيم الفاجر ذو الإِثم وهو أبو جهل، وذلك أنه كان يقول: يعدنا محمد أن في جهنم الزقوم، وإنما هو الثَّريد بالزبد والتمر، ثم يأتي بالزبد والتمر ويقول لأصحابه: تزقموا، سخريةً واستهزاءً بكلام الله، قال تعالى {خُذُوهُ فاعتلوه إلى سَوَآءِ الجحيم} أي يُقال للزبانية: خذوا هذا الفاجر اللئيم فسوقوه وجروه من تلابيبه بعنف وشدة إلى وسط الجحيم {ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم} أي ثم صبوا فوق رأس هذا الفاجر عذاب ذلك الحميم الذي تناهى حرُّه {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} أي يقال له على سبيل الاستهزاء والإِهانة: ذقْ هذا العذاب فإِنك أنت المعزَّز المكرَّم قال عكرمة: التقى النبي صلى الله عليه وسلم َ بأبي جهل فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ: إنَّ الله أمرني أن أقول لك {أولى لَكَ فأولى} [القيامة: 34] فقال: بأي شيءٍ تهددني! واللهِ ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً، إني لمن أعزَّ هذا الوادي وأكرمه على قومه، فقتله الله يوم بدر وأذلَّه ونزلت هذه الآية {إِنَّ هذا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} أي إنَّ هذا العذاب هو ما كنتم تشكُّون به في الدنيا، فذوقوه اليوم {أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} [الطور: 15] والجمعُ في الآية باعتبار المعنى لأن المراد جنس الأثيم. . ولما ذكر تعالى أحوال أهل النار أتبعه بذكر أحوال أهل الجنة فقال {إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} أي الذين اتقوا اللهَ في الدنيا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، هم اليوم في موضع إِقامة يأمنون فيه من الآفات والمنغصات والمكاره، وهو الجننة ولهذا قال بعده {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي في حدائق وبساتين ناضرة، وعيونٍ جارية {يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} أي يلبسون ثياب الحرير، الرقيق منه وهو السندس، والسميك منه وهو الاستبرق {مُّتَقَابِلِينَ} أي متقابلين في المجالس ليستأنس بعضهم ببعض {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} أي كذلك أكرمناهم بأنواع الإِكرام، وزوجناهم أيضاً بالحور الحسان في الجنان قال البيضاوي: أي قرناهم بالحور العين، والحوراءُ: البيضاءًُ، والعيناءُ عظيمة العينين، وإنما وصف تعالى نعيمهم بذلك لأن الجنات والأنهار من أقوى أسباب نزهة الخاطر، وانفراجه عن الغم، ثم ذكر الحور الحِسان لأن بها اكتمال سعادة الإِنسان كما قيل «ثلاثةُ تنفي عن القلب الحزن: الماء، والخضرةُ، والوجهُ الحسن» ثم زاد في بيان النعيم فقال {يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} أي يطلبون من الخدم إحضار جميع أنواع الفواكه في الجنة، لأجل أنهم آمنون من التخم والأمراض، فلا تعب في الجنة ولا وَصَب {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلَاّ الموتة الأولى} استثناء منقطع أي لا يذوقون في الجنة الموت لكنهم قد ذاقوا الموتة الأولى في الدنيا فلم يعد ثمة موت، بل خلود أبد الآبدين {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجحيم} أي خلَّصهم ونجَّاهم من عذاب جهنم الشديد الأليم {فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ} أي فعل ذلك بهم تفضلاً منه تعالى عليهم {ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} أي ذلك الذي أعطوه من النعيم، هو الفوز العظيم الذي لا فوز وراءه {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي فإِنما سهلنا القرآن بغلتكم وهي لسان العرب لعلهم يتعظون وينزجرون {فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} أي فانتظر يا محمد ما يحل بهم، إِنهم منتظرون
هلاكك، ويسعلمون لمن تكون النصرة والظفر في الدنيا والآخرة، وفيه وعد للرسول صلى الله عليه وسلم َ ووعيد للمشركين.
البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
صغية المباغلة {السميع العليم} {العزيز الرحيم} {العزيز الكريم} .
2 -
الطباق {لَا إله إِلَاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الدخان: 8] وكذلك {إِنْ هِيَ إِلَاّ مَوْتَتُنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} .
3 -
تحريك الهمة للإِيمان والتبصر {إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} [الدخان: 7] .
4 -
الإِيجاز بحذف بعض الكلام {أَنْ أَسْرِ بعبادي} أي وقلنا له بأن أسر.
5 -
الاستعارة اللطيفة {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض} [الدخان: 29] أي لم يتغير بهلاكهم شيء ولم تحزن عليهم السماء والأرض بعد انقطاع آثارهم، والعرب يقولون في التعظيم: بكت عليه السماء والأرض، وأظلمت له الدنيا ويقولون في التحقير: مات فلان فلم تخشع له الجبال.
6 -
أسلوب التعجيز {فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
7 -
أسلوب التهكم والسخرية {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} .
8 -
التفجيع وإِظهار الأسى والحسرة {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان: 2526] ؟
9 -
التشبيه المرسل المجمل {كالمهل يَغْلِي فِي البطون كَغَلْيِ الحميم} .
10 -
السجع الرصين غير المتكلف الذي يزيد في رونق الكلام وجماله إِقرأ مثلاً قوله تعالى {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم كالمهل يَغْلِي فِي البطون كَغَلْيِ الحميم خُذُوهُ فاعتلوه إلى سَوَآءِ الجحيم ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} .
اللغَة: {يَبُثُّ} ينشر ويفرِّق {تَصْرِيفِ} تقليب، صرَّف الله الريح قلَّبها من جهى إلى جهة {وَيْلٌ} كلمة تستعمل في العذاب والدمار {أَفَّاكٍ} كذَّاب، والإِفك: الكذب {أَثِيمٍ} كثير الإِثم والإِجرام {رِّجْزٍ} أشد العذاب {يُصِرُّ} أصرَّ على الشي: عزم على البقاء عليه بوقة وشدة {يُغْنِي} ينفع أو يدفع ومنه {مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة: 28]{بَصَائِرُ} دلائل ومعالم.
التفسِير: {حم} الحروف المقطَّعة للتنبيه على إعجاز القرآن {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} أي هذا القرآن تنزلٌ من الله، العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه، الذي لا يصدر عنه إلا كل ما فيه حكمةٌ ومصلحة للعباد، ثم أخبر تعالى عن دلائل الوحدانية والقدرة فقال {إِنَّ فِي السماوات والأرض لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي إنَّ في خلق السموات والأرض وما فيهما من المخلوقات العجيبة،
والأحوال الغريبة، والأمور البديعة، لعلامات باهرة على كمال قدرة الله وحكمته، لقوم يصدّقون بوجود الله ووحدانيته {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي وفي خلقكم أيها الناسُ من نطفةٍ ثم من علقة، متقلبة في أطوارٍ مختلفة إلى تمام الخلق، وفيما ينشره تعالى ويُفرقه من أنواع المخلوقات التي تدب على وجه الأرض، آياتٌ باهرةٌ أيضاً لقومٍ يصدّقون عن إذعانٍ ويقين بقدرة ربِّ العالمين {واختلاف الليل والنهار} أي وفي تعاقب الليل والنهار، دائبين لا يفتران، هذا بظلامه وذاك بضيائه، بنظام محكم دقيق {وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ} أي وفيما أنزله الله تبارك وتعالى من السحاب، من المطر الذي به حياة البشر في معاشهم وأرزاقهم قال ابن كثير: وسمَّى تعالى المطر رزقاً لأنه به يحصل الرزق {فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} أي فأحيا بالمطر الأرض بعدما كانت هامدةً يابسة لا نبات فيها ولا زرع، فأخرج فيها من أنواع الزروع والثمرات والنبات {وَتَصْرِيفِ الرياح} أي وفي تقليب الرياح جنوباً وشمالاً، باردة وحارة {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي علامات ساطعة واضحة على وجود الله ووحدانيته، لقومٍ لهم عقول نيّرة وبصائر مشرقة قال الصاوي: ذكر الله سبحانه وتعالى من الدلائل ستةً في ثلاث آيات، ختم الأولى ب {لِّلْمُؤْمِنِينَ} ، والثانية ب {يُوقِنُونَ} والثالثة ب {يَعْقِلُونَ} ووجه التغابر بينها في التعبير أن الإِنسان إذا تأمل في السمواتِ والأرض، وأنه لا بدَّ لهما من صانع آمن، وإِذا نظر في خلق نفسه ونحوها ازداد إيماناً فأيقن، وإِذا نظر في سائر الحوادث كمل عقله واستحكم علمه {تَلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} أي هذه آيات الله وحججه وبراهينه، الدالة على وحدانيته وقدرته، نقصُّها عليك يا محمد بالحق المبين الذي لا غموض فيه ولا التباس {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} ؟ أي وإِذا لم يصدِّق كفار مكة بكلام الله، ولم يؤمنوا بحججه وبراهنيه، فبأي كلامٍ يؤمنون ويصدِّقون؟ والغرضُ استعظام تكذيبهم للقرآن بعد وضوح بيانه وإِعجازه {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} أي هلاك ودمارٌ لكل كذَّاب مبالغٍ في اقتراف الآثام قال الرازي: وهذا وعيدٌ عظيم، والأَفاك الكذَّاب، والأثيمُ المبالغ في اقتراف الآثام {يَسْمَعُ آيَاتِ الله تتلى عَلَيْهِ} أي يسمع آيات القرآن تُقرأ عليه، وهي في غاية الوضوح والبيان {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} أي ثم يدوم على حاله من الكفر، ويتمادى في غيّه وضلاله، مستكبراً عن الإِيمان بالآيات كأنه لم يسمعها {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فبشّره يا محمد بعذاب شديد مؤلم، وسمَّاه «باشرة» تهكماً بهم، لأن البشارة هي الخبر السارُّ قال في التسهيل: وإِنما عطفه ب «ثم» لاستعظام الإِصرار على الكفر بعد سماعه آيات الله، واستبعاد ذلك في العقل والطبع قال المفسرون: نزلت في «النضر بن الحارث» كان يشتري أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن، والآيةُ عامةٌ في كل من كان موصوفاً بالصفة المذكورة {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتخذها هُزُواً} أي إِذا بلغه شيء من الآيات التي أنزلها الله على محمد، سخر واستهزأ بها {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي أولئك الأفاكون المستهزءون بالقرآن لهم عذاب شديد مع الذل والإِهانة {مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ} أي أمامهم
جهنم تنتظرهم لما كانوا فيه من التعزز في الدنيا والتكبر عن الحق {وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً} أي لا ينفعهم ما ملكوه في الدينا من المال والولد {وَلَا مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ} أي ولا تنفعهم الأصنام التي عبدوها من دون الله {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولهم عذاب دائم مؤلم قال أبو السعود: وتوسيط النفي {وَلَا مَا اتخذوا} مع أن عدم إِغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إِغناء الأموال والأولاد، مبينٌ على زعمهم الفاسد حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم، وفيه تهكم بهم {هذا هُدًى} أي هذا القرآن كامل في الهداية لمن آمن به وأتَّبعه {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} أي جحدوا بالقرآن مع سطوعه، وفيه زيادة تشنيع على كفرهم به، وتفظيع حالهم {لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} أي لهم عذاب من أشدِّ أنواع العذاب مؤملمٌ موجعٌ قال الزمخشري: والرجزُ أشدُّ العذاب، والمراد ب {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} القرآن.
