المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

اللغَة: {تَبَّتْ} هلكت والتبابُ: الهلاك والخسران ومنه قوله تعالى {وَمَا - صفوة التفاسير - جـ ٣

[محمد علي الصابوني]

الفصل: اللغَة: {تَبَّتْ} هلكت والتبابُ: الهلاك والخسران ومنه قوله تعالى {وَمَا

اللغَة: {تَبَّتْ} هلكت والتبابُ: الهلاك والخسران ومنه قوله تعالى {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَاّ فِي تَبَابٍ} [غافر: 37] وقال الشاعر:

«فتباً للذي صنعوا»

{ذَاتَ لَهَبٍ} ذات اشتعال وتلهب {جِيدِهَا} عنقها قال امرؤ القيس:

«وجيدٍ كجيد الريم ليس بفاحش»

{مَّسَدٍ} ليف قال الواحدي:‌

‌ المسد

في كلام العرب: القتل، يقال مسد الحبل يمسده مسداً إِذا أجاد فتله، وكلُّ شيء فتل من الليف والخَوْص فهو مسد.

سبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: «لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم َ على الصفا ونادى: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون من قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إِذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو الخبر، فاجتمعت قريش وجاء عمه» أبو لهب «فقالوا: ما وراءك؟ فقال صلى الله عليه وسلم َ: أرأيتكم لو أخبرتكم أنَّ خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدِّقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك كذباً قط، قال: فإِني {نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] فقال له أبو لهب: تباً لك يا محمد سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} . .» السورة.

ب

ص: 591

وعن طارق المحاربي قال «بينا أنا بسوق ذي المجاز إِذْ بشاب حديث السن يقول أيها الناس:» قولوا لا إِله إِلا الله تفلحوا «وإِذا رجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه مؤخر القدم ويقول: يا أيها الناس إنه كذابٌ فلا تصدقوه، فقلت: من هذا؟ فقالوا هو محمد بزعم أنه نبي، وهذا عمه» أبو لهب «يزعم أنه كذاب» .

التفسِير: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} أي هلكت يد ذلك الشقي {أَبِي لَهَبٍ} وخاب وخسر وضلَّ عمله {وَتَبَّ} أي وقد هلك وخسر، الأول دعاءٌ، والثاني إِخبارٌ كما يقال: أهلكه اللهُ وقد هلك قال المفسرون: التباب هو الخسار المفضي إِلى الهلاك، والمراد من اليد صاحبُها، على عادة العرب من التعبير ببعض الشيء عن كله وجميعه، وأبو لهب هو «عبد العُزى بن عبد المطلب» عم النبي صلى الله عليه وسلم َ وامرأته العوراء «أم جميل» أخت أبي سفيان، وقد كان كلٌ منهما شديد العداوة للرسول صلى الله عليه وسلم َ فلما سمعت امرأته ما نزل في زوجها وفيها، «أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر رضي الله عنه، وفي يدها فهْر قطعة من الحجارة، فلما دنت من الرسول صلى الله عليه وسلم َ أخذ الله بصرها عنه فلم تر إِلاّ أبا بكر، فقالت يا أبا بكر: بلغني أن صاحبك يهجوني، فوالله لو وجدته لضربت بهذا الحجر فاه، ثم أنشدت تقول:»

مُذمًّماً عصينا وأمره أبينا ودينه قليْنا

«ثم انصرفت فقال أبو بكر يا رسول الله: أما تراها رأتك؟ قال: ما رأتني لقد أخذ الله بصرها عني» ، وكانت قريش يسبون الرسول صلى الله عليه وسلم َ يقولون: مذمماً بدل «محمد» وكان يقول صلوات الله عليه: ألا تعجبون كيف صرف الله عني أذى قريش؟ يسبون ويهجون مذمماً وأنا محمد!؟ قال الخازن: فإِن قلت: لم كناه وفي التكنية تشريف وتكرمة؟ فالجواب من وجوه: أحدهما: أنه كان مشتهراً بالكنية دون الاسم، فلو ذكره باسمه لم يعرف، الثاني: أنه كان سامه «عبد العزى» فعلد عن إِلى الكنية لما فه من الشرك لأن العزَّى صنم فلم تضف العبودية إِل صنم الثالث: أنه لما كان من أهل النار، ومآله إِلى النار، والنرُ ذاتُ لهب، وافقت حاله كنيته وكان جديراً بأن يذكرها بها {مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} أي لم يفده ماله الذي جمعه، ولا جاهه وعزه الذي اكتسبه قال ابن عباس {وَمَا كَسَبَ} من الأولاد، فإِن ولد الرجل من كسبه. . روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم َ لما دعا قومه إِلى الإِيمان، قال أبو لهب: إِن كان ما يقول ابن أخي حقاً، فإِني أفتدي نفسي من العذاب بمالي وولدي فنزلت قال الألوسي: كان لأبي لهب ثلاثة أبناء «عُتبة» و «متعب» و «عُتيبة» وقد أسلم الأولان يوم الفتح، وشهدا حنيناً والطائف، وأما «عُتيبة» فلم يسلم، وكانت «أم كلثوم» بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عنده، وأختها «رُقية» عند أخيه عُتبة، فلما نزلت السورة قال أبو لهب لهما: رأسي ورأسكما حرام إِن لم تطلقا ابنتي محمد، فطلقاهما ولما أراد «عُتيبة» بالتصغير الخروج إلى الشام مع أبيه قال: لآتينَّ محمداً وأوذينَّه فأتاه

ص: 592

فقال يا محمد: إِن كافر بالنجم إِذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم تفل أمام النبي صلى الله عليه وسلم َ وطلَّق ابنته «أم كلثوم» فغضب صلى الله عليه وسلم َ ودعا عليه فقال:«اللهم سلط عليه كلباً من كلابك» فافترسه الأسد، وهلك أبو لهب بعد وقعة بدر بسب ليالٍ بمرضٍ معدٍ كالطاعون يسمى «العدسة» وبقي ثلاثة أيام حتى أنتن، فلما خافوا العار حفروا له حفرة ودفعوه إِليها بعود حتى وقع فيها ثم قذفوه بالحجارة حتى واروه، فكان الأمر كما أخبر به القرآن {سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} أي سيدخل ناراً حامية، ذات اشتعال وتوقُّد عظيم، وهي نار جهنم {وامرأته حَمَّالَةَ الحطب} أي وستدخل معه نار جهنم، امرأته العوراء «أم جميل» التي كانت تمشي بالنميمة بين الناس، وتوقد بينهم نار العداوة والبغضاء قال أبو السعود: كانت تحمل حزمة من الشوك والحسك فتنثرها بالليل في طريق النبي صلى الله عليه وسلم َ لإِذائه وقال ابن عباس: كانت تمشي بالنميمة بين الناس لتفسد بينهم {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} أي في عنقها جبلٌ من ليف قد فتل فتلاً شديداً، تعذب به يوم القيامة قال مجاهد: هو طوقٌ من حديد وقال أبن المسيب: كان لها قلادة فاخرة من جوهر، فقالت: واللاتِ والعُزَّى لأنفقتها في عداوة محمد، فأعقبها الله منها حبلاً في جيدها من مسد النار.

البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:

1 -

الجناس المرسل {يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} أطلق الجزء وأراد الكل أي هلك أبو لهب.

2 -

الجناس بين {أَبِي لَهَبٍ} وبين {نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} فالأول كنية والثاني وصف للنار.

3 -

الكنية للتصغير والتحقير {أَبِي لَهَبٍ} فليس المراد تكريمه بل تشهيره، كأبي جهل.

4 -

الاستعارة اللطيفة {حَمَّالَةَ الحطب} مستعار للنميمة وهي استعارة مشهورة قال الشاعر: «ولم يمش بين احلي بالحطب والرطب.

5 -

النصب على الشتم والذم {وامرأته حَمَّالَةَ الحطب} أي أخص بالذم حمالة الحطب.

6 -

توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات وهو من المحسنات البديعية.

ص: 593

اللغَة: {الصمد} السيد المقصود في قضاء الحاجات قال الشاعر:

ألا بكرَّ الناعي بخير بني أسد

بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد

{كُفُواً} الكُفُوءُ: النظير والشبيه قال أبو عبيدة: ياقل: كفُو، وكفء وكفاء كلها بمعنى واحد وهو المِثْل والنظير.

سَبَبُ النّزول: روي أن بعض المشركين جاءوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقالوا: يا محمد صف لنا ربَّك، أمن ذهبٍ هو، أم من فضة، أم من زبرجد، أم من ياقوت؟! فنزلت {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد. .} السورة.

التفسِير: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين المستهزئين: إِن ربي الذي أعبده، والذي أدعوكم لعبادته هو واحد أحد لا شريك له، ولا شبيه له ولا نظير، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهو جل وعلا واحد أحد، ليس كما يعتقد النصارى بالتثليث «الآب، والابن، وروح القدس» ولا كما يعتقد المشركون بتعدد الآلهة قال في التسهيل: واعلم أن وصف الله تعالى بالواحد له ثلاث معانٍ، كلها صحيحة في حقه تعالى: الأول: أنه واحد لا ثاني معه فهو نفيٌ للعدد، والثاني: أنه واحد لا نظير له ولا شريك له، كما تقول: فلان واحد في عصره أي لا نظير له

ص: 594

والثالث: أنه واحد لا ينقسم ولا يتبعض، والمراد بالسورة نفي الشريك رداً على المشركين، وقد أقام الله في القرآن براهين قاطعة على وحدانيته تعالى، وذلك كثير جداً، وأوضحها أربعة براهين: الأول؛ قوله تعالى {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] ؟ وهذا دليل الخلق والإِيجاد فإِذا ثبت أن الله تعالى خالق لجميع الموجودات، لم يصح أن يكون واحد منها شريكاً له والثاني: قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلَاّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وهو دليل الإِحكام والإِبداع الثالث: قوله تعالى {لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَاّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإِسراء: 42] وهو دليل القهر والغلبة الرابع: قوله تعالى: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] وهو دليل التنازع والاستعلاء ثم أكد تعالى وحدانيته واستغناءه عن الخلق فقال {الله الصمد} أي هو جل وعلا المقصود في الحوائج على الدوام، يحتاج إِليه الخلق وهو مستغنٍ عن العالمين قال الألوسي: الصَّمد السيدُ الذي ليس فوقه أحد، الذي يصمدُ إِليه أي يلجأ إِليه الناسُ في حوائجهم وأمروهم {لَمْ يَلِدْ} أي لم يتخذ ولداً، وليس له أبناء وبنات، فكما هو متصف بالكمالات، منزَّه عن النقائص قال المفسرون: في الآية ردٌّ على كل من جعل لله ولداً، كاليهود في قولهم

{عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30] والنصارى في قولهم {المسيح ابن الله} [التوبة: 30] وكمشركي العرب في زعمهم أن (الملائكة بنات الله) فردَّ الله تعالى على الجميع في أنه ليس له ولد، لأن الولد لا بدَّ أن يكون من جنس والده، والله تعالى ليس له زوجة وإِليه الإِشارة بقوله تعالى {بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101] ؟! {وَلَمْ يُولَدْ} أي ولم يولد من أبٍ ولا أُمٍ، لأن كل مولود حادث، والله تعالى قديم أزلي، فلا يصح أن يكون مولوداً ولا أن يكون له والد، وقد نفت الآية عنه تعالى إِحاطة النسب من جميع الجهات، فهو الأول الذي لا ابتداء لوجوده، القديم الذي كان ولم يكن معه شيء غيره {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} أي وليس له جل وعلا مثيلٌ، ولا نظير، ولا شبيه أحدٌ من خلقه، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير} [الشورى: 11] قال ابن كثير: هو مالك كل شيء وخالقه، فكيف يكون له من خلقه نظيرٌ يساميه، أو قريب يدانيه؟ تعالى وتقدَّس وتنزَّه، وفي الحديث القدسي «يقول الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إِياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إِعادته، وأما شتمه إِياي فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد» .

ص: 595

البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:

1 -

ذكر الاسم الجليل بضمير الشأن {قُلْ هُوَ} للتعظيم والتفخيم.

2 -

تعريف الطرفين {الله الصمد} لإِفادة التخصيص.

3 -

الجناس الناقص {لَمْ يَلِدْ} {وَلَمْ يُولَدْ} لتغير الشكل وبعض الحروف.

4 -

التجريد فإِن قوله تعالى {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} يقتضي نفي الكف، والولد، وقوله {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} هو تخصيص الشيء بالذكر بعد دخوله في العموم وذلك زيادة في الايضاح والبيان.

5 -

السجع المرصَّع وهو من المحسنات البديعية {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} .

لطيفَة: هذه السورة الكريمة مؤلفة من أربع آيات، وقد جاءت في غاية الإِيجاز والإِعجاز، وأوضحت صفات الجلال والكمال، ونزهت الله جل وعلا عن صفات العجز والنقص، فقد أثبتت الآية الأولى الوحدانية، ونفت التعدد {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} وأثبتت الثانية كماله تعالى، ونفت النقص والعجز {الله الصمد} وأثبتت الثالثة أزليته وبقاءه ونفت الذرية والتناسل {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} وأثبتت الرابعة عظمته وجلاله ونفت الأنداد والأضداد {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} فالسورة إثبات لصفات الجلال والكمال، وتنزيه للرب بأسمى صور التنزيه عن النقائص.

فَائِدَة: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه قال: «من قرأ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} فكأنما قرأ بثلث القرآن» قال العلماء: وذلك لما تضمنته من المعاني والعلوم والمعارف، فإِن علوم القرآن ثلاثة:«توحيد، وأحكام وقصص» وقد اشتملت هذه السورة على التوحيد، فهي ثلاث القرآن بهذا الاعتبار، وقيل: إِن ذلك في الثواب أي لمن قرأها من الأجر مثل أجر من قرأ ثلث القرآن، والله أعلم.

ص: 596