المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

اللغَة: ‌ ‌{عَبَسَ} كلح وجهه وقطَّب {تصدى} تتعرض له وتصغي لكلامه - صفوة التفاسير - جـ ٣

[محمد علي الصابوني]

الفصل: اللغَة: ‌ ‌{عَبَسَ} كلح وجهه وقطَّب {تصدى} تتعرض له وتصغي لكلامه

اللغَة: ‌

{عَبَسَ}

كلح وجهه وقطَّب {تصدى} تتعرض له وتصغي لكلامه {سَفَرَةٍ} السفرة: الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد جمع سافر مثل كاتب كَتَبة {فَأَقْبَرَهُ} جعل له قبراً وأمر أن يُقْبر {قَضْباً} القضبُ: كل ما يقطع من البقول فينبت أصلهُ مثل البرسيم «الفصة» والباقلاء، والكُرَّاث وغيرها {غُلْباً} كثيرة الأشجار ملتفة الأغصان جمع غلباء {أَبّاً} الأبُّ: المرعى وكل ما أنبتت الأرض مما تأكله البهائم كالكلأ والعشب {الصآخة} الصيحة التي تصمُّ الآذان لشدتها {مُّسْفِرَةٌ} مشرقة مضيئة {غَبَرَةٌ} غبار ودخان {قَتَرَةٌ} سواد وظلمة.

سَبَبُ النّزول: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم َ كان مشغولاً مع صناديد قريش يدعوهم إِلى الإِسلام، وكان يطمع في إِسلامهمه رجاء أن يسلم أتباعهم، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم َ مشتغل بمن عنده من وجوه قريش، جاء إِليه «عبد الله بن أُم مكتوم» وهو أعمى، فقال يا رسول الله: علمني مما علَّمك الله، وكرَّر ذلك وهو لا يعلم أن الرسول مشغول مع هؤلاء إِنما أتباعه العميان والسَّفلة والعبيد، فعبس وجهه وأقبل على القوم يكلمهم فأنزل الله {عَبَسَ وتولى أَن جَآءَهُ الأعمى} الآيات.

التفسِير: {عَبَسَ وتولى أَن جَآءَهُ الأعمى} أي كلح وجهه وقطَّبه وأعرض عنه كارهاً، لأنْ جاءه الاعمى يسأل عن أمور دينه قال الصاوي: إِنما أتى بضمائر الغيبة {عَبَسَ وتولى} تطلفاً به صلى الله عليه وسلم َ وإِجلالاً له، لما في المشافهة بتاء الخطاب ما لا يخفى من الشدة الصعوبة واسم الأعمى «عبد الله بن أُم مكتوم» وكان بعد نزول آيات العتاب إِذا جاءه يقول له:«مرحباً بمان عاتبني فيه ربي، ويبسط له رداءه» {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} أي وما يُعلمك ويخبرك يا محمد لعلَّ هذا الأعمى الذي عبستَ في وجهه، يتطهر من ذنوبه بما يتلقاه عنك من العلم والمعرفة! { {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى} أي أويتعظ بما يسمع فتنفعه موعظتك} { {أَمَّا مَنِ استغنى} أي أما من استغنى عن اللهِ وعن الإِيمان، بما له من الثروة والمال {فَأَنتَ لَهُ تصدى} أي فأنت تتعرَّض له وتصغي لكلامه، وتهتم بتبليغه دعوتك {وَمَا عَلَيْكَ أَلَاّ يزكى} أي ولا حرج عليك أن لا يتطهر من دنس الكفر والعصيان،

ص: 494

ولست بمطالب بهدايته، إنما عليك البلاغ قال الألوسي: وفيه مزيد تنفيرٍ له صلى الله عليه وسلم َ عن مصاحبتهم، فإِن الإِقبال على المدبر مخلٌّ بالمروءة كما قال القائل:

واللهِ لو كرهتْ كفي مُصاحبتي

يوماً لقلتُ لها عن صُحْبتي بيْني

{وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يسعى} أي وأمَّا من جاءك يسرع ويمشي في طلب العلم للهِ ويحرص على طلب الخير {وَهُوَ يخشى} أي وهو يخاف الله تعالى ويتقي محارمه {فَأَنتَ عَنْهُ تلهى} أي فأنت يا محمد تتشاغل عنه، وتتلهى بالانصراف عنه إِلى رؤساء الكفر والضلال} ! {كَلَاّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي لا تفعل بعدم اليوم مثل ذلك، فهذه الآيات موعظة وتبصرة للخلق، يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها العقلاء {فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} أي فمن شاء من عباد الله اتعظ بالقرآن، واستفاد من إِرشاداته وتوجهاته، قال المفسرون: كان صلى الله عليه وسلم َ بعد هذا العتاب، لا يعبس في وجه فقير قط، ولا يتصدى لغني أبداًن وكان الفقراء في مجلسه أمراء، وكان إِذا دخل عليه «ابن أم مكتوم» يبسط له رداءه ويقول: مرحباً بما عاتبني فيه ربي.