. ثم لمَّا توعَّدهم بأنواع العذاب ذكَّرهم تعالى بنعمه الجليلة ليشكروه ويوحّدوه فقال {الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر} أي الله تعالى بقدرته وحكمته هو الذي ذلَّل لكم البحر على ضخامته وعظمه {لِتَجْرِيَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ} أي لتسير السفنُ على سطحه بمشيئته وإرادته، دن أن تغوص في أعماقه قال الإِمام الفخر: خلَق وجه الماء على الملاسة التي تجري عليها السفن، وخلق الخشبة على وجه تبقى طافيةً على وجه الماء دون أن تغوص فيه، وذلك لا يقدر عليه أحد إلا الله {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي ولتطلبوا من فضل الله بسبب التجارة، والغوص على اللؤلؤ والمرجان، وصيد الأسماك وغيرهال {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولأجل أَن تشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم وتفضَّل قال القرطبي: ذكر تعالى كما قدرته، وتمام نعمته على عباده، وبيَّن أنه خلقَ ما خلق لمنافعهم، وكلُّ ذلك من فعله وخلقه، وإِحسانٌ منه وإِنعام {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ} أي وخلق لكم كل ما في هذا الكون، من كواكب، وجبال، وبحار، وأنهار، ونباتٍ، وأشجار، الجميع من فضله وإِحسانه وامتنانه، من عنده وحده جلَّ وعلا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي إِنَّ فيما ذُكر لعبراً وعظات لقوم يتأملون في بدائع صنع الله فيستدلون على قدرته ووحدانيته ويؤمنون، ثم لما بيَّن تعالى دلائل التوحيد والقدرة والحكمة، أردفه بتعليم فضائل الأخلاق، ومحاسن الأفعال فقال {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} أي قل يا محمد للمؤمنين يصفحوا عن الكفار، ويتجاوزوا عمَّا يصدر عنهم من الأذى والأفعال الموحضة قال مقاتل: شتم رجلٌ من الكفار عمر بمكة فهمَّ أن يبطش به، فأمر الله بالعفو والتجاوز وأنزل هذه الآية، والمرادُ من قوله {لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} أي لا يخفون بأسِِ الله وعقابه لأنهم لا يؤمنون بالآخرة ولا بلقاء الله قال ابن كثير: أُمر المسلمون أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب، ليكون ذلك تأليفاً لهم، ثم لما أصرُّوا على العناد، شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ
يَكْسِبُونَ} وعيدٌ وتهديد أي ليجازي الكفرة المجرمين بما اقترفوه من الإِثم والإِجرام، والتنكيرُ للتحقير {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} أي من فعل خيراً في الدنيا فنفعُه لنفسه، ومن أرتكب سوءاً وشراً فضرره عائد عليها، ولا يكاد يسري عملٌ إلى غير عامله {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أي ثم مرجعكم يوم القيةم إلى الله وحده، فيجازي كلاً بعمله، المحسنَ بإِحسانه، والمسيءَ بإِساءته.
. ولما ذكَّر بالنعم العامة أردفه بذكر النعم الخاصة على بني إِسرائيل فقال {وَلَقَدْ آتَيْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب والحكم والنبوة} أي والله لقد أعطينا بني إِسرائيل التوراة، وفصل الحكومات بين الناس، وجعلنا فيهم الأنبياء والمرسلين {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات} أي ورزقناهم من أنواع النعم الكثيرة من المآكل والمشارب، والأقوات والثمار {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين} أي وفضلناهم على سائر الأمم في زمانهم قال الصاوي: والمقصود من ذلك تسليته صلى الله عليه وسلم َ كأنه قال: تحزن يا محمد على كفر قومك، فإِننا آتينا بني إِسرائيل الكتاب والنعم العظيمة، فلم يشكروا بل أصرُّوا على الكفر، فكذلك قومك {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأمر} أي وبينا لهم في التوراة أمر الشريعة وأمر محمد صلى الله عليه وسلم َ على أكمل وجه قال ابن عباس: يعني أمر النبي صلى الله عليه وسلم َ وشواهد نبوته بأنه يُهاجر من تهامة إلى يثرب وينصره أهلها {فَمَا اختلفوا إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم} أي فما اختلفوا في ذلك الأمر، إلا من بعد ما جاءتهم الحجج والبراهين والأدلة القاطعة على صدقه {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي حسداً وعناداً وطلباً للرياسة قال الإِمام الفخر: والمقصودُ من الآية التعجبُ من هذه الحالة، لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف، وههنا صار العلم سبباً لحصول الاختلاف، لأنه لم يكن مقصودهم نفس العلم وإِنما المقصود منه طلب الرياسة والتقدم، فلذلك علموا وعاندوا {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي هو جل وعلا الذي يفصل بين العباد يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين، وفي الآية زجرٌ للمشركين أن يسلكوا مسلك من سبقهم من الأمم العاتية الطاغية {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر فاتبعها} أي ثم جعلناك يا محمد على طريقة واضحة، ومنهاجٍ سديد رشيد من أمر الدين، فاتبع ما أوحىإليك ربك من الدين القيّم {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لَا يَعْلَمُونَ} أي تتَّبع ضلالال المشركين قال البيضاوي: لا تتبع آراء الجهال التابعة للشهوات، وهم رؤساء قريش حيث قالوا: ارجع إلى دين آبائك {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً} أي لن يدفعوا عنك شيئاً من العذاب إن سايرتهم على ضلالهم {وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أي وإن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا ولا ولي لهم في الآخرة {والله وَلِيُّ المتقين} أي وهو تعالى ناصر ومعين المؤمنين المتقين في الدنيا والآخرة {هذا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي هذا القرآن نور وضياء للناس بمنزلة البصائر في القلوب، وهو رحمة لمن آمن به وأيقن.
المنَاسَبَة: لما حكى تعالى ضلالات بني إِسرائيل، وبيَّن أن القرآن نور وهداية لمن تمسَّك به، أعقبه ببيان أنه لا يتساوى المؤمن مع الكافر، ولا البر مع الفاجر، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ثم ذكر الأدلة على البعث والنشور.
اللغَة: {اجترحوا} اكتسبوا والاجتراحُ الاكتساب ومنه الجوارح {غِشَاوَةً} غطاء وغثَّى الشيءَ غطَّاه {جَاثِيَةً} باركةً على الركب لشدة الهول جثا بحثو إِذا قعد على ركبتيه {نَسْتَنسِخُ} استنسخ الشيء أمر بكتابته وتدوينه {حَاقَ} نزل وأحاط {يُسْتَعَتَبُونَ} يُطلب منهم إِرضا ربهم يقال: استعتبتهُ فأعتبني أي استرضيتُه فقبل مني عذري {الكبريآء} العظمة والمُلك والجلال.
سَبَبُ النّزول: روي أن أبا جهلٍ طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثنا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال أبو جهل: واللهِ إني لأعلم أنه لصادق، فقال له: مهْ، وما دلَّك على ذلك؟ فقال يا أبا عبد شمسٍ: كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تمَّ عقلهُ وكمُل رشده نسميه الكذاب الخائن! {والله إني لأعلم أنه لصادق، قال: فما يمنعك أن تصدّشقه وتُؤمن به؟ قال: تتحدث عني بنات قريش أني اتبعت أبي طالب من أجل كسْرة واللاتِ والعُزَّى لا أتَّبعه أبداً فنزلت {
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ. .} الآية.
التفسِير: {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات} الاستفهام للإِنكار والمعنى هل يظنُّ الكفار الفجار الذين اكتسبوا المعاصي والآثام {أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي نجعلهم كالمؤمنين الأبرار {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} أي نساوي بينهم في المحيا والممات؟ لا يمكن أن نساوي بين المؤمنين والكفار، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإِن المؤمنين عاشو على التقوى والطاعة، والكفار عاشوا على الكفر والمعصية، وشتان بين الفريقين كقوله {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَاّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] ؟ قال مجاهد: المؤمنُ يموت مؤمناً ويُبعث مؤمناً، والكافر يموت كافراً ويُبعث كافراً {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي ساء حكمهم في تسويتهم بين أنفسهم وبين المؤمنين قال ابن كثير: ساء ما ظنّوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأَبرار والفجار، فكما لا يُجتنى من الشوك العنبُ، كذلك لا ينال الفُجَّار منازل الأبرار {وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق} أي وخلق الله السموات والأرض بالعدل والأمر الحقِّ ليدل بهما على قدرته ووحدانيته {ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} أي ولكي يُجزى كل إِنسان بعمله، وبما اكتسب من خير أو شر، دون أن يُنقص في ثوب المؤمن أو يُزاد في عذاب الكافر قال شيخ زاده: لمّا خلق تعالى السموات والأرض لإِجل إِظهار الحق، وكان خلقهما من جملة حكمته وعدله، لزم من ذلك أن ينتقم من الظالم لأجل المظلوم، فبثت بذلك حشر الخلائق للحساب {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} أي أخبرني يا محمد عن حال من ترك عبادة الله وعبد هواه} ! قال في البحر: أي هو مطواعٌ لهوى نفسه يتبع ما تدعوه إليه، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلَهه قال ابن عباس: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئاً إلاّ ركبه {وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ} أي وأضلَّ الله ذلك الشقي في حال كونه عالماً بالحق غير جاهل به، فهو أشدُّ قبحاً وشناعةً ممن يضل عن جهل، لأنه يُعرض عن الحقِّ والهُدى عناداً كقوله تعالى
{وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14]{وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} أي وطبع على سمعه وقلبه بحث لا يتأثر بالمواعظ، ولا يتفكر في الآيات والنُّذر {وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً} أي وجعل على بصره غطاء حتى لا يبصر الرشد، ولا يرى حجة يستضيء بها {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله} ؟ أي فمن الذي يستطيع أن يهديه بعد أن أضله الله؟ لا أحد يقدر على ذلك {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أي أفلا تعتبرون أيها الناس وتتعظون؟ قال الصاوي: وصف تعالى الكفار بأربعة أوصاف: الأول: عبادة الهوى، والثاني: ضلاله على علم الثالث: الطبع على أسماعهم وقلوبهم الرابع: جعل الغشاوة على أبصارهم، وكلَّ وصفٍ منها مقتضٍ للضلالة، فلا يمكن إِيصال الهدى إليهم بوجهٍ من الوجوه. . ثم حكى تعالى عن المشركين شبهتهم في إنكار القيامة، وفي إِنكار الإِله القادر العليم فقال {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي وقال المشركون: لا حياة إلا هذه الحياة
الدنيا، يموت بعضنا ويحيا بعضنا، ولا آخرة، ولا بعث، ولا نشور قال ابن كثير: هذا قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إِنكار المعاد، ومرادهم ما ثمَّ إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وليس هناك معادٌ ولا قيامة، وهذا قول الفلاسفة الدهريين، المنكرين للصانع، المعتقدين أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه {وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلَاّ الدهر} أي وما يهلكنا إلا مرورُ الزمان، وتعاقبُ الأيام قال الرازي: يريدون أن الموجب للحياة والموت تأثيراتُ الطبائع وحركاتُ الأفلاك، ولا حاجة إلى إثبات الخالق المختار، فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإِله وبين إِنكار البعث والقيامة، قال تعالى رداً عليهم {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أي وليس لهم مستندٌ من عقل أو نقل، ولذلك أنكروا وجود الله من غير حجةٍ ولا بنية {إِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} أي ما هم إلا قوم يتوهمون ويتخيلون، يتكلمون بالظن من غير يقين {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإِذا قرئت آياتُ القرآن على المشركين، واضحات الدلالة على البعث والنشور {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَاّ أَن قَالُواْ ائتوا بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي ما كان متمسكهم في دفع الحق الصريح إلا أن يقولوا: أحيْوا لنا آباءنا الأولين، إن كان ما تقولونه حقاً، سُمِّيَ قولهم الباطل حجةً على سبيل التهكم {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} أي قل لهم يا محمد: اللهُ الذي خلقكم ابتداءً حين كنتم نُطفاً هو الذي يميتكم عند انقضاء آجالكم، لا كا زعمتم أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لَا رَيْبَ فِيهِ} أي ثم بعد الموت يبعثكم للحساب والجزاء كما أحياكم في الدنيا، فإِنَّ من قدر على البدء قدر على الإِعادة، والحكمةُ اقتضت الجمع للجزاء في يوم القيامة، الذي لا شك فيه ولا ارتياب {ولكن أَكْثَرَ الناس لَا يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لجهلهم وقصورهم في النظر والتفكر، لا يعلمون قدرة الله فينكرون البعث والجزاء.
. ثم بيَّن إمكان الحشر والنشر ذكر تفاصيل أحوال يوم القيامة فقال {وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} أي هو جل وعلا المالك لجميع الكائنات العلوية والسفلية {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون} أي ويوم القيامة يخسر الكافرون الجاحدون بآيات الله {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} أي وترى أيها المخاطب كل أمةٍ من الأمم جالسةً على الركب من شدة الهول الفزع، كما بحثوا الخصوم بين يدي الحاكم بهيئة الخائف الذليل قال ابن كثير: وهذا إذا جيء بجهنم فإِنها تزفر زفرةً لا يبقى أحدٌ إلا جثا على ركبتيه {كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا} أي كلُّ أمةٍ من تلك الأمم تُدعى إلى صحائف أعمالها {اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يقال لهم: في هذا اليوم الرهيب تنالون جزاء أعمالكم من خيرٍ أو شر {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} أي هذا كتابُ أعمالكم يشهد عليكم بالحق من غير زيادةٍ ولا نقصان قال في التسهيل: فإِن قيل: كيف أضاف الكتاب تارةً إليهم وتارةً إلى الله تعالى؟ فالجواب أنه أضافه إليهم لأن أعمالهم ثابتةٌ فيه، وأضافه إلى الله تعالى لأنه مالكه وأنه هو الذي أمر الملائكة أن يكتبوه {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي كنَّا نأمر الملائكة بكتابة أعمالكم، وإثباتها عليكم قال المفسرون: تنسخ هنا بمعنى تكتب، وحقيقة النسخ هو
النقل من أصلٍ آخر، وقال ابن عباس: تكتب الملائكة أعمال العباد ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابل الملائكة الموكلون بديوان الأعمال ما كتبه الحفظة، مما قد أُبز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر، ما كتبه الله في القِدم على العباد قب لأن يخلقهم، فلا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً، فذلك هو الاستنساخ، وكان ابن عباس يقول: ألستم عرباً، هل يكون الاستنساخ إالا من أصل؟ ثم بيَّن تعالى أحوال كلٍ من المطيعين والعاصين فقال {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} أي فأما المؤمنون الصالحون المتقون لله في الحياة الدنيا، فيدخلهم الله في الجنة، سُميت الجنة رحمةً لأنها مكان تنزل رحمةِ الله {ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين} أي ذلك هو الفوز العظيم، البيّن الظاهر الذي لا فوز وراءه {وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} أي وأمَّا الكافرون فيقال لهم توبيخاً وتقريعاً: أفلم تكن الرسل تتلو علكيم آيات الله؟ {فاستكبرتم وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} أي فتكبرتم عن الإِيمان بها، وأعرضتم عن سماعها، وكنتم قوماً مغرقين في الإِجرام {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ} أي وإِذا قيل لكم إن البعث كانئ لا محالة {والساعة لَا رَيْبَ فِيهَا} أي والقيامة آتيةٌ لا شك في ذلك ولا ريب {قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا الساعة} أي قلتم لغاية عتوكم، أيُّ شيء هي؟ أحقٌّ أم باطل؟ قال البيضاوي: قالوا هذا استغراباً واستبعاداً وإِنكاراً لها {إِن نَّظُنُّ إِلَاّ ظَنّاً} أي لا نصدِّق بها ولكن نسمع الناس يقولون: إنَّ هناك آخرة فنتوهم بها توهماً {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} أي ولسنا مصدِّقين بالآخرة يقيناً، وهذا تأكيد منهم لإِنكار القيامة {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أي وظهر لهم في الآخرة قبائح أعمالهم {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي ونزل وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به في الدنيا {وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا} أي ويقال لهم: اليوم نتركُكم في العذاب ونعاملكم معاملة الناسي، كما تركتم الطاعة التي هي الزادد ليوم المعاد فلم تعملوا لآخرتكم {وَمَأْوَاكُمُ النار} أي ومستقركم في نار جهنم {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} أي وليس لكم من ينصركم ويخلصكم من عذاب الله {ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم آيَاتِ الله هُزُواً} أي إِنما جازيناكم هذا الجزاء، بسبب أنكم سخرتم من كلام الله واستهزأتم به {وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا} أي خدعتكم الدنيا بزخارفها وأباطيلها، حتى ظننتم ألَاّ حياة سواها، وألَاّ بعث ولا نشور {فاليوم لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ} أي فاليوم لا يُخْرجون من النار، ولا يُطلبُ منهم أن يرضوا ربَّهُم بالتوبة والطاعة لعدم نفعها يومئذٍ {فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوات وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين} أي فلله الحمد خاصة لا يستحق الحمد أحدٌ سواه لأنه الخالق والمالك لجميع المخلوقات والكائنات {وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات والأرض} أي وله العظمة والجلال، والبقاء والكمال في السموات والأرض {وَهُوَ العزيز الحكيم} أي الغالب الذي لا يغلب، الحكيم في صنعه وفعله وتدبيره.
البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
التأكيد بأنَّ واللام {إِنَّ فِي السماوات والأرض لآيَاتٍ} [الجاثية: 3] لأن المخاطبين منكرون لوحدانية الله.
2 -
صيغة المبالغة {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية: 7] .
3 -
الأسلوب التهكمي {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية: 8] .
4 -
المجاز المرسل {وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ} [الجاثية: 5] أي مطر، مجاز مرسل علاقته المسببية لأن الرزق لا ينزل من السماء، ولكن ينزل المطر الذي ينشأ عنه النبات والرزق.
5 -
التشبيه المرسل {يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} [الجاثية: 8] أي كأنه لم يسمع آيات القرآن.
6 -
المبالغة بذكر المصدر {هذا هُدًى} [الجاثية: 11] كأن القرآن لوضوع حجته عين الهُدى.
7 -
الإِطناب بتكرار اللفظ {سَخَّرَ لَكُمُ البحر. . وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الجاثية: 1213] لإِظهار الامتنان.
8 -
طباق السلب {فاتبعها وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] .
9 -
المجاز المرسل {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} أي في الجنة لأنها مكان تنزل رحمة الله.
10 -
الطباق بين {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} [الجاثية: 15] وبين {نَمُوتُ وَنَحْيَا} وبين {يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} .
11 -
الاستعارة التصريحية {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} أي يشهد عليكم، والاستعارة هنا أبلغ من الحقيقة، لأن شهادة الكتاب ببيانه أقوى من شهادة الإِنسان بلسانه.
12 -
الالتفات {فاليوم لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة لإِسقاطهم من رتبة الخطاب.
13 -
الاستعارة التمثيلية {اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا} مثَّل تركهم في العذاب بمن حُبس في مكانٍ ثم نسيه السَّجان من الطعام والشراب حتى هلك بطريق الاستعارة التمثيلية، والمراد من الآية نترككم في العذاب ونعاملكم معاملة الناسي، لأن الله تعالى لا ينسى ولا يعرض عليه النسيان.
اللغَة: {شِرْكٌ} شركة ونصيب {أَثَارَةٍ} بقية من الشيء {تُفِيضُونَ} الإِفاضة في الشيء: الخوضُ فيه والاندفاع يقال: أفاضوا في الحديث اندفعوا فيه، وأفاض الناس من عرفات أي دفعوا منها {بِدْعاً} البدع بالكسر الشيء المبتدع قال الرازي: والبِدعُ والبديع من كل شيء المبدع، والبدعة ما اخترع مما لم يكن موجوداً قبله بحكم السُنَّة {إِفْكٌ} كذب {كُرْهاً} بكرةٍ ومشقة {فِصَالُهُ} فطامه {أوزعني} ألهمني {أُفٍّ} كلمة تضجّر وتبرم {خَلَتِ} مضت.
