الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللغَة: {هوى} هوى يهوي إذا سقط إلى أسفل {مِرَّةٍ} المِرَّة بكسر الميم القوة قال قطرب: تقول العرب لكل جزل الرأي حصيف العقل: ذو مرَّة {تدلى} التدلي: الامتداد من أعلى إلى أسفل يقال: تدلّى الغصن إِذا امتد نحو الأسفل {قَابَ} قدر قال في البحر: القابُ والقاد والقيد: المقدار {ضيزى} جائرة مائلة عن الحق يقال: ضاز في الحكم أي جار، وضازه حقه أي يخسفه قال الشاعر:
ضازت بنو أسدٍ بحكمهم
…
إِذْ يجعلون الرأس كالذَنب
{اللمم} الصغائر من الذنوب قال الزجاج: أصل اللَّمم ما يعمله الإِنسان المرَّة بعد المرة ولا يقيم عليه يقال: مافعلتُه إِلا لمماً ولِماماً {أَجِنَّةٌ} جمع جنين وهو الولد ما دام في البطن سمي جنيناً لاستتاره.
التفسِير: {و
النجم
إِذَا هوى} أي أقسمُ بالنجم وقت سقوطه من علو قال ابن عباس: أقسم
سبحانه بالنجوم إذا انقضَّت في إِثر الشياطين حين استراقها السمع وقال الحسن: المراد في الآية النجوم إِذا انتثرت يوم القيامة كقوله {وَإِذَا الكواكب انتثرت} [الإنفطار: 2] قال ابن كثير: الخالق يُقسم بِما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي أن يُقسم إِلا بالخالق {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} أي ما ضلَّ محمدٌ عن طريق الهداية، ولا حاد عن نهج الاستقامة {وَمَا غوى} أي وما اعتقد باطلاً قط بل هو في غاية الهدى والرشد قال أبو السعود: والخطاب لكفار قريش، والتعبير بلفظ {صَاحِبُكُمْ} للإِيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله، فإِن طول صحبتهم له، ومشاهدتهم لمحاسن أوصافه العظيمة مقتضيةٌ ذلك {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} أي لا يتكلم صلى الله عليه وسلم َ عن هوى نفسي ورأي شخصي {إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يوحى} أي لا يتكلم إلا عن وحيٍ من الله عز وجل قال البيضاوي: أي ما القرآن إلا وحيٌ يوحيه الله إليه {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} أي علَّمه القرآن ملكٌ شديدٌ قواه وهو جبريل الأمين قال المفسرون: ومما يدل على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط وحملها على جناحه حتى بلغ بها السماء ثم قلبها، وصاح بثمود فأصبحوا خامدين، وكان هبوطه بالوحي على الأنبياء أو صعوده في أسرع من رجعه الطرف {ذُو مِرَّةٍ فاستوى} أي ذو حصافة في العقل، وقوةٍ في الجسم، فاستقرَّ جبريل على صورته الحقيقية {وَهُوَ بالأفق الأعلى} أي وهو بأفق السماء حيث تطلع الشمس جهة المشرق قال ابن عباس: المراد بالأفق الأعلى مطلع الشمس قال الخازن: كان جبريل يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في وصورة الآدميين كما كان يأتي الأنبياء قبله، ومرة في السماء، فأما التي في الأرض فبالأفق الأعلى أيجانب المشرق حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بحراء فطلع عليه جبريل من ناحية المشرق وفتح جناحيه فسدَّ ما بين المشرق والمغرب، فخرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ مغشياً عليه، فنزل جبريل في صورة الآدميين فضمَّه إلى نفسه وجعل يسمح الغبار عن وجهه وهو قوله {ثُمَّ دَنَا فتدلى} وأما التي في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحدٌ من الأنبياء على صورته الملكية التي خُلق عليها إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم َ {ثُمَّ دَنَا فتدلى} أي ثم اقترب جبريل من محمد وزاد في القرب منه {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} أي فكان منه على مقدار قوسين أو أقل قال الألوسي: والمراد إِفادة شدة القرب فكأنه قيل: فكان قريباً منه {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى} أي فأوحى جبريل إلى عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم َ ما أوحى إليه من أوامر الله عز وجل {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} أي ما كذب قلب محمد ما رآه ببصره من صورة جبريل الحقيقية قال ابن مسعود: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناحٍ منهما قد سدَّ الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما اللهُ به عليم {أَفَتُمَارُونَهُ على مَا يرى} ؟ أي أفتجادولنه يا معشر المشركين على ما رأى ليلة الإِسراء والمعراج؟ قال في البحر:
كانت قريش حين أخبرهم صلى الله عليه وسلم َ بأمره في الإِسراء كذبوا واستخفوا حتى وصف لهم صلى الله عليه وسلم َ بيت المقدس، والجمهور على أن المرئي مرتين هو جبريل، وعن ابن عباس وعكرمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم َ رأى ربه بعيني رأسه، وأنكرت ذلك عائشة وقالت إنه رأى جبريل في صورته مرتين ثم قال أبو حيان: والصحيح أن جميع ما في هذه الآيات هو مع جريل بدليل قوله تعالى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى} فإنه يقتضي مرة متقدمة {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى} أي رأى الرسول جبريل في صورته الملكية مرةً أُخرى {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} أي عند سدرة المنتهى التي هي في السماء السابعة قرب العرش قال المفسرون: والسشدرة شجرة النَّبق تنبع من أصلها الأنهار، وهي عين يمين العرش، وسميت سدرة المنتهى لأنه ينتهي إليها علم الخلائق وحميع الملائكة، ولا يعلم أحدٌ ما وراءها إلا الله جل وعلا وفي الحديث
«صُعد بي إلى السماء السابعة، ورفعت إليَّ سدرة المنتهى، فإِذا نبقها أي ثمرها مثل قلال هجر، وإِذا أوراقها كآذان الفيلة. .» {عِندَهَا جَنَّةُ المأوى} أي عند سدرة المنتهى الجنة التي تأوي إليها الملائكة وأرواح الشهداء والمتقين {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} أي رآه وقت ما يغشى السدرة ما يغشى من العجائب قال الحسن: غشيها نور رب العالمين فاستنارت وقال ابن مسعود: غشيها فراش من ذهب وفي الحديث
«لما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيَّرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها» قال المفسرون: رأى عليه السلام شجرة سدرة المنتهى وقد غشيتها سبحات أنوار الله عز وجل، حتى ما يستطيع أحد أن ينظر إليها، وغشيتها الملائكة أمثال الطيور يعبدون الله عندها، يجتمعون حولها مسبِّحين وزائرين كما يزور الناس الكعبة وفي الحديث «رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كل ورقة ملكاً قائماً يسبح لله تعالى» {مَا زَاغَ البصر} أي ما صال بصر النبي صلى الله عليه وسلم َ في المقام وفي تلك الحضرة يميناً وشمالاً {وَمَا طغى} أي وما جاوز الحدَّ الذي رأى قال القرطبي: أي لم يمدَّ بصره إلى غير ما رأى من الآيات، وهذا وهذا وصف أدب النبي صلى الله عليه وسلم َ في ذلك المقام إذ لم يلتفت يميناً ولا شمالاً وقال الخازن: لما تجلَّى رب العزة وظهر نوره، ثبت صلى الله عليه وسلم َ في ذلك المقام العظيم الذي تحار فيه العقول، وتزلُّ فيه الأقدام، وتميل فيه الأبصار {لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى} أي والله لقد رأى محمد ليلة المعراج عجائب ملكوت الله، رأى سدة المنتهى، والبيت المعمور، والجنة والنار، ورأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السموات له ستمائة جناحٍ، ورأى رفرفاً أخضر من الجنة قد سدَّ الأفق، وغير ذلك من الآيات العظام قال الفخر: وفي الآية دليلٌ على أن النبي صلى الله عليه وسلم َ رأى ليلة المعراج آياتِ الله ولم
يرَ الله كما قال البعض، ووجهه أن الله ختم قصة المعراج برؤية الآيات، وقال في الإِسراء {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} [الإِسراء: 1] ولو كان رأى ربه لكان ذلك أعظم ما يمكن ولأخبر تعالى به {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى} أي أخبرونا يا معشر الكفار عن هذه الآلهة التي تعبدونها «اللات والعزة ومناة» هل لها من القدرة والعظمة التي وُصف بها رب العزة شيء حتى زعم أنها آلهة؟ قال الخازن: هذه أسماء أصنام اتخذوها آهلة يعبدونها، واشتقوا لها أسماء من أسماء الله عز وجل فقالوا من الله اللات، ومن العزيز العُزَّى، وكانت اللات بالطائف، والعُزَّى بغطفان وقد حطمها خالد بن الوليد، ومناة صنم لخزاعة يعبده أهل مكة {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى} ؟ توبيخٌ وتقريع أي ألكم يا معشر المشركين النوع المحبوب من الأولاد وهو الذكر، وله تعالى النوع المذموم بزعمكم وهو الأنثى؟ {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} أي تلك القسمة قسمة جائزة غير عادلة حيث جعلتم لربكم ما تكرهونه لأنفسكم قال الرازي: إنهم ما قالوا لنا البنون وله البنات، وإنما نسبوا إلى الله البنات وكانوا يكرهونهن كما قال تعالى {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62] فلما نسبوا إلى الله البنات حصل من تلك النسبة قسمة جائرة {إِنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم} أي ما هذه الأوثان إِلا أسماء مجردة لا معنى تحتها لأنها لا تضر ولا تنفع، سميتموها آلهة أنتم وآباؤكم وهي مجرد تسميات ألقيت على جمادات {مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} أي ما أنزل الله بها من حجة ولا برهان {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظن وَمَا تَهْوَى الأنفس} أي ما يتبعون في عبادتها إلا الظنون والأوهام، وما تشتهيه أنفسهم مما زينه لهم الشيطان {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى} أي والحال أنه قد جاءهم من ربهم البيان الساطع، والبرهان القاطع على أن الأصنام ليست بآلهة، وأن العبادة لا تصلح إِلا لله الواحد القهار قال ابن الجوزي: وفيه تعجيبٌ من حالهم إذ لم يتركوا عبادتها بعد وضوح البيان {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنى} أي ليس للإِنسان كل ما يشتهي حتى يطمع في شفاعة الأصنام قال الصاوي: والمراد بالإِنسان الكافر، وهذه الآية تجر بذيلها على من يلتجىء لغير الله طلباً للفاني، ويتبع هوى نفسه فيما تطلبه فليس له ما يشتهي، واتباعُ الهوى هوان {فَلِلَّهِ الآخرة والأولى} أي فالملك كله لله يعطي من يشاء ويمنعم من يشاء، لأنه مالك الدنيا والآخرة، وليس الأمر كما يشتهي الإنسان، بل هو تعالى يعطي من اتبع هداه وترك هواه.
. ثم أكَّد هذا المعنى بقوله {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات} أي وكثير من الملائكة الأبرار الأطهار المنبثين في السموات {لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} أي أن الملائكة مع علو منزلتهم ورفعة شأنهم لا تنفع شفاعتهم أحداً إلا بإِذن الله، فكيف تشفع الأصنام مع حقارتها؟! {إِلَاّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى} أي إِلا من بعد أن يأذن تعالى في الشفاعة لمن يشاء من أهل التوحيد والإِيمان ويرضى عنه كقوله تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28] قال ابن كثير: فإِذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة الأصنام والأنداد عند الله تعالى؟ ثم أخبر تعالى عن ضلالات المشركين فقال {إِنَّ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالآخرة} أي
لا يصدقون بالبعث والحساب {لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الأنثى} أي ليزعمون أنهم إناثٌ وأنهم بناتُ الله {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أي لا علم لهم بما يقولون أصلا، لأنهم لم يشاهدوا خلق الملائكة، ولا جاءهم عن الله حجة أو برهان {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظن} أي ما يتبعون في هذه الأقوال الباطلة إلا الظنون والأوهام {وَإِنَّ الظن لَا يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} أي وإِن الظنَّ لا يجدي شيئاً، ولا يقوم أبداً مقام الحق {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} أي فأعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين الذين استنكفوا عن الإِيمان والقرآن {وَلَمْ يُرِدْ إِلَاّ الحياة الدنيا} أي وليس له همٌ إلا الدنيا وما فيها من النعليم الزائل، والمتعة الفانية قال أبو السعود: والمراد النهيُّ عن دعوة المعرض عن كلام الله وعدم الاعتناء بشأنه، فإن من أعرض عما ذكر، وانهمك في الدنيا بحيث صارت منتهى همته وقاصرى سعيه، لا تزيده الدعوة إِلا عناداً وإِصراراً على الباطل {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم} أي ذلك نهاية علمهم وغاية إدراكهم أن آثروا الدنيا على الآخرة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى} أي هو عالم بالفريقين: الضالين والمهتدين ويجازيهم بأعمالهم {وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي له كل ما في الكون خلقاً وملكاً وتصرفاً ليس لأحدٍ من ذلك شيء أصلاً {لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ} أي ليجازي المسيء بإساءته {وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} أي وليجازي المحسن بالجنة جزاء إحسانه قال ابن الجوزي: والآية إِخبارٌ عن قدرته وسعة ملكه، وهو كلام معترض بين الآية الأولى وبين قوله {لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ} لأنه إِذا كان أعلم بالمسيء وبالمحسن جازى كلاً بما يستحقه، وإنما يقدر على مجازاة الفريقين إذا كان واسع الملك.
. ثم ذكر تعالى صفات المتقين المحسنين فقال {الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم} أي يبتعدون عن كبائر الذنوب كالشرك والقتل وأكل مال اليتيم {والفواحش} أي ويبتعدون عن الفواحش جمع فاحشة وهي ما تناهى قبحها عقلاً وشرعاً كالزنى ونكاح زوجة الأب لقوله تعالى {وَلَا تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإِسراء: 32] وقوله {وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً} [النساء: 22]{إِلَاّ اللمم} أي إلا ما قلَّ وصغر من الذنوب قال القرطبي: وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله كالقبلة والغمزة والنظرة وفي الحديث «إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطقُ، والنفسُ تتمنى وتشتهي، والفرج يصدِّق ذلك أو يكذبه» فإذا اجتنب العبد كبائر الذنوب غفر الله بفضله وكرمه الصغائر لقوله تعالى {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] يعني الصغائر {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة} أي هو تعالى غفار الذنوب ستار العيوب، يغفر لمن فعل ذلك ثم تاب قال ابن كثير: أي رحمته وسعت كل شيء، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب
منها قال البيضاوي: ولعله عقَّب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين، لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته، ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} أي هو جل وعلا أعلم بأحوالكم منكم قبل أن يخلقكم، ومن حين أن خلق أباكم آدم من التراب {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} أي ومن حين أن كنتم مستترين في أرحام أُمهاتكم، فهو تعالى يعلم التقيَّ والشقي، والمؤمن والكافر، والبرِّ والفاجر، علم ما تفعلون وإلى ماذا تصيرون {فَلَا تزكوا أَنفُسَكُمْ} أي لا تمدحوها على سبيل الإِعجاب، ولا تشهدوا لها بالكمال والتقى، فإن النفس خسيسة إِذا مُدحت اغترت وتكبَّرت قال أبو حيان: أي لا تنسبوها إِلى الطهارة عن المعاصي، ولا تثنوا عليها، فقد علم الله منكم الزكيَّ والتقي قبل إخراجكم من صلب آدم، وقبل إخراجكم من بطون أُمهاتكم {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} أي هو تعالى العالم بمن أخلص العمل، واتقى ربه في السر والعلن.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى في الآيات السابقة سفاهات المشركين وضلالاتهم في عبادتهم للأصنام، وميَّز بين المؤمنين والمجرمين، ذكر هنا نوعاً خاصاً من أهل الإِجرام، وختم السورة الكريمة ببيان ما حلَّ بالمكذبين من أنواع العذاب والدمار، تذكيراً للمشركين بانتقام الله من أعدائه المكذبين لرسوله.
اللغَة: {وأكدى} قطع العطاء مأخوذ من الكُدية يقال لمن حفر بئراً ثم وجد صخرة تمنعه من إتمام الحفر قد أكدى، ثم استعمله العرب لمن أعطى ولم يتمم، ولمن طلب شيئاً فلم يبلغ آخره قال الحطيئة:
فأعطى قليلاً ثم أكدى عطاءه
…
ومن يبذل المعروف في الناس يُحمد
{وأقنى} أعطاه الكفاية من المال ورضَّاه بما أعطاه قال الجوهري: قني الرجل يقنى مثل غني يغنى أي أعطاه الله ما يُقتنى من المال والنشب، وأقناه الله رضَّاه {الشعرى} الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر {أَزِفَتِ} قربت قال كعب بن زهير:
بان الشباب وهذا الشيبُ قد أزفا
…
ولا أرى لشبابٍ بائنٍ خلفا
والآزفة القيامة سيمت بذلك لقربها ودونها {سَامِدُونَ} لاهون ولاعبون، والسمودُ اللهو.
سَبَبُ النّزول: روي أن «الوليد بن المغيرة» جلس عند النبي صلى الله عليه وسلم َ وسمع وعظه، فتأثر قلبه بما سمع وكاد أن يُسلم، فعيَّره رجلٌ من المشركين وقال: تركت دين آبائك وضلَّلتهم وزعمت أنهم في النار؟! فقال الوليد: إِني خشيتٌ عذاب الله، فضمن له الرجل إِن هو أعطاه شيئاً من ماله، ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله عز وجل، فأعطاه بعض الذي ضمن له ثم بخل ومنعه الباقي فأنزل الله {أَفَرَأَيْتَ الذي تولى وأعطى قَلِيلاً وأكدى} الآيات.
التفسِير: {أَفَرَأَيْتَ الذي تولى} أي أخبرني يا محمد عن هذا الفاجر الأثيم الذي أعرض عن الإِيمان واتباع الهوى؟ {وأعطى قَلِيلاً وأكدى} أي وأعطى لصاحبه الذي عيَّره قليلاً من المال المشروط ثم بخل بالباقي قال مجاهد: نزلت في الوليد بن المغيرة {أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى} أي أعنده علمٌ بالأمور الغيبية حتى يعلم أن صاحبه يتحمل عنه العذاب؟ {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى} أي لم يُخبر بما في التوراة المنزلة على موسى {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} أي وبما في صحف إبراهيم الذي تمَّم ما أُمر به من طاعة الله وتبليغ رسالته، على وجه الكمال والتمام قال الحسن: ما أمره الله بشيء إلا وفّى به كقوله تعالى {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]{أَلَاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي أن لا تحمل نفسٌ ذنب غيرها، ولا يؤاخذ أحدٌ بجريرة غيره، والآية ردٌّ على من زعم أنه يتحمل العذاب عن غيره كقوله تعالى {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ}
[العنكبوت: 12]{وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سعى} أي وأنه ليس للإِنسان إلا عمله وسعيه قال ابن كثير: أي كما لا يُحمل عليه وزرُ غيره، كذلك لا يحصل له الأجر إِلا ما كسب هو لنفسه {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} أي وأن عمله سيُعرض عليه يوم القيامة، ويراه في ميزانه قال الخازن: وفي الآية بشارة للمؤمن، وذلك أن الله تعالى يريه أعماله الصالحة ليفرح بها ويحزن الكافر بأعماله الفاسدة فيزداد غماً {ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزآء الأوفى} أي ثم يُجزى بعمله الجزاء الأتم الأكمل، وهو وعيدٌ للكافر ووعدٌ للمؤمن {وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى} إي إليه جل وعلا المرجع والمآب والمصير فيعاقب ويثيب. . ثم شرع تعالى في بيان آثار قدرته فقال {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} أي هو الذي
خلق الفرح والحزن، والسرور والغم، فأضحك في الدنيا من أضحك، وأبكى من أبكى قال مجاهد: أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} أي خلق الموت والحياة فهو جل وعلا القادر على الإِماتة والإِحياء لا غيره، ولهذا كرر الإِسناد «هو» لبيان أن هذا من خصائص فعل الله {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} أي أوجد الصنفين الذكر والأنثى من أولاد آدم ومن كل حيوان قال الخازن: والغرض أنه تعالى هو القادر على إيجاد الضدين في محل واحد: الضحك والبكاء، والإِحياء والإِماتة، والذكر والأنثى، وهذا شيء لا يصل إليه فهم العقلاء ولا يعلمونه، وإنما هو بقدرة الله تعالى وخلقه لا بفعل الطبيعة، وفيه تنبيه على كمال قدرته، لأن النطفة شيء واحد خلق خلق الله منها أعضاء مختلفة، وطباعاً متباينة، وخلق منها الذكر والأنثى، وهاذ من عجيب صنعته وكمال قدرته، ولهذا قال {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} أي خلق الذكر والأنثى من نطفة إذا تدفقت من صلب الرجل، وصُبّت في رحم المرأة {وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى} أي وأن عليه جل وعلا إِعادة خلق النَّاس للحساب والجزاء، وإِحياؤهم بعد موتهم قال في البحر: لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ فيها بقوله تعالى {عَلَيْهِ} كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه {وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى} أي أغنى من شاء، وأفقر من شاء وقال ابن عباس: أعطى فأرضى، أغنى الإِنسان ثم رضاه بما أعطاه {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} أي هو ربُّ الكوكب المضيء المسمَّى بالشعرى الذي كانوا يعبدونه قال أبو السعود: أي هو رب معبودهم وكانت خزاعة تعبدها سنَّ لهم ذلك رجلٌ من أشرافهم هو «أبو كبشة» {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى} أي أهلك قوم عاد القدماء الذين بُعث لهم نبيُّ الله «هود» عليه السلام، وكانوا من أشد الناس وأقواهم، وأعتاهم على الله وأطغاهم، فأهلكهم الله بالريح الصرصر العاتية قال البيضاوي: سميت عاداً الأولى أي القدماء لأنهم أُولى الأمم هلاكاً بعد قوم نوح عليه السلام {وَثَمُودَ فَمَآ أبقى} أي وثمود دمَّرهم فلم يُبق منهم أحداً {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ} أي وقوم نوح قبل عادٍ وثمود أهلكناهم {إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى} أي كانوا أظلم من الفريقين، وأشد تمدراً وطغياناً ممن سبقهم، قال في البحر: كانوا في غاية العتو والإِيذاء لنوح عليه السلام، يضربونه حتى لا يكاد يتحرك، ولا يتأثرون بشيء مما يدعوهم إليه قال قتادة: دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، كلما هلك قرن نشأ قرن، حتى كان الرجل يأخذ بيد ابنه يتمشى به إلى نوح ليحذره منه ويقول له: يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا وأنا مثلك يومئذٍ فإِياك أن تصدقه، فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على بغض نوح {والمؤتفكة أهوى} أي وقرى قوم لوط أهواها فأسقطها علىلأرض بعد أن انقلبت بهم فصار عاليها سافلها، وذلك أن جبريل رفعها إلى السماء ثم أهوى بها {فَغَشَّاهَا مَا غشى} أي فغطَّاها من فنون العذاب ما غطَّى، وفيه تهويلٌ للعذاب وتعميمٌ لما أصابهم منه قال في البحر:
والمؤتفكة هي مدائن قوم لوط، سميت بذلك لأنها انقلبت بأهلها، رفعها جبريل عليه السلام ثم أهوى بها إلى الأرض، ثم أمطرت عليهم حجارة من سجيل منضود فذلك قوله {فَغَشَّاهَا مَا غشى} {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكَ تتمارى} أي فبأي نعم الله الدالة على وحدانيته وقدرته تتشكك أيها الإِنسان وتكذب!! {هذا نَذِيرٌ مِّنَ النذر الأولى} أي هذا هو محمد رسول الله منذر كسائر الرسل ومن جنس المنذرين الأولين وقد علمتم ما حلَّ بالمكذبين {أَزِفَتِ الآزفة} أي دنت الساعة واقترتب القيامة قال القرطبي: سميت آزفة لدنوها وقرب قيامها {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ} أي لا يقدر على كشفها وردها إِذا غشيت الخلق بأهوالها وشدائدها إلا الله تعالى {أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ} ؟ استفهامٌ للتوبيخ أي أفمن هذا القرآن تعجبون يا معشر المشركين سخرية واستهزاءً؟ {وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} أي وتضحكون عند سماعه، ولا تبكون من زواجره وآياته؟ وقد كان حقكم أن تبكوا الدم بدل الدمع حزناً على ما فرطتم {وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} أي وأنتم لاهون غافلون؟ {فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا} أي فساجدوا لله الذي خلقكم وأفردوه بالعبادة، ولا تبعدوا اللات والعزى، ومناة والشعرى، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا يليق السجود والعبادة إلَاّ له جلا وعلا.