ز

ثم بعد هذا البيان أخبر عن جلالة قدر القرآن فقال {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} أي هو في صحفٍ مكرمة عند الله {مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ} أي عالية القدر والمكانة، منزهة عن أيدي الشياطين، وعن كل دنسٍ ونقص {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} أي بأيدي ملائكة جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} أي مكرمين معظمين عند الله، أتقياء صلحاء {لَاّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] ثم ذكر تعالى قبح جريمة الكافر، وإِفراطه في الكفر والعصيان مع كثرة إِحسان الله إِليه فقال {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} أي لعن الكافر وطرد من رحمة الله، ما أشدَّ كفره بالله مع كثرة إِحسانه إِليه وأياديه عنده؟ قال الألوسي: والآية دعاءٌ عليه بأشنع الدعوات وأفظعها، وتعجيبٌ من إِفراطه في الكفر والعصيان، وهذا في غاية الإِيجاز والبيان {مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ} أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر حتى يتكبر على ربه؟ ثم وضَّح ذلك فقال {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} أي من ماءٍ مهين حقير بدأ خلقه، فقدَّره في بطن أمه أطواراً من نطفة ثم من علقة إِلى أن تمَّ خلقه قال ابن كثير: قدَّر رزقه، وأجله، وعمله، وشقيّ أو سعيد {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} أي ثم سهَّل له طريق الخروج من بطن أمه قال الحسن البصري: كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين؟ يعني الذكر والفرج {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أي ثم أماته وجعل له قبراً يُوارى فيه إِكراماً له، ولم يجعله ملقى للسباع والوحوش والطيور قال الخازن: وهذه تكرمة لبني آدم على سائر الحيوانات {ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} أي ثم حين يشاء الله إِحياءه، يحييه بعد موته للبعث والحساب والجزاء، وإِنما قال {إِذَا شَآءَ} لأن وقت البعث غير معلوم لأحد، فهو إِلى مشيئة الله تعالى، متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم {كَلَاّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ} أي ليرتدع وينزجر هذا الكافر عن تكبره وتجبره، فإِنه لم يؤد ما فرض عليه، ولم يفعل ما كلفه به ربه من الإِيمان والطاعة. . ولما ذكر خلق الإِنسان، ذكر بعده رزقه، ليعتبر بما أغدق الله عليه من أنواع النعم، فيشكر ربه ويطيعه فقال {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ} أي فلينظر هذا الإِنسان الجاحد نظر

ص: 495

تفكر واعتبار، إلى أمر حياته، كيف خلقه بقدرته، ويسره برحمته، وكيف هيأ له أسباب المعاش، وخلق له الطعام الذي به قوام حياته؟! ثم فصَّل ذلك فقال {أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً} أي أنا بقدرتنا أنزلنا الماء من السحاب على الأرض إِنزالاً عجيباً {ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً} أي شققنا الأرض بخروج النبات منها شقاً بديعاً {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً} أي فأخبر بذلك الماء أنواع الحبوب والنباتات: حباً يقتات الناس به ويدخرونه، وعنباً شهياً لذيذاً، وسائر البقول مما يؤكل رطباً {وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً} أي وأخرجنا كذلك أشجار الزيتون والنخيل، يخرج منها الزيت والرطب والتمر {وَحَدَآئِقَ غُلْباً} أي وبساتين كثيرة الأشجار، ملتفة الأغصان {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} أي وأنواع الفواكه والثمار، كما أخرجنا ما تراعاه البهائم قال القرطبي: الأبُّ ما تأكله البهائم من العشب {مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} أي أخرجنا ذلك وأنبتناه ليكون منفعة ومعاشاً لكم أيها الناس ولأنعامكم قال ابن كثير: وفي هذه الآيات امتنانٌ على العباد وفيها استدلال بإِحياء النبات من الأرض الهامدة، على إِحياء الأجسام بعدما كانت عظاماً باليةً وأوصالاً متفرقة.

. ثم ذكر تعالى بعد ذلك أهوال القيامة فقال {فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة} أي فإِذا جاءت صحية القيامة التي تصخ الآذان حتى تكاد تصمها {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ} أي في ذلك اليوم الرهيب يهرب الإِنسان من أحبابه، من أخيه، أمه، وأبيه، وزوجته، وأولاده لاشتغاله بنفسه قال في التسهيل: ذكر تعالى فرار الإِنسان من أحبابه، ورتبهم على مرابتهم في الحنو والشفقة، فبدأ بالأقل وختم بالأكثر، لأن الإِنسان أشدُّ شفقةً على بنيه من كل من تقدم ذكره {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أي لكل إِنسان منهم في ذلك اليوم العصيب، شأنٌ يشغله عن شأن غيره، فإِنه لا يفكر في سوى نفسه، حتى إِن الأنبياء صلوات الله عليهم ليقول الواحد منهم يومئذٍ «نفسي نفسي» . . ولما بيَّن تعالى حال القيامة وأهوالها، بيَّن بعدها حال الناس وانقسامهم في ذلك اليوم إِلى سعداء وأشقياء، فقال في وصف السعداء:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} أي وجوه في ذلك اليوم مضيئة مشرقة من البهجة والسرور {ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} أي فرحة مسرورة بما رأته من كرامة الله ورضوانه، ومستبشرة بذلك النعيم الدائم {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} أي ووجوه في ذلك اليوم عليها غبارٌ ودخان {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} أي تغشاها وتعلوها ظلمةٌ وسواد {أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} أي أولئك الموصوفون بسواد الوجوه، هم الجامعون بين الكفر والفجور، قال الصاوي: جمع الله تعالى إِلى سواد وجوههم الغَبرة كما جمعوا الكفر إِلى الفجور.

البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

الالتفات من الغيبة إِلى الخطاب زيادة في العتاب {عَبَسَ وتولى} .

. ثم قال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} ؟ فالتفت تنبيهاً للرسول صلى الله عليه وسلم َ إِلى العناية بشأن الأعمى.

ص: 496

2 -

جناس الاشتقاق بين {يَذَّكَّرُ. . والذكرى} .

3 -

الكناية الرائقة {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} كنَّى بالسبيل عن خروجه من فرج الأم،

4 -

أسلوب التعجب {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} ؟ تعجبٌ من إِفراط كفره، مع كثرة إِحسان الله إِليه.

5 -

الطباق بين {تصدى} وبين {تلهى} لأن المراد بهما تتعرض وتنشغل.

6 -

التفصيل بعد الإِجمال {مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ} ثم فصَّل ذلك وبيَّنه بقوله {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} .

7 -

المقابلة اللطيفة بين السعداء والأشقياء {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} قابلها بقوله {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} .

8 -

توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات، وهو من المحسنات البديعية ويسمى السجع مثل {عَبَسَ وتولى أَن جَآءَهُ الأعمى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} ومثل {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ. .} الخ.

لطيفَة: اقتبس بعض الأدباء من قوله تعالى {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} ؟ هذين البيتين:

يتمنى المء في الصيف الشِّتا

فإِذا جاء الشِّتا أنكره

فهو لا يرضى بحالٍ واحدٍ

قُتِل الإِنسانُ ما أكفره؟

ص: 497

اللغَة: {انكدرت} تناثرت {العشار} جمع عشراء وهي الناقة التي مرَّ على حملها عشرة أشهر {كُشِطَتْ} نُزعت وقلعت يقال: كشطت جلد الشاة أي نزعته وسلخته عنها {الخنس} الكواكب المضيئة التي تخنس نهاراً وتختفي عن البصر جمع خانس {الكنس} النجوم التي تغيب يقال: كنس إِذا دخل الكناس وهو المكان الذي تأوي إِليه الظباء {عَسْعَسَ} أقبل بظلامه قال الخليل: عسعس الليلُ: إِذا أقبل أو أدبر فهو من الأضداد قال الشاعر:

حتَّى إِذا الصُبْحُ لها تنفَّسا

وانجاب عنها ليلها وعسعسا

التفسِير: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} هذه الآيات بيانٌ لأهوال القيامة وما يكون فيها من الشدائد والكوارث، وما يعتري الكون والوجود من مظاهر التغايير والتخريب والمعنى: إِذا الشمس لُفَّت ومحُي ضوءُها {وَإِذَا النجوم انكدرت} أي وإِذا النجوم تساقطت من مواضعها وتناثرت {وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ} أي وإِذا الجبال حركت من أماكنها، وسُيّرت في الهواء حتى صارت كالهباء كقوله تعالى {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} [الكهف: 47] {وَإِذَا العشار عُطِّلَتْ} أي وإِذا النوق الحوامل تركت هملاً بلا راعٍ ولا طالب، وخصَّ النوق بالذكر لأنها كرائم أموال العرب {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ} أي وإِذا الوحوش جُمعت من أوكارها وأجحارها ذاهلةً من شدة الفزع {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} أي وإِذا البحار تأججت ناراً، وصارت نيراناً تضطرم وتلتهب {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} أي وإِذا النفوس قُرنت بأشباهها، فقرن الفاجر مع الفاجر، والصالح مع الصالح قال الطبري: يُقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، وبين الرجل السوء مع الرجل السُّوء في النار {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ} أي وإِذا البنت التي دفنت وهي حية سئلت توبيخاً لقالتها: ما هو ذنبها حتى قتلت؟ قال في التسهيل: الموءدة هي البنت التي كان بعض العرب يدفنها حيَّةً من كراهته لها أو غيرته عليها، فتسأل يوم القيامة {بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} ؟ على وجه التوبيخ لقاتلها {وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ} أي وإِذا صحف الأعمال نشرت وبسطت عند الحساب {وَإِذَا السمآء كُشِطَتْ} أي وإِذا السماء أزيلت ونزعت من مكانها كما ينزع الجلد عن الشاة {وَإِذَا الجحيم سُعِّرَتْ} أي وإِذا نار جهنم أوقدت وأُضرمت لأعداء الله تعالى {وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ} أي وإِذا الجنة أدنيت وقربت من المتقين {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} أي عملت كل نفسٍ ما أحضرتْ من خيرٍ أو شر، وهذه الجملة {عَلِمَتْ نَفْسٌ} هي جواب ما تقدم من أول السورة {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} إِلى هنا، والمعنى إِذا حدثت تلك الأمور العجيبة الغريبة، علمت حنيئذٍ كل نفسٍ ما قدمته من صالح أو طالح. . ثم أقسم تعالى على صدق القرآن، وصحة رسالة محمد عليه السلام فقال {فَلَا أُقْسِمُ بالخنس} أي فأقسم قسماً مؤكداً بالنجوم المضيئة التي تختفي بالنهار، وتظهر بالليل {الجوار الكنس} أي التي