التفسِير: {حم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن وأنه منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} أي هذا الكتاب المجيد منزَّل من عند الإِله العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه {مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلَاّ بالحق} أي ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات عبثاً، وإِنما خلقناهما خلقاً متلبساً بالحكمة، لندل على وحدانيتنا وكمال قدرتنا {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي وإِلى زمنٍ معيَّن هو زمن فنائهما يوم القيامة {
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48]{والذين كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ} أي وهؤلاء الكفار معرضون عما خُوّفوه من العذاب ومن أهوال الآخرة، لا يتفكرون فيه لا يستعدون له. . ثم لما بيَّن وجود الإِله العزيز الحكيم ردَّ على عبدة الأصنام فقال {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أخبروني عن هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، وتزعمون أنا ألهة {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} ؟ أي أرشدوني وأخبروني أيَّ شيءٍ خلقوا من أجاء الأرض، وممَّا على سطحها من إِنسان أو حيوان؟ {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات} ؟ أي أمْ لهم مشاركة ونصيب مع الله في خلق السموات؟ {ائتوني بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هاذآ} أي هاتوا كتاباً من الكتب المنزلة من عند الله قبل هذا القرآن يأمركم بعبادة هذه الأصنام؟ وهو أم تعجيز لأنهم ليس لهم كتابٌ يدل على الإِشراك بالله، بل الكتب كلُّها ناطقة بالتوحيد {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} أي أو بقية من علمٍ من علوم الأولين شاهدة بذلك {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي إن كنتم صادقين في دعواكم أنها شركاء مع الله قال في البحر: طلبمنهم أن يأتوا بكتابٍ يشهد بصحة ما هم عليه من عبادة الله، أو بقيةٍ من علوم الأولين، والغرضُ توبيخهم لأن كل كتاب الله المنزَّشلة ناطقة بالتوحيد وإِبطال الشرك، فليس لهم مستند من نقل أو عقبل. . ثم أخبر تعالى عن ضلال المشركين فقال {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لَاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة} ؟ أي لا أحد أضلُّ وأجهل ممن يعبد أصناماً لا تسمع دعاء الداعين، ولا تعهلم حاجاتِ المحتاجين، ولا تستجيب لمن ناداها أبداً لأنها جمادات لا تسمع ولا تعقل {وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ} أي وهم لا يسمعون ولا يفهمون دعاء العابدين، وفيه تهكم بها وبعبدتها، وإِنما ذكر الأصنام بضمير العقلاء، لأنهم لما عبدوها ونزَّلوها منزلة من يضر وينفع، صحَّ أن توصف بعدم الاستجابة وبعد السمع والنفع، مجاراة لزعم الكفار {وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً} أي وإِذا جمع الناس للحساب يوم القايمة كانت الأصنام أعداءً لعابديها يضرونهم ولا ينفعونهم {وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} أي وتتبرأ الأصنام من الذين عبدوها قال المفسرون: إن الله تعالى يحيي الأصنام يوم القيامة فتتبرأ من عابديها وتقول
{تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] وهذه الآية كقوله تعالى {كَلَاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 82] واللهُ على كل شيء قدير {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإِذا قرئت عليهم آيات القرآن واضحات ظاهرات أنها من كلام الله {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ} أي قال الكافرون عن القرآن الحق لما جاءهم من عند الله {هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي هذا سحرٌ لا شبهة فيه ظاهر كونه سحراً، وإنما وضع الظاهر {الذين كَفَرُواْ} موضع الضمير تسجيلاً عليهم بكمال الكفر والضلالة قال في البحر: وفي قوله {لَمَّا جَآءَهُمْ} تنبيه على أنهم لم يتأملوا ما يُتلى عليهم، بل بادروا أول سماعه إلى نسبته إلى السحر عناداً وظلماً، ووصفوه بأنه {مُّبِينٌ} أي ظاهر أنه سحر لا شبهة فيه {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} أي أيقولون اختلق محمد هذا القرآن وافتراه من تلقاء نفسه؟ وهو إِنكار توبيخي {قُلْ إِنِ افتريته فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ الله شَيْئاً}
أي قل إن افتريتُه على سبيل الفرض فالله حسبي في ذلك كوهو الذي يعاقبني على الافتراء عليه، ولا تقتدرون أنتم على أن تردُّوا عني عذاب الله، فكيف أفتريه من أجلكم وأتغرض لعقابه؟ {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي هو جل وعلا أعلمُ بما تخوضون في القرآن وتقدحون به من قولكم هو شعر، هو سحر، هو افتراء، وغير ذلك من وجوه الطعن {كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي كفى أن يكون تعالى شاهداً بيني وبينكم، يشهد لي بالصدق والتبليغ، ويشهد عليكم بالجحود والتكذيب {وَهُوَ الغفور الرحيم} أي وهو الغفور لمن تاب، الرحيم بعابده المؤمنين قال أبو حيان: وفيه وعدٌ لهم بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر، وإِشعارٌ بحلمه تعالى عليهم إِذْ لم يعالجهم بالعقوبة {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل} أي لست أول رسول طرق العالمم، ولا جئت بأمرٍ لم يجىء به أحدٌ قبلي، بل جئت بما جاء به ناسٌ كثيرون قبلي، فلأيّ شيءٍ تنكرون ذلك عليَّ؟ والبدْعُ والبديعُ من الأشياء هو الذي لم يُر مثله قال ابن كثير: أي ما أنا بالأمر الذى لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إليكم، فقد أرسل الله قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} أي ولا أدري بما يقضي الله عليَّ وعليكم، فإن قدر الله مغيَّب {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يوحى إِلَيَّ} أي لا أتبع إلا ما ينزله اللهُ عليَّ من الوحي، ولا أبتدع شيئاً من عندي {وَمَآ أَنَاْ إِلَاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي وما أنا إلا رسولٌ منذرٌ لكم من عذاب الله، بيّن الإِنذار بالشواهد الظاهرة، والمعجزات الباهرة {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ} أي قل يا محمد: أخبروني يا معشر المشركين إن كان هذا القرآن كلام الله حقاً وقد كذبتم به وجحتموه وجوابه محذوف تقديره: كيف يكون حالكم؟ {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ فَآمَنَ واستكبرتم} أي وقد شهد رجل من علماء بني إِسرائيل على صدق القرآن، فآمن به واستكبرتم أنتم عن الإِيمانت، كيف يكون حالكم، ألستم أض الناس وأظلم الناس؟ قال الزمخشري: وجوابُ الشرط محذوف تقديره: إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين؟ ودلَّ على هذا المحذوف قوله تعالى {إِنَّ الله لَا يَهْدِي القوم الظالمين} أي لا يوفق للخير والإِيمان من كان فاجراً ظالماً قال المفسرون: والشاهدُ من بني إسرائيل هو «عبد الله بن سلام» وذلك حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ المدينة جاء إليه ابن سلام ليمتحنه، فلما نظر إلى وجهه علم أن ليس بوجه كاذب، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر، فقال له: إني سائلك عن ثلاثٍ لا يعملهنَّ إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أُمه؟ فلما أجابه صلى الله عليه وسلم َ قال: أشهد أنك رسول الله حقاً.
. الخ ثم ردَّ تعالى على شبهةٍ أخرة من شبه المشركين فقال {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} أو وقال كفار مكة في حق المؤمنين: لو كان هذا القرآن والدين خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الفقراء الضعفاء!! وقال ابن كثير: يعنون «بلالاً» و «عماراً» و «صيهباً» و «خباباً» وأشباههم من المستضعَفين والعبيد والإِماء ممن أسلم
وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم َ {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ} أيم ولمّا لم يهتدوا بالقرآن مع وضوح إِعجازه، قالوا هذا كذبٌ قديم مأثور عن الأقدمين، أتى به محمد ونسبه إلى الله تعالى {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً} أي ومن قل القرآن التوراة التي أنزلها الله على موسى قدوةً يؤتم بها في دين الله وشرائعه كا يؤتم بالإِمام، ورحمة لمن آمن بها وعمل بما فيها قال الإِمام الفخر: ووجه تعلق الآية بما قبلها أن المشركين طعنوا في صحة القرآن، وقالوا لو كان خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الضعفاء الصعاليك، فردَّ الله عليهم بأنكم لاتنازعون أن الله أنزل التوراة على موسى، وجعل هذا الكتاب التوراة إماماً يقتدى به، ثم إن التوراة مشتملة على البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم َ فإِذا سلمتم كونها من عند الله، فاقبلوا حكمها بأن محمد صلى الله عليه وسلم َ رسولٌ حقاً من عند الله {وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً} أي وهذا القرآن كتاب عظيم الشأن، مصدّقٌ للكتب قبله بلسانٍ عربي فصيح، فكيف ينكرونه وهو أفصح بياناً، وأظظهر رهاناً، وأبلغ إعجازاً من التوراة؟ {لِّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ} أي ليخوِّف كفار مكة الظالمين من عذاب الجحيم، ويبشر المؤمنين المحسنين بجنات النعيم.
. ولما بيَّن تعالى أحوال المشركين المكذبين بالقرآن، أردفه بذكر أحوال المؤمنين المستقيمين على شريعة الله فقال {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} أي جمعوا بين الإِيمان والتوحيد والاستقامة على شريعة الله {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي فلا يلحقهم مكروهٌ في الآخرة يخافون منه {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا في الدنيا {أولئك أَصْحَابُ الجنة خَالِدِينَ فِيهَا} أي أولئك المؤمنون المستقيمون في دينهم، هم أهل الجنة ماكثين فيها أبداً {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي نالوا ذلك النعيم جزاءً لهم على أعمالهم الصالحة {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} لمَّاكان رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما حثَّ تعالى العباد عليه والمعنى أمرنا الإِنسان أمراً جازماً مؤكداً بالإِحسان إلى الوالدين، ثم بيَّن السبب فقال {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أي حملته بكرهٍ ومشقة ووضعته بكرهٍ ومشقة {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً} أي ومده حمله ورضاعه عامان ونصف، فهي لا تزال تعاني التعب والمشقة طيلة هذه المدة قال ابن كثير: أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعباً من وحَم، وغثيان، وثقل، وكرب إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة، ووضعته بمشقة أيضاً من الطَّلق وشدته، وقد استدل العلماء بهذه الآية مع التي في لقمان {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قويٌ صحيح {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي حتى إِذا عاش هذا الطفل وبلغ كما قوته وعقله {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} أي واستمر في الشباب والقوة حتى بلغ أربعين سنة وهو نهاية اكتمال العقل والرشد {قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ} أي قال ربِّ ألهمني شكر نعمتك التي أنعمت بها عليَّ وعلى والديَّ حتى ربياني صغيراً {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} أي ووفقني لكي أعمل عملاً صالحاً يرضيك عني {
وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي} أي اجعل ذريتي ونسلي صالحين قال اشيخ زاده: طلب هذا الداعي من الله ثلاثة أشياء: الأول: أن يوفقه الله للشكر على النعمة والثاني: أن يوفقه للإِتيان بالطاعة المرضية عند الله والثالث: أن يصلح له في ذريته، وهذه كمال السعادة البشرية {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين} أي إِني يا رب تبت إليك من جميع الذنوب، وإِني من المستمسكين بالإِسلام قال ابن كثير: وفي الآية إرشادٌ لمن بلغ الأربعين أن يجدِّد التوبة والإِنابة إلى الله عز وجل ويعزم عليها {أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} أي أولئك الموصوفون بما ذكر نتقبل منهم طاعاتهم ونجازيهم على أعمالهم بأفضلها {وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة} أي ونصفح عن خطيئاتهم وزلاتهم، في جملة أصحاب الجنة الذين نكرمهم بالعفو والغفران {وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} أي بذلك الوعد الصادق الذي وعدناهم به على ألسنة الرسل، بأن نتقبل من محسنهم ونتجاوز عن مسيئهم.
. ولما مثَّل تعالى لحال الإِنسان البار بوالديه وما آل إليه حاله من الخير والسعادة، مثَّل لحال الإِنسان العاقِّ لوالديه وما يئول إليه أمره من الشقاوة والتعاسة فقال {والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} أي وأمَّا الوالد الفاجر الذي يقول لوالديه إِذا دعواه إلى الإِيمان أفٍ لكما أي قبحاً لكما على هذه الدعوة {أتعدانني أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِي} ؟ أي أتعدانني أن أُبعث بعد الموت وقد مضت قرونٌ من الناس قبلي ولم يُبعث منهم أحد؟ {وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله وَيْلَكَ آمِنْ} أي وأبواه يسألان الله أن بغيثه ويهديه للإِسلام قائلين له: ويْلك آمنْ بالله وصدِّق بالبعث والنشور وإِلَاّ هلكت {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي وعدُ الله صدقٌ لا خُلف فيه {فَيَقُولُ مَا هاذآ إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأولين} أي فيقول ذلك الشقي: ما هذا الذي تقولان من أمر البعث إلاّ خرافات وأباطيل سطرَّرها الألولون في الكتب مما لا أصل له قال تعالى {أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أي أولئك المجرمون هم الذين حقَّ عليهم قول الله بأنهم أهل النار قال القرطبي: أي وجب عليهم العذاب وهي كلمة الله كما في الحديث «هؤلاء في النار ولا أبالي» {في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس} أي في جملة أمم من أصحاب النار قد مضت قبلهم من الكفرة الفجار من الجن والإِنس {إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ} أي كانوا كافرين لذلك ضاع سعيهم وخسروا أخرتهم، وهو تعليل لدخولهم جهنم قال الإِمام الفخر: قال بعضهم: إن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصّديق قبل إِسلامه، والصحيحُ أنه لا يراد بالآية شخص معيَّن، بل المراد منها كل من كان موصوفاً بهذه الصفة، وهو كل من دعاه أبواه إلى الدين الحقِّ فأباه وأنكره، ويدل عليه أن الله تعالى وصف هذا الذي قال لوالديه {أُفٍّ لَّكُمَآ} بأنه من الذين حقَّ عليهم القول بالعذاب، ولا شك أن عبد الرحمن آمن وحسن إِسلامه وكان من سادات المسلمين فبطل حمل الآية عليه {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} أي لكلٍ من المؤمنين والكافرين مراتب ومنازل بحسب أعمالهم، فمراتب المؤمنين في الجنة علاية، ومراتب الكافرين في جهنم سافلة {
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} أي وليعطيهم جزاء أعمالهم وافيه كاملة، المؤمنون بحسب الدرجات، والكفارون بحسب الدركات، من غير نقصان بالثواب، ولا زيادة في العقاب.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أحوال بعض الأشقياء، أعقبه بذكر حال الكفار والفجار في الآخرة، ثم ذكر قصة عاد الذين أهلكهم الله بطغيانهم مع ما كانوا عليه من القوة والشدة، تذكيراً لكفار قريش بعاقبة التكذيب والطغيان، وختم السورة الكريمة بقصة النفر من الجنِّ الذين آمنوا بالقرآن حين سمعوه ودعوا قومهم إِلى الإِيمان.
اللغَة: {الهون} الهوان والذل {الأحقاف} الرمال العظيمة جمع حِقْف وهو ما استطال من الرمل العظيم واعوجَّ، والأحقاف ديار عاد {لِتَأْفِكَنَا} لتصرفنا وتزيلنا، والإِفك: الكذب {عَارِضاً} سحاباً يعرض في الأفق {تُدَمِّرُ} تُهلك، والتدميرُ الهلاك وكذلك الدَّمار {صَرَّفْنَا} بعثنا ووجهنا {يَعْيَ} يضعف ويعجز من الإِعياء وهو التعب والعجز.
التفسِير: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} أي وذكّرهم يا محمد يوم يُكشف الغطاء عن نار جهنم، وتبرز للكافرين فيقرَّبون منها وينظرون إِليها {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا} في الكلام حذف أي ويقال لهم تقريعاً وتوبيخاً أذهبتم طيباتكم أي لقد نلتم وأصبتم لذائد الدنيا وشهواتها فلم يبق لكم نصيب اليوم في الآخرة قال في البحر: والطيبات هنا المستلذات من المأكل والمشارب، والملابس والمفارش. والمراكب والمواطىء، وغير ذلك مما ينتعَّم به أهل الرفاهية {واستمتعتم بِهَا} اي وتمتعتم بتلك اللذائذ والطيبات في الدنيا قال المفسرون: المراد بالآية إِنكم لم تؤمنوا حتى تنالوا نعيم الآخرة، بل اشتغلتم بشهوات الدنيا ولذائذها عن الإِيمان والطاعة، وأفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي، وآثرتم الفاني على الباقي، فلم يبق لكم بعد ذلك شيء من النعيم، ولهذا قال بعده {فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} أي ففي هذا اليوم يوم الجزاء تنالون عذاب الذُلِّ والهَوان {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} أي بسبب استكباركم في الدنيا عن الإِيمان وعن الطاعة {وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} أي وبسبب فسقكم وخروجكم عن طاعة الله، وارتكاب الفجور والآثام قال الإِمام الفخر: وهذه الآية تدل على المنع من التنعم، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر، وإنما وبَّخ الله الكافر لأنه يتمتع بالدنيا ولا يؤدي شكر المنعم بطاعته والغِيمان به، وأما المؤمن فإِنه يؤدي بإِيمانه شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه ودليله {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} [الأعراف: 32] ! {نعم لا يُنكر أن الاحتراز عن التنعيم أولى، وعليه يُحمل قول عمر «لو شئتُ لكنتُ أطيبكم طعاماً، وأحسنكم لباساً، ولكني أستبقي طيباتي لحياتي الآخرة» وقال في التسهيل: الآية في الكفار بدليل قوله تعالى {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ} وهي مع ذلك واعظةٌ لأهل التقوى من المؤمنين، ولذلك قال عمر لجابر ابن عبد الله وقد رآه اشترى لحماً أو كلما اشتهى أحدكم شيئاً جعله في بطنه} أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية ممن قال الله فيهم {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا} !! {واذكر أَخَا عَادٍ} أي اذكر يا محمد لهؤلاء المشركين قصة بني الله هود عليه السلام مع قومه عادٍ ليعتبروا بها {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف} أي حين حذَّر قومه من عذاب الله إِن لم يؤمنوا وهم مقيمون بالأحقاف وهي تلالٌ عظيمة من الرمل في بلاد اليمن قال ابن كثيكر: الأحقاف جمع حِقْف وهو الجبل من الرمل، قال قتادة: كانوا حياً باليمن أهل رملٍ مشرفين على البحر بأرضٍ يُقال لها: الشَحْر {وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي وقد مضت الرسلُ بالإِنذار من قبل هودٍ ومن بعده، والجملة اعتراضية وهي إخبار من الله تعالى أنه قد بعث رسلاً متقدمين قبل هودٍ وبعده {أَلَاّ تعبدوا إِلَاّ الله}
أي حذَّرهم هود عليه السلام قائلا لهم: بأن لا تعبدوا إلا الله {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي إِني أخاف عليكم إِن عبدتم غير الله عذاب يومٍ هائلٍ وهو يوم القيامة {قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} أي قالوا جواباً لإِنذاره: أجئتنا يا هود لتصرفنا عن عبادة آلهتنا؟ وهو استفهام، يراد منه التسفيه والتجهيل لما دعاهم إليه {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي فأتنا بالعذاب الذي وعدتنا به إن كنت صادقاً فيما تقولم قال ابن كثير: استعجلوا عذاب الله وعقوبته استبعاداً منهم لوقوعه {قَالَ إِنَّمَا العلم عِندَ الله} أي قال لهم هود: ليس علم وقت العذاب عندي إنما علمه عند الله {وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ} أي وإِنما أنا مبلّغٌ ما أرسلني به الله إليكم {ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} أي ولكنني أجدكم قوماً جهلة في سؤالكم استعجال العذاب {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} أي فلما رأوا السحاب معترضاً في أفق السماء متجهاً نحو أوديتهم استبشروا به {قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} أي وقالوا هذا السحاب يأتينا بالمطر قال المفسريون: كانت عاد قد أبطأ عنهم المطر، وقُحطوا مدةً طويلةً من الزمن، فلما رأوا ذلك السحاب العارض ظنوا أنه مطر ففرحوا به واستبشروا وقالوا: هذا عراضٌ ممطرنا {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ} أي قال لهم هود: ليس الأمر كما زعمتم أنه مطر، بل هو ما استعجلتم به من العذاب ثم فسَّره بقوله {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي هو ريحٌ عاصفة مدمّرة فيها عذابٌ فظيع مؤلم {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} أي تُخرَرِّب وتُهلك كل شيء أتت عليه من رجالٍ ومواشٍ وأموال، بأمره تعالى وإِذنه قال ابن عباس: أو ما جاءت الريح على قوم عاد، كانت تأتي على الرجال المواشي فترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء حتى يصبح الواحد منهم كالريشة، ثم تضربهم على الأرض، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، فهي التي قال الله فيها {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} أي تدمرّ كل شيء مرت عليه من رجال عادٍ وأموالها، والتدميرُ الهلاك، وفي الحديث عن عائشة قالت:
«كان صلى الله عليه وسلم َ إِذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف في وجهه، فقلت يا رسول الله: الناسُ إِذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إِذا رأيته عُرف في وجهك الكراهية؟ فقال يا عائشة: ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، عُذّب قوم بالريح» ، وقد رأى قوم العذاب فقالوا {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} {فَأْصْبَحُواْ لَا يرى إِلَاّ مَسَاكِنُهُمْ} أي فأصبحوا هلكى لا تُرى إِلا مساكنهم، لأن الريح لم تبق منهم إِلا الآثار والديار خاوية {كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين} أي بمثل هذه العقوبة الشديدة نعاقب من كان عاصياً مجرماً قال الرازي: والمقصود منه تخويف أهل مكة، ولهذا قال بعده {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ} «إِنْ» نافية بمعنى «ما» أي ولقد مكَّنا عاداً في الذي لم نمكنكم فيه يأ أهل مكة من القوة، والسَّعة، وطور الأعمار، وهو خطاب لكفار مكة على وجهه التهديد {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} أي وأعطيناهم الأسماع والأبصار
والقلوب، ليعرفوا تلك النعم ويستدلوا بها على الخالق المنعم {فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ} أي فما نفعتهم تلك الحواس أي نفع، ولا دفعت عنهم شيئاً من عذاب الله قال الإِمام الفخر: المعنى أنّا فتحنا عليهم أبواب النعم: أعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل، وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في تأمل العبَر، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدينا ولذاتها، فلا جرم أنها لم تغن عنهم من عذاب الله شيئاً {إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ الله} تعليلٌ لما سبق أن لأنهم كانوا يكفرون وينكرون آيات الله المنزَّلة على رسله ويكذبون رسله {وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي ونزل وأحاطبهم العذاب الذي كانوا يستعجلون به بطريق الاستهزاء {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى} تخويفٌ آخر لكفار مكة أي ولقد أهلكنا القرى المجاورة لكم يا أهل مكة والمحيطة بكم، كقرى عاد وثموج وسبأ وقوم لوط، والمراد بإهلاك القرى إِهلاكُ أهلها {وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي وكررنا الحجج والدلالات، والمواعظ والبينات، أوضحناها وبيَّناها لهم لعلهم يرجعون عن كفرهم وضلالهم {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ} أي فهلَاّ نصرتهم آلهتهم التي ترقبوا بها إلى الله بزعمهم، وجعلوها شفعاءهم لتدفع عنهم العذاب؟! و «لولا» تحضيضية بمعنى هلَاّ ومعناها النفي أي لم تنصرهم آلهتهم ولم تدفع عنهم عذاب الله {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} أي غابوا عن نصرتهم وهم أحوج ما يكونون إليهم، فإِن الصديق وقت الضيق قال أبو السعود: وفي الآية تهكمٌ بهم كأنَّ عدم نصرهم كان لغيبتهم {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي وذلك الذي أصابهم هو كذبهم وافتراؤهم على الله، حيث زعموا أن الأصنام شركاء الله وشفعاء لهم عند الله {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن} أي واذكر يا محمد حين وجهنا إليك وبعثنا جماعةً من الجن ليستمعوا القرآن قال البيضاوي: والنفر دون العشرة، روى أنهم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بوادي النخلة عند منصرفه من الطائف يقرأ في تهجده القرآن {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ} أي فلما حضروا القرآن عند تلاوته قال بعضهم لبعضٍ: اسكتوا لاستماع القرآن قال القرطبي: هذا توبيخٌ لمشركي قريش، أي إِن الجنَّ سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله، وأنتم معرضون مصرّون على الكفر {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} أي فلما فُرغَ من قراءة القرآن رجعوا إِلى قومهم مخوفين لهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا قال الرازي: وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم، لأنهم لا يدعون غيرهم إلى استماع القرآن والتصديق به إلاّ وقد آمنوا {قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} أي سمعنا كتاباً رائعاً مجيداً منزَّلاً على رسولٍ من بعد موسى قال ابن عباس: إن الجنَّ لم تكن قد سمعت بأمر عيسى عليه السلام {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي مصدِّقاً لما قبله من التوارة {يهدي إِلَى الحق وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي هذا القرآن يرشد إلى الحقِّ المبين، وإِلأى دين الله القويم {ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ} أي أجيبوا محمداً صلى الله عليه وسلم َ فيما يدعوكم إليه من الإِيمان وصدِّقوا برسالته {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} أي يمحو الله
عنكم الذنوب والآثام {وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي ويخلِصْكم وينجكم من عذاب شديد مؤلمٍ {وَمَن لَاّ يُجِبْ دَاعِيَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرض} هذا ترهيبٌ بعد الترغيب أي ومن لم يؤمن بالله ويستجيب لدعوة رسوله، فإِنه لا يفوت الله طلباً، ولا يعجزه هرباً {وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ} أي وليس له أنصار يمنعونه من عذاب الله {أولئك فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} أي أولئك الذي لا يستجيبون لدعوة الله في خسرانٍ واضح، وإِلى هنا آخر كلام الجن الذين سمعوا القرآن، ثم ذكر تعالى الأدلة على قدرته ووحدانيته فقال {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض} أي أولم يعلم هؤلاء الكفار المنكرون للبعث والنشرو أن الله العظيم القدير الذي خلق السمواتِ والأرض ابتداءً من غير مثال سابق {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} أي ولم يضعف ولم يتعب بخلقهنَّ {بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} ؟ أي قادرٌ على أن يعيد الموتى بعد الفناء، ويحييهم بعد تمزق الأشلاء؟ {بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي بلى إنه تعالى قادر لا يعجزه شيء، فكما خلقهم يعيدهم {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار} أي واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين الأهوال والشدائد التي يرونها في الآخرة، وذكّرهم يوم يُعرضون على النار فيقال لهم {أَلَيْسَ هذا بالحق} ؟ أي أليس هذا العذاب الذي تذوقونه حقٌّ؟
{أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} [الطور: 15]{قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا} أي قالوا بلى وعزة ربنا، أكَّدوا كلامهم بالقسم طعماً في الخلاص قال الفخر الرازي: والمقصود بالآية التهكمُ بهم، والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم:{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 138]{قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي فيقال لهم: ذوقوا العذاب الأليم بسبب كفركم {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} أي فاصبر يا محمد على أذى المشركين كما صبر مشاهير الرسل الكرام وهم «نوح وإبراهيم وموسى وعيسى» {وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} أي ولا تدع على كفار قريش تعجيل العذاب فإِنه نازل بهم لا محالة {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلَاّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} أي كأنهم حين يعاينون العذاب في الآخرة لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعةً واحدة من النهار، لما يشاهدون من شدة العذاب وطوله {بَلَاغٌ} أي هذا بلاغ وإِنذار {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَاّ القوم الفاسقون} أي لا يكون الهلاك والدمار إلا للكافرين الخارجين عن طاعة الله.
تنبيه: قال المفسرون: «إن الجنَّ كانوا يسترقون السمع، فلما حُرست السماء بالشهب، قال إبليس: إن هذا الذي حدث بالسماء من أمر حدث في الأرض، فبعث سراياه ليعرف الخبر، فذهب ركبٌ من نصيبين وهم أشراف الجن إلى تهامة، فلما بلغوا باطن نخلة سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم َ يصلي ويتلو القرآن، فاستمعوا له وقالوا: أنصتوا ثم لما انتهى صلى الله عليه وسلم َ من القراءة آمنوا ثم رجعوا إلى قومهم منذرين فدعوهم إلى الإِيمان، وجاءوا بعد ذلك جماعات جماعات إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ فذلك سبب قوله تعالى {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن} .
البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
التعجيز {ائتوني بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هاذآ} [الأحقاف: 4] أمرٌ يراد منه التعجيز.
2 -
جناس الاشتقاق {يَدْعُواْ. . وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ} ومثله {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} [الأحقاف: 10] .
3 -
الطباق بين {آمَنَ. . وَكَفَرْتُمْ} وبين {يُنذِرَ. . وبشرى} .
4 -
ذكر الخاص بعد العام {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ} ثم قال {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً} [الأحقاف: 15] فذكر الخاص بعد العام لزيادة العانية والاهتمام بشأن الأم لحقها العظيم.
5 -
الطباق بين {حَمَلَتْهُ. . وَوَضَعَتْهُ} .
6 -
صيغة الحصر {مَا هاذآ إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأولين} [الأحقاف: 17] .
7 -
الاستعارة {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} [الأحقاف: 19] استعار الدرجات للمراتب، للسعداء والأشقياء.
8 -
الإِيجاز بالحذف مع التوبيخ والتقريع {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا} أي يقال لهم أذهبتم.
9 -
الإِطناب بتكرار اللفظ {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} ثم قال {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ} لزيادة التقبيح والتشنيع عليهم.
10 -
توافق الفواصل مما يزيد في جمال الكلام وحسن تناسقه وهو من المحسنات البديعية مثل {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الجاثية: 33]{وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} الخ.
اللغَة: {كَفَّرَ} أزال ومحا {أَثْخَنتُمُوهُمْ} أكثرتم فيهم القتل والجراح والأسر قال في المصباح: أثخن في الأرض إِيخاناً، سار إلى العدو وأوسعهم قتلاً، وأثخنته الجراحة أوهنته وأضعفته {الوثاق} القيد والحبل الذي يربط به {مَنًّا} إِطلاق الأسير من غير فدية {أَوْزَارَهَا} آلاتها وأثقالها وهي الأسلحة والعتاد يقال: وضعت الحرب أوزارها أي انقضت الحرب وانتهت، وأصل الأوزار الأثقال من السلاح والخيل قال الشاعر:
وأعددتُ للحرب أوزارها
…
رماحاً طوالاً وخيلاً ذكوراً
{تَعْساً} شقاءً وهلاكاً {آسِنٍ} متغيّر ومنتن {حَمِيماً} حاراً شديد الحرارة {آنِفاً} الآن، من قولهم، استأنف الأمر إِذا ابتدأ به {أَشْرَاطُ} أمارات وعلامات.
التفسِير: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} هذا إِعلان حربٍ من الله تعالى على أعدائه وأعداء دينه والمعنى الذين جحدوا بآيات الله وأعرضوا عن الإسلام، ومنعوا الناس عن الدخول فيه {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي أبطلها وأحبطها وجعلها ضائعة لا ثواب لها لأنها لم تكن لله فبطلت، والمراد أعمالهم الصالحة كإِطعام الطعام، وصلة الأرحام، وقرى الضيف قال الزمخشري: وحقيقة إِضلال الأعمال جعلُها ضالةً ضائعة، ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها كالضالة من الإِبل، التي لا ربَّ لها يحفظها ويعتني بأمرها، والمراد لهم التي عملوها في كفرهم بما كانوا يسمونه «مكارم الأخلاق» ، من صلة الأرحام، وفك الأسارى، وقرى الأضياف، وحفظ الجوار {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي جمعوا بين الإِيمان الصادق، والعمل الصالح {وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ} أي صدَّقوا بما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم َ تصديقاً جازماً لا يخالجه شك ولا ارتياب وهوعطف خاص على عام، والنكتةُ فيه تعظيم أمره والاعتناء بشأنه، إشارةً إلى أن الإِيمان لا يتمُّ بدونه، ولذا أكَّده بقوله {وَهُوَ الحق مِن رَّبِّهِمْ} أي وهو الثابت المؤكد المقطوع بأنه كلام الله ووحيهُ المنزَّل من عند الله، والجملة اعتراضية لتأكيد السابق {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي أزال ومحا عنهم ما مضى من الذنوب والأوزار {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي أصلح شأنهم وحالهم، في دينهم ودنياهم، ثم بيَّن تعالى سبب ضلال الكفار، واهتداء المؤمنين فقال {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل} أي ذلك الإِضلال لأعمال الكفار بسبب أنهم سلكوا طريق الضلال، واختباروا الباطل على الحق {وَأَنَّ الذين آمَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبِّهِمْ} أي وأن المؤمنين سلكوا طريق الهدى، وتمسَّكوا بالحق والإِيمان المنزل من عند الرحمن {كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أي مثل ذلك البيان الواضح، بيَّن الله أمر كلٍ من الفريقين المؤمنين والكافرين بأوضح بيانٍ وأجلى برهان ليعتبر الناس ويتعظوا. . وبعد إعلان هذه الحرب السافرة على الكافرين أمر تعالى المؤمنين بجهادهم فقال {فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب} أي فإِذا أدركتم الكفار في الحرب فاحصدوهم حصْداً بالسيوف قال في التسهيل: وأصله فاضربوا الرقاب ضرباً ثم حذف الفعل وأقام المصدر مقامه والمراد: اقتلوهم، ولكنْ عبَّر عنه بضرب الرقاب لأنه الغالب في صفة القتل {حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق} أي حتى إِذا هزمتموهم وأكثرتم فيهم القتل والجراحات ولم تبق لهم قوة للمقاومة فأْسروهم وكفُّوا عن قتلهم قال الزمخشري: وفي هذه العبارة {فَضَرْبَ الرقاب} من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيها من تصوير القتل بأشنع صورة، وهو حزٌّ العنق وإطارة رأس البدن، ولقد زاد في هذه الغلظة في قوله {فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] ومعنى {أَثْخَنتُمُوهُمْ} أكثرتم قتلهم وأغلظتموه {
فَشُدُّواْ الوثاق} أي فأسروهم، والوثاقَ اسم لما يربط من حبلٍ وغيره {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} أي ثم أنتم مخيَّرون بعد أسرهم إمَّا أن تمنُّوا عليهم وتطلقوا سراحهم بلا مقابل من مال، أو تأخذوا منهم مالاً فداءٌ لأنفسهم، ولكنْ بعد أن تكونوا قد كسرتم شوكتهم، وأعجزتموهم بكثرة القتل والجراح {حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} أي حتى تنقضي الحرب وتنتهي بوضع آلاتها وأثقالها، وتنتهي الحرب بين المسلمين والمناوئين له، وذلك بعزة الإِسلام واندحار المشركين {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} أي الأمر فيهم ما ذُكر، ولو أراد اله لانتصر منهم وأهلكهم بقدرته، دون أن يكلفكم أيها المؤمنون إلى قتالهم قال ابن كثير: أي لو شاء الله لانتقم من الكفارين بعقوبةٍ ونكالٍ من عنده {ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي ولكنَّه أمركم بجهادهم ليختبر إِيمانكم وثباتكم، فيظهر حال الصادق في الإِيمان من غيره كما قال تعالى
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} [محمد: 31] وليبتلي المؤمنين بالكافرين والكفارين بالمؤمنين، فيصير من قُتل من المؤمنين إلى الجنة، ومن قتل من الكافرين إلى النار ولهذا قال {والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي والذين استشهدوا في سبيل الله فلن يُبطل الله عملهم، بل يكثّره ويضاعفه وينميّه {سَيَهْدِيهِمْ} أي سيهديهم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، بتوفيقهم إلى العمل الصالح وإِرشادهم إلى الجنة دار الأبرار {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} أي ويُصلح حالهم وشأنهم {وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي ويدخلهم الجنة دار النعيم بيَّنها لهم بحيث يعلم كل واحدٍ منزلة ويهتدي إِليه قال مجاهد: يهتدي أهلُها إلى بيوتهم ومساكنهم لا يخطئون كأنهم سكنوها منذ خُلقوا وفي الحديث «والذي نفسي بيده إِن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا» {ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ} أي إِن تنصروا دينه يصنركم على أعدائكم {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} أي ويثبتكم في مواطن الحرب {والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} أي والذين كفروا بالله وآياته فهلاكاً وشقاْ لهم، وهو دعاءٌ عليهم بالتعاسة والخيبة والخذلان {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي أبطلها وأحبطها لأنها كانت في طاعة الشيطان {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ الله} أي ذلك التعس والإِضلال بسبب أنهم كرهوا ما أنزل الله من الكتب والشرائع قال الزمخشري: أي كرهوا القرآن وما أنزل الله فيه من التكاليف والأحكام، لأنهم قد ألفوا الإهمال وإِطلاق العَنان في الشهوت والملاذِّ فشقَّ عليهم ذلك وتعاظمهم {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي أذهبها وأضاعها لأن الإِيمان شرط لقبول الأعمال، والشرك محبطُ للعمل، ثم خوَّفهم تعالى عاقبة الكفر فقال {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي أفلم يسافر هؤلاء ليروا
ما حلَّ بمن سبقهم من الأمم الطاغية كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم من المجرمين، كيف كان مآلهم؟ وماذا حلَّ بهم من العذاب؟ فإنَّ آثار ديارهم تنبىء عن أخبارهم {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ} أي أهلكهم الله، واستأصل كل ما يخصهم من مالٍ وبنين ومتاع، فإِذا هو انقاض متراكمة وإِذا هم تحت هذه الأنقاض «ودمَّر عليهم» أبلغ من دمَّرهم لأن معناها أهلكهم مع أموالهم ودورهم وأولادهم وأطبق عليهم الهلاك إطباقاً فلم يبق شيء إلا شمله الدمار {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} أي ولكفار مكة أمثال تلك العاقبة الوخيمة والعذاب المدمّر {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ} أي وليُّهم وناصرهم {وَأَنَّ الكافرين لَا مولى لَهُمْ} أي لا ناصر لهم ولا معين ولامغيث، ثم بيَّن تعالى مآل كلٍ من الفريقين المؤمنين والكافرين في الآخرة فقال {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي يدخل المؤمنين جناتِ النعيم، التي فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام} أي والكفارون في الدنيا ينتفعون بشهواتها ولذائذها، ويأكلون كما تأكل البهائم، ليس لهم همٌّ إلا بطونهم وفروجهم {والنار مَثْوًى لَّهُمْ} أي وجهنم مقامهم ومنزلهم في الآخرة قال الزمخشري: المراد أنهم ينتفعون بمتاع الدنيا أياماً قلائل، ويأكلون غافلين غير مفكرين في العاقبة كما تأكل الأنعام في مسارحها ومعالفها غافلةً عما هي بصدده من النحر والذبح، والنار منزل ومقام لهم في الآخرة.
. ثم سلَّى تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم َ فقال {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ} أي وكم من أهل قرية عاتية ظالمة كانوا أقوى من أهل مكة الذين أخرجوك منها {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} أي أهلكناهم بأنواع العذاب فلم ينصرهم أحد فكذلك نفعل بهؤلاء قال ابن عباس: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم َ من مكة واختفى بالغار ثم خرج مهاجراً إلى المدينة، التفت إِلى مكة ثم قال «إِنك لأحبُّ البلاد إِلى الله، وأحبُّ البلاد إِليَّ، ولولا أنَّ قومك أخرجوني منك ما خرجت فنزلت الآية {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} أي هل من كان على حجة وبصيرة، وثبات ويقين من أمر دينه {كَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ} ؟ أي كمن زُيّن له عمله القبيح فرآه حسناً؟ {واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ} أي أنهمكوا في الضلال حتى عبدوا الهوى؟ ليس هذا كهذا، وإِنما جاء بصيغة الجمع مراعاةً للمعنى قال المفسرون: يريد ب {َمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ} رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وبمن {زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ} أبا جهل وكفار قريش.
. واللفظ أعمُّ لأن الغرض المباينة بين من يعبد الله، وبين من يعبد هواه، ولذلك مثَّل بعده بالفارق الكبير بين الجنة والنار فقال {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} أي صفة الجنة الغريبة العجيبة الشأن، التي وعد الله بها عباده الأبرار وأعدَّها للمتقين الأخيار {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ} أي فيها أنهار جاريات من ماءٍ غير متغير الراحة قال ابن مسعود: أنهار الجنة تفجَّر من جبلٍ من مسكٍ {وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} أي وأنهار جاريات من حليبٍ في غاية البياض والحلاوة والدسامة، لم يحمض بطول المقام ولم يفسد
كما تفسد ألبان الدنيا وفي حديث مرفوع «لم يخرج من ضروع الماشية» {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} أي وأنهار جاريات من خمرٍ لذيذة الطعم يتلذذ بها الشاربون لأنه {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات: 47] وإِنما قيَّدها بأنها لذة للشاربين، لأن الخمر كريهة الطعم في الدنيا لا يلتذ بها إلَاّ فاسد المزاج، وأما خمر الآخةر فهي طيبة الطعم والرائحة، يشربها أهل الجنة لمجرد الالتذاذ {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} أي وأنهارٌ جارياتٌ من عسل في غاية الصفاء وحسن اللون والريح، لم يخرج من بطون النحل قال أبو السعود:{عَسَلٍ مُّصَفًّى} أي لم يخالطه الشمع وفضلات النحل {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات} أي ولهم في الجة أنواعٌ متعددة من جميع أصناف الفواكه والثمار قال في حاشية البيضاوي: وفي ذكر الثمرات بع المشروب إشارة إِلى أنَّ مأكول أهل الجنة للَّذَّة لا للحاجة {وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} أي ولهم فوق ذلك النعيم الحسن نعيمٌ روحي وهو المغفرة من الله مع الرحمة والرضوان وفي الحديث «أُحلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعد أبداً» قال الصاوي: في الجنة ترفع عنهم التكاليف فيما يأكلونه ويشربونه، بخلاف الدنيا فإِن مأكولها ومشروبها يترتب عليه الحساب والعقاب، ونعيم الآخرة لا حساب عليه ولا عقاب فيه {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار} أي كمن هو مخلَّدٌ في الجحيم؟ والاستفهام للإِنكار أي لا يستوي من هو في ذلك النعيم المقيم، بمن هو خالد في الجحيم؟ {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} أي وسُقوا مكان تلك الأشربة ماءً حاراً شديد الغليان، فقطَّع أحشاءهم من فرط حرارته؟ قال المفسرون: بلغ الماء الغاية في الحرارة، إِذا دنا منهم شوى وجوههم، ووقعت فروة رءوسهم، فإِذا شربوه قطَّع أمعاءهم وأخرجها من دبورهم ولما بيَّن تعالى حال الكافرين، ذكر حال المنافقين فقال:{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} أي ومن هؤلاء المنافقين جماعة يستمعن إِلى حديثك يا محمد {حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ} أي حتى إِذا أخرجوا من مجلسك {قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً} أي قالوا العلماء الصحابة كابن عباس وابن مسعود ماذا قال محمدٌ قريباً في تلك الساعة؟ قال ابن كثير: أخبر تعالى عن المناقين في بلادتهم وقلة فهمهم، حيث كانوا يجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ويستمعمن كلامه، فلا يفهمون منه شيئاً، فإِذا خرجوا من عنده قالوا لأهل العلم من الصحابة: ماذا قال محمد {آنِفاً} أي الساعة، لا يعقلون ما قال ولا يكترثون به {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} أي ختم على قلوبهم بالكفر {واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} أي ساورا وراء أهوائهم الباطلة {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} أي وأما المؤمنون المتقون فقد زادهم الله هدى وألهمهم رشدهم قال الإِمام الفخر: لما بيَّن تعالى أن المنافق يستمع ولا ينتفع، ويستعيد ولا يستفيد، بيَّن أن حال المؤمن المهتدي بخلافه، فإِنه يستمع فيفهم، ويعمل بما يعلم، وفيه فائدة وهو قطع عذر المنافق، فإنه لو قال ما فهمت كلامه لغموضه، يُردُّ عليه بان المؤمن فهم واستنبط، فذلك لعماء القلوب لا الخفاء المطلوب {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي
فهل ينتظرون إلا قيام الساعة فجأةً فتبغتهم وهم سادرون غارون غافلون؟ {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} أي فقد جاءت أماراتها وعلاماتها، ومنها بعثة خاتم الرسل صلى لله عليه وسلم {فأنى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} أي فمن أين لهم التذكر إِذا جاءتهم الساعة، حيث لا ينفع ندم ولا توبة؟ {فاعلم أَنَّهُ لَا إله إِلَاّ الله} أي فدمن يا محمد على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله {واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} أي اطلب من الله المغفرة لك وللمؤمنين والمؤمنات {والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} أي يعلم تصرفكم في الدنيا، ومصيركم في الآخرة، فأعدوا الزاد ليوم الميعاد.
المنَاسَبَة: كان بدء السورة في الحديث عن الكافرين، ثم جاء عن المؤمنين، وهنا يأتي الحديث عن المنافقين، وقد استغرق الجانب الأكبر من السورة باعتبارهم الخطر الداهم على الإِسلام والمسلمين، والآيات الكريمة تتحدث عن الجهاد وعن موقف المنافقين منه.
اللغَة: {سَوَّلَ} زيَّن وسهَّل {أَضْغَانَهُمْ} أحقادهم الدفينة قال الجوهري: الضغنُ والضغينة: الحقد، وتضاغن القوم أبطنوا على الأحقاد {سِيمَاهُمْ} علامتهم {السلم} الصلح الموادعة {يُحْفِكُمْ} يلحُّ عليكم يقال: أحفى بالمسألة وألحف وألحَّ بمعنى واحد {يَتِرَكُمْ} ينقصكم يقال: وتره حقه أي نقصه.
التفسِير: {وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} أي ويقول المؤمنون المخصلون شوقاً إلى الجهاد وحرصاً على ثوابه: هلَاّ أنزلت سورة فيها الأمر بالجهاد {فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال} أي فإِذا أنزلت سورة صريحةٌ ظاهرة الدلالة على الأمر بالقتال قال القرطبي: {مُّحْكَمَةٌ} أي لم تنسخ وقد قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فيه محكمة، وهي أشد القرآن على المناقين {رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} أي رأيت المنافقين الذين في قلوبهم شك ونفاق {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت} أي ينظرون إِليك يا محمد تشخص أبصارهم جنباً وهلعاً، كما ينظر من أصابته الغشية من حلول الموت {فأولى لَهُمْ} أي فويلٌ لهم قال في التسهيل: وهي كلمة معناها التهديد والدعاء عليهم كقوله تعالى {أولى لَكَ فأولى} [القيامة: 35]{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} مبتدأٌ محذوف الخبر أي طاعةٌ لك يا محمد، وقولٌ جميلٌ طيبٌ خيرٌ لهم وأفضل وأحسن، قال الرازي: وهو كلام مستأنف محذوف الخير تقديره خيرٌ له أي أحسن وأمثل، وإِنما جاز الابتداء بالنكرة لأنها موصوفة ويدل عليه قوله {وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} كأنه قال: طاعة مخلصة، وقولٌ معروفٌ خيرٌ لهم {فَإِذَا عَزَمَ الأمر} أي فإذا جدَّ الجِدذُ وفُرض القتال {فَلَوْ صَدَقُواْ الله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} أي فلو أخلصوا نياتهم وجاهدوا بصدقٍ ويقين لكان ذلك خيراً لهم من التقاعس والعصيان، والجملةُ جواب الشرط {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ} أي فلعلَّكم إِن أعرضتم عن الإِسلام أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية، من الإِفساد في الأرض بالمعاصي، وقطع الأرحام! {قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولّوا عن كتاب الله، ألم يسفكوا الدم الحرام، ويقطعوا الأرحام، ويعصوا الرحمن؟} قال أبو حيان: يريد ما جرى من الفترة بعد زمان الرسول صلى الله عليه وسلم َ {أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله} أي طردهم وأبعدهم من رحمته {فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ} أي فأصمهم عن استماع الحق، وأعملى قلوبهم عن طريق الهدى فلا يهتدون إلى سبي الرشاد قال القرطبي: أخبر تعالى أن من فعل ذلك حقت عليه اللغنة، وسلبه الانتفاع بسمعه وبصره، حتى لاينقاد للحق وإِن سمعه، فجعله كالبهيمة التي لا تعقل {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن} ؟ الاستفهام توبيخي أي أفلا يتفهمون القرآن
ويتصفحونه ليروا ما فيه من المواعظ والزواجر، حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات!؟ {أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} «أم» بمعنى «بل» وهو انتقالٌ من توبيخهم على عدم التدبر إلى توبيخهم على ظلمة القلوب وقسوتها حتى لا تقبل التفكر والتدبر والمعنى: بل قلوبهم قاسية مظلمة كأنها مكبَّلة بالأقفال الحديدية فلا ينفذ إليها نور ولا إيمان قال الرازي: إِن القلب خُلق للمعرفة فإِذا لم تكن فيه المعرفة فكأنه غير موجود، وهذا كما يقول القائل في الإِنسان المؤذي: هذا ليس بإِنسان هذا وحش، وهذا ليس بقلب هذا حجر {إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى} أي رجعوا إلى الكفر بعد الإِيمان، وبعد أن وضح لهم طريق الهدى بالدلائل الظاهرة والمعجزات الواضحة {الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ وأملى لَهُمْ} أي الشيطان زيَّن لهم ذلك الأمر، وغرَّهم وخدعهم بالأمل، وطول الأجل {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله} أي ذلك الإِضلال بسبب أنهم قالوا لليهود الذين كرهوا القرآن الذي نزَّله الله حسداً وبغياً {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر} أي سنطيعكم في بعض ما تأمروننا به كالقعود عن الجهاد، وتثبيط المسلمين عنه وغير ذلك {والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أي وهو جل وعلا يعلم خفاياهم، وما يبطنونه من الكيد والدسّ والتآمر على الإِسلام والمسلمين قال المفسرون: قال المنافقون لليهود ذلك سراً فأظهره الله تعالى وفضحهم {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} أي فكيف يكون حالهم حين تحضرهم ملائكة العذاب لقبض أرواحهم معهم مقامع من حديد يضربون بها وجودههم وظهروهم؟ قال القرطبي: المعنى على التخويف والتهديد أي إِن تأخر عنهم العذاب فإلى انقضاء العمر قال ابن عباس: لا يُتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة في وجهه وفي دبره {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَآ أَسْخَطَ الله وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ} أي ذلك العذاب بسبب أنهم سلكوا طريق النفاق وكرهوا ما يرضي الله من الإِيمان والجهاد وغيرهما من الطاعات {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي أبطل ما عملوه حال إيمانهم من أعمال البر {أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ} ؟ أي أيعتقد المنافقون الذين في قلوبهم شك ونفاق أن الله لن يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ وأنه لن يظهر بغضهم وأحقادهم على الإِسلام والمسلمين؟ لا بدَّ أن يفضحهم ويكشف أمرهم {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ} أي لو أردنا لأريناك يا محمد أشخاصهم فعرفتهم عياناً بعلامتهم ولكنَّ الله ستر عليهم إبقاءً عليهم وعلى أقاربهم من المسلمين لعلهم يتوبون {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} أي ولتعرفنَّ يا محمد المنافقين من فحوى كلامهم وأسلوبه، فيما يعرضونه بك من القول الذي ظاهره إيمان وإِسلام وباطنه كفر ومسبّة قال الكلبي: لم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلى الله عليه وسلم َ منافقٌ إلا عرفه {والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} أي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فيجازيكم بحسب قصدكم، ففيه وعدٌ ووعيد {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} أي ولنختبرنكَم أيها الناسُ بالجهاد وغيره من التكاليف الشاقة حتى نعلم علم ظهور المجاهدين في سبيل الله، والصابرين على مشاقَ الجهاد {وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ} أي ونختبر أعمالكم
حسنها وقبيحها قال في التسهيل: المراد بقوله {حتى نَعْلَمَ} أي نعلمه علماً ظاهراً في الوجود تقوم به الحجة عليكم، وقد علم الله الأشياء قبل كونها، ولكنه أراد إقامة الحجة على عباده بما يصدر منهم، وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبتلنا فإنك إذا ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي جحدوا بآيات الله ومنعوا الناس على الدخول في الإِسلام {وَشَآقُّواْ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى} أي عادوا الرسول وخرجوا عن طاعته من بعد ما ظهر لم صدقُه وأنه رسول الله بالحجج والآيات {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} أي لن يضروا الله بكفرهم وصدّهم شيئاً من الضرر، وسيبطل أعمالهم من صدقة ونحوها فلا يرون لها في الآخرة ثواباً {ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول} أي امتثلوا أوامر الله وأوامر رسوله {وَلَا تبطلوا أَعْمَالَكُمْ} أي ولا تُبطلوا أعمالكم بما أبطل به هؤلاء أعمالهم من الكفر والنفاق، والعُجب والرياء {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي جحدوا بآيات الله وصدُّوا الناس عن طريق الهدى والإِيمان {ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} أي وماتوا على الكفر {فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} أي فلن يغفر الله لهم بحالٍ من الأحوال، وهذا قطع بأن من مات على الكفر لا يغفر اللهُ له لقوله تعالى
{إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] قال أبو السعود: وهذا حكم يعم كل من مات على الكفر، وإن صحَّ نزوله في أصحاب القليب {فَلَا تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم} أي فلا تضعفوا وتدعوا إلى المهادنة والصلح مع الكفار إِذا لقيتموهم {وَأَنتُمُ الأعلون} أي وأنتم الأعزة الغالبون لأنكم مؤمنون {والله مَعَكُمْ} أي والله معكم بالعونِ والنصر {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي لن ينقصكم شيئاً من ثواب أعمالكم قال ابن كثير: وفي قوله {والله مَعَكُمْ} بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أي ما الحياة الدنيا إلا زائلة فانية، لا قرار لها ولا ثبات، كاللعب واللهو الذي يتلهى به الأولاد قال شيخ زاده: بيَّن تعالى أن الدنيا وما فيها من الحظوظ العاجلة، لا يصلح مانعاً من الإِقدام إلى الجهاد، وما يؤدي إلى ثواب الآخرة، لكونها بمنزلة اللهو اللهب في سرعة زوالها، وأن الآخرة هي الحياة الباقية، فلا ينبغي أن يكون حبُّ الدنيا والحرص على ما فيها من اللذات والشهوات سبباً للجبن عن الغزو والتخلف عن الجهاد {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} أي وإِن تؤمنوا بالله وتتقوه حقَّ تقواه، يعطكم ثواب أعمالكم كاملاً {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} أي ولا يطلب منكم أن تنفقوا جميع أموالكم، بل الزكاة المفروضة فيها قال ابن كثير: أي هو غني عنكم لا يطلب منكم شيئاً، وإنما فرض عليكم الصدقات من الأموال مواساةً لإِخوانكم الفقراء، ليعود نفع ذلك وثوابه عليكم {إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ} أي إن يسألكم جميع أموالكم ويبالغ في طلبها، ويلح عليكم في إنفاقها تبخلوا {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} أي ويخرج ما في قلوبكم من البخل وكراهة الإِنفاق قال في التسهيل: وذلك لأن الإِنسان جبل على محبة الأموال، ومن نوزع في حبيبه ظهرت سرائره، فمن رحمته تعالى على عباده عدم التشديد عليهم في التكاليف {
هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} أي ها أنتم معشر المخاطبين تُدعون للإِنفاق في سبيل الله، وقد كلفتم ما تطيقون {فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ} أي فمنكم من يشح عن الإِنفاق ويمسك عنه {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} أي ومن بخل عن الإِنفاق في سبيل الله فإِنما يعود ضرر بخله على نفسه، لأنه يمنعها الأجر والثواب قال الصاوي: وبخل يتعدى ب «على» إِذا ضُمِّن معنى شحذَ، وب «عن» إِذا ضُمِّن معنى أمسك {والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء} أي واللهُ مستغن عن إنفاقكم ليس بمحتاج إِلى أموالكم، وأنتم محتاجون إليه {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} أي وإِن تعرضوا عن طاعته واتباع أوامره، يخلف مكانكم قوماً آخرين يكونون أطوع لله منكم {ثُمَّ لَا يكونوا أَمْثَالَكُم} أي لا يكونون مثلكم في البخل عن الإِنفاق بل يكونوا كرماء أسخياء.
البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
المقابلة بين الآية الأولى والثانية {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 1] وبين {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [محمد: 2] الآية وهو من المحسنات البديعية.
2 -
ذكر الخاص بعد العام {وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ} [محمد: 2] والنكتة تعظيمه والاعتناء بشأنه.
3 -
الاستعارة التبعية {تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] شبَّه ترك القتال بوضع آلته، واشتق من الوضع «تضع» بمعنى تنتهي وتترك بطريق الاستعارة التبعية.
4 -
المجاز المرسل {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] أطلق الجزء وأراد الكل أي يثبتكم، وعبَّر بالأقدام لأن الثبات التزلزل يظهران فيهاوهو مثل {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] .
5 -
الطباق بين {مَنًّا. . وفِدَآءً} وبين {آمَنُواْ. . وكَفَرُواْ} وبين {الغني. . والفقرآء} .
6 -
المجاز العقلي {فَإِذَا عَزَمَ الأمر} نسب العزم إلى الأمر وهو لأهله مثل نهاره صائم.
7 -
الالتفات {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ} وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب لتأكيد التوبيخ وتشديد التقريع.
9 -
الاستعارة التصريحية {أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} شبَّه قلوبهم بالأبواب المقفلة، فإِنها لا تنفتح لوعظ واعظ، ولا يفيد فيها عذل عاذل، وهي من لطائف الاستعارات.
10 -
الإِطناب بتكرار ذكر الأنهار {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ. .} [محمد: 15] الآية وذلك لزيادة التشويق إلى نعيم الجنة.
11 -
الكناية {ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ} كناية عن الكفر بعد الإِيمان.
12 -
السجع الرصين غير المتكلف {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ. واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ. وأعمى أَبْصَارَهُمْ} الخ وهو من المحسنات البديعية.