البَلَاغة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الإِبهام للتعظيم والتهويل {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى} [النجم: 10] ومثله {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} [النجم: 16] وكذلك {فَغَشَّاهَا مَا غشى} .
2 -
الجناس {والنجم إِذَا هوى
…
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 13] فالأول هو بمعنى خرَّ وسقط والثاني بمعنى هوى النفس.
3 -
الطباق بين {أَضْحَكَ وأبكى} وبين {أَمَاتَ وَأَحْيَا} وبين {ضَلَّ وِ اهتدى} وبين
{الآخرة والأولى} [النجم: 25] وبين {وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} وهي من المحسنات البديعية.
4 -
المقابلة {لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} [النجم: 31] كما فيه إطناب في تكرار لفظ يجزي وكلاهما من المحسنات البديعية.
5 -
الاستفهام التوبيخي مع الإِزراء بعقولهم {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 2122] .
6 -
الجناس الناقص بين {أغنى. . وأقنى} لتغير بعض الحروف.
7 -
جناس الاشتقاق {أَزِفَتِ الآزفة} .
9 -
عطف العام على الخاص {فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا} .
10 -
مراعاة الفواصل ورءوس الآيات، مما له أجمل الوقع على السمع مثل {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى} [النجم: 1921] ؟ ومثله {أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} ؟ ويسمى بالسجع.
تنبيه: كانت الأصنام التي عبدها المشركون كثيرة تثرب من ثلاثمائة وستين صنماً ومعظمها
حول الكعبة وقد حطمها صلى الله عليه وسلم َ عند فتحه لمكة، وأشهر هذه الأصنام «اللات، والعُزَّى، ومناة» وقد أرسل صلى الله عليه وسلم َ عام الفتح خالد بن الوليد ليحطم العزَّى فحطمها وهو يقول:
يا عزُّ كفرانك لا سبحانك
…
إِني رأيتُ الله قد أهانك
وانتهت بفتح مكة عبادة الأوثان والأصنام، ودخل الناس في دين الإِسلام أفواجاً أفواجاً.
للغَة: {الأجداث} جمع جدث وهو القبر {مُّهْطِعِينَ} مسرعين يقال: أهطع في سيره أي أسرع {مُّنْهَمِرٍ} انهمر الماء نزل بقوة عزيراً {وَدُسُرٍ} الدُّسر: المسامير التي تُشدُّ بها السفينة جمع دِسار ككتاب وكُتب قال في الصحاح: الدِّسار واحد الدُسرُ وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة ويقال هي المسامير {مُّدَّكِرٍ} متعظ خائف وأصله مذتكر قلبت التاء دالاً ثم أدغمت الذال فيها فصارت مدّكر {صَرْصَراً} الصرصر: الشديدة الصوت مع البرد مأخوذ من صرير الباب وهو تصويته {أَعْجَازُ} جمع عجز وهو مؤخر الشيء {مُّنقَعِرٍ} المنقعر: المنقلع من أصله يقال: قعرت الشجرة قعراً قلعتها من أصلها فانقعرت {وَسُعُرٍ} جنون من قولهم ناقة مسعورة كأنها من شدة نشاطها مجنونة قال الشاعر:
تُخالُ بها سُعراً إِذا هزَّها
…
{أَشِرٌ} الأشر: البطر ورجل أشر أي بطر أبطرته النعمة.
التفسِير: {اقتربت الساعة وانشق القمر} أي دنت القيامة وقد انشق القمر {وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ} أي وإِن ير كفار قريش علامة، واضحة ومعجزة ساطعة، تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم َ يعرضوا عن الإِيمان {وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} أي ويقولوا هذا سحرٌ دائم، سحر به محمداً أعيننا قال المفسرون: إِن كفار مكة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم َ: إن كانت صادقاً فشقَّ لنا القمر فرقتين، ووعدوه بالإِيمان إن فعل، وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ربَّه أن يعطيه ما طلبوا، فانشقَّ القمر نصف على جبل الصفا، ونصفٌ على جبل قيقعان المقابل له، حتى رأوا حراء بينهما، فقالوا: سحرنا محمد، ثم قالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم!! فقال أبو جهل: اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي فإِن أخبروا بانشقاقه فهو صحيح، وإِلا فقد سحر محمد أعيننا، فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر فقال أبو أبو جهل والمشركون: هذا سحرٌّ مستمر أي دائم فأنزل الله {اقتربت الساعة وانشق القمر وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} قال الخازن: وانشقاقٌ القمر من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم َ الظاهرة، ومعجزاته الباهرة، يدعل عليه ما أخرجه الشيخان عن أنس «أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أنه يُريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين» وما روي عن ابن مسعود قال «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم َ شقتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: اشهدوا» وما روي عن جبير بن مطعم قال «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فصار فرقتين، فقالت قريش: سحر محمد أعيننا فقال بعضهم: لئن كان سحرنا فما يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فكاتنوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم»
فهذه الأحاديث الصحيحة، وقد وردت بهذه المعجزة العظيمة، مع شهادة القرآن العظيم بذلك، فإنه أدل دليل وأقوى مثبتٍ له وإمكانه لا يشك فيه مؤمن، وقيل في معنى الآية، ينشق القمر يوم القيامة، وهذا قول باطل لا يصح، وشاذ لا يثبت، لإِجماع المفسرين على خلافه، ولأن الله ذكره بلفظ الماضي {وانشق القمر} وحمل الماضي على المستقبل بعيد {وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} أي وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم َ وما عاينوا من قدرة الله تعالى في انشقاق القمر، واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} أي وكل أمرٍ من الأمور منتهٍ إلى غاية يستقر عليها لا محالة إِن خيراً فخير، وإِن شراً فشر قال مقاتل: لكل حديثٍ منتهى وحقيقة ينتهي إِليها وقال قتادة: إِن الخير يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشر، وكل أمرٍ مستقر بأهله {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأنبآء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي ولقد جاء هؤلاء الكفار من أخبار الأمم الماضية المكذبين للرسل، ما فيه واعظ لهم عن التمادي في الكفر والضلال {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} أي هذا القرآن حكمة بالغة، بلغت النهاية في الهداية والبيان {فَمَا تُغْنِ النذر} أي أيَّ شيءٍ تُغنى النُذُر عمن كتب الله عليه الشقاوة، وختم على سمعه وقلبه؟! قال المفسرون: المعنى لقد جاءهم القرآن وهو حكمة تامة قد بلغت الغاية، فماذا تنفع الإِنذارات والمواعيد لقومٍ أصموا آذانهم عن سماع كلام الله؟ كقوله تعالى {وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر
عَن قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي فأعرض يا محمد عن هؤلاء المجرمين وانتظرهم {يَوْمَ يَدْعُ الداع إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ} أي يوم يدعو إٍسرافيل إلى شيءٍ منكر فظيع، تنكره النفوس لشدته وهوله، وهو يوم القيامة وما فيه من البلاء والأهوال {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} أي ذليلةً أبصارهم لا يستطيعون رفعها من شدة الهول {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث} أي يخرجون من القبور {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} أي كأنهم في انتشارهم وسرعة إِجابتهم للداعي جرادٌ منتشر في الآفاق، لا يدرون أين يذهبون من الخوف والحيرة قال ابن الجوزي: وإِنما شبههم بالجراد المنتشر، لأن الجراد لا جهة له يقصدها، فهم يخرجون من القبور فزعين ليس لأحدٍ منهم جهة يقصدها، والداعي هو إِسرافيل {مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع} أي مسرعين مادّي أعناقهم إِلأى الداعي لا يتلكئون ولا يتأخرون {يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} أي يقول الكافرون هذا يوم صعبٌ شديد قال الخازن: وفيه إشارة إِلى أنَّ ذلك اليوم يومٌ شديد على الكفارين لا على المؤمنين كقوله تعالى {عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 10] . . ثم ذكر تعالى وقائع الأمم المكذبين وما حلَّ بهم من العذاب والنكال تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ تحذيراً لكفار مكة فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أي كذب قبل قومك يا محمد قومُ نوح {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وازدجر} أي فكذبوا عبدنا نوحاً وقالوا إِنه مجنون، وانتهروه وزجروه عن دعوى النبوة بالسب والتخويف والوعيد بقولهم
{لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} [الشعراء: 116] قال في البحر: لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إلى الجنون أي أنه يقول ما لا يقبله عاقل وذلك مبالغة في تكذيبهم، وإنما قال {عَبْدَنَا} تشريفاً له وخصوصية بالعبودية {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر} أي فدعا نوح ربه وقال يا ربّ إني ضعيف عن مقاومة هؤلاء المجرمين، فانتقم لي منهم وانتصر لدينك قال أبو حيان: وإنما دعا عليهم بعدما ئيس منهم وتفاقم أمرهم، وكان الواحد من قومه يخنقه إِلى أن يخر مغشياً عليه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} أي فأرسلنا المطر من السماء منصباً بقوة وغزارة قال أبو السعود: وهو تمثيلٌ لكثرة الامطار وشدة انصبابها {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} أي جعلنا الأرض كلها عيوناً متفجرة بالماء {فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي فالتقى ماء السماء وماء الأرض على حالٍ قد قدَّرها الله في الأزل وقضاها بإِهلاك المكذبين غرقاً قال قتادة: قضي عليهم في أم الكتاب إِذا كفروا أن يُغرقوا {وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} أي وحملنا نوحاً على السفينة ذات الألواح الخشبية العريضة المشدودة بالمسامير قال في البحر: وذات الألواح والدُّسر هي السفينة التي أنشأها نوح عليه السلام، ويفهم من هذين الوصفين أنها «السفينة» فهي صفة تقوم مقام الموصوف وتنوبعنه ونحوه: قميصي مسرودة من حديد أي درع، وهذا من فصيح الكلام وبديعه، ولو جمعت بين الصفة والموصوف لم يكن بالفصيح، والدُّسُر: المسامير {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي تسير على وجه الماء بحفظنا وكلاءتنا وتحت رعايتنا {جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} أي أغرقنا قوم نوح انتصاراً لعبدنا نوح لأنه كان قد كُذِّب وجُحد فضله قال الألوسي: أي فعلنا ذلك جزاء لنوح
لأنه كان نعمة أنعمها الله على قومه فكفروها، وكذلك كلُ نبيٍ نعمةٌ من الله تعالى على أمته {وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً} أي تركنا تلك الحادثة «الطوفان» عبرة {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي فهل من معتبر ومتعظ؟ {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} استفهام تهويل وتعجيب أي فكيف كان عذابي وإِنذاري لمن كذب رسلي، ولم يتعظ بآياتي؟ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ} أي والله لقد سهلنا القرآن للحفظ والتدبر والاتعاظ، لما اشتمل عليه من أنواع المواعظ والعبر {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي فهل من متعظٍ بمواعظه، معتبرٍ بقصصه وزواجره؟ مقال الخازن: وفيه الحث على تعليم القرآن والاشتغال به، لأنه قد يسره الله وسهله على من يشاء من عباده، بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير، والعربي والعجمي قال سعيد بن جبير: يرسناه للحفظ والقراءة، وليس شيء من كُتب الله تعالى يُقرأ كلُّه ظاهراً إلا القرآن، وبالجملة فقد جعل الله القرآن مهيئاً ومسهلاً لمن أراد حفظه وفهمه أو الاتعاظ به، فهو رأس سعادة الدنيا والآخرة {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي كذبت عادٌ رسولهم هوداً فكيف كان إنذاري لهم بالعذاب؟ ثم شرع في بيان ما حلَّ بهم من العذاب الفظيع المدمر فقال {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} أي أرسلنا عليهم ريحاً عاصفة باردة شديدة الهبوب والصوت قال ابن عباس: الصرصر: الشديدة البرد وقال السدي: الشديدة الصوت {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} أي في يومٍ مشئوم دائم الشؤم، استمر عليهم بشؤمه فلم يبق منهم أحدٌ إِلا هلك فيه قال ابن كثير: استمر عليهم نحسه ودماره، لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي {تَنزِعُ الناس} أي تقلع الريح القوم ثم ترمي بهم على رؤسهم فتدقُّ رقابهم وتتركهم {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} أي كأنهم أُصول نخلٍ قد انقلعت من مغارسها وسقطت على الأرض، شبهوا بالنخل لطولهم وضخامة أجسامهم فتبقى أجسامهم بلا رءوس كعجز النخلة الملقاة على الأرض {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} تهويلٌ لما حلَّ بهم من العذاب وتعجبٌ من أمره أي كيف كان عذابي وإِنذاري لهم؟ ألم يكن هائلاً فظيعاً؟ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} ؟ كرره للتنبيه على فضل الله على المؤمنين بتيسير حفظ القرآن أي ولقد سهلنا القرآن للحفظ والفهم، فهل من متعظٍ ومعتبر بزواجر القرآن؟ ثم أخبر تعالى عن قوم ثمود المكذبين لرسولهم صالح عليه السلام فقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر} أي كذبت ثمود بالإِنذارات والمواعظ التي أنذرهم بها نبيهم صالح {فقالوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ} أي أنتَّبع إِنساناً مثلنا من آحاد الناس، ليس من الأشراف ولا العظماء، ونحن جماعة كثيرون؟ قال في البحر: قالوا ذلك حسداً منهم واستبعاداً أن يكون نوع البشر بفضل بعضُه بعضاً هذا الفصل، فقالوا: أنكون جمعاً ونتبع واحداً منا؟ ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ويفيض نور الهدى على من رضيه {إِنَّآ إِذاً لَّفِي
ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} أي إنا إِذا ابتعناه لفي خطأ وذهابٍ عن الحقِّ واضح، وجنون دائم قال ابن عباس: سُعُر أي جنون من قولهم ناقة مسعورة كأنها من شدة نشاطها مجنونة {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} استفهام إِنكاري أي هل خصَّ بالوحي والرسالة وحده دوننا، وفينا من هو أكثر منه مالاً وأحسن حالاً؟ قال الإِمام الفخر: وفي الآية إِشارة إلى ما كانوا ينكرونه بطريق المبالغة، وذلك لأن الإِلقاء إِنزالٌ بسرعة، فكأنهم قالوا: الملك جسيم والسماء بعيدة فكيف ينزل عليه الوحي في لحظة؟ وقولهم «عليه» إنكارٌ آخر كأنهم قالوا: ما أُلقي عليه ذكرٌ أصلاً، وعلى فرض نزوله فلا يكون عليه من بيننا وفينا من هو فوقه في الشرف والذكاء؟ وقولهم {أَأُلْقِيَ} بدلاً من قولهم «أألقى الله» إشارة إِلى أن الإِلقاء من السماء غير ممكن فضلاً عن أن يكون من الله تعالى {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي بل هو كاذب في دعوى النبوة، متجاوز في حد الكذب، متكبرٌ بطِرٌ يريد العلو علينا، وإِنما وصفوه بأنه {أَشِرٌ} مبالغة منهم في رفض دعواه كأ، هم قالوا نه كذب لا لضرورةٍ وحاجةٍ إلى الخلاص كما يكذب الضعيف، وإنما تكبَّر وبطر وطلب الرياسة عليكم وأراد أن تتبعوه فكذب على الله، فلا يلتفت إِلى كلامه لأنه جمع بين رذيلتين: الكذب والتكبر، وكلٌّ منهما مانع من اتباعه، قال تعالى تهديداً لهم وردّاً لبهتانهم {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر} أي سيعلمون في الآخرة من هو الكذَّاب الأشر، هل هو صالح عليه السلام أم قومه المكذبون المجرمون؟ قال الألوسي: المراد سيعلمون أنهم هم الكذابون الأشرون، لكنْ أورد ذلك مورد الإِبهام إيماءً إِلى أنه مما لا يكاد يخفى {إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً لَّهُمْ} أي مخرجوا الناقة من الصخرة الصماء محنة لهم واختباراً كما شاءوا وطلبوا قال ابن كثيكر: أخرج الله لهم ناقة عظيمة عشراء، من صخرة صماء طبق ما سألوا لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه السلام فيما جاءهم به {فارتقبهم واصطبر} أي فانتظرهم وتبصَّرْ ما يصنعون وما يُصنع بهم، واصبر على أذاهم فإِن الله ناصرك عليهم {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ المآء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} أي وأعلِمْهم أنَّ الماء الذي يمرُّ بواديهم مقسومٌ بين ثمود وبين الناقة كقوله تعالى
{لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155] قال ابن عباس: إِذا كان يوم شربهم لا تشرب الناقةُ شيئاً من الماء وتسقيهم لبناً وكانوا في نعيم، وإِذا كان يوم الناقة شربت الماءك له فلم تُبق لهم شيئاً، وإنما قال تعالى {بَيْنَهُمْ} تغليباً للعقلاء {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} أي كل نصيب وحصة من الماء يحضرها من كانت نوبته، فإِذا كان يوم الناقة حضرت القوم شربها، وإِذا كان يومهم حضروا شربهم {فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ} أي فنادت قبيلة ثمود أشقى القوم واسمه «قدار بن سالف» لقتل الناقة فتناول الناقة بسيفه فقتلها غير مكترث بالأمر العظيم {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي فكيف كان عقابي وإِنذاري لهم؟ ألم يكن فظيعاً شديداً؟! {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} أي أهلكناهم بصيحة واحدة صاح بها جريل عليه السلام فلم تبق منه عين تطْرف {فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} أي فصاروا هشيماً متفتتاً كيابس الشجر إِذا بلى وتحطَّم وداسته الأقدام قال الإِمام الجلال: المحتظر هو الذي يجعل لغنمه حظيرةً من
يابس الشجر والشوك يحفظهن فيها من الذئاب والسباع، وما سقط من ذلك فداسته فهو الهشيم {وَلَقَد يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي يسرناه للحفظ والاتعاظ فه من معتبر؟
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى المكذبين من قوم «عاد وثمود» ذكر هنا قوم لوط وقوم فرعون وما حل بهم من العذاب والدمار، تذكيراً لكفار مكة بانتقام الله من أعدائه وأعداء رسله، وختم السورة الكريمة ببيان سنة الله في عقاب الكفرة المجرمين.
اللغَة: {حَاصِباً} الحاصب: الحجارة وقيل: هي الريح الشديد التي تثير الحصباء وهي الحصى {بَطْشاً} عقابنا الشديد {الزبر} الكتب السماوية جمع زبور وهو الكتاب الإِلهي {أدهى} أفطع من الداهية وهي الأمر المنكر العظيم {سُعُرٍ} خسرانٍ وجنون {سَقَرَ} اسم من أسماء جهنم أعاذنا الله منها.
سَبَبُ النّزول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء مشركموا قريشٍ يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في القدر فنزلت {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} .
التفسِير: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر} أي كذبوا بالإِنذارات التي أنذرهم بها نبيهم لوط عليه السلام {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً} أي أرسلنا عليهم حجارة قذفوا بها من السماء قال ابن كثير: أمر تعالى جبريل فحمل مدائنهم حتى وصل بها إِلى عنان السماء، ثم قلبها عليهم وأرسلها وأُتبعت بحجارةٍ من سجيلٍ منضود، والحاصب هي الحجارة {إِلَاّ آلَ لُوطٍ} أي غير لوطٍ وأتباعه المؤمنين {نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} أي نجيناهم من الهلاك قُبيل الصبح وقت السَّحر {نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا} أي إِنعاماً منَّا
عليهم نجيناهم من العذاب {كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ} أي مثل ذلك الجزاء الكريم، نجزي من شكر نعمتنا بالإِيمان والطاعة {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} أي ولقد خوفهم لوط عقوبتنا الشديدة، وانتقامنا منهم بالعذاب {فَتَمَارَوْاْ بالنذر} أي فتشككوا وكذبوا بالإِنذار والوعيد {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} أي طلبوا منه أن يسلّم لهم أضيافه وهم الملائكة ليفجروا بهم بطريق اللواطة {فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ} أي أعمينا أعينهم وأزلنا أثرها حتى فقدوا أبصارهم قال المفسرون: لما جاءت الملائكة إلى لوط في صورة شبابٍ مردٍ حسان، أضافهم لوط عليه السلام، فجاء قومه يُهرعونن إِليه لقصد الفاحشة بهم، فأعلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب، فخرج عليهم جبريل فضرب أعينهم بطرف جناحه فانطمست أعينهم وعموا {فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي فذوقوا عذابي وإِنذاري الذي أنذركم به لوط {وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} أي جاءهم وقت الصبح عذابٌ دائم متصل بعذاب الآخرة قال الصاوي: وذلك أن جبريل قلع بلادهم فرفعها ثم قلبها بهم وأمطر عليهم حجارة من سجيل، واتصل عذاب الدنيا بعذاب الآخرة فلا يزول عنهم حتى يصلوا إِلى النار {فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي فذوقوا أيها المجرمون عذابي الأليم، وإِنذاري لكم على لسان رسولي {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ} أي ولقد يسرنا القرآن للحفظ والتدبير فهل من متعظٍ ومعتبر؟ قال المفسرون: حكمة تكرار ذلك في كل قصة، التنبيهُ على الاتعاض والتدبير في أنباء الغابرين، وللإِشارة إِلى أن تكذيب كل رسولٍ مقتضٍ لنزول العذاب كما كرر قوله
{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] تقريراً للنعم المختلفة المعدودة، فكلما ذكر نعمةً وبَّخ على التكذيب بها {وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر} أي جاء فرعون وقومه الإِنذارات المتكررة فلم يعتبروا قال أبو السعود: صُدّرت قصتهم بالقسم المؤكد لإِبراز كمال الاعتناء بشأنها، لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها، وهو ما لاقوه من العذاب، وفرعون رأس الطغيان {كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا} أي كذَّبوا بالمعجزات التسع التي أعطيها موسى {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} أي فانتقمنا منهم بإِغراقهم في البحر، وأخذناهم بالعذاب أخذ إِلهٍ غالب في انتقامه، قادرٍ على إِهلاكهم لا يعجزه شيء. . ثم خوَّف تعالى كفار مكة فقال {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} ؟ الاستفهام إِنكاري للتقريع والتوبيخ أي أكفاركم يا معشر العرب خيرٌ من أولئكم الكفار الذين أحللت بهم نقمتي مثل قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم فرعون، حتَّى لا أعذبهم؟ قال القرطبي: استفهام إنكار ومعناه النفي أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم {أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزبر} أي أم لكم يا كفار قريش براءة من العذاب في الكتب السماوية المنزلة على
الأنبياء؟ {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} أي بل أيقولون نحن جمعٌ كثير، واثقون بكثرتنا وقوتنا، منتصرون على محمد؟ قال تعالى رداً عليهم {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} أي سيهزم جمع المشركين ويولون الأدبار منهزمين قال ابن الجوزي: وهذا مما أخبر الله به نبيه من علم الغيب، فكات الهزيمةُ يوم بدر {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} أي ليس هذا تمام عقابهم بل القيامة موعد عذابهم {والساعة أدهى وَأَمَرُّ} أي أعظم داهيةً وأشدُّ مرارةً من القتل والأسر {إِنَّ المجرمين فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} أي إِن المجرمين في حيرةٍ وتخبطٍ في الدنيا، وفي نيرانٍ مسعَّةر في الآخرة قال ابن عباس: في خسرانٍ وجنون {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} أي يوم يُجرُّون في النار على وجوههم عقاباً وإِذلالاً لهم {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} أي يقال لهم: ذوقوا أيها المكذبون عذاب جهنم قال أبو السعود: وسقر علمٌ لجهنم ولذلك لم يُصرف {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي إِنا خلقنا كل شيءٍ مقدَّراً مكتوباً في اللوح المحفوظ من الأزل {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلَاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} أي وما شأننا في الخلق والإِيجاد إِلا مرة واحدة كلمح البصر في السرعة نقول للشيء: كن فيكون قال ابن كثير: أي إِنما نأمر بالشيء مرة واحدة لا نحتاج إِلى تأكيد بثانية، فيكون ذلك موجوداً كلمح البصر لا يتأخر طرفة عين {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ} أي ووالله لقد أهلكنا أشباهكم ونظراءكم في الكفر والضلال من الأمم السالفة {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي فهل من يتذكر ويتعظ؟ {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر} أي وجميع ما فعلته الامم المكذبة من خير وشر مكتوب عليهم، مسجل في كتب الحفظة التي بأيدي الملائكة قال ابن زيد:{فِي الزبر} أي في دواوين الحفظة {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} أي وكل صغيرٍ وكبير من الأعمال مسطورٌ في اللوح المحفوظ، مثبتٌ فيه {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} أي في جنات وأنهار قال القرطبي: يعني أنهار الماء، والخمر، والعسل، واللبن {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} أي في مكانٍ مرضي، ومقام حسن {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} أي عند ربٍ عظيم جليل، قادرٍ في ملكه وسلطانه، لا يعجزه شيء، وهو الله رب العالمين.
البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الاستعارة التمثيلية {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء} [القمر: 11] شبه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء، وانشق بها أديم الخضراء بطريق الاستعارة التمثيلية.
2 -
جناس الاشتقاق {يَدْعُ الداع} .
3 -
الكناية {وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13] كناية عن السفينة التي تحوي الأخشاب والمسامير.
4 -
التشبيه المرسل والمجمل {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] ومثله {فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} [القمر: 31] .
5 -
صيغة المبالغة {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر: 25] أي كثير الكذب عظيم البطر لأن فعَّال وفعل للمبالغة.
6 -
الإطناب بتكرار اللفظ {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى} لزيادة التخويف والتهويل.
7 -
المقابلة بين المجرمين والمتقين {إِنَّ المجرمين فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} و {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} .
8 -
الطباق بين {صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} .
9 -
السجع المرصَّع غير المتكلف الذي يزيد في جمال اللفظ وموسيقاه إقرأ مثلاً قوله تعالى {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلَاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} الخ.
اللغَة: {بِحُسْبَانٍ} الحُسبان بضم الحاء مصدر مثل الغُفران والكُفران ومعناه الحساب {الأَنَامِ} الخلق وكلُّ ما دبَّ على وجه الأرض {العصف} ورق الزرع الأخضر إِذا يبس {الريحان} كل نبات طيب الريح، سمي ريحاناً لرائحته الطيبة {مَّارِجٍ} المارج: اللهب الذي يعلو النار قال الليث: هو الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد {الجوار} جمع جارية وهي السفينة سميت جارية لأنها تمشي
على سطح الماء {الأعلام} الجبال جمع علم وهو الجبل الطويل قال الشاعر: «إِذا قطعن علماً بدا علمٌ» {تَنفُذُواْ} النفوذ: الخروج من الشي بسرعة {شُوَاظٌ} : اللهب الذي لا دخان له {الدهان} الجلد الأحمر {آنٍ} نهاية في الحرارة.
التفسِير: {الرحمن عَلَّمَ القرآن} أي الله الرحمنُ علَّم القرآن، ويسَّره للحفظ والفهم قال مقاتل: لما نزل قوله تعالى {اسجدوا للرحمن} [الفرقان: 60] قال كفار مكة، وما الرحمن؟ فأنكروه وقالوا لا نعرف الرحمن فقال تعالى {الرحمن} الذين أنكروه هو الذي {عَلَّمَ القرآن} وقال الخازن: إن الله عز وجل عدَّد نعمه على عباده، فقدَّم أعظمها نعمة، وأعلاها رتبة، وهو القرآن العزيز لأنه أعظم وحي الله إلى أنبيائه، وأشرفه منزلة عند أوليائه وأصفيائه، وأكثره ذكراً، وأحسنه في أبواب الدين أثراً، وهو سنام الكتب السماوية المنزَّلة على أفضل البرية {خَلَقَ الإنسان} أي خلق الإِنسان السميع البصير الناطق، والمرادُ بالإِنسان الجنسُ {عَلَّمَهُ البيان} أي ألهمه النطق الذي يستطيع به أن يُبين عن مقاصده ورغباته ويتميَّز به عن سائر الحيوان قال البيضاوي: والمقصودُ تعداد ما أنعم الله به على الإِنسان، حثاً على شكره، وتنبيهاً على تقصيرهم فيه، وإنما قدَّم تعليم القرآن على خلق الإِنسان، لأنه أصل النعم الدينية فقدَّم الأهم {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} أي الشمس والقمر يجريان بحساب معلوم في بروجهما، وبتنقلان في منازلهما لمصالح العباد قال ابن كثير: أي يجريان متعاقبين بحساب مقنَّن لا يختلف ولا يضطرب {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} أي والسماء خلقها عالية محكمة البناء رفيعة القدر والشأن، وأمر بالميزان عند الأخذ والإِعطاء لينال الإِنسان حقه وافياً {أَلَاّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} أي لئلا تبخسوا في الميزان {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} أي اجعلا الوزن مستقيماً بالعدل والإِنصاف {وَلَا تُخْسِرُواْ الميزان} أي لا تطففوا الوزن ولا تُنقصوه كقوله تعالى {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} أي والأرض بسطها لأجل الخلق، ليستقروا عليها، وينتفعوا بما خلق الله على ظهرها قال ابن كثير: أي أرساها بالجبال الشامخات لتستقر بما على وجهها من الأنام وهم الخلائق، المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم في سائر أرجائها {فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي فيها من أنواع الفواكه المختلفة الألوان والطعوم والروائح {والنخل ذَاتُ الأكمام} أي وفيها النخل التي يطلع فيها أوعية الثمر قال ابن كثير: أفرد النخل بالذكر لشرفه ونفعه رطباً ويابساً، والأكمام هي أعية الطلع كما قال ابن عباس، وهو الذي يطلع فيه القنو، ثم ينشق عنه العنقود فيكون بُسراً ثم رُطباً، ثم ينضج ويتناهى ينعه واستواؤه {
والحب ذُو العصف} أي والنجمُ والشجر ينقادان للرحمن فيما يريده منهما، هذا بالتنقل بالبروج، وذاك بإخراج الثمار {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} أي وفيها أنواع الحب كالحنطة والشعير وسائر ما يُتغذى به، ذو التبن الذي هو غذاء الحيوان {والريحان} أي وفيها كل مشموم طيب الريح من النبات كالورد، والفُلْ، والياسمين وما شاكلها قال في البحر: ذكر تعالى الفاكهة أولاً ونكَّر لفظها لأن الانتفاع بها نفسها، ثم ثنَّى بالنخل فذكر الأصل ولم يذكر ثمرها وهو التمر، لكثرة الانتفاع بها من ليفٍ، وسعف، وجريدٍ، وجذوع، وجُمَّار، وثمر، ثم ذكر الحب الذي هو قوام عيش الإِنسان وهو البشر والشعير وكل ما له سنبل وأوراق، ووصفه بقوله {ذُو العصف} تنبيهاً على إنعامه عليهم بما يقوتهم به من الحب، وما يقوت بهائمهم من ورقه وهو التبنُ، وبدأ بالفاكهة وختم بالمشموم ليحصل ما به يُتفكه، وما به يُتقوَّت، وما به تقع اللذاذة من الرائحة الطيبة، ولما عدَّد نعمه خاطب الإِنس والجن بقوله {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله يا معشر الإِنس والجن تكذبان؟ أليست نعم الله علكيم كثيرة لا تُحصى؟ عن ابن عمر
«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قرأ سورة الرحمن على أصحابه فسكتوا، فقال: مالي أسمع الجنَّ أحسن جواباً لربها منكم؟ ما أتيتُ على قول الله تعالى {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا قالوا: لا بشيءْ من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد» . ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار} أي خلق أباكم آدم من طين يابسٍ يسمع له صلصلة أي صوتٌ إِذا نُقر قال المفسرون: ذكر تعالى في هذه السورة أنه خلق آدم {مِن صَلْصَالٍ كالفخار} وفي سورة الحجر {مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26] أي من طين أسود متغير، وفي الصافات {مِّن طِينٍ لَاّزِبٍ} [الصافات: 11] أي يلتصق باليد، وفي آل عمران {كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] ولا تنافي بينهما، وذلك لأن الله تعالى أخذه من تراب الأرض، فعجنه بالماء فصار طيناً لازباً أي متلاصقاً يلصق باليد، ثم تركه حتى صار حمأً مسنوناً أي طيناً أسود منتناً، ثم صوَّره كما تُصوَّر الأواني ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة كالفخار إِذا نُقر صوَّت، فالمذكور ههنا آخر الأطوار {وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} أي وخلق الجنَّ من لهبٍ خالصً لا دخان فيه من لنار قال ابن عباس:{مِن مَّارِجٍ} أي لهبٍ خالص لا دخال فيه وقال مجاهد: هو اللهب المختلط بسواد النار، وفي الحديث
«خُلقت الملائكة من نور، وخُلق الجان من مارجٍ من نار، وخُلق آدم مما وُصف لكم» {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله يا مشعر الإِنس والجن تكذبان؟ قال أبو حيان: والتكرار في هذه الفواصل للتأكيد والتنبيه والتحريك، وقال ابن قتيبة: إن هذا التكرار إِنما هو لاختلاف النعم، فكلما ذكر نعمةً كرر قوله {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقد ذُكرت هذه الآية إِحدى وثلاثين مرة، والاستفهام فيها للتقريع والتوبيخ {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} أي هو جل وعلا ربُّ مشرق الشمس والقمر، وربُّ مغربهما، ولمّا ذكر الشمس والقمر في قوله {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} ذكر هنا أنه رب مشرقهما ومغربهما {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي
نعم الله التي لا تحصى تكذبان؟ {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ} أي أرسل البحر الملح والبحر العذب يتجاوران يلتقيان ولا يمتزجان {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَاّ يَبْغِيَانِ} أي بينهما حاجزٌ من قدرة الله تعالى لا يطغى أحدهما على الآخر بالممازجة قال ابن كثير: والمراد بالبحرين: الملح والحلو، فالملح هذه البحار، والحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس، وجعل الله بينهما برزخاً وهو الحاجز من الأرض لئلا يبغي هذا على هذا فيفسد كل واحد منهما الآخر {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله تكذبان؟ {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} أي يُخرج لكم من الماء اللؤلؤ والمرجان، كما يخرج من التراب الحب والعصف والريحان، قال الألوسي: واللؤلؤ صغار الدُر، والمرجان كباره قاله ابن عباس، وعن ابن مسعود أن المرجان الخرز الأحمر، والآية بيانٌ لعاجئب صنع الله حيث يخرج من الماء الملح أنواع الحلية كالدر والياقوت والمرجان، فسبحان الواحد المنَّان {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعمة من نعم الله تكذبان؟ {وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام} أي وله جل وعلا السفن المرفوعات الجارياتُ في البحر كالجبال في العظم والضخامة قال القرطبي:{كالأعلام} أي كالجبال، والعلمُ الجبل الطويل، فالسفن في البحر كالجبال في البر، ووج الامتنان بها أن الله تعالى سيَّر هذه السفن الضخمة التي تشبه الجبال على وجه الماء، وهو جسم لطيف مائع يحمل فوقه هذه السفن الكبار المحمَّلة بالأرزاق والمكاسب والمتاجر من قطر إلى قطر، ومن إقليم إِلى إقليم قال شيخ زاده: واعلم أن أصول الأشياء أربعة: الترابُ، والماءُ والهواءُ، والنارُ، فبيَّن تعالى بقوله {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ} أن التراب أصلٌ لمخلوق شريف مكرَّم، وبيَّن قوله {وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} أن النار أيضاً أصلٌ لمخلوق آخر عجيب الشأن، وبيَّن بقوله {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} أن الماء أيضاً أصل لمخلوق له قدرٌ وقيمة، ثم ذكر أن الهواء له تأثير عظيم في جري السفن المشابهة للجبال فقال {وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام} وخصَّ السفن بالذكر لأن جريها في البحر لا صنع للبشر فيه، هم معترفون بذلك حيث يقولون:«لك الفُلك ولك المُلك» وإِذا خافوا الغرق دعوا الله تعالى خاصة
{مُخْلِصِينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تكذبان؟ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} أي كل من على وجه الأرض من الإِنان والحيوان هالك وسيموت {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} أي ويبقى ذات الله والواحد الأحد، ذو العظمة والكبرياء والإِنعام والإِكرام كقوله {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] قال ابن عباس: الوجهُ عبارة عن الله جل وعلا الباقي الدائم قال القرطبي: ووجه النعمة في فناء الخلق التسويةُ بينهم في الموت ومع الموت تستوي الأقدام، والموتُ سبب النقلة من دار الفناء إِلى دار الثواب والجزاء {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تكذبان {يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات والأرض} أي يفتقر إِليه تعالى كمن السموات والأرض، ويطلبون منه العون والرزق بلسان المقال أو بلسان الحال {كُلَّ
يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} أي كل ساعة ولحظة هو تعالى في شأن من شئون الخلق، يغفر ذنباً، ويفرّج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين قال المفسرون: هي شئونٌ يُبديها ولا يبتديها أي يظهرها للخلق ولا ينشئها من جديد لأن القلم جفَّ على ما كان وما سيكون إِلى يوم القيامة، فهو تعالى يرفع من يشاء ويضع من يشاء، ويشفي سقيماً ويمرض سليماً، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً، ويفقر غيباً ويغني فقيراً قال مقاتل: إن الآية نزلت في اليهود قالوا: إن الله تعالى لا يقضي يوم السبت شيئاً، فردَّ الله عليهم بذلك {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان أيها الإِنس والجان؟ {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} أي سنحاسبكم على أعمالكم يا معشر الإِنس والجنِّ قال ابن عباس: هذا وعيدٌ من الله تعالى للعباد، وليس بالله تعالى شغل وهو فارغ قال في البحر: أي ننظر في أموركم يوم القيامة، لا أنه تعالى كان له شغل فيفرغ فيه، وجرى هذا على كلام العرب يقول الرجل لمن يتهدده: سأفرغ لك أي سأتجرد للانتقام منك من كل ما شغلني وقال البيضاوي: أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة، وفيه تهديد مستعارٌ من قولك لمن تهدده: سأفرغ لك، فإن المتجرد للشيء يكون أقوى عليه، وأجدَّ فيه، والثقلان: الإِنسُ والجنُّ سميا بذلك لثقلهما على الأرض {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا} أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السمواتِ والأرض هاربين من الله، فارين من قضائه فأخرجوا منها، وخلصوا أنفسكم من عقابه، والأمر للتعجيز {لَا تَنفُذُونَ إِلَاّ بِسُلْطَانٍ} أي لا تقدرون على الخروج إِلا بقوةٍ وقهر وغلبة، وأنَّى لكم ذلك؟ قال ابن كثير: معنى الآية أنكم لا تستطيعون هرباً من أمر الله وقدره، بل هو محيطٌ بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام الحشر حيث الملائكة محدقةٌ بالخلائق سبع صوف من كل جانب، فلا يقدر أحد على الذهاب إِلا بسلطان أي إِلا بأمر الله وإِرادته
{يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر} [القيامة: 10] ؟ وهذا إِنما يكون في القيامة لا في الدنيا بدليل قوله تعالى بعده {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ؟ تقدم تفسيره {يُرْسَلُ
عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} أي يرسل عليكما يوم القيامة لهب النار الحامية {وَنُحَاسٌ} أي ونحاسٌ مذاب يصبُّ فوق رءوسكم قال مجاهد: مجاهد هو الصفر المعروف يصب على رءوسهم يوم القيامة وقال ابن عباس: {نحاسٌ} هو الدخان الذي لا لهب فيه، وقول مجاهد أظهر {فَلَا تَنتَصِرَانِ} أي فلا ينصر بعضكم بعضاً، ولا يخلصه من عذاب الله قال ابن كثير: ومعنى الآية لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكةُ وزبانية جهنم، بإِرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا فلا تجدون لكم ناصراً {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فَإِذَا انشقت السمآء} أي فإِذا انصدعت يوم القيامة لتنزل الملائكة منها لتحيط بالخلائق من كل جانب {فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان} أي فكانت مثل الورد الأحمر من حرارة النار، ومثل الأديم الأحمر أي الجلد الأحمر قاله ابن عباس: وذلك من شدة الهول، ومن رهبة ذلك اليوم العظيم {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَآنٌّ} أي ففي ذلك اليوم الرهيب يوم تنشق السماء، لا يُسأل أحد من المذنبين من الإِنس والجن عن ذنبه، لأن للمذنب علامات تدل على ذنبه كاسوداد الوجوه، وزرقة العيون قال الإِمام الفخر: لا يُسأل أحد عن ذنبه فلا يقال له: أنتَ المذنب أو غيرك؟ ولا يقال: من المذنب منكم؟ بل يعرفون بسواد وجوههم وغيره {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} أي يُعرف يوم القيامة أهل الإِجرام بعلامات تظهر عليهم وهي ما تغشاهم من الكآبة والحزن قال الحسن: سواد الوجه وزرقة الأعين كقوله تعالى {وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} [طه: 102] وقوله {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]{فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} أي فتأخذ الملائكة بنواصيهم أي بشعور مقدم رءوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في جهنم قال ابن عباس: يُؤخذ بناصية المجرم وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب ثم يلقى في النار {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذِّبُ بِهَا المجرمون} أي يقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: هذه النار التي أخبرتم بها فكذبتم قال ابن كثير: أي هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها، ها هي حاضرةٌ تشاهدونها عياناً {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} أي يترددون بين نار جهنم وبين ماءٍ حار بلغ النهاية في الحرارة قال قتادة: يطوفون مرةً بين الحميم، ومرة بين الجحيم، والجحيم النارُ، والحميم الشارب الذي انتهى حره {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الإنس والجان؟
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أحوال أهل ال نار، ذكر ما أعدَّه للمؤمنين من الأبرار من الجنان والولدان والحور الحسان، ليتميز الفارق الهائل بين منازل المجرمين ومراتب المتقين، على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب.
اللغَة: {أَفْنَانٍ} جمع فنن وهو الغضن قال الشاعر يصف حمامة:
ربَّ ورقاءَ هتوفٍ في الضُحى
…
ذاتِ شدوٍ صدحَت في فنن
ذكر إِلفاً ودهراً حالياً
…
فبكت شوقاً فهاجت حزني
{وَإِسْتَبْرَقٍ} ما غلظ من الديباج وخشُن {وَجَنَى} الجنى: ما يُحجتنى من الشجر ويقطف {يَطْمِثْهُنَّ} الطمثُ: الجماع المؤدي إِلى خروج دم البكر ثم أطلق على كل جماع، ومعنى {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} أي لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن أحد قال الفراء: الطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية {مُدْهَآمَّتَانِ} سوداوان من شدة الخضرة، والدهمةُ في اللغة السواد {نَضَّاخَتَانِ} فوارتان بالماء لا تنقطعان {عَبْقَرِيٍّ} طنافس جمع عبقرية أي طنفسة ثخينة فيها أنواع النقوش قال الفراس: العبقري الطنافس الثخان منها وقال أبو عبيد: كل ثوبٍ وشي عند العرب فهو عبقري منسوب إِلى أرضٍ يعمل فيها الوشي قال ذو الرمة:
حتى كأن رياض القف ألبسها
…
من وشي عبقر تجليل وتنجيد
التفسِير: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} أي وللعبد الذي يخاف قيامه بين يدي ربه للحساب جنتان: جنةٌ لسكنه، وجنةٌ لأزواجه وخدهة، كما هي حال ملوك الدنيا حيث يكون له قصرٌ ولأزواجه قصر قال القرطبي: وإِنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من وجهة إِلى جهة وقال
الزمخشري: جنة الفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي وفي الحديث «جنتان من قضة آنيتُهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إِلى ربهم عز وجل إِلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ثم وصف تعالى الجنتين فقال {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} أي ذواتا أغصان متفرعة وثمار متنوعة قال في البحر: وخصَّ الأفنان وهي الغصون بالذكر لأنهما لا تورق وتمثر، ومنها تمتد الظلال وتُجنى المثار {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذكبان يا معشر الإِنس والجن {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} أي في كل واحدة من الجنتين عين جارية، تجري بالماء الزلال كقوله تعالى {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية: 12] قال ابن كثير: أي تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان، فتثمر من جميع الألوان قال الحسن: تجريان بالماء الزلال إِحداهما التسنيم، والأخرى السلسبيل {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} أي فيهما من جميع أنواع الفواكه والثمار صنفان: معروفٌ، وغريب لم يعرفوه في الدنيا قال ابن عباس: ما في الدنيا ثمرةٌ حلوة ولا مرة إِلا وهي في الجنة حتى الحنظل، إِلا أنه حلو، وليس في الدنا مما في الآخرة إلآَ الأسماء {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره قال الفخر الرازي: إِن قوله تعالى {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} و {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} و {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} كلها أوصافٌ للجنتين المذكورتين، وإنما فصل بين الأغصان والفواكه بذكر العينين الجاريتين على عادة المتنعمين، فإِنهم إِذا دخلوا البستان لا يبادرون إِلى أكل الثمار، بل يقدمون التفرج على الأكل، مع أن الإِنسان في بستان الدنيا لا يأكل حتى يجوع ويشتهي شهوة شديدة فكيف في الجنة!! فذكر تعالى ما يتم به النزة وهو خضرة الأشجار، وجريان الأنهار، ثم ذكر ما يكون بعد النزهة وهو أكل الثمار، فسبحان من يأتي بالآيات بأحسن المعاني في أبين المباني {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} أي مضطجعين في جنان الخلد على فرشٍ وثيرة بطائنها من ديباج وهو الحرير السميك المزين بالذهب، وهذا يدل على نهاية شرفها لأن البطانة إِذا كانت بها الوصف فما بالك بالظهارة؟ قال ابن مسعود: هذه البطائن فيكف لو رأيتم الظواهر؟ وقال ابن عباس: لما سئل عن الآية: ذلك مما قال الله تعالى
{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]{وَجَنَى الجنتين دَانٍ} أي ثمرها قريب يناله القاعد والقائم والنائم، بخلاف ثمار الدنيا فإِنها لا تنال إِلا بكدٍ وتعب قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجتنيها وليُ الله إِن شاء قائماً، وإِن شاء قاعداً، وإِن شاء مضطجعاً {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف} أي في تلك الجنان نساء قاصرات الطرف قصرن أعينهن على أزواجهن فلا يرين غيرهم، م كما هو حال المخدَّرات العفائف {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَآنٌّ} أي لم يمسهنَّ ولم يجامعهن أحدٌ قبل أزواجهنَّ لا من الإِنس ولا من الجن، بل هنَّ أبكار عذارى قال الألوسي: وأصلُ الطمث خروج الدم ولذلك يقال للحيض طمثٌ، ثم أُطلق على جماع الأبكار لما فيه من خروج الدم، ثم على كل جماع وإِن لم يكن فيه خروج دم {فَبِأَيِّ
آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا معشر الإِنس والجن {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} أي كأنهن يشبهن الياقوت والمرجان في صفائهن وحمرتهن قال قتادة: كأنهن في صفاء الياقوت وحمرة المرجان، لو أدخلت في الياقوت سلكاً ثم نظرت إِليه لرأيته من ورائه وفي الحديث «إن المرأة من نساء أهل الجنة ليُرى بياض ساقها من وراء سبيعن حلة من حرير، حتى يُرى مخُّها» {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلَاّ الإحسان} أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إِلا أن يُحسن إِليه في الآخرة قال أبو السعود: أي ما جزاء الإِحسان في العمل، إِلا الإِحسان في الثواب والغرضُ أنَّ من قدم المعروف والإِحسان استحق الإِنعام والإِكرام {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} أي ومن دون تلك الجنتين في الفضيلة والقدر جنتان أخريان قال المفسرون: الجنتان الأوليان للسابقين، والأخريان لأصحاب اليمين ولا شك أن مقام السابقين أعظم وأرفع لقوله تعالى
{فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون} [الواقعة: 811]{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا معشر الإِنس والجن؟ {مُدْهَآمَّتَانِ} أي سوداوان من شدة الخضرة والريّ قال الألوسي: والمراد أنها شديدتا الخضرة، والخضرةُ إِذا اشتدت ضربت إِلى السواد وذلك من كثرة الريّ بالماء {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} أي فوارتان بالماء لا تنقطعان وقال ابن مسعود وابن عباس: تنْضَخُ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كزخ المطر {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} أي في الجنتين من أنواع الفواكه كلها وأنواع النخل والرمان، وإِنما ذكر النخل والرمان تنبيهاً على فضلهما وشرفهما على سائر الفواكه ولأنهما غالب فاكهة العرب قال الألوسي: ثم إِن نخل الجنة ورمانها وراء ما نعرفه {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} أي في تلك الجنان نساء صالحات كريمات الأخلاق، حِسان الوجوه {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام} أي هنَّ الحورُ العين المخدرات المستورات لا يخرجن لكرامتهن وشرفهن، قد قصرن في خدورهن في خيام اللؤلؤ المجوَّف، قال أبو حيان: والنساء تُمدح بذلك إِذ ملازمتهن البيوت تدل على صيانتهن قال الحسن: ليس بطوَّافات في الطرق، وخيامٌ الجنة بيوت اللؤلؤ، وفي الحديث «إنَّ في الجنة خيمةً من لؤلؤةٍ مجوفة، عرضها ستون ميلاً، في كل زوايةٍ منها أهلٌ ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمنون» {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَآنٌّ} أي لم يجامعهن ولم يغشهن أحد قبل أزواجهم لا من الإِنس ولا من الجن قال في التسهيل: الجنتان المذكورتان أولاً للسابقين، والجنتان المذكورتان ثانياً لأصحاب اليمين، وانظر
كيف جعل أوصاف الجنتين الأوليين أعلى من أوصاف الجنتين اللتين بعدهما، فقال هناك {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} وقال هنا {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} والجريُ أشدُّ من النضح، وقال هناك {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} وقال هنا {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} والأول أعم وأشمل، وقال في صفة الحور هناك {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} وقال هنا {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} وليس كل حُسْنٍ كحسن الياقوت والمرجان فالوصف هناك أبلغ، وقال هناك في وصف الفرش {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} وهو الديباج وقال هنا {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ} ولا شك أن الفرش المعدَّة للاتكاء أفضل من فضل الخباء {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا مشعر الإِنس والجن؟ {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ} أي مستندين على وسائد خضر من وسائد الجنة {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} أي وطنافس ثخينة مزخرفة، محلَاّة بأنواع الصور والزينة قال الصاوي: وهي نسبة إِلى «عبقر» قرية بناحية اليمن، يُنسج فيها بسط منقوشة بلغت النهاية في الحسن، فقرَّب الله لنا فرش الجنتين بتلك البسط المنقوشة {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تعالى تكذبان يا معشر الإِنس والجن {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ} أي تنزه وتقدَّس الله العظيم الجليل، وكثرت خيراته وفاضت بركاته {ذِي الجلال والإكرام} أي صاحب العظمة والكبرياء، والفضل والإِنعام قال في البحر: لما ختم تعالى نعم الدنيا بقوله
{ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27] ختم نعم الآخرة بقوله {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام} وناسب هناك ذكر البقاء والديمومة له تعالى بعد ذكر فناء العالم، وناسب هنا ذكر البركة وهي النماء والزيادة عقب امتنانه على المؤمنين في دار كرامته وما آتاهم من الخير والفضل في دار النعيم.
البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيا يلي:
1 -
المقابلة اللطيفة بين {والسمآء رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] وبين {والأرض وَضَعَهَا} [الرحمن: 10] وكذلك المقابلة بين {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار} [الرحمن: 14]{وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} [الرحمن: 15] .
2 -
التشبيه المرسل المجمل {وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام} [الرحمن: 24] أي الجبال في العظم.
3 -
المجاز المرسل {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] أي ذاته المقدسة وهو من باب إِطلاق الجزء وإِرادة الكل.
4 -
الاستعارة التمثيلية {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} [الرحمن: 31] شبَّه انتهاء الدنيا وما فيها من تدبير شئون
الخلق ومجيء الآخرة وبقاء شأن واحد وهو محاسبة الإِنس والجن بفراغ من يشغله أمور فتفرَّغ لأمرٍ واحد، والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن وإِنما هو على سبيل التمثيل.
5 -
الأمر التعجيزي {إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ. . فانفذوا} [الرحمن: 33] فالأمر هنا للتعجيز.
6 -
التشبيه البليغ {فَإِذَا انشقت السمآء فَكَانَتْ وَرْدَةً} [الرحمن: 37] أي كالوردة في الحمرة حذف وجه الشبه وأداة التشبيه فصار بليغاً.
7 -
الجناس الناقص {وَجَنَى الجنتين} لتغير الشكل والحروف، ويسمَّى جناس الاشتقاق.
8 -
الإِيجاز بحذف الموصوف وإِبقاء الصفة {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف} أي نساءٌ قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إِلى غيرهم.
9 -
السجع المرصَّع غير المتكلف كأنه حبات در منظومة في سلكٍ واحد إقرأ قوله تعالى {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 14] وأمثاله في السورة كثير.
فَائِدَة: تسمى سورة الرحمن «عروس القرآن» لما ورد «لكل شيء عروسٌ، وعروسُ القرآنِ سورةُ الرحمن» .
اللغَة: {رُجَّتِ} زلزلت وحرّكت تحريكاً شديداً {بُسَّتِ} فُتِّت حتى صارت كالدقيق المبسوس {هَبَآءً} الهباء ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة {ثُلَّةٌ} جماعة من ثللت الشيء أي قطعته قاله الزجاج فمعنى ثُلة كمعنى فرقة وزناً ومعنى {مَّوْضُونَةٍ} منسوجة محكمة النسج كأن بعضها أُدخل في بعض قال الأعشى:
ومن نسج داود موضونة
…
تُساق مع الحيّ عسيراً فعيراً
{يُصَدَّعُونَ} صُدع القوم الخمر لحقهم الصُداع في رءوسهم منها {يُنزِفُونَ} يسكرون فتذهب عقولهم {مَّخْضُودٍ} خُضد شوكه أي قُطع قال أمية بن أبي الصلت:
إن الحدائقَ في الجنان ظليلةٌ
…
فيها الكواعبُ سِدْرها مخْضود
{طَلْحٍ} الطلح: شجر الموز {مَّنضُودٍ} متراكب بضعه فوق بعض {عُرُباً} جمع عروب وهي
المتحببة إِلى زوجها {سَمُومٍ} ريح حارة تدخل في مسام البدن {يَحْمُومٍ} اليحموم الشديد السواد {الحميم} الماء المغلي {الهيم} الإِبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها.
التفسِير: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} أي إِذا قامت القيامة التي لا بد من وقوعها، وحدثت الداهية الطامة التي ينخلع لها قلب الإِنسان، كان من الأهوال ما لا يصفه الخيال قال البيضاوي: سميت واقعة لتحقق وقوعها وقال ابن عباس: الواقعة اسم من أسماء القيامة كالصاخة والآزفة والطامة، وهذه الأشياء تقتضي عظم شأنها {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي لا يكون عند وقوعها نفس كاذبة تكذِّب بوقوعها كحال المكذبين اليوم، لأن كل نفسٍ تؤمن حنيئذٍ لأنها ترى العذاب عياناً كقوله تعالى {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ} [غافر: 84] {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} أي هي خافضة لأقوام رافعةٌ لآخرين، تخفض أعداء الله في النار، وترفع أولياء الله في الجنة قال الحسن: تخفض أقواماً إِلى الجحيم وإِن كانوا في الدنيا أعزة، وترفع آخرين إِلى أعلى عليين وإن كانوا في الدنيا وضعاء. . ثم بيَّن تعالى متى يكون ذلك فقال {إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً} أي زلزلت زلزالاً عنيفاً، واضطربت اضطراباً شديداً، بحيث ينهدم كل ما فوقها من بناء شامخ، وطودٍ راسخ قال المفسرون: تُردُّ كما يرجُّ الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها من بناء، وينكسر كل ما فيها من جبال وحصون {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً} أي فتُتت تفتيتاً حتى صارت كالدقيق المبسوس وهو المبلول بعد أن كانت شامخة {فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} أي فصارت غباراً متفرقاً متطايراً في الهواء، كالذي يُرى في شعاع الشمس إِذا دخل النافذة فهذا هو الهباء، والمنبثُّ المتفرق، وهذه الآية كقوله تعالى {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] وقوله {وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً} [النبأ: 20]{وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً} أي وكنتم أيها الناس أصنافاً وفرقاً ثلاث «أهل اليمين، وأهل الشمال، وأهل السبق» فأما السابقون فهم أهل الدرجات العُلى في الجنة، وأما أصحاب اليمين فيهم سائر أهل الجنة، وأما أصحاب الشمال فهم أهل النار، وهذه مراتب الناس في الآخرة قال ميمون بن مهران: اثنان في الجنة وواحد في النار، ثم فصَّلهم تعالى بقوله {فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة} ؟ استفهام للتفخيم والتعظيم أي هل تدري أيُّ شيء أصحاب الميمنة؟ من هم وما هي حالهم وصفتهم؟ إنهم الذين يؤتون صحائفهم في أيمانهم، فهو تعجيبٌ لحالهم، وتعظيم لشأنهم في دخولهم الجنة وتنعمهم بها {وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة} ؟ أي هل تدري من هم؟ وما هي حالهم وصفتهم، إنهم الذين يؤتون صحائفهم بشمالهم، ففيه تعجب لحالهم في دخولهم النار وشقائهم قال القرطبي: والتكرير في {مَآ أَصْحَابُ الميمنة} و {مَآ أَصْحَابُ المشأمة} للتفخيم والتعجيب كقوله
{الحاقة مَا الحآقة} [الحاقة: 12] وقوله {القارعة مَا القارعة} [القارعة: 12] وقال
الألوسي: والمقصود التفخيم في الأول، والتفظيع في الثاني، وتعجيب السامع من شأن الفريقين في الفخامة والفطاعة كأنه قيل: فأصحاب الميمنة في غاية حسن الحال، وأصحاب المشأمة في غاية سوء الحال {والسابقون السابقون} هذا هو الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة أي والسابقون إِلى الخيرات والحسنات، هم السابقون إِلى النعيم والجنات، ثم أثنى عليهم بقوله {أولئك المقربون} أي أولئك هم المقربون من الله، في جواره، وفي ظل عرشه، ودار كرامته {فِي جَنَّاتِ النعيم} أي هم في جنات الخلد يتنعمون فيها قال الخازن: فإن قلت: لم أخَّر ذكر السابقين وكانوا أولى بالتقديم على أصحاب اليمين؟ قلت: فيه لطيفة وذلك أنَّ الله ذكر في أول السورة الأمور الهائلة عند قيام الساعة تخويفاً لعباده، فإِما محسنٌ فيزداد رغبةً في الثواب، وإِمّا مسيء فيرجع عن إِساءته خوفاً من العقاب، فلذلك قدَّم أصحاب اليمين ليسمعوا ويرغبوا، ثم ذكر أصحاب الشمال ليرهبوا، ثم ذكر السابقين وهم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ليجدوا ويجتهدوا {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} أي السابقون المقربون جماعة كثيرة من الأمم السالفة {وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} أي وهم قليلٌ من هذه الأمة قال القرطبي: وسمُّوا قليلاً بالإِضافة إلى من كان قبلهم، لأن الأنبياء المتقدمين كانوا كثرة، فكثر السابقون إِلى الإيمان منهمن فزادوا على عدد من سبق إِلى التصديق من أمتنا، قال الحسن: سابقوا من مضى أكثر من سابقينا ثم تلا الآية وقيل: إن المراد بقوله {والسابقون السابقون} أول هذه الأمة، والآخرون والمتأخرون من هذه الأمة، فيكون كلا الفريقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ {على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} أي جالسين على أسرَّة منسوجة بقضبان الذهب، مرصعَّة بالدر والياقوت قال ابن عباس:{مَّوْضُونَةٍ} أي مرمولة بالذهب يعني منسوجة به {مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا} أي حال كونهم مضطجعين على تلك الأسرَّة شأن المنعَّمين المترفين {مُتَقَابِلِينَ} أي وجوه بضعهم إلى بعض، ليس أحد وارء أحد، وهذا أدخل في السرور، وأكمل في أدب الجلوس {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} أي يدور عليهم للخدمة أطفال في نضارة الصبا، لا يموتون ولا يهرمون قال أبو حيان: وُصفوا بالخلد وإِن كان كل من في الجنة مخلداً ليدل على أنهم يبقون دائماً في سنِّ الولدان، لا يتحولون ولا يكبرون كما وصفهم جل وعلا {بِأَكْوَابٍ} أي بأقداح كبيرة مستديرة لا عُرى لها {وَأَبَارِيقَ} جمع إِبريق أي وبأباريق لها عُرى تبرق من صفاء لونها {وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} أي وكأسٍ من خمرٍ لذلة جارية من
العيون قال ابن عباس: لم تعصر كخمر الدنيا بل هي من عيون سارحة قال القرطبي: والمعين الجاري من ماء أو خمر، غير أن المراد في هذا الموضع الخمر الجارية من العيون، ليست كخمر الدنيا التي تستخرج بعصرٍ وتكلف ومعالجة {لَاّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي لا تنصدع رءوسهم من شربها {وَلَا يُنزِفُونَ} أي ولا يسكرون فتذهب بعقولهم فتذهب بعقولهم كخمر الدنيا قال ابن عباس: في الخمر أربع خصال: السُّكرُ والصُّداع، والقيءُ، والبول، وقد ذكر تعالى خمر الجننة ونزَّهها عن هذه الخصال الذميمة {وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ} أي ولهم فيها فاكهة كثيرة يختارون ما تشتهيه نفوسهم لكثرتها وتنوعها {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} أي ولحم طيرٍ مما يحبون ويشتهون قال ابن عباس: يخطر على قلب أحدهم لحم الطير فيطير حتى يقع بين يديه على ما اشتهى مقلياً أو مشوياً وفي الحديث
«إنك لتنظر إِلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشوياً» قال الرازي: وقدَّم الفاكهة على اللحم لأن أهل الجنة يأكلون لا عن جوع بل للتفكه، فميلهم إِلى الفاكهة أكثر كحال الشبعان في الدنيا فلذلك قدمها {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} أي ولهم مع ذلك النعيم نساء من الحور العين، الواسعات العيون، في غاية الجمال والبهاء، كأنهن اللؤلؤ في الصفاء والنقاء، الذي لم تمسه الأيدي قال في التسهيل: شبههن باللؤلؤ في البياض، ووصفه بالمكنون لأنه أبعد عن تغيير حسنه، وحين «سألت» أم سلمة «رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عن هذا التشبيه قال» صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي « {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي جعلنا لهم ذلك كله جزاءً لعملهم الصالح في الدنيا. . ثم أخبر تعالى عن مال نعيمهم في الجنة فقال {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً} أي لا يطرق آذانهم فاحشٌ الكلام، ولا يلحقهم إِثمٌ ما يسمعون قال ابن عباس: لا يسمعون باطلاً ولا كاذباً {إِلَاّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً} أي إلا قول بعضهم لبعضٍ سلاماً سلاماً، يُحيي به بعضهم بعضاً ويفشون السلام فيما بينهم قال في البحر: والظاهر أنه استثناء منقطع لأنه لم يندرج في اللغو ولا التأثيم وقال أبو السعود: والمعنى أنهم يفشون السلام فيسلمون سلاماً بعد سلام، أو لا يسمع كلٌ منهم إِلا سلام الآخر بدءاً أو ردّاً.
. ثم شرع في تفصيل أحوال الصنف الثاني وهم أصحاب اليمين فقال {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} ؟ استفهام للتعظيم والتعجيب من حالهم أي ما أدراك من هم، وما هي حالهم؟ {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} أي هم تحت أشجار النبق الذي قطع شوكه قال المفسرون: والسِّدرُ: شجر النبق، والمخضود الذي خُضد أي قُطع شوكه، وفي الحديث «أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقال يا رسول الله: إن الله تعالى ذكر في الجنة شجرة تؤذي صاحبها، فقال: وما هي؟ قال: السدر فإِن له شوكاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أليس اللهُ يقول {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} ؟ خضَدَ اللهُ شوكه فجعل مكان كل شوكةٍ ثمرة، وإِن الثمرة من ثمره تفتَّق عن اثنين وسبعين
لوناً من الطعام، ما فيها لونٌ يشبه الآخر» {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} هو شجر الموز ومعنى {مَّنضُودٍ} أي متراكم قد نُضد بالحمل من أسفله إِلى أعلاه {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} أي وظل دائم باقٍ لا يزول ولا تنسخه الشمس، لأن الجنة ظل كلها لا شمس فيها {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً} [الإِنسان: 13] وفي الحديث «إن في الجنة شجرةً يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرءوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} » وقال الرازي: ومعنى {مَّمْدُودٍ} أي لا زوال له فهو دائم {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} [الرعد: 35] أي دائم، والظلُّ ليس ظل الأشجار، بل ظل يخلقه الله تعالى {وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ} أي وماءٍ جارٍ دائماً لا ينقطع يجري في غير أخدود قال القرطبي: كانت العرب أصحاب بادية، والأنهار في بلادهم عزيزة، لا يصلون إِلىلماء إِلا بالدلو والرشاء، فوعدوا بالجنة بأسباب النزهة وهي الأشجار وظلالها، والمياه والأنهار وجريانها {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَاّ مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} أي وفاكهةٍ كثيرة متنوعة، ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم، لا تنقطع كما تنقطع ثمار الدنيا في الشتاء، وليست ممنوعة عن أحد، قال ابن عباس: لا تنقطع إِذا جُنيت، ولا تمتنع من أحدٍ إِذا أراد أخذها وفي الحديث «ما قُطعت ثمرةٌ من ثمار الجنة إِلا عاد مكانها أخرى» {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} أي عالية وطيئة ناعمة وفي الحديث «ارتفاعها كما بين السماء والأرض، ومسيرة ما بينهما خمس مائة عام» قال الألوسي: ولا تستبعد هذا من حيث العروجُ والنزولُ، فالعالم عالم آخر فوق طور عقلك تنخفض للمؤمن إِذا أراد الجلوس عليها ثم ترتفع به، والله على كل شيء قدير {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً} أي خلقنا نساء الجنة خلقاً جديداً، وأبدعناهن إِبداعاً عجيباً، قال في التسهيل: ومعنى إنشاء النساء أن الله تعالى يخلقهن في الجنة خلقاً آخر في غاية الحسن بخلاف الدنيا، فالعجوز ترجع شابة، والقبيحة ترجع جميلة قال ابن عباس: يعني الآدميات العجائز الشمط خلقهن الله بعد الكبر الهرم خلقاً آخر {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} أي فجعلناهن عذارى، كلما أتاهنَّ أزواجهن وجدوهنَّ أبكاراً {عُرُباً} جمع عروب وهي المتحببة لزوجها العاشقة له قال مجاهد: هنَّ العاشقات لأزواجهن المتحببات لهن اللواتي يشتهين أزواجهن {أَتْرَاباً} أي مستويات في السنِّ مع أزواجهن، في سنّ أبناء ثلاث وثلاين، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
«سألت النبي صلى الله عليه وسلم َ عن قوله تعالى {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً} فقال يا أم سلمة: هنَّ اللواتي قُبضن في الدنيا عجائز، شُمطاً عُمشاً، رُمصاً، جعلهن الله بعد الكِبر أتراباً على ميلادٍ واحد في الاستواء» وفي الحديث «أن امرأة عجوزاً جاءت النبي صلى الله عليه وسلم َ فقالت يا رسول الله: أُدع الله أن يُدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان إِن الجنة لا تدخلها
عجوز، فولَّت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، فإن الله تعالى يقول {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} » {لأَصْحَابِ اليمين} أي أنشأنا هؤلاء النساء الأبكار لأصحاب اليمين ليستمتعوا بهنَّ في الجنة، ثم قال تعالى {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين} أي هم جماعة من الأولين من الأمم الماضية، وجماعة من المتأخرين من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم َ، قال في البحر: ولا تنافي بين هذه الآية {وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين} وبين الآية التي سبقتها وهي قوله {وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} لأن الثانية في السابقين فلذلك قال {وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} وهذه في أصحاب اليمين ولذلك قال {وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين} . . ثم شرع تعالى في بيان الصنف الثالث وهم أهل النار فقال {وَأَصْحَابُ الشمال مَآ أَصْحَابُ الشمال} استفهام بمعنى التهويل والتفظيع والتعجيب من حالهم أي وأصحابُ الشمال وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم ما أصحاب الشمال؟ أي ما حالهم وكيف مآلهم؟ ثم فصَّل تعالى حالهم فقال {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} أي في ريح حارة من النار تنفذ في المسام، وماءٍ شديد الحرارة {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} أي وفي ظلٍ من دخان أسود شديد السواد {لَاّ بَارِدٍ} أي ليس هذا الظل بارداً يستروح به الإِنسان من شدة الحر {وَلَا كَرِيمٍ} أي وليس حن المنظر يُسرُّ به من يستفيء بظله قال الخازن: إِن فائدة الظل ترجع إِلى أمرين: أحدهما: دفع الحر، والثاني: حسن المنظر وكون الإِنسان فيه مكرماً، وظلُّ أهل النار بخلاف هذا لأنهم في ظل من دخان أسود حار. . ثم بيَّن تعالى سبب استحقاقهم ذلك فقال {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} أي لأنهم كانوا في الدنيا منعَّمين، مقبلين على الشهوات والملذات {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} أي وكانوا يداومون على الذنب العظيم وهو الشرك بالله قال المفسرون: لفظ الإَصرار يدل على المداومة على المعصية، والحنثُ هو الذنب الكبير والمراد به هنا الكفر بالله كما قاله ابن عباس {وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي هل سنبعث بعد أن تصبح أجسادنا تراباً وعظاماً نخرة؟ وهذا استبعادٌ منهم لأمر البعث وتكذيب له {أَوَ آبَآؤُنَا الأولون} ؟ تأكيدٌ للإِنكار ومبالغة فيه أي وهل سيبعث آباؤنا الأوائل بعد أن بليت أجسامهم وتفتَّتت عظامهم؟ {قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} أي قل لهم يا محمد: إن الخلائق جميعاً السابقين منهم واللاحقين، سيجمعون ويحشرون ليوم الحساب الذي حدَّده الله بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر
{ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَاّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} [هود: 103104]{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضآلون المكذبون لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} أي ثم إنكم يا معشر كفار مكة، الضالون عن الهدى، المكذبون بالبعث والنشور، لآكلون من شجر الزقوم الذي ينبت في أصل الجحيم {فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} أي فمالئون بطونكم من تلك الشجرة الخبيثة لغلبة الجوع عليكم {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحميم} أي فشاربون عليه الماء الحار الذي اشتد غليانه {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} أي فشاربون شرب الإِبل العطاش قال ابن عباس: الهيمُ الإِبل
العطاش التي لا تروى لداء يصيبها وقال أبو السعود: إنه يسلط على أهل النار من الجوع ما يضطرهم إِلى أكل الزقوم الذي هو كالمُهل، فإِذا ملأوا منه بطونهمه وهو في غاية الحرارة والمرارة سُلِّط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم، فيشربونه شرب الهيم وهي الإِبل التي بها الهيام وهو داء يصيبها فتشرب ولا تروى {هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين} أي هذه ضيافتهم وكرامتهم يوم القيامة، وفيه تهكم بهم قال الصاوي: والنُزُل في الأصل ما يهيأ للضيف أول قدومه من التحف والكرامة، فتسمية الزقوم نُزلاً تهكم بهم.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الأشقياء المجرمين وأحوالهم في نار جهنم، ذكر هنا الأدلة والبراهين على قدرة الله ووحدانيته في بديع خلقه وصنعه، لتقوم الحجة على المنكر المكذب بوجود الله، وختم السورة الكريمة بالتنويه بذكر أهل السعادة، وأهل الشقاوة، والسابقين إِلى الخيرات، ليكون ذلك كالتفصيل لما ورد في أول السورة من الإِجمال، والإِشادة بذكر مآثر المقربين في البدء والمآل.
اللغَة: {تَفَكَّهُونَ} تفكَّه بالشيء تمتَّع به، ورجلٌ فَكه منبسط النفس غير مكترث بشيء {المزن} السحاب جمع مُزْنة قال الشاعر:
ونحن كماء المُزن ما في نصابها
…
كَهَامٌ ولا فينا يُعدُّ بخيل
{تُورُونَ} أورى النار من الزناد قدحها {لِّلْمُقْوِينَ} المسافرين يقال أقوى الرجل إِذا دخل القواء وهو القفر، والقوى الجوع قال الشاعر:
وإِني لأختار القوى طاوي الحشا
…
محافظةً من أن يُقال لئيم
{مُّدْهِنُونَ} المدهن: الذي ظاهرة خلاف باطنة، كأنه شُبّه بالدهن في سهولة ظاهره ومنه المداهنة {مَدِينِينَ} مجزيين ومحاسبين من الدين بمعنى الجزاء {فَرَوْحٌ} الرُّوح بفتح الراء الاستراحة {رَيْحَانٌ} الريحان: كل مشموم طيب الريح من النبات.
التفسِير: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} أي نحن خلقناكم أيها الناسُ من العدم، فهلَاّ تصدقون بالبعث؟ فإِن من قدر على البدء قادرٌ على الإِعادة {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} أي أخبروني عمَّا تصبُّونه من المنيّ في أرحام النساء {أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون} ؟ أي هل أنتم تخلقون هذا المنيَّ بشراً سوياً، أم نحن بقدرتنا خلقناه وصوَّرناه؟ {قال القرطبي: وهذا احتجاج على المشركين وبيانٌ للآية الأولى والمعنى إِذا أقررتم بأنا خالقوه لا غيرنا فاعترفوا بالبعث {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} أي نحن قضينا وحكمنا عليكم بالموت وساوينا بينكم فيه قال الضحاك: ساوى فيه بين أهل
السماء والأرض، سواء في الشريف والوضيع، والأمير والصعلوك {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي وما نحن بعاجزين {على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} أي على أن نهلككم ونستبدل قوماً غيركم يكونون أطوع لله منكم كقوله تعالى {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19] {وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي ولسنا بعاجزين أيضاً أن نعيدكم يوم القيامة في خلقةٍ لا تعلمونها ولاتصل إِليها عقولكم، والغرضُ أن الله قادر على أن يهلكهم وأن يعيدهم وأن يبعثهم يوم القيامة، ففي الآية تهديد واحتجاج على البعث {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى} أي ولقد عرفتم أن الله أنشأكم من العدم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً، فخلقكم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة {فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} أي فهلا تتذكرون بأن الله قادر على إعادتكم كما قدر على خلقكم أول مرة؟ {أَوَلَا يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [مريم: 67] ؟} {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} هذه حجة أخرى على وحدانية الله وقدرته أي أخبروني عن البذر الذي تلقونه في الطين {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} ؟ أي أأنتم تنبتونه وتنشئونه حتى يكون فيه السنبل والحبُّ أم نحن الفاعلون لذلك؟ فإِذا أقررتم أن الله هو الذي يخرج الحبَّ وينبت الزرع، فكيف تنكرون إِخراجه الأموات من الأرض؟ {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} أي لو أردنا لجعلنا هذا الزرع هشيما متكسراً لا ينتفع به في طعام ولا غيره قال القرطبي: والحُطام الهشيم الهالك الذي لا يُنتفع به في مطعم ولا غذاء، فنبههم بذلك على أمرين: أحدهما: ما أولاهم به من النعم في زرعهم ليشكروه الثاني: ليعتبروا في أنفسهم فكما أنه تعالى يجعل الزرع حُطاماً إِذا شاء، كذلك يهلكهم إِذا شاء ليتعظوا فينزجروا {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي فظللتم وبقيتم تتفجعون وتحزنون على الزرع مما حلَّ به وتقولون {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي إنا لمحمَّلون الغرم في إِنفاقنا حيث ذهب زرعنا وغرمنا الحبَّ الذي بذرناه {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي بل نحن محرومون الرزق، غرمنا قيمة البذر، وحُرمنا خروج الزرع {أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ} أي أخبروني عن الماء الذي تشربونه عذباً فراتاً لتدفعوا عنكم شدة العطش {أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون} أي هل أنتم الذين أنزلتموه من السحاب أم نحن المنزلون له بقدرتنا؟ قال الخازن: ذكَّرهم تعالى نعمته عليهم بإِنزال المطر الذي لا يقدر عليه إِلا اللهُ عز وجل {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} أي لو شئنا لجعلناه ماءٌ مالحاً شديد الملوحة لا يصلح لشرب ولا لزرع قال ابن عباس: {أُجَاجاً} شديد الملوحة وقال الحسن: مُرّاً زُعافاً لا يمكن شربه {فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} أي فهلاّ تشكرون ربكم على نعمه الجليلة عليكم؟! وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم َ شرب الماء قال
«الحمد لله الذي سقانا عذباً فُراتاً برحمته، ولم يجعله ملحاً أُجاجاً بذنوبنا» {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ} أي أخبروني عن النار التي تقدحونها وتستخرجونها من الشجر الرطب {أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون} أي هل أنتم خلقتم
شجرها أم نحن الخالقون المخترعون؟ قال ابن كثير: وللعرب شجرتان: إِحداهما المرخُ، والأُخرى العُفار، إِذا أُخذ منهمنا غصنان أخضران، فحُك أحدهما بالآخر تناثر من بينهما شرر النار، وقيل: أراد جميع الشجر الذي توقد منه النار، لما روي عن ابن عباس أنه قال: ما من شجرة ولا عود إِلا وفيه النار سوى العُناب {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} أي جعلنا نار الدنيا تذكيراً للنار الكبرى «نار جهنم» إِذا رآها الرائي ذكر بها نار جهنم، فيخشى اللهَ ويخاف عقابه وفي الحديث «ناركم هذه التي توقدون جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم، فقالوا يا رسول الله: إِنْ كانت لكافية!! فقال: والذي نفسي بيده لقد فضّلت عليها بتسعة وتسعين جزءاً، كلهن مثل حرها»
{وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} أي ومنفعقةً للمسافرين قال ابن عباس: {المقوين} المسافرين، وقال مجاهد: للحاضر والمسافر، المستمتعين بالنار من الناس أجمعين قال الخازن: والمقوي النازلُ في الأرض القواء وهي الأرض الخالية البعيدة عن العمران والمعننى أنه ينتفع بها أهل البوادي والسُفَّار، فإِن منفعتهم أكثر من المقيم، فإِنهم يوقدون النار بالليل لتهرب السباع ويهتدي بها الضال إِلى غير ذلك من المنافع وهو قول أكثر المفسرين. . ولما ذكر دلائل القدرة والوحدانية في الإِنسان، والنبات، والماء، والنار، أمر رسوله بتسبيح الله الواحد القهار فقال {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} أي فنزِّه يا محمد ربك عما أضافه إليه المشركون من صفات العجز والنقص وقل: سبحان من خلق هذه الأشياء بقدرته، وسخَّرها لنا بحكمته، سبحانه ما أعظم شأنه، وأكبر سلطانه! {عدَّد سبحانه وتعالى نعمه على عباده، فبدأ بذكر خلق الإٍنسان فقال {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} ثم بما به قوامه ومعيشته وهو الزرع فقال {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} ثم بما به حياته وبقاؤُه وهو الماء فقال {أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ} ثم بما يصنع به طعامه، ويصلح به اللحوم والخضار وهو النار فقال {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ} فيا له من إله كريم، ومنعمٍ عظيم} ! ثم شرع بالقسم على جلال القرآن ورفعته، وعلو شأنه ومنزلته، وأنه تنزل العزيز الحكيم فقال {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} اللام لتأكيد الكلام وتقويته، وزيادة «لا» كثير في كلام العرب ومشهور قال الشاعر:
تذكرتُ ليلى فاعترتني صبابةٌ
…
وكادَ نياطُ القلب لا يتقطَّع
اي كاد يتقطع قال القرطبي: «لا» صلة في قول أكثر المفسرين والمعنى «فأقسم» بدليل قوه بعده {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} أي فأقسم بمنازل النجوم وأماكن دورانها في أفلاكها وبروجها {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ
تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} أي وإِن هذا القسم العظيم جليل، لو عرفتم عظمته لآمنتم وانتفعتم به، لما في المقسم به من الدلالة على عظيم القدرة، وكمال الحكمة، وفرط الرحمة، ومن مقتضيات رحمته تعالى أن لا يترك عباده سُدى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} هذا هو المقسم عليه، والمعنى أقسم بمواقع النجوم إِن هذا القرآن وقرآن كريم، ليس بسحرٍ ولا كهانة وليس بمفترى، بل هو قرآن كريم مجيد، جعله الله معجزة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم َ وهو كثير المنافع والخيرات والبركات {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} أي في كتاب مصونٍ عند الله تعالى، محفوظ عن الباطل وعن التبديل والتغيير قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ، وقال مجاهد: هو المصحف الذي بأيدينا {لَاّ يَمَسُّهُ إِلَاّ المطهرون} أي لا يمس ذلك الكتاب المكنون إِلا المطهرون، وهم الملائكة الموصوفون بالطهارة من الشرك والذنوب والأحداث، أو لا يمسُّه إِلا من كان متوضئاً طاهراً قال القرطبي المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا وهو الأظهر لقول ابن عمر «لا تمسَّ القرآن إلا وأنت طاهر» ولكتاب رسول اله صلى الله عليه وسلم َ لعمرو بن حزم
«وألَاّ يمسَّ القرآن إِلا طاهر» {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين} أي منزَّلمن عند الله جل وعلا. . ثم لمَّا عظم أمر القرآن ومجَّد شأنه وبخ الكفار فقال {أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} أي أفبهذا القرآن يا معشر الكفار تكذبون وتكفرون؟ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي وتجعلونن شكر رزقكم أنكم تكذبون برازقكم، وهو المنعم المتفضل عليكم؟ {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} أي فهلَاّ إِذا بلغت الروح الحلقوم عند معالجة سكرات الموت {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} أي وأنتم في ذلك الوقت تنظرون إِلى المحتضر وما يكابده من شدائد وأهوال {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ولكن لَاّ تُبْصِرُونَ} أي ونحن بعلمنا واطلاعنا أقرب إلى الميت منكم ولكنْ لا تعلمون ذلك، ولا تبصرون ملائكتنا الذين حضروه لقبض روحه قال ابن كثير: ومعنى الآية ملائكتنا أقرب إِليه منكم ولكن لا ترونهم كما قال تعالى {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]{فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أي فهلَاّ إن كنتم غير مجزيين بأعمالكم كما تزعمون {تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي تردون نفس هذا الميت إلى جسده بعد ما بلغت الحلقوم قال ابن عباس: {غَيْرَ مَدِينِينَ} أي غير محاسبين ولا مجزيين قال الخازن: أجاب عن قوله {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} وعن قوله {فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}
بجواب واحد وهو قوله {تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ومعنى الآية: إِن كان الأمر كما تقولون أنه لا بعث ولا حساب، ولا إله يجازي، فهلاّ تردون نفس من يعزُّ عليكم إِذا بلغت الحلقوم؟ وإِذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر إِلى غيركم وهو الله تعالى فآمنوا به. . ثم ذكر تعالى طبقات الناس عند الموت وعند البعث، وبيَّن درجاتهم في الآخرة فقال {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} أي فأما إِن كان هذا الميت من المحسنين السابقين بالدرجات العلا، فله عند ربه استراحة ورزق حسن وجنة واسعة يتنعم فيها قال القرطبي: والمراد بالمقربين السابقون المذكورون في أول السورة {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} أي وأما إِن كان المحتضر من السعداء أهل الجنة الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم {فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} أي فسلامٌ لك يا محمد منهم، لأنهم في راحةٍ وسعادة ونعيم {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين} أي وأما إِن كان المحتضر من المنكرين للبعث، الضالين عن الهدى والحق {فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ} أي فضيافتهم التي يُكرمون بها أول قدومهم، الحميمُ الذي يصهر البطون لشدة حرارته قال في التسهيل: النُزل أول شيءٍ يُقدم للضيف {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي ولهم إِصلاءٌ بنار جهنم وإِذاقة لهم من حرها {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} أي إن هذا الذي قصصناه عليك يا محمد من جزاء السابقين، والسعداء، والأشقياء لهو الحقُّ الثابت الذي لا شك فيه ولا ريب، وهو عين اليقين الذي لا يمكن إِنكاره {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} أي فنزِّه ربك عن النقص والسوء، وعمَّا يصفه به الظالمون، لما نزلت هذه الآية الكريمة قال النبي صلى الله عليه وسلم َ:
البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
جناس الاشتقاق {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1] والجناس الناقص في قوله {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} .
2 -
الطباق بين {الميمنة. . والمشأمة} وبين {الأولين. . والآخرين} وبين {خَافِضَةٌ. . رَّافِعَةٌ} وفي إِسناد الخفض والرفع إِلى القيامة مجاز عقلي، لأن الخافض والرافع على الحقيقة هو الله وحده، يرفع أولياءه ويخفض أعداءه، ونسب إِى القيامة مجازاً كقولهم «نهاره صائم» .
3 -
التشبيه المرسل المجمل {حُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} [الواقعة: 2223] أي كأمثال اللؤلؤ في بياضه وصفائه، حذف منه وجه الشبه فهو مرسل مجمل.
4 -
التفخيم والتعظيم {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} [الواقعة: 27] كرره بطريق الاستفهام تفخيماً.
5 -
التفنن بذكر أصحاب الميمنة ثم بذكر أصحاب اليمين، وكذلك بذكر المشئمة وذكر أصحاب الشمال {فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة} [الواقعة: 8] {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} [الواقعة: 27] .
6 -
تأكيد المدح بما شبه الذم {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً إِلَاّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً} [الواقعة: 2526] لأن
السلام ليس من جنس الغو والتأثيم، فهو مدح لهم بإِفشاء السلام، وهذا كقول القائل «لا ذنب لي إلا محبتُك» .
7 -
التهكم والاستهزاء {هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين} [الواقعة: 56] أي هذا العذاب أول ضيافتهم يوم القيامة ففيه سخرية وتهكم بهم لأن النزل هو أول ما يقدم للضيف من الكرامة.
8 -
الالتفات من الخطاب إِلى الغيبة {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضآلون المكذبون} [الواقعة: 51] ثم قال بعد ذلك ملتفتاً عن خطابهم {هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين} [الواقعة: 56] وذلك للتحقير من شأنهم، والأصل هذا نزلكم.
9 -
الجملة الاعتراضية وفائدتها لفت الأنظار إِلى أهمية القسم {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} جاءت الجملة الاعتراضية {لَّوْ تَعْلَمُونَ} بين الصفة والموصوف للتهويل من شأن القسم.
10 -
توافق الفواصل في الحرف الأخير مما يزيد في رونق الكلام وجماله مثل {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 28 30] ومثل {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحميم فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} [الواقعة: 5455] ويسمى هذا بالسجع المرصَّع وهو من المحسنات البديعية.
لطيفَة: المناسبة بين المقسم به وهو النجوم وبين المقسم عليه وهو القرآن {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} أن النجوم جعلها الله ليهتدي بها الناس في ظلمات البر والبحر، وآيات القرآن يُهتدى بها في ظلمات الجهل والضلالة، وتلك ظلمات حسية، وهذه ظلمات معنوية، فالقسم جاء جامعاً بين الهدايتين: الحسية للنجوم، والمعنوية للقرآن، فهذا وجه المناسبة والله أعلم.
اللغَة: {سَبَّحَ للَّهِ} نزَّه الله ومجَّده وقدَّسه {العزيز} القوي الغالب على كلي شيء {الأول} السابق على جميع الموجودات {الآخر} الباقي بعد فنائها {يَلِجُ} يدخل {يَعْرُجُ} يصعد {الظاهر} بوجوده ومصنوعاته وآثاره {الباطن} بكنه ذاته عن إِدارك الأبصار له {الحسنى} المثوبة الحسنة والمراد بها الجنة {انظرونا} انتظرونا {نَقْتَبِسْ} نستضيء ونهتدي بنوركم {سُورٍ} حاجز بين الجننة والنار {الغرور} الشيطان وكل من خدع غيره فهو غار وغرور.
التفسِير: {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} أي مجَّد اللهَ ونزَّهه عن السوء كلُّ ما في الكون من إِنسان، وحيوان، ونبات قال الصاوي: والتسبيحُ تنزيهُ المولى عن كل ما لا يليق به قولاً، وفعلاً، واعتقاداً، من سبح في الأرض والماءِ إِذا ذهب وأبعد فيهما، وتسبيحُ العقلاء بلسان المقال، وتسبيح الجماد بلسان الحال أي أن ذاتها دالة على تنزيه صانعها عن كل نقص، وقيل بلسان المقال أيضاً {ولكن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإِسراء: 44] وقال الخازن: تسبيحُ العقلاء تنزيهُ الله عز وجل عن كل سوء، وعما لا يليق بجلاله، وتسبيحُ غير العقلاء من ناطق وجماد اختلفوا فيه، فقيل: تسبيحه دلالته على صانعه، فكأنه ناطق بتسبيحه، وقيل: تسبيحه بالقول يدل عليه قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإِسراء: 44] أي قولهم، والحقُّ ألأن التسبيح هو القولُ الذي لا يصدر إِلا من العاقل العارف بالله تعالى، وما سوى العاقل ففي تسبيحه وجهان: أحدهما: أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه والثاني: أن جميع الموجودات بأسرها منقادةٌ له يتصرف فيها كيف يشاء، فإِن حملنا التسبيح على القول كان المراد بقوله {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} الملائكةُ والمؤمنون العارفون بالله، وإِن حملنا التسبيح على التسبيح المعنوي، فجميع أجزاء السموات وما فيها من شمس، وقمر، ونجوم وغير ذلك وجميع ذرات الأرضين وما فيها من جبالٍ، وبحار، وشجر، ودواب وغير ذلك كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال عظمة الله، منقادةٌ له يتصرف فيها كيف يشاء، فإِن قيل: قد جاء في بعض فواتح السور {سَبَّحَ للَّهِ} بلفظ الماضي، وفي بعضها {يُسَّبح للهِ} بلفظ المضارع فما المراد؟ قلت: فيه إشارة إلى كون جميع الأشياء مسبحاً لله أبداً، غير مختص بوقت دون وقت، بل هي كانت مسبحة أبداً في الماضي، وستكون مسبحة أبداً في المستقبل {وَهُوَ العزيز الحكيم} أي وهو الغالب على أمره الذي لا يمانعه ولا ينازعه شيء، الحكيمُ في أفعاله الذي لا يفعل إِلا تقتضيه الحكمة والمصلحة. . ثم ذكر تعالى عظمته وقدرته فقال {لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي هو جلا وعلا المالك المتصرف في خلقه، يحيي من يشاء، ويُميت من يشاء قال القرطبي: يميتُ الأحياء في الدنيا، ويحيي الأموات للبعث والنشور {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولفظُ {قَدِيرٌ} مبالغة في القادر لأن «فعيل» من صيغ المبالغة {هُوَ الأول والآخر} أي ليس لوجوده بداية، ولا لبقائه نهاية {والظاهر والباطن} أي الظاهرُ للعقول بالأدلة والبراهين الدالة على وجوده، الباطنُ الذي لا تدركه الأبصار، ولا تصلُ العقول إِلى معرفة كنه ذاته وفي الحديث
«أنت الأولُ فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» قال شيخ زاده: وقد فسَّر صاحب الكشاف «الباطن» بأنه غير المدرك بالحواسِ وهو تفسير بحسب التشهي يؤيد مذهبه من استحالة رؤية الله في الآخرة، والحقُّ أنه تعالى ظاهرٌ بوجوده،
باطنٌ بكنهه، وأنه تعالى جامعٌ بين الوصفين أزلاًَ وأبداً {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو تعالى عالمٌ بكل ذرةٍ في الكون، لا يعزب عن عمله شيء في الأرض ولا في السماء {هُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي خلقهما في مقدار ستة أيام ولو شاء لخلقهما بلمح البصر، وهو تحقيقٌ لعزته، وكمال قدرته، كما أن قوله {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض} تحقيق لحكمته، وكمال علمه {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} استواءً يليق بجلاله من غير تمثيلٍ ولا تكييفٍ {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي يعلم ما يدخل في الأرض من مطر وأموات، وما يخرج منها من معادن ونبات وغير ذلك {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي وما ينزل من السماء من الأرزاق، والملائكة، والرحمة، والعذاب، وما يصعد فيها من الملائكة والأعمال الصالحة كقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} أي هو جل وعلا حاضرٌ مع كل أحدٍ بعلمه وإِحاطته قال ابن عباس: هو عالمٌ بكم أينما كنتم قال ابن كثير: أي هو رقيبٌ عليكم، شهيدٌ على أعمالكم، حيث كنتم وأين كنتم، من برٍّ وبحر، في ليلٍ أو نهار، في البيوت أو القفار، الجميع في علمه على السواء، يسمع كلامكم ويرى مكانكم، ويعلم سرَّكم ونجواكم {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي رقيب على أعمال العباد، مطلع علىك ل صغيرة وكبيرة {لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض} كرره للتأكيد والتمهيد لإِثبات الحشر والنشر أي هو المعبود على الحقيقة، المتصرف في الخلق كيف يشاء {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} أي إِليه وحده مرجع أمور الخلائق في الآخرة فيجازيهم على أعمالهم {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} أي هو المتصرف في الكون كيف يشاء، يقلِّب الليل والنهار بحكمته وتقديره، ويدخل كلاً منهما في الآخر، فتارة يطول الليل ويقصر النهار، وأُخرى بالعكس {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي هو العالم بالسرائر والضمائر، وما فيها من النوايا والخفايا، ومن كانت هذه صفته فلا يجوز أن يُعبد سواه.
. ثم لما ذكر دلائل عظمته وقدرته، أمر بتوحيده وطاعته فقال {آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي صدِّقوا بأن الله واحد وأن محمداً عبده ورسوله {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي وتصدّقوا من الأموال التي جعلكم الله خلفاء في التصرف ليها، فهي في الحقيقة لله لا لكم قال في التسهيل: يعني أن الأموال التي بأيديكم إنماهي أموال الله لأنه خلقها، ولكنه متَّعكم بها وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء فلا تمنعوها من الإِنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها فيه، والمقصود التحريضُ على
الإِنفاق والتزهيد في الدنيا ولهذا قال بعده {فالذين آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} أي فالذين جمعوا بين الإِيمان الصادق والإِنفاق في سبيل الله ابتغاء وجهه الكريم لهم أجر عظيم وهو الجننة قال أبو السعود: وفي الآية من المبالغات ما لا يخفى، حيث جعل الجملة اسمية {فالذين آمَنُواْ} وأعيد ذكرُ الإِيمان والإِنفاق {آمَنُواْ وَأَنفَقُواْ} وكرر الإِسناد {لَهُمْ} وفخَّم الأجر بالتنكير ووصفه بالكبير {لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بالله} استفهام للإِنكار والتوبيخ أي أيُّ عذرٍ لكم في ترك الإِيمان بالله؟ {والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ} أي والحالُ أن الرسول صلى الل عليه وسلم يدعوكم للإِيمان بربكم وخالقكم، بالبراهين القاطعة، والحجج الدامغة {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} أي وقد أخذ الله ميثاقكم وهو العهد المؤكد بما ركز في العقول من الأدلة الدالة على وجود الله قال أبو السعود: وذلك بنصب الأدلة والتمكين من النظر وقال الخازن: أخذ ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم وأعلمكم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه، وقيل: أخذ ميثاقكم حيث ركب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة والبراهين والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} شرطٌ حذف جوابه أي إِن كنتم مؤمنين في وقت من الأوقات فالآن أحرى الأوقات لقيام الحجج والبراهين عليكم. . ثم ذكر تعالى بعض الأدلة الدالة على وجوب الإيمان فقال {هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي هو تعالى الذي ينزّل على محمد القرآن العظيم، المعجز في بيانه، الواضح في أحكامه قال القرطبي: يريد بالآيات البينات القرآن وقيل: المعجزات أي لزمكم الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم َ لما معه من المعجزات، والقرآنُ أكبرها وأعظمها {لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} أي ليخرجكم من ظلمات الكفر إِلى نور الإِيمان {وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي مبالغ في الرأفة والرحمة بكم، حيث أنزل الكتب وأرسل الرسل لهدايتكم، ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية {وَمَا لَكُمْ أَلَاّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض} ؟ أيْ أيُّ شيءٍ يمنعكم من الإِنفاق في سبيل الله، وفيما يقربكم من ربكم، وأنتم تموتون وتخلّفون أموالكم وهي صائرة إِلى الله تعالى؟ قال الإِمام الفخر: المعنى إِنكم ستموتون فتورثون، فهلَاّ قدمتموه في الإِنفاق في طاعة الله!! وهذا من أبلغ الحث على الإِنفاق في سبيل الله {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ} أي لا يستوي في الفضل من أنفق ماله وقاتل الأعداء مع رسول الله قبل فتح مكة، مع من أنفق ماله وقاتل بعد فتح مكة قال المفسرون: وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة الإِسلام إِلى الجهاد والإِنفاق كانت أشد، ثم أعز الله الإِسلام بعد الفتح وكثَّر ناصريه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً {أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ} أي أعظم أجراً، وأرفع منزلة من الذين أنفقوا من بعد فتح مكة وقاتلوا لإِعلاء كلمة الله قال الكلبي: نزلت في «أبي بكر» لأنه أول من أسلم، وأول من أنفق ماله في سبيل الله، وذبَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} أي وكلاً ممن آمن وأنفق قبل الفتح، ومن آمن وأنفق بعد الفتح،
وعده الله الجنة مع تفاوت الدرجات {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي عالمٌ بأعمالكم، مطلع على خفاياكم ونواياكم، ومجازيكم عليه، وفي الآية وعدٌ ووعيد {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله ابتغاء رضوانه {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} أي يعطيه أجره على إنفاقه مضاعافً {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي وله مع المضاعفة ثواب عظيم كريم وهو الجننة قال ابن كثير: أي جزاء جميل ورزق باهر وهو الجنة، ولما نزلت هذه الآية قال
«ابو الدحداح الأنصاري» يا رسول الله: وإنَّ الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإِني قد أقرضت ربي حائطي أي بستاني وله في ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه هي وعيالها، فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح قالت: لبيك، قال اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل، فقالت: ربح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها «. ثم أخبر تعالى عن المؤمنين الأبرار، وما يتقدمهم من الأنوار وهم على الصراط فقال {يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} أي اذكر يوم ترى أنوار المؤمنين والمؤمنات تتلألأ من أمامهم ومن جميع جهاتهم ليستضيئوا بها على الصراط، وتكون وجوههم مضيئة كإِضاءة القمر في سواد الليل {بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي ويقا لهم: أبشروا اليوم بجنات الخلد والنعيم، التي تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبداً {ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} أي الفوز الذي لا فوز بعده لأنه سبب السعادة الأبدية، روي أن نور كل أحدٍ على قدر إِيمانه، وأنهم متفاوتون في النور، فمنهم من يضيء نوره ما قرب من قدميه، ومنهم من يُطفأ نوره مرة ويظهر مرة قال الزمخشري: وإِنما قال {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم.
. ولما شرح حال المؤمنين يوم القيامة، أتبع ذلك بشرح حال المنافقين فقال {يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي انتظرونا لنستضيء من نوركم قال المفسرون: إن الله تعالى يعطي المؤمنين نوراً يوم القيامة على قد أعمالهم يمشون به على الصراط، ويترك الكافرين والمنافقين بلا نور، فيستضيء المنافقون بنور المؤمنين، فبينما هم يمشون إِذ بعث الله فيهم ريحاً وظلمة، فبقوا في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم فيقولون للمؤمنين: انتظرونا لنستضيء بنوركم {قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً} أي فيقول لهم المؤمنون سخريةً واستهزاءً بهم: ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار هناك قال أبو حيان: وقد علموا أن لا نور وراءهم، وإنما هو إِقناطٌ لهم {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ} أي فضرب بين المؤمنين والمنافقين بحاجزٍ له باب، يحجز بين أهل الجنة وأهل النار {بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب} أي في باطن السور الذي هو جهة المؤمنين الرحمةُ وهي الجنة، وفي ظاهره وهو جهة الكافرين العذاب وهو النارُ قال ابن كثير: هو سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين، فإِذا انتهى إليه المؤمنون دخوله من بابه، فإِذا استكملوا دخولهم أعلق الباب
وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} أي ينادي المنافقون المؤمنين: ألم نكن معكم في الدنيا، نصلي كما تصلون، ونصوم كما تصومون، ونحضر الجمعة والجماعات، ونقاتل معكم في الغزوات؟ {قَالُواْ بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} أي قال لهم المؤمنون: نعم كنتم معنا في الظاهر ولكنكم أهلكتم أنفسكم بالنفاق {وَتَرَبَّصْتُمْ} انتظرتم بالمؤمنين الدوائر {وارتبتم} أي شككتم في أمر الدين {وَغرَّتْكُمُ الأماني} أي خدعتكم الأماني الفارغة بسعة رحمة الله {حتى جَآءَ أَمْرُ الله} أي حتى جاءكم الموتُ {وَغَرَّكُم بالله الغرور} أي وخدعكم الشيطان الماكر بقوله: إن الله عفو كريم لا يعذبكم قال قتادة: ما زالوا على خُدعةٍ من الشيطان حتى قذفهم الله في نار جهنم قال المفسرون: الغرور بفتح الغين الشيطان لأنه يغر ويخدع الإنسان قال تعالى {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً} [فاطر: 56]{فاليوم لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الذين كَفَرُواْ} أي ففي هذا اليوم العصيب لا يقبل منكم بدلٌ ولا عوضٌ يا معشر المنافقين، ولا من الكفارين الجاحدين بالله وآيات وفي الحديث «إن الله تعالى يقول للكافر: أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار؟! فيقول: نعم يا ربّ، فيقول الله تبارك وتعالى: قد سألتك ما هو ايسرُ من ذلك في ظهر أبيك آدم، أن لا تشرك بي فأبيتَ إلا الشرك» {مَأْوَاكُمُ النار} أي مقامكم ومنزلكم نار جهنم {هِيَ مَوْلَاكُمْ} أي هو عونكم وسندكم وناصركم لا ناصر لكم غيرها، وهو تهكم بهم {وَبِئْسَ المصير} أي وبئس المرجع والمنقلب نار جهنم.
قال بعض العلماء: «السعيد من لا يغتر بالطمع ولا يركن إِلى الخدع، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغفل عن الأجل» .
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى اغترار المنافقين والكافرين بالحياة الدنيا، نبَّه المؤمنين ألا يكومنوا مثلهم، أو مثل مأهل الكتاب بالاغترار بدار الفناء، ثم ضرب مثلاً للحاية الدنيا وبهرجها الخادع الكاذب، وختتم السورة الكريمة ببيان فضيلة التقوى والعمل الصالح، وأرشد المؤمنين إلى مضاعفة الأجر والنور باتباعهم هدي الرسول صلى الله عليه وسلم َ.
اللغَة: {يَأْنِ} يحن يقال: أني يأْني مثل رمى يرمي أي حال، قال الشاعر:
ألم يأنِ لي يا قلب أن أترك الجهلا
…
وأن يُحدث الشيب المبينُ لنا عقلاً
{تَخْشَعَ} تذل وتلين {الأمد} الأجل أو الزمان {يَهِيجُ} هاج الزرع إِذا جف ويبس بعد خضرته ونضارته {حُطَاماً} فُتاتاً يتلاشى بالرياح {قَفَّيْنَا} ألحقنا وأتبعنا {كِفْلَيْنِ} مثنى كقل وهو النصيب.
سَبَبُ النّزول: لما قدم المؤمنون المدينة، أصابوا من لين العيش وفاهيته، ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا ونزلت هذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} قال ابن مسعود:«ما كان إِسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إِلا أربع سنوات» .
التفسِير: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} أي أما حان للمؤمنين أن ترقَّ
قلوبهم وتلين لمواعظ الله؟ {وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} أي ولما نزل من آيات القرآن المبين؟ {وَلَا يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ} أي ولا يكونوا كاليهود والنصارى الذين أعطاهم الله التوراة والإِنجيل {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي فطال عليهم الزمن الذي بينهم وبين أنبيائهم، حتى صلبت قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة قال ابن عباس:{قست قلوبهم} مالوا إِلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ القرآن وقال أبو حيان: أي صلبت بحيث لا تنفعل للخير والطاعمة والغرض أن الله يحذِّر المؤمنين أن يكونوا مع القرآن كاليهود والنصارى حين قست قلوبهم لما طال عليهم الزمان {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي وكثير من أهل الكتاب خارجون عن طاعة الله، رافضون لتعليم دينهم، من فرط قسوة القلب قال ابن كثير: نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الزمن بدَّلوا كتاب الله الذي بأيديهم، ونبذوه وراء ظهروهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد {اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} أي اعلموا يا معشر المؤمنين أن الله يحيي الأرض القاحلة المجدبة بالمطر، ويخرج منها النبات بعد يبسها، وهو تمثيل لإِحياء القلوب القاسية بالذكر وتلاوة القرآن، كما تحيا الأرض المجدبة بالغيث الهتان قال ابن عباس: يلين القلوب بعد قسوتها فيجعلها مخبتةً منيبة، وكذلك يحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة قال في البحر: ويظهر أنه تمثيلٌ لتليين القلوب بعد قسوتها، ولتأثير ذكر الله فيها، فكما يؤثر الغيب في الأرض فتعود بعد إجدابها مخصبة، كذلك تعود القلوب النافرة مقبلةً يظهر فيها أثر الخشوع والطاعات {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات} أي وضحنا لكم الحجج والبراهين الدالة على كمال قدرتنا ووحدانيتنا {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تعقلوا وتتدبروا ما أنزل الله في القرآن {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً} أي الذين تصدقوا بأموالهم على الفقراء ابتغاء وجه الله، والذين أنفقوا في سبيل الله وفي وجوه البر والإِحسان طيبة بها نفوسهم {يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي يضاعف لهم ثوابهم بأن تكتب الحسنة بعشر أمثالها، ولهم فوق ذلك ثواب حسن جزيل وهو الجنة قال المفسرون: أصل {المصدقين} المتصدقين أدغمت التاء في الصاد فصارت المصدّقين، ومعنى القرض الحسن هو التصدق عن طيب النفس، وخلوص النية للفقير، فكأن الإِنسان بإِحسانه إِلى الفقير قد أقرض اللهَ قرضاً يستحق عليه الوفاء في دار الجزاء {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} أي صدَّقوا بوحدانية الله ووجوده، وآمنوا برسله إِيماناً راسخاً كاملاً، لا يخالجه شك ولا ارتياب {أولئك هُمُ الصديقون والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ} أي أولئك الموصوفون بالإِيمان بالله ورسله، هم الذين جمعوا أعلى المراتب فحازوا درجة الصديقية والشهادة في سبيل الله قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صدِّيقٌ وشهيد {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي لهم في الآخرة الثواب الجزيل، والنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم} أي والذين
جحدوا بوحدانية الله وكذبوا بآياته أولئك هم المخلدون في دار الجحيم قال البيضاوي: فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار، ومن حيث أن الصيغة تشعر بالاختصاص {أولئك أَصْحَابُ الجحيم} والصحبة تدل على الملازمة.
. ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين، ذكر بعده ما يدل على حقارة الدنيا وكمال حال الآخر فقال {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ} أي اعلموا يا معشر السامعين أن هذه الحياة الدنيا ما هي إِلا لعبٌ يُتعب الناس فيها أنفسهم كإِتعاب الصبيان أنفسهم باللعب {وَلَهْوٌ} أي وشغل للإِنسان يشغله عن الآخرة وطاعة الله {وَزِينَةٌ} أي وزينة يتزين بها الجهلاء كالملابس الحسنة، والمراكب البهية، والمنازل الرفيعة {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} أي ومباهاة وافتخار بالأحساب والأنساب والمال والولد كما قال القائل:
أرى أهل القُصور إِذا أُميتوا
…
بنوا فوق المقابر بالصخور
أبوا إِلا مباهاةً وفخراً
…
على الفقراء حتى في القبور
{وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد} أي مباهاة بكثرة الأموال والأولاد قال ابن عباس: يجمع المال من سخط الله، ويتباهى به على أولياء الله، ويصرفه في مساخط الله، فهو ظلماتٌ بعضها فوق بعض {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ} أي كمثل مطرٍ غزير أصاب أرضاً، فأعجب الزُرَّاع نباتُه الناشىء عنه {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} أي ثم ييبس بعد خضرته ونُضرته فتراه مصفر اللون بعد أن كان زاهياً ناضراً {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} أي ثم يتحطم ويتكسر بعد يبسه وجفافه فيصبح هشيماً تذره الرياح كذلك حال الدنيا قال القرطبي: والمراد بالكفار هنا الزُرَّاع لأنهم يغطون البذر، ومعنى الآية أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إِليه لخضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشيماً كأن لم يكن، وإِذا أعجب الزراع فهو في غاية الحسن {وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ} أي والجزاء في الآخرة إِما عذاب شديد للفجار، وإِما مغفرة من الله ورضوانٌ للأبرار {وَمَا الحياة الدنيآ إِلَاّ مَتَاعُ الغرور} أي وليست الحياة الدنيا في حقارتها وسرعة انقضائها إِلا متاعٌ زائل، ينخدع بها الغافل، ويغتبر بها الجاهل قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغُرور إن ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إِذا دعتك إِلى طلب رضوا الله وطلب الآخرة، فنعم المتاع ونعم الوسيلة.
. ولما حقَّر الدنيا وصغَّر أمرها، وعظَّم الآخرة وفخَّم شأنها، حثَّ على المساعة إِلى نيل مرضاة الله، التي هي سبب للسعادة الأبدية في دار الخلود والجزاء فقال {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي تسابقوا أيها الناس وسارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم قال أبو حيان: وجاء التعبير بلفظ {سابقوا} كأنهم في ميدان سباق يجرون إِلى غاية مسابقين إِليها، والمعنى سابقوا إلى سبب المغفرة
وهو الإِيمان، وعملُ الطاعات {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض} أي وسارعوا إِلى جنةٍ واسعة فسيحة، عرضها كعرض السموات السبع من الأرض مجتمعة قال السدي: إِن اله تعالى شبَّه عرض الجنة بعرض السموات السبع والأرضين السبع، ولا شك أن طولها أزيد من عرضها، فذكر الرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك وقال البيضاوي: إِذا كان العرض كذلك فما ظنك بالطول، {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} أي هيأها الله وأعدها للمؤمنين المصدّقين بالله ورسله قال المفسرون: وفي الآية دلالة على أن الجنة مخلوقة وموجودة لأن ما لم يُخلق بعد لا يوصف بأنه أُعدَّ وهُيءَ {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} أي ذلك الموعود به من المغفرة والجنة هو طاء الله الواسع، يتفضل به على من يشاء من عبادة من غير إيجاب {والله ذُو الفضل العظيم} أي ذو العطاء الواسع والإِحسان الجليل {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض} أي ما يحدث في الأرض مصيبةً من المصائب كقحطٍ، وزلزلةٍ، وعاهة في الزروع، ونقصٍ في الثمار {وَلَا في أَنفُسِكُمْ} أي من الأمراض، والأوصاب، والفقر، وذهاب الاولاد {إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} أي إِلَاّ ويه مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن نخلقها ونوجدها قال في التسهيل: المعنى أن الأمور كلها مقدَّرة في الأزل، مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل ن تكون، وفي الحديث
«إن الله يكتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء» {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} أي إن إثبات ذلك على كثرته سهلٌ هيّنٌ على الله عز وجل وإِن كان عسيراً على العباد. . ثم بيَّن تعالى لنا الحكمة في إعلامنا عن كون هذه الأشياء واقعة بالقضاء والقدر فقال {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ} أي أثبت وكتب ذلك كي لا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم الدنيا {وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} أي ولكي لا تبطروا بما أعطاكم الله من زهرة الدنيا وتعميمها قال المفسرون: والمراد بالحزن الحزنُ الذي يوجب القنوط، وبالفرح الفرحُ الذي يورث الأشر والبطر، ولهذا قال ابن عباس:«ليس من أحدٍ إِلا وهو يحزن ويفرح، ولكنَّ المؤمن يجعل مصيبته صبراً، وغنيمته شكراً» ومعنى الآية: لا تحزنوا حزناً يخرجكم إِلى أن تهلكوا أنفسكم، ولا تفرحوا فرحاً شديداً يطغيكم حتى تأشروا فيه وتبطروا، ولهذا قال بعض العارفين:«من عرف سرَّ الله في القدر هانت عليه المصائب» وقال عمر رضي الله عنه: «ما أصابتني مصيبة إِلا وجدت فيها ثلاث نعم: الأولى: أنها لم تكن في ديني، الثانية: أنها لم تكن أعظم مما كانت، الثالثة: أن الله يعطي عليها الثواب العظيم والأجر الكبير {وَبَشِّرِ الصابرين الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون} [البقرة: 155157]{والله لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي لا يحب كل متكبر معجبٍ بما أعطاه الله من حظوظ الدنيا، فخور به على الناس. . ثم بيَّن تعالى أوصاف هؤلاء المذمومين فقال {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} أي يبخلون بالإِنفاق في سبيل الله، ولا يكفيهم ذلك حتى يأمروا الناس بالبخل ويرغبوهم في الإِمساك {وَمَن يَتَوَلَّ} أي ومن يعرض عن
الإِنفاق {فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} أي فإِن الله مستغنٍ عنه وعن إِنفاقه، محمودٌ في ذاته وصفاته، لا يضره الإِعراض عن شكره، ولا تنفعه طاعة الطائعني، وفيه وعيدٌ وتهديد {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات} اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لقد بعثنا رسلنا بالحجج القواطع والمعجزات البينات {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان} أي وأنزلنا معهم الكتب السماوية التي فيها سعادة البشرية، وأنزلنا القانون الذي يُحكم به بين الناس، وفسَّر بعضهم الميزان بأنه العدلُ وقال ابن زيد: وهو ما يُوزن به ويُتعامل {لِيَقُومَ الناس بالقسط} أي ليقوم الناس بالحق والعدل في معاملاتهم {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي وخلقنا وأوجدنا الحديد فيه بأس شديد، لأن آلات الحرب تُتخذ منه، كالدروع، والرماح، والتروس، والدبابات وغاير ذلك {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أي وفيه منافع كثير للناس كسكك الحراثة، والسكين، والفأس وغير ذلك وما من صناعةٍ إِلا والحديدُ آلة فيها قال أبو حيان: وعبَّر تعالى عن إيجاده بالإِنزال كما قال
{وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] لأن الأوامر وجميع القضايا والأحكام لما كانت تُلقى من السماء جعل الكل نزولاً منها، وأراد بالحديد جنسه من المعادن قاله الجمهور {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب} عطفٌ على محذوف مقدر أي وأنزلنا الحديد ليقاتل به المؤمنون أعداءهم ويجاهدوا لإِعلاء كلمة الله، وليعلم الله من ينصر دينه ورسله باستعمال السيوف والرماح وسائر الأسلحة مؤمناً بالغيب قال ابن عباس: ينصرونه ولا يبصرونه، ثم قال تعالى {إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي قادر على الانتقام من أعدائه بنفسه، عزيزٌ أي غالب لا يُغالب فهو غني بقدرته وعزته عن كل أحد قال البيضاوي: أي قويٌ على إِهلاك من أراد إِهلاكه، عزيزٌ لا يفتقر إِلى نصرة أحد، وإِنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به ويستوجبوا الثواب وقال ابن كثير: معنى الآية أنه جعل الحديد رادعاً لمن أبى الحقَّ وعانده بعد قيام الحجة عليه، ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بمكة ثلاث عشرة سنة تُوحى إِليه السور، ويقارعهم بالحجة والبرهان، فلما قامت الحجة على من خالف أمر الله، شرع الله الهجرة وأمر المؤمنين بالقتال بالسيوف وضرب الرقاب، ولهذا قال عليه السلام «بُعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجُعل رزقي تحت ظل رُمحي، وجعل الذي والصِّغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم» ثم قال تعالى {إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي هو قوي عزيز ينصر من شاء من غير احتياج منه إِلى الناس، وإِنمام شرع الجهاد ليبلو بعضهم ببعض {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب} لما ذكر بعثة الرسل ذكر هنا شيخ الأنبياء نوحاً عليه السلام، وأبا الأنبياء إِبراهيم عليه السلام وبيَّن أنه جعل في نسلهما النبوة والكتب السماوية أي وباللهِ لقد أرسلنا نوحاً وإِبراهيم وجعلنا النبوة في نسلهما، كما أنزلنا الكتب الأربعة ويه «التوراة والزبور والإِنجيل والقرآن» على ذريتهما، وإِنما خصَّ نوحاً وإِبراهيم بالذكر تشريفاً لهما وتخليداً لمآثرهما الحميدة {فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي فمن ذرية نوح وإِبراهيم أناس مهتدون، وكثيرٌ منهم عصاٌ خارجون عن الطاعة وعن الطريق المستقيم {ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا} أي ثم
أتبعنا بعدهم برسلنا الكرام، أرسلناهم رسولاً بعد رسول، موسى، وإِلياس، وداود، وسليمان، ويونس وغيرهم {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ} أي وجعلناه بعد أولئك الرسل لأن كان آخر الأنبياء من بني إِسرائيل {وَآتَيْنَاهُ الإنجيل} أي وأنزلنا عليه الإِنجيل الذي فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم َ {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً} أي وجعلنا في قلوب أتباعه الحواريين الشفقة واللين قال في التسهيل: هذا ثناء من اله عليهم بمحبة بعضهم في بعض كما وصف تعالى أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم َ بأنهم
{رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]{وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي ورهبانيةً ابتدعها القسسُ والرهبان وأحدثوها من تلقاء أنفسهم، ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها قال أبو حيان: والرهبانيةُ رفضُ النساء وشهوات الدنيا، واتخاذ الصوامع ومعنى {ابتدعوها} أي أحدثوها من عند أنفسهم {إِلَاّ ابتغآء رِضْوَانِ الله} أي ما أمرناهم إِلا بما يرضي الله، والاستثناء منقطع والمعنى ما كتبان عليهم الرهبانية، ولكنه فعلوها من تلقاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي فما قاموا بها حقَّ القيام، ولا حافظوا عليها كما ينبغي قال ابن كثير: وهذا ذمٌ لهم من وجهين: أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به اللهُ والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة تقربهم إِلى الله عز وجل، وفي الحديث «لكل أمة رهبانية، ورهبانةي أمتي الجهاد في سبيل الله» {فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} أي فأعطينا الصالحين من أتباع عيسى الذين ثبتوا على العهد وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم َ ثوابهم مضاعفاً {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي وكثير من النصارى خارجون عن حدود الطاعة منتهكون لمحارم الله كقوله تعالى {إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} [التوبة: 34]{ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ} أي يا من صدقتم بالله اتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ودوموا واثبتوا على الإِيمان {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} أي يعطكم ضعفين من رحمته {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} أي ويجعل لكم في الآخرة نوراً تمشون به على الصراط {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي ويغفر لكم ما أسلفتم من المعاصي {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة {لِّئَلَاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَلَاّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّن فَضْلِ الله} أي إنما بالغنا في هذا البيان ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بهم، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة فيهم، فلا في قوله {لِّئَلَاّ} زائدة والمعنى ليعلم المفسرون: إن أهل الكتاب كانوا يقولون الوحي والرسالة فينا، والكتابُ والشرع ليس إِلا لنا، والله خصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جميع العالمين، فردَّ الله عليهم بهذه الآية الكريمة {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} أي وأن أمر النبوة والهداية والإِيمان بيد الرحمن يعطيه لمن يشاء من خلقه {والله ذُو الفضل العظيم} أي والله واسع الفضل والإِحسان.
البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الطباق بين {يُحْيِي وَيُمِيتُ} وبين {الأول والآخر} وبين {الظاهر والباطن} .
2 -
المقابلة بين {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} وبين {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا}
[الحديد: 4] .
3 -
رد العجز على الصدر {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} [الحديد: 6] وهو وما سبقه من المحسنات البديعية.
4 -
حذف الإِيجاز {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] حذف منه جملة «ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل» وذلك لدلالة الكلام عليه ويسمى هذا الحذف بالإِيجاز.
5 -
الاستعارة اللطيفة {لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [الحديد: 9] أي ليخرجكم من ظلمات الشرك إِلى نور الإِيمان، فاستعار لفظ {الظلمات} للكفر والضلالة ولفظ {النور} للإِيمان والهداية وقد تقدم.
6 -
الاستعارة التمثيلية {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [الحديد: 11] مثَّل لمن ينفق ماله ابتغاء وجه الله مخلصاً في عمله بمن يُقرض ربه قرضاً واجب الوفاء بطريق الاستعارة التمثيلية.
7 -
الأسلوب التهكمي {مَأْوَاكُمُ النار هِيَ مَوْلَاكُمْ} [الحديد: 15] أي لا ولي لكم ولا ناصر إِلا نار جهنم وهو تهكم بهم.
8 -
المقابلة اللطيفة بين قوله {بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة} وقوله {وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب} [الحديد: 13] .
9 -
التشبيه التمثيلي {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً. .} لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
10 -
الجناس الناقصس {أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} لتغير الشكل وبعض الحروف.
11 -
السجع المرصَّع كأنه الدر المنظوم {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} وقوله تعالى {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب} [الحديد: 13] وهو كثير في القرآن.
اللغَة: {تَحَاوُرَكُمآ} المحاورة: المراجعة في الكلام من حار الشيء يحور إِذا رجع يرجع ومنه الدعاء المأثور «نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر» قال عنترة في فرسه:
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
…
ولكان لو علم الكلام مكلمي
{يُظَاهِرُونَ} الظهار مشتق من الظهر يقال: ظاهر من امرأته إِذا حرمها على نفسه بقوله: أنتِ عليَّ كظهر أُمي {مُنكَراً} المنكر: كل ما قبَّحه الشرع وحرَّمه ونفَّر منه، وهو خلاف المعروف {يُحَآدُّونَ} المحادَّة: المعادة والمخالفة في الحدود والأحكام وهي مثل المشاقة قال الزجاج: المحادَّة أن تكون في حدٍّ يخالف حد صاحبك، وأصلها الممانعة {كُبِتُواْ} الكبتُ: القهر والإِذلال
والخزي يقال: كبته أي قهره وأخزاه {نجوى} النجوى: الكلام بين اثنين فأكثر سراً، تناجى القوم تحدثوا فيما بينهم سراً {حَسْبُهُمْ} كافيهم.
سَبَبُ النّزول: أروي «أن» خولة بن ثعلبة «امرأة» أوس بن الصامت «أراد زوجها مواقعتها يوماً فأبت، فغضب وظاهر منها، فأتت رسول اله صلى الله عليه وسلم َ وقالت يا رسول الله: إن أوساً ظاهر مني بعد أن كبرت سني، ورقَّ عظمي، وإنَّ لي منه صبيةً صغاراً، إِن ضممتُهم إِليه ضاعوا، وإِن ضممتهم إِليَّ جاعوا فما ترى!! فقال لها: ما أراك إِلا قد حرمت عليه، فقالتْ يا رسول الله: واللهِ ما ذكر طلاقاً وهو أو ولدي وأحبُّ الناس إِليَّ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يعيد قوله: ما أراك إِلا قد حرمتِ عليه، هي تكرر قولها، فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزل قول الله تعالى {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله. .} » الآيات.
التفسِير: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} «قد» لا تدخل إِلا على الأفعال، وإِذا دخلت على الماضي أفادت التحقيق، وإِذا دخلت على المضارع أفادتم التقليل كقولك: قد يجودُ البخيلُ، وقد ينزل المطر والمعنى: حقاً لقد سمع الله قول المرأة التي تراجعك وتحاورك في شأن زوجها قال الزمخشري: ومعنى سماعه تعالى لقولها إِجابة دعائها، لا مجرد عمله تعالى بذلك، وهو كقول المصلي: سمع اللهُ لمن حمده {وتشتكي إِلَى الله} أي وتتضرع إِلى الله في تفريضج كربتها {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} أي واللهُ جلَّ وعلا يسمع حديثكما ومراجعتكما الكلام، ماذا قالت لك، وماذا رددت عليها {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي سميع بمن يناجيه ويتضرع إِليه، بصير بأعمال العباد، وهو كالتعليل لما قبله، وكلاهما من ضيع المبالغة أي مبالغ في العلم بالمسموعات والمبصرات.
. ثم ذمَّ تعالى الظهار وبيَّن حكمه وجزاء فاعله فقال {الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} أي الذين يقولون لنسائهم: أنتن كظهور أمهاتنا يقصدون بذلك تحرمهن عليهم كتحريم أمهاتهن، لسن في الحقيقة أمهاتهم وإِنما هنَّ زوجاتهم قال الإِمام الفخر: الظهار هو عبارة عن قول الرجل لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أمي، يقصد عُلُوّي عليك حرامٌ كعلوي على أمي، والعربُ تقول في الطلاق: نزلتُ عن أمرأتي أي طلقتها، فغرضهم من هذه اللفظة تحريم معاشرتها
تشبيهاً بالأم وقوله {مِنكُمْ} توبيخٌ للعرب وتهجينٌ لعادتهم في الظهار لأنه كان من أيمان أهل الجاهلية خاصةً دون سائر الأمم {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَاّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} أي ما أمهاتهم في الحقيقة إِلَاّ الوالدات اللات ولدنهم من بطونهم وفي المثل «ولدك من دمَّى عقبيك» وهو تأكيد لقوله {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} زيادة في التوضيح والبيان {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً} أي والحال إِن هؤلاء المظاهرين ليقولون كلاماً منكراً تننكره الحقيقة وينكره الشرع، وهو كذبٌ وزورٌ وبهتان {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي مبالغ في العفو والمغفرة لمن تاب وأناب قال في التسهيل: أخبر تعالى أن الظهار منكر وزور، فالمنكر هو الذي لا تعرف له حقيقة، والزور هو الكذب، وإِنما جعله كذباً لأن المظاهر يجعل امرأته كأمه. وهي لا تصير كذلك أبداً والظهار محرم ويدل على تحريمه أربعة أشياء: أحدها قوله {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} فإِن ذلك تكذيب للمظاهر والثاني أنه سمَّاه منكراً والثالث أنه سماه زوراً والرابع قوله تعالى {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} فإِنَّ العفو والمغفرة لا تقع إِلا عن ذنب، والذنب مع ذلك لازمٌ للمظاهر حتى يرفعه بالكفارة. . ثم بيَّن تعالى طريق الكفارة عن هذا القول الشنيع فقال {والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} أي يظاهرون من زوجاتهم بتشبيههنَّ بالأمهات {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} أي يعودون عمَّا قالوا، ويندمون على ما فرط منهم، ويرغبون في إعادة أزواجهم إِليهم {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} أي فعليهم إِعتاقُ رقبةٍ عبداً كان أو أمةً من مقبل أن يعاشر زوجته التي ظاهر منها أو يجامعها، والتَّماسُّ كنابةٌ عن الجماع ودواعيه من التقبيل واللمس عند الجمهور قال الخازن: المرادُ من التماسِّ المجامعةُ فلا يحل للمظاهر وطءُ امرأته التي ظاهر منها ما لم يُكفِّر وقال القرطبي: لا يجوز للمظاهر الوطءُ قبل التكفير، فإِن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولايسقط عنه التكفير، وعن مجاهد تلزمه كفارتان {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي ذلكم هو حكم الله فيمن ظاهر ليتعظ به المؤمنون، حتى تتركوا الظهار ولا تعودوا إليه {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي عالم بظواهر الأمور وبواطنها ومجازيكم بها، فحافظوا على حدود ما شرع لكم من الأحكام {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} أي فمن لم يجد الرقبة التي يعتقها فعليه صيام شهرين متواليين من قبل الجماع قال المفسرون: لو أفطر يوماً منها انطقع التتابع ووجب عليه أن يستأنفها {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} أي فمن لم يستطع الصيام لكبرٍ أو مرمض، فعليه أن يُطعم ستين مسكيناً ما يشبعهم {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي ذلك الذي بيناه من أحكام الظهار من أجل أن تصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه، ولا تستمروا على أحكام الجاهلية {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} أي وتلك هي أوامرُ اله وحدوده فلا تعتدوها {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي وللجاحدين والمكذبين بهذه الحدود عذاب مؤلم موجع قال الألوسي: أطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظاً وزجراً.
. {إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ} ولما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده، ذكر المحادين المخالفين لها فقال {إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ} أي يخالفون أمر الله ورسوله، ويعادون الله ورسوله قال أبو السعود: أي
يعادونهما ويشاقونهما لأن كلاً من المتعاديين في حدٍّ وجهة غير حدِّ الآخر وجهته، وإِنما ذكرت المحادَّة هنا دون المعاداة والمشاقّة لمناسبة ذكر «حدود الله» فكان بينهما من حسن الموقع ما لا غاية وراءه {كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي خُذلوا وأهينوا كما خُذل من قبلهم من المنافقين والكفار الذين حادُّوا الله ورسله وأُذلوا وأُهينوا {وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي والحال أنا قد أنزلنا آياتٍ واضحات، فيها الحلال والحرام، والفرائض والأحكام {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي وللكافرين الذين جحدوها ولم يعملوا بها عذاب شديد يهينهم ويذهب عزَّهم قال الصاوي: وقد نزلت هذه الآية في كفار مكة يوم الأحزاب حين أرادوا التحزب على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ والمقصودُ بها تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وبشارته مع المؤمنين بأن أعدائهم المتحزبين سيذلون ويخذلون ويفرق جمعهم فلا تخشوا بأسهم {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً} أي اذكر ذلك اليوم الرهيب حين يحشر الله المجرمين كلهم في صعيد واحد {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عملوا} أي فيخبرهم بما ارتكبوا في الدنيا من جرائم وآثام {أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ} أي ضبطه الله وحفظه عليهم في صحائف أعمالهم، بينما هم نسوا تلك الجرائم لاعتقادهم أن لا حساب ولا جزاء {والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي وهو جل وعلا مطَّلع وناظر لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه شيء. . ثم بيَّن تعالى سعمة علمه، وإحاطته بجميع الأشياء، وأنه تعالى يرى الخلق ويسمع كلامهم ويرى مكانهم حيث كانوا وأين كانوا فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} أي ألم تعلم أيها السامع العاقل أن الله مطَّلع على كل ذرةٍ في الكون، لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يخفى عليه سرٌّ ولا علانية، ما يقع من حديثٍ وسرٍّ بين ثلاثة أشخاص إِلا كان الله رابعهم بعلمه ومشاركاً لهم فيما يتحدثون ويتهامسون به في خفية عن الناس.
{وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ} أي ولا يقع مناجاةٌ وحديث بالسر بين خمسة أشخاص إِلا كان الله معهم بعلمه حتى يكون هو سادسهم {وَلَا أدنى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ} أي ولا أقلَّ من ذلك العدد ولا أكثر منه إِلاّ واللهُ معهم يعلم ما يجري بينهم من حديثٍ ونجوى، والغرض: أنه تعالى حاضر عباده، مطَّلع على أحوالهم وأعمالهم، وما تهجس به أفئدتهم، لا يفخى عليه شيء من أمور العباد، ولهذا ختم الآية بقوله {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي ثم يخبرهم تعالى بما عملوا من حسن وسيء ويجازيهم عليه يوم القيامة، لأنه عالم بكل شيء من الأشياء قال المفسرون: ابتدأ الله هذه الآيات بالعلم بقوله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ} واختتمها بالعلم بقوله {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لينبه إِلأى إِحاطة علمه جل وعلا بالجزيئات والكليات، وأنه لا يغيب عنه شيء في الكائنات لأنه قد أحاط بكل شيء علماً، قال ابن كثير: وقد حكى غير واحد الإِجماع على أن المراد بالمعية في هذه الآية {إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ} معية علمه تعالى، ولا شك في إِرادة ذلك، فسمعه مع علمه محيط بهم، وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه مطَّلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء. . ثم أخبر تعالى عن أحوال اليهود والمافقين فقال:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى} قال القرطبي: نزلت في
اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فشكوا ذلك إِلأى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} أي ثم يرجعون إِلى المناجاة التي نهُوا عنها قال أبو السعود: والهمزة {أَلَمْ تَرَ} للتعجيب من حالهم، وصيغة المضارع {ثُمَّ يَعُودُونَ} للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة {وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول} أي ويتحدثون فيما بينهم بما هو إِثم وعدوان ومخالفة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم َ لأن حديثهم يدور حول المكمر والكيد بالمسلمين، قال أبو حيان: بدأ بالإِثم لعمومه، ثم بالعُدوان لعظمته في النفوس إِذ هي ظُلامات العباد، ثم ترقَّى إِلى ما هو أعظم وهو معصية الرسول عليه الصلاة والسلام ُ، وفي هذا طعنٌ على المنافقين إِذ كان تناجيهم في ذلك {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} أي وإِذا أحضروا عندك يا محمد حيَّوك بتحيةٍ ظالمةٍ لم يشرعها الله ولم يأذن فيها، وهي قولهم «السامُ عليكم» أي الموت عليكم قال المفسرون:
«كان اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فيقولون: السامُ علكيم بدلاً من السلام عليكم، والسامُ الموتُ وهو ما أرادوه بقولهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقول لهم: وعلكيم لا يزيد عليها، فسمعتهم عائشة يوماً فقالت: بل عليكم السماُ واللعنة، فلما انصرفوا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: مهلاً يا عائشة، إِن الله يكره الفُحش والتفحش فقال يا رسول الله: أما سمعتَ ما قالوا؟ فقال لها: أما سمعتِ ما قلت لهم؟ إِني قلت لهم: وعليكم، فيستجيب الله لي فيهم، ولا يستجيب لهم فيَّ» {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} اي ويقولون فيما بينهم، هلَاّ يعذبنا الله بهذا القول لو كان محمداً نبياً؟ فلو كان نبياً حقاً لعذبنا الله على هذا الكلام قال تعالى رداً عليهم {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} أي يكفيهم عذاباً أن يدخلوا نار جهنم ويصلوا حرها {فَبِئْسَ المصير} أي بئست جهنم مرجعاً ومستقراً لهم قال ابن العربي: كانوا يقولون: لو كان محمد نبياً لما أمهلنا الله بسبَه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليمٌ لا يعاجل العقوبة لمن سبَّه فكيف من سبَّ نبيه!! وقد ثبت في الصحيح «لا أحد أصبر على الأذى من الله، يدعون له الصاحبة والولد وهو يعاقبهم ويرزقهم» فأنزل الله تعالى هذا كشفاً لسرائرهم، وفضحاً لبواطنهم وتكريماً لرسوله صلى الله عليه وسلم َ، وأما إمهالهم في الدنيا فمن كراماته صلى الله عليه وسلم َ على ربه لكونه بعث رحمةً للعالمينِ. . ثم نهى تعالى المؤمنين عن التناجي بما هو إِثم ومعصية فقال {ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول} أي إِذا تحدثتم فيما بينكم سراً فلا تتحدثوا بما فيه إِثم كالقبيح من القول، أو بما هو عدوان على الغير، أو مخالفة ومعصية لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم َ {وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى} أي وتحدثوا بما فيه خيرٌ وطاعة وإحسان قال القرطبي: نهى تعالى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود، وأمرهم أن يتناجوا بالطاعة والتقوى والعفاف عما نهى الله عنه {واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وخافوا الله بامتثالكم أوامره واجتنابكم نواهيه، الذي سيجمعكم للحساب، ويجازي كلاً بعمله {إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ} أي
ليست النجوى بالإِثم والعدوان إِلا من تزيين الشيطان، ليُدخل به الحزن على المؤمنين قال ابن كثير: أي إِنما يصدر هذا من المتناجين عن تزيين الشيطان وتسويله {وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلَاّ بِإِذْنِ الله} أي وليس هذا التناجي بضارٍ للمؤمنين شيئاً إِلآ بمشيئة الله وإرادته {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أي وعلى الله وحدجه فليعتمد ولْيثق المؤمنون، ولا يبالوا بنجوى المنافقين فإن الله يعصمهم من شرهم وكيدهم، وفي الحديث «إِذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإِن ذلك يحزنه» .
المنَاسَبَة: لما نهى تعالى عباده المؤمنين عمَّا يكون سبباً للتباغض والتنافر، أمرهم بما يصير سبباً لزيادة المحبة والمودَّة، وهو التوسع في المجالس بأن يفسح بعضهم لبعض، ثم حذَّر من موالاة أعداء الله، وختم السورة الكريمة ببيان أوصاف المؤمنين الكاملين.
اللغَة: {تَفَسَّحُواْ} توسَّعوا يقال: فسح له في المجلس أي وسَّع له، منه مكان فسيح اي واسع {انشزوا} انهضوا وارتفعوا يقال: نشز ينشُز إِذا تنحَّى من مجلسه وارتفع منه، وأصله من النَّشز
وهو ما ارتفع من الأرض {جُنَّةً} بضم الجيم وقاية {استحوذ} استولى وغلب على عقولهم {الأذلين} الأذلاء المغمورين في الذل والهوان.
سَبَبُ النّزول: أعن مقاتل قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم َ يُكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناسٌ من أهل بدر فيهم» ثابت بن قيس «وقد سُبقوا إِلى المجلس، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم َ على أرجلهم ينتظرون أن يوسَّع لهم فلم يفسحوا لهم، فشقَّ ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال لمن حوله من غير أهل بدر قم يا فلان، فم يا قلان، بعدد الواقفين من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وطعن المنافقون في ذلك وقالوا: ما عدل هؤلاء، قوم أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه!! فأنزل الله تعالى {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ. .} » الآية.
ب عن ابن عباس قال: «إن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وأكثروا عليه حتى شقَّ ذلك عليه صلى الله عليه وسلم َ فأراد الله أن يخفّف عن نبيه ويثبِّطهم عن ذلك فأنزل الله {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً. .} الآية فلما نزلت جبن كثير من المسلمين وكفَّوا عن المسألة.
ج قال السدي:» كان «عبد الله بن نبتل» المنافق يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ويرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في حجرةٍ من حجراته إِذ قال يدخل عليكم الآن رجلٌ قلبه قلبُ جبار وينظر بعيني شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق العينين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم َ: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم َ: بل فعلت، فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبُّوه فأنزل الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} «.
التفسِير: {ياأيها الذين آمَنُواْ} نداءٌ من الله تعالى للمؤمنين بأكرم وصفٍ وألطف عبارة أي يا من صدَّقتم الله ورسوله وتحليتم بالإِيمان الذي هو زينة الإِنسان {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا} أي إِذا قال لكم أحد توسعوا في المجالس سواءً كان مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم َ أو غيره من المجالس فتوسعوا وافسحوا له {يَفْسَحِ الله لَكُمْ} أي يوسِّع لكم ربكم في رحمته وجنته قال مجاهد: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم َ فأُمروا أن يفسح بعضهم لبعض قال الخازن: أمر الله المؤمنين بالتواضع وأن يفسحوا في المجلس لمن أراد الجلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم َ لتساوى الناس في الأخذ من حظهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وفي الحديث» لايقيمنَّ أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكنْ توسَّعوا وتفسَّحوا يفسح اللهُ لكم «قال الإِمام الفخر: وقوله {يَفْسَحِ الله لَكُمْ} مطلٌ
في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه في المكان، الرزق، والصدر، والقبر، والجنة، واعلم أن الآية دلت على أن كل من وسَّع على عباد الله أبواب الخير والراحة وسَّع عليه خيرات الدنيا والآخرة وفي الحديث
«لايزال الله في عون العبد ما زال العبد في عون أخيه» {وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ} أي وإِذا قيل لكم أيها المؤمنون انهضوا من المجلس وقوموا لتوسّعوا لغيركم فارتفعوا منه وقوموا قال ابن عباس: معناه إِذا قيل لكم ارتفعوا فارتفعوا قال في البحر: أُمروا أولاً بالتفسح في المجلس، ثم ثانياً بامتثال الأمر فيه إِذا أُمروا، وألا يجدوا في ذلك غضاضة {يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ} أي يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله، والعالمين منهم خاصة أعلى المراتب، ويمنحهم أعلى الدرجات الرفيعة في الجنة قال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية ثم قال: يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم فإن الله يقول يرفع المؤمن العالم فوق المؤمن الذي ليسبعالم درجات وقال القرطبي: بيّن في هذه الآية أن الرفعة عند الله بالعلم والإِيمان، لا بالسبق إِلى صدور المجالس، وفي الحديث «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وعنه صلى الله عليه وسلم َ «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء» فأعظمْ بمنزلةٍ هي واسطةٌ بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي خبير بمن يستحق الفضل والثواب ممن لا يستحقه {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول} أي إِذا أردتم محادثته سراً {فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} أي فقدموا قبلها صدقة تصدَّقوا بها على الفقراء قال الألوسي: وفي هذا الأمر تعظيم لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم َ، ونفعٌ للفقراء، وتمييزٌ بين المخلص والمنافق، وبين محب الدنيا ومحب الآخرة {ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} أي تقديم الصدقاتن قبل مناجاته أفضل لكم عند الله لما فيه من امتثال أمر الله، وأطهر لذنوبكم {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي فإِن لم تجدوا ما تتصدقون به فإِن الله يسامحكم ويعفو عنكم، لأنه لم يكلف بذلك إِلا القادر منكم {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} عتابٌ للمؤمنين رقيقٌ رفيق أي أخفتم أيها المؤمنون الفقر إِذا تصدقتم قبل مناجاتكم للرسول صلى الله عليه وسلم َ؟ والغرضُ: لا تخافوا فإِن الله يرزقكم لأنه غني بيده خزائن السموات والأرض، وهو عتاب لطيف كما بينا، ثم نسخ
تعالى الحكم تيسيراً على المؤمنين فقال {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} أي فإِذا لم تفعلوا ما أُمرتم به وشقَّ ذلك عليكم، وعفا الله عنكم بأن رخَّص لكم مناجاته من غير تقديم صدقة {فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} أي فاكتفوا بالمحافظة على الصلاة ودفع الزكاة المفروضة {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في جميع أحوالكم {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي محيطٌ بأعمالكم ونياتكم قال المفسرون: نسخ الله ذلك تخفيفاً على العباد حتى قال ابن عباس: ما كان ذلك إِلا ساعةً من نهار ثم نسخ قال القرطبي: نسختْ فرضيةُ الزكاة هذه الصدقة، وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: «آية في كتاب الله لم يعمل بها على أحد قبلي ولا بعدي، كان عندي دينار فتصدقت به ثم ناجيت الرسول صلى الله عليه وسلم َ الخ فضعيفٌ لأن الله تعالى قال {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} وهذا يدل على أن أحداً لم يتصدق بشيء {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم} تعجيبٌ للرسول صلى الله عليه وسلم َ من أمر المنافقين الذين اتخذوا اليهود المغضوب عليهم أولياء، يناصحونهم وينقلون إِليهم أسرار المؤمنين!! قال الإِمام الفخر: كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله
{مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] وكانوا ينقلون إِليهم أسرار المؤمنين {مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} أي ليس هؤلاء المنافقون من المسلمين ولا من اليهود، بل هم مذبذبون بين ذلك كقوله تعالى {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لَا إلى هؤلاء وَلَا إِلَى هؤلاء} [النساء: 43] قال الصاوي: أي ليسوا من المؤمنين الخلَّص، ولا من الكافرين الخُلَّص، لا ينتسبون إِلى هؤلاء ولا إِلى هؤلاء {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي ويحلفون بالله كاذبين يقولون: والله إِنا لمسلمون، وهم يعملون أنهم كذبة فجرة قال أبو السعود: والصيغةُ مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا، فإِن الحلف على ما يُعلم أنه كذبٌ في غاية القبح {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} أي هيأ لهم تعالى بسبب نفاقهم عذاباً في نهاية الشدة والألم، وهو الدرك الأسفل في جهنم
{إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} [النساء: 145]{إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي بئس ما فعلوا وبئس ما صنعوا {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي جعلوا أيمانهم الكاذبة الفاجرة وقايةً لأنفسهم وسترةً لها من القتل قال في التسهيل: أصل الجُنَّة ما يُستتر به ويُتقى به المحذور كالترس، ثم استعمل هنا بطريق الاستعارة لأنهم كانوا يظهرون الإِسلام ليعصموا دماءهم وأموالهم {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي فمنعوا الناس عن الدخول في الإِسلام، بإِلقاء الشبهات في قلوب الضعفاء والمكر والخداع بالمسلمين {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي فلهم عذاب شديد في غاية الشدة والإِهانة {لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً} أي لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم في الآخرة، ولن تدفع عنهم شيئاً من عذاب الله {أولئك أَصْحَابُ النار
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم أهل النار لا يخرجون منها أبداً {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً} أي يحشرهم يوم القيامة جميعاً للحساب والجزاء {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} أي فيحلفون لله تعالى كما يحلفون لكم اليوم في الدنيا كذباً أنهم مسلمون قال بان عباس: هو قولهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ} أي يظنون أن حلفهم في الآخرة ينفعهم وينجيهم من عذابها كما نفعهم في الدنيا بدفع القتل عنهم قال أبو حيان: والعجب منهم كيف يعتقدون أن كفرهم يخفى على علَاّم الغيوب، ويجرونه مجرى المؤمنين في عدم اطلاعهم على كفرهم ونفاقهم، والمقصود أنهم تعودوا الكذب حتى كان على ألسنتهم في الآخرة كما كان في الدنيا {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} أي ألا فانتبهوا أيها الناس إِن هؤلاء هم البالغون في الكذب الغاية القصوى حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله} أي استولى على قلوبهم الشيطان وغلب عليهم تملَّك نفوسهم حتى أنساهم أن يذكروا ربهم {أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ} أي أولئك هم أتباع الشيطان وأعوانه وأنصاره {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} أي أتباع الشيطان وجنوده هم الكاملون في الخسران والضلالة، لأنهم فوَّتوا على أنفسهم النعيم الدائم وعرضوها للعذاب المقيم {إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ} أي يعادون الله ورسوله ويخالفون أمرهما {أولئك فِي الأذلين} أي أولئك في جملة الأذلاء المبعدين من رحمة الله {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} أي قضى الله وحكم أن الغلبة لدينه ورسله وعباده المؤمنين {إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي هو تعالى قويٌ على نصر رسله وأوليائه، غالبٌ على أعدائه، لا يُقهر ولا يُغلب قال مقاتل: لما فتح الله مكة والطائف وخيبر للمؤمنين قالوا: نرجو أن يُظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن سلول: أتظنون أن الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها؟! والله إِنهم لأكثر عدداً، وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت {تَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} {لَاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} أي لا يمكن أن ترى أيها السامع جماعة يصدقون بالله وباليوم الآخر يحبون ويوالون من عادى الله ورسوله وخالف أمرهما، لأن من أحبَّ الله عادى أعداءه، ولا يجتمع في قلب واحد حبٌّ الله وحبُّ أعدائه، كما لا يجتمع النور والظلام قال المفسرون: غرضُ الآية النهي عن مصادقة ومحبة الكفرة والمجرمين، ولكنها جاءت بصورة إِخبارٍ مبالغةً في النهي والتحذير قال الإِمام الفخر: المعنى أنه لا يجتمع الإِيمان مع حبِّ أعداء الله، وذلك لأن من أحبَّ أحداً امتنع أن يحب عدوه، لأنهما لا يجتمعان في القلب، فإِذا حصل في القلب مودة أعداء الله لم يحصل فيه الإِيمان {وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} أي ولو كان هؤلاء المحادُّون لله ورسوله أقرب الناس إِليهم، كالآباء، والأبناء، والإِخوان، والعشير، فإِن قضية الإِيمان بالله تقتضي معاداة أعداء الله قال في البحر: بدأ بالآباء لأن طاعتهم واجبة على الأولاد، ثم بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب، ثم بالإِخوان لأنهم بهم التعاضد، ثم بالعشيرة لأن بهم التناصر والمقاتلة والتغلب على
الأعداء كما قال القائل:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
…
في النائبات على ما قال برهانا
قال ابن كثير: نزلت {وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ} في «أبي عبيدة» قتل أباه الجراح يوم بدر، {أَوْ أَبْنَآءَهُمْ} في الصِّديق همَّ بقتل انبه «عبد الرحمن بن أبي بكر» {أَوْ إِخْوَانَهُمْ} في مُصعب بن عمير قتلا أخاه عُبيد بن عمير يومئذٍ {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} في حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، قتلوا عُتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة يوم بدر {أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} أي أثبت الإِيمان ومكنه في قلوبهم، فهي مؤمنةٌ موقنةٌ مخلصة {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} أي وقوَّاهم بنصره وتأييده قال ابن عباس: نصرهم على عدوهم، سمى ذلك النصر روحاً لأن به يحيا أمرهم {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي ويدخلهم في الآخرة بساتين فسيحة، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ما كثين فيها أبد الآبدين {رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} أي قبل الله أعمالهم فرضي عنهم، ونالوا ثوابه فرضوا بما أعطاهم، وإِنما ذكر رضوانه عليهم بعدد دخولهم الجنة لأنه أعظم النعم، وأجل المراتب قال ابن كثير: وفي الآية سر بديع وهو أنهم لما سخطوا على الألقاب والعشائر في الله تعالى، عوَّضهم الله بالرضا عنهم وأرضاهم بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم {أولئك حِزْبُ الله} أي أولئك جماعة الله وخاصته وأولياؤه {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} أي هم الفائزون بخيري الدنيا والآخرة، وهذا في مقابلة قوله تعالى {أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} .
البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
صيغة المبالغة في {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] وفي {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وفي {على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6] .
2 -
الإِطناب بذكر الأُمهات {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ} [المجادلة: 2] زيادةً في التقرير والبيان.
3 -
الطباق {وَلَا أدنى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ} [المجادلة: 7] لأن معنى أدنى أقل فصار الطباق بينها وبين أكثر.
4 -
عطف الخاص على العام تنبيهاً على شرفه {يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ} فإن {والذين أُوتُواْ العلم} دخلوا في المؤمنين أولاً ثم خصوا بالذكر ثانياً تعظيماً لهم.
5 -
الاستعارة {فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} استعار اليدين لمعنى قبل أي قبل نجواكم.
6 -
الاستفهام والمراد منه التعجيب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم. .} .
7 -
الجناس الناقص بين {يَعْلَمُونَ} و {يَعْمَلُونَ} لتغير الرسم.
8 -
المقابلة بين {أولئك حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} وبين {أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ. .} الآية.
9 -
تحلية الجملة بفنون المؤكدات مثل: «ألا، وإِنَّ، وهم» في قوله {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} .
10 -
توافق الفواصل في الحرف الأخير مثل {الخاسرون، الكاذبون، خالدون، يعملون} .
لطيفَة: روى الإِمام أحمد عن أبي الطفيل أن «نافع بن عبد الحارث» لقي عمر بن الخطاب بعسفان وكان عمر استعمله على مكة فقال عمر: من استخلفت على أهل البوداي؟ فقال: استخلفت عليهم: «ابن أبزى» فقال: ومن ابن أبزى؟ فقال: رجلٌ من موالينا فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال يا أمير المؤمنين: إنه قارىءٌ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاضٍ، فقال عمر رضي الله عنه: أما إِن نبيكم صلى الله عليه وسلم َ قال: «إِن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين» .