ص: 499

تجري وتسير مع الشمس والقمر ثم تستتر وقت غروبها، كا تستتر الظباء في كناسها مغاراتها قال القرطبي: النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل، وتنكس وقت غروبها أي تستتر، كما تنكس الظباء في المغار وهو الكناس {والليل إِذَا عَسْعَسَ} أي وأقسم بالليل إِذا أقبل بظلامه حتى غطَّى الكون {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} أي وبالصبح إِذا أضاء وتبلَّج، واتَّسع ضياؤه حتى صار نهاراً واضحاً {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هذا هو المقسم عليه أي إن هذا القرآن الكريم، لكلامُ الله المنزَّل بواسطة ملك عزيز على الله هو جبريل كقوله تعالى

{نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193194] قال المفسرون: أراد بالرسول «جبريل» وأضاف القرآن إِليه لأنه جاء به، وهو في الحقيقة قول الله تعالى، ومما يدل على أن المراد به جبريل قوله بعده {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ} أي شديد القوة، صاحب مكانة رفيعة، ومنزلة سامية عند الله جلا وعلا {مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} أي مطاعٍ هناك في الملأ الأعلى، تطيعه الملائكة الأبرار، مؤتمن على الوحي الذي ينزل به على الأنبياء {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} أي وليس محمد الذي صاحبتموه يا معشر قريش، وعرفتم صدقه ونزاهته ورجاحة عقله بمجنون كما زعمتم قال الخازن: أقسم تعالى على أن القرآن نزل به جبريل الأمين، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم َ ليس بمجنون كما يزعم أهل مكة، فنفى عنه تعالى عنه الجنون، وكون القرآن من عند نفسه {وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين} أي وأقسمُ لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم َ جبريل في صورته الملكية التي خلقه الله عليها بجهة الأفق الأعلى البيّن من ناحية المشرق حيث تطلع الشمس قال في البحر: وهذه الرؤية بعد أمر غار حراء، حين رأى جبريل على كرسي بين السماء والأرض، في صورته له ستمائة جناح قد سدَّ ما بين المشرق والمغرب {وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ} أي وما محمد على الوحي ببخيل يقصِّر في تبليغه وتعليمه، بل يبلغ رسالة ربه بكل أمانةٍ وصدق {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} أي وما هذا القرآن بقول شيطان ملعون كما يقول المشركون {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} أيْ فأيَّ طريقٍ تسلكون في تكذيبكم للقرآن، واتهامكم له بالسحر والكهانة والشعر، مع وضوح آياته وسطوع براهنيه؟ وهذا كما تقول لمن ترك الطريق المستقيم: هذا الطريق الواضح فأين تذهب؟ {إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} أي ما هذا القرآن إِلا موعظة وتذكرة للخلق أجمعين {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} أي لمن شاء منكم أن يتبع الحق، ويستقيم على شريعة الله، ويسلك طريق الأبرار {وَمَا تَشَآءُونَ إِلَاّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين} أي وما تقدرون على شيء إِلا بتوفيق الله ولطفه، فاطلبوا من الله التوفيق إِلى أفضل طريق.

البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

الجناس الناقص بين {الخنس} و {الكنس} .

2 -

ص: 500

الاستعارة التصريحية {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} شبَّه إِقبال النهار وسطوع الضياء بنسمات الهواء العليل التي تحيي القلب، واستعار لفظ التنفس لإِقبال النهار بعد الظلام الدامس، وهذا من لطيف الاستعارة وأبلغها تصويراً حيث عبر عنه بتنفس الصبح.

3 -

الكناية اللطيفة {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} كنى عن محمد صلى الله عليه وسلم َ بلفظ {صَاحِبُكُمْ} .

4 -

الطباق بين لفظ {الجحيم سُعِّرَتْ. . والجنة} .

5 -

الجناس غير التام بين {أَمِينٍ. . ومَكِينٍ} .

6 -

توافق الفواصل رغاية لرءوس الآيات مثل {كُوِّرَتْ، سُيِّرَتْ، سُجِّرَتْ، سُعِّرَتْ} ومثل {الخنس، الكنس، عَسْعَسَ، تَنَفَّسَ} الخ.

ص: 501

اللغَة: {انفطرت} انشقت، والفطرُ: الشقُّ ومنه فاطر نابُ البيعر {انتثرت} تساقطت وتهاوت {بُعْثِرَتْ} قُلبت يقال: بعثرت المتاع قلبته ظهراً لبطن {غَرَّكَ} خدعك {سَوَّاكَ} جعل أعضاءك سليمة سويّة {يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها ويذوقون لهبها وحرَّها.

التفسِير: {إِذَا السمآء انفطرت} أي إِذا المساء انشقت بأمر الله لنزول الملائكة كقوله تعالى {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} [الفرقان: 25]{وَإِذَا الكواكب انتثرت} أي وإِذا النجوم تساقطت وتناثرت، وزالت عن بروجها وأماكنها {وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ} أي وإِذا البحار فتح بعضها إِلى بعض، فاختلط عذبها بمالحها، وأصبحت بحراً واحداً {وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ} أي وإِذا القبور قلبت، ونش ما فيها من الموتى، وصار ما في بطنها ظاهراً على جهها {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} هذا هو الجواب أي علمت عندئذٍ كل نفس ما أسلفت من خير أو شر، وما قدمت من صالح أو طالح قال الطبري: ما قدمت من علم صالح، وما أخرت من شيء سنَّه فعمل به بعده ثم بعد ذكر أحوةال الآخرة وأهوالها، انتقلت الآيات لتذكير الإِنسان الغافل الجاهل بما أمامه من أهوال وشدائد فقال تعالى {ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} أيْ أيُّ شيءٍ خدعك برك الحليم الكريم، حتى عصيته وتجرأت على مخالفة أمره، مع إِحسانه إِليك وعطفه عليك؟ وهذا توبيخ وعتاب كأنه قال: كيف قابلتَ إِحسان ربك بالعصيان، ورأفته بك بالتمرك والطغيان {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلَاّ الإحسان} [الرحمن: 60] ؟ ثم عدَّد نعمه عليه فقال {الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} أي الذي أوجدك من العدم، فجعلك سوياً سالم الأعضاء، تسمع وتعقل وتبصر {فَعَدَلَكَ} أي جعلك معتدل القامة منتصباً في أحسن الهيئات والأشكال {في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} أي ركبك في أي صورة شاءها واختارها لك من الصور الحسنة العجيبة ولم يجعل في الشكل كالبهيمة كقوله تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] . . ثم وبَّخ المشركين على تكذيبهم بيوم الدين فقال {كَلَاّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين} أي ارتدعوا يا أهل مكة، ولا تغتروا بحلم الله، بل أنتم تكذبون بيوم الحساب والجزاء {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} أي والحالُ أن عليكم ملائكة حفظة يضبطون أعمالكم ويراقبون تصرفاتكم قال القرطبي: أي عليكم رقباء من الملائكة {كِرَاماً كَاتِبِينَ} أي كراماً على الله، يكتبون أقوالكم وأعمالكم {يَعْلَمُونَ مَا

ص: 503

تَفْعَلُونَ} أي يعملون ما يصدر منكم من خير وشر، ويسجلونه في صحائف أعمالكم، لتجازوا به يوم القيامة. . ثم بيَّن تعالى انقسام الخلق يوم القيامة إِلى أبرار وفجار، وذكر مآل كلٍ من الفريقين فقال {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} أي إِن المؤمنين الذين اتقوا ربهم في الدنيا، لفي بهجة وسرور لا يوصف، يتنعمون في رياض الجنة بما لا عينٌ رأتْ ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم مخلدون في الجنة {وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} أي وإِن الكفرة الفجار، الذين عصوا ربهم في الدنيا، لفي نار محرقةٍ، وعذاب دائم مقيم في دار الجحيم {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين} أي يدخلونها ويقاسون حرها يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ} أي وليسوا بغائبين عن جهنم، بعيدين عنها لايرونها، بل هي أمامهم يَصْلَونَ ويذوقون سعيرها ولا يخرجون منها أبداً.

{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين} تعظيمٌ له وتهويل أي ما أعلمك ما هو يوم الدين؟ وأيُّ شيءٍ هو في شدته وهوله؟ {ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين} ؟ كرر ذكره تعظيماً لشأنه، وتهويلاً لأمره كقوله {الحاقة مَا الحآقة وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحاقة} [الحاقة: 13] ؟ كأنه يقول: إِن يوم الجزاء من شدته بحيث لا يدري أحدٌ مقدار هوله وعظمته، فهو فوق الوصف والبيان {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} أي هو ذلك اليوم الرهيب الذي لا يستطيع أحد أن ينفع أحداً بشيء من الأشياء، ولا أن يدفع عنه ضراً {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} أي والأمر في ذلك اليوم لله وحده لا ينازعه فيه أحد.

البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

الطباق بين {قَدَّمَتْ} و {أَخَّرَتْ} وهو من المحسنات البديعية.

2 -

المقابلة اللطيفة بين الأبرار والفجار {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} فقد قابل الأقرار بالفجار، والنعيم بالجحيم وفيه أيضاً من المحسنات البديعية ما يسمى بالترصيع.

3 -

الاستعارة المكنية {وَإِذَا الكواكب انتثرت} شبَّه الكواكب بجواهر قطع سلكها فتناثرت متفرقة، وطوى ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو الانتثار على طريق الاستعارة المكنية.

4 -

الاستفهام للتوبيخ والإِنكار {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} ؟

5 -

التنكير في كلٍ من لفظة {نَعِيمٍ} و {جَحِيمٍ} للتعظيم والتهويل.

6 -

الإِطناب بإِعادة الجملة {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين} ؟ لتعظيم هول ذلك اليوم وبيان شدته كأنه فوق الوصف الخيال.

7 -

السجع المرصَّع وهو من المحسنات البديعية مثل {إِذَا السمآء انفطرت وَإِذَا الكواكب انتثرت} ومثل {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} ومثل {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} .

لطيفَة: روي أن الخليفة «سليمان بن عبد الملك» قال لأبي حازم المزني: ليت شعري أين مصيرنا يوم القيامة؟ وما لنا عند الله؟ فقال له: أعرضْ عملك على كتاب الله تجد ما لك عند الله {فقال: وأين أجد ذلك في كتاب الله} ! قال: عند قوله تعالى {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} قال سليمان: فإين إِذاً هي رحمة الله؟ فأجابه بقوله {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} [الأعراف: 56] .

ص: 504

اللغَة: {لِّلْمُطَفِّفِينَ} جمع مُطفّف وهو الذي ينقص في الكيل والوزن، والتطفيف: النقصان وأصله من الطفيف وهو الشيء اليسير، لأن المطفّف لا يكاد يسرف في الكيل والوزن إِلا الشيء اليسير {رَانَ} غطَّى وغثَّى كالصدأ يغشى السيف، وأصله الغلبة يقال: رانت الخمر على عقل شاربها أي غلبته قال الشاعر:

«وكمْ رانَ من ذنبٍ على قلب فاجر»

{رَّحِيقٍ} أجود الخمر وأصفاه وفي الصحاح: الرحيق صفوة الخمر وقال الأخفش: هو الشراب الذي لا غش فيه قال الحسن:

بَرَدى يُصفِّق بالرحيقِ السَّلْسَلِ

{فَكِهِينَ} معجبين متلذين {يَتَغَامَزُونَ} يشيرون إِليهم بالأعين استهزاءً {ثُوِّبَ} جوزي {تَسْنِيمٍ} عنيٌ عالية شرابها أشرف شراب، وأصل التسنيم الارتفاع ومنه سنام البعير.

سَبَبُ النّزولك عن ابن عباس قال «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ المدينة، كانوا من أخبث الناس كيلاً فأنزل اله عز وجل {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل بعد ذلك» .

التفسِير: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} أي هلاك وعذاب ودمار، لأولئك الفجار الذين ينقصون المكيال والميزان، ثم بيَّن أوصافهم القبيحة بقوله {الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ} أي إِذا أخذوا الكيل من الناس أخذوه وافياً كاملاً لأنفسهم {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} أي وإِذا كالوا للناس أو وزنوا لهم، ينقصون الكيل والوزن قال المفسرون: نزلت في رجلٍ يُعرف ب «أبي جهينة» كان له صاعان، يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر، وهو وعيدٌ لكل من طفَّف الكيل والوزن، وقد أهلك الله قوم شعيب لبخسهم المكيال والميزان، وفي الحديث «ولا طففوا الكيل إِلاّ منعوا النبات وأُخذوا بالسنين» {أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} أي ألا يعلم ويستقين أولئك المطففون أنهم سيبعثون ليوم عصيب، شديد الهول، كثير الفزع؟! {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} أي يوم يقفون

ص: 506

في المحشر حفاةً عراةً، خاشعين خاضعين لرب العالمين قال في البحر: وفي هذا الإِنكار والتعجيب، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس لله خاضعين، ووصفهُ برب العالمين، دليلٌ على عظم هذا الذنب وهو التطفيف، وفي الحديث عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال:{يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} حتى يغيب أحدهم في رشحه إِلى أنصاف أُذنيه. . ثم ذكر تعالى مآل الفجار، ومآل الأبرار فقال {كَلَاّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ} أي ليرتدع هؤلاء المطففون عن الغفلة عن البعث والجزاء، فإِن كتاب أعمال الأشقياء الفجار، لفي مكان ضيّق في أسفل سافلين {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} استفهام للتعظيم والتهويل أي هل تعلم ما هو سجين؟ {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} أي هو كتاب مكتوبٌ كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى، أُثبتت فيه أعمالهم الشريرة قال ابن كثير:{سِجِّينٌ} مأخوذ من السجن وهو الضيق، ولما كان مصير الفجار إِلى جهنم وهي أسفل سافلين، وهي تجمع الضيق والسفول، أخبر تعالى أنه كتاب مرقوم أي مكتوبٌ مفروغ منه، لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار للمكذبين {الذين يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدين} أي يكذبون بيوم الحساب والجزاء {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَاّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} أي وما يكذب بيوم الحساب والجزاء ألا كل متجاوز الحد في الكفر والضلال، مبالغ في العصيان والطغيان، كثير الآثام، ثم وضّح من إِجرامه فقال {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} أي إِذا تليت عليه آيات القرآن، الناقطة بحصول البعث والجزاء، قال عنها: هذه حكايات وخرافات الأوائل، سطروها وزخرفوها في كتبهم {كَلَاّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي ليرتدع هذا الفاجر عن ذلك القول الباطل، فليس القرآن أساطير الأولين، بل غطَّى على قلوبهم ما كسبوا من الذنوب، فطمس بصائرهم فصاروا لا يعرفون الرشد من الغي قال المفسرون: الرَّان هو الذنب على الذنب حتى يسودَّ القلب {كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} أي ليرتدع هؤلاء المكذبون عن غيهم وضلالهم، فيهم في الآخرة محجوبون عن رؤية المولى جل وعلا فلا يرونه قال الشافعي: وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل وقال مالك: لما حجب أعداءه لم يروه، تجلَّى لأوليائه حتى رأوه {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم} أي ثم إِنهم مع الحرمان عن رؤية الرحمن، لدخلو الجحيم وذائقو عذابها الأليم {ثُمَّ يُقَالُ هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي ثم تقول لهم خزنة جهنم على وجه التقريع والتوبيخ: هذا العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا

{أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} [الطور: 15] ؟ . . وبعد الحديث عن حال الفجار، ذكر تعالى نعيم الأبرار فقال {كَلَاّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ} {كَلَاّ} ردعٌ وزجر أي ليس الأمر كما يزعمون من مساواة الفجار بالأبرار، بل كتابه في سجين، وكتاب الأبرار في عليين، وهو مكان عالٍ مشرَّف في أعلى

ص: 507

الجنة، قال في التسهيل: ولفظ {عليين} للمبالغة، وهو مشتق من العلو لأنه سبب في ارتفاع الدرجات في الجنة، أو لأنه في مكان عليٍّ رفيع فقد روي أنه تحت العرش {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} تفخيمٌ وتعظيم لشأنه أي وما أعلمك يا محمد ما هو عليون؟ {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ المقربون} أي كتابٌ الأبرار كتابٌ مسطَّر، مكتوب فيه أعمالهم، وهو في عليين في أعلى درجات الجنة، يشهده المقربون من الملائكة قال المفسرون: إِن روح المؤمن إِذا قُبضت صُعد بها إِلى العرش، فيخرج لهم رقٌّ فيكتب فيه ويختم عليه بالنجاة من الحساب والعذاب يشهده المقربون {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} أي إِن المطيعين لله في الجنات الوارفة، والضلال الممتدة يتنعمون {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ} أي هم على السرر المزينة بفاخر الثياب والستور، ينظرون إِلى ما أعدَّ الله لهم من أنواع الكرامة والنعيم في الجنة {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} أي إِذا رأيتهم تعرف أنهم أهل نعمة، لما ترى في وجوههم من النور والبياض والحسن، ومن بهجة السرور ورونقه {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} أي يُسقون من خمرٍ في الجنة، بيضاء طيبة صافية، لم تكدرها الأيدي، قد ختم على تلك الأواني فلا يفك ختمها إِلا الأبرار {خِتَامُهُ مِسْكٌ} أي آخر الشراب تفووح منه رائحة المسك {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} أي وفي هذا النعيم والشراب الهنيء، فليرغب بالمبادرة إِلى طاعة الله، وليتسابق المتسابقون قال الطبري: التنافسُ مأخوذ من الشيء النفيس الذي يحرص عليه الناس، وتشتهيه وتطلبه نفوسهم والمعنى فليستبقوا في طلب هذا النعيم، ولتحرص عليه نفوسهم {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} أي يمزج ذلك الرحيق من عينٍ عالية رفيعة، هي أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه تسمى «التسنيم» ولهذا قال بعده {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} أي هي عينٌ في الجننة يشر منها المقربون صرفاً، وتمزج لسائر أهل الجنة قال في التسهيل: تسنيم أسمٌ لعين في الجنة يشرب منها المقربون صرفاً، ويمزج منه الرحيق الذي يشرب منه الأبرار، فدل ذلك على أن درجة المقربين فوق درجة الأبرار.

. ولما ذكر تعالى نعيم الأبرار، أعقبه بذكر مآل الفجار، تسليةً للمؤمنين وتقوية لقلوبهم فقال {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ} أي أن المجرمين الذين من طبيعتهم الإِجرام وارتكاب الآثام، كانوا في الدنيا يضحكون من المؤمنين استهزاءً بهم قال في التسهيل: نزلت هذه الآية في صناديق قريش كأبي جهل وغيره، مرَّ بهم علي بن أبي طالب وجماعة من المؤمنين، فضحكوا منهم واستخفوا بهم {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} أي وإِذا مرَّ هؤلاء المؤمنين بالكفار، غمز بعضهم بعضاً بأعينهم سخرية واستهزاءً بهم قال المفسرون: كان المشركون إِذا مرَّ بهم أصحاب رسول الله، تغامزوا بأعينهم عليهم احتقاراً لهم وازدراءً يقولون: جاءكم ملوك الدنيا، يسخرون منهم لإِيمانهم واستمساكهم بالدين {وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ} أي وإِذا انصرف المشركون ورجعوا إلى

ص: 508

منازلهم وأهليهم، رجعوا متلذيين يتفكهون بذكر المؤمنين والاستخفاف بهم قال في البحر: أي رجعوا متلذذين بذكرهم وبالضحك منهم استخفافاً بأهل الإِيمان {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ} أي وإِذا رأى الكفار المؤمنين قالوا: إِن هؤلاء لضالون لإِيمانهم بمحمد، وتركهم شهوات الحياة قال تعالى رداً عليهم {وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} أي وما أُرسل الكفار حافظين على المؤمنين، يحفظون أعمالهم ويشهدون برشدهم أو ضلالهم، وفيه تهكم وسخرية بالكفار كأنه يقول: أنا ما أرسلتهم رقباء، ولا وكلتهم بفحظ أعمال عبادي المؤمنين، حتى يرشدوهم إِلى مصالحهم، فلم يشغلون أنفسهم فيما لا يعنيهم؟ {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} أي ففقي هذا اليوم يوم القيامة يضحك المؤمنون من الكفار، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، جزاءً وفاقاً {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ} أي والمؤمنون على أسرَّة الدر والياقوت، ينظرون إِلى الكفار ويضحكون عليهم قال القرطبي: يقال لأهل النار وهم في النار اخرجوا، فتفتح لهم أبواب النار، فإِذا رأوها قد فتحت أقبلوا إِليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إِليهم على الأرائك، فإِذا انتهوا إِلى أبوابها أغلقت دونهم، فيضحك منهم المؤمنون {هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي هل جوزي الكفار في الآخرة بما كنوا يفعلونه بالمؤمنين من السخرية والاستهزاء؟ نعم.

البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

التنكير للتهويل والتفخيم {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} .

2 -

الطباق بي {يَسْتَوْفُونَ} و {يُخْسِرُونَ} .

3 -

المقابلة بين حال الفجار والأبرار {كَلَاّ إِنَّ كِتَابَ الفجار. .} الخ و {كَلَاّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ. .} الخ.

4 -

التفخيم والتعظيم لمراتب الأبرار {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} ؟

5 -

جناس الاشتقاق {فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} .

6 -

الإِطناب بذكر أوصاف ونعيم المتقين {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} .

7 -

التشبيه البليغ {خِتَامُهُ مِسْكٌ} أي كالمسك في الطيب والبهجة، فحذف منه الأداة ووجه الشبه فأصبح بليغاً.

8 -

توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل {يَضْحَكُونَ، يَنظُرُونَ، يَكْسِبُونَ، يَفْعَلُونَ} الخ.

ص: 509

اللغَة: {كَادِحٌ} الكدح: الجد والاجتهاد وجهد النفس في العمل قال الشاعر:

ومضتْ بشاشةُ كل عيشٍ صالح

وبقيتُ أكدحُ للحياةِ وأنصب

{يَحُورَ} يرجع يقال: حار يحور إِذا رجع ومنه حديث «أعوذ بك من الحور بعد الكور» أي الرجوع إِلى النقصان بعد الزيادة {الشفق} الحمرة التي تكون بعد مغيب الشمس {وَسَقَ} جمع وضم ولف {اتسق} اجتمع وتكامل وتم نوره {مَمْنُونٍ} مقطوع.

التفسِير: {إِذَا السمآء انشقت} هذه الآيات بيان لأهوال القيامة، وتصويرٌ لما يحدث بين يدي الساعة من كوارث وأهوال يفزع لها الخيال والمعنى: إِذا تشققت السماء وتصدَّعت مؤذنة بخراب الكون قال الألوسي: تنشق لهول يوم القيامة {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي واستمعت لأمر ربها وانقادت لحكمه وحُقَّ لها أن تسمع وتطيع وأن تنشق من أهوال القيامة {وَإِذَا الأرض مُدَّتْ} أي وإِذا الأرض زادت سعة بإِزالة جبالها وآكامها، وصارت مستوية لا بناء فيها ولا وهاد ولا جبال {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} أي رمت ما في جوفها من الموتى والكنوز والمعادن وتخلت عنهم قال القرطبي: أخرجت أماتها وتخلت عنهم، وألقت ما في بطنها من الكنوز والمعادن كما تلقى الحامل ما في بطنها من الحمل، وذلك يؤذن بعظم الهول {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي واستمعت لأمر ربها وأطاعت، وحٌقَّ لها أن تسمع وتطيع. . وجواب {إِذَا} محذوف ليكون أبلغ في التهويل أي إِذا حدث كل ما تقدم، لقي الإِنسان من الشدائد والأهوال، ما لا يحيط به الخيال. . ثم أخبر تعالى عن كدِّ الإِنسان وتعبه في هذه الحياة، وأنه يلقى جزاءه عند الله فقال {ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} الخطاب عام لكل إِنسان أي أنت يا ابن آدم جاهدٌ ومجدٌّ بأعمالك التي عاقبتها الموت، والزمانُ يطير وأنت في كل لحظة تقطع شوطاً من عمرك القصير، فكأنك سائر مسرعٌ إِلى الموت، ثم تلاقي ربك فيكافئك على عملك، إِن كان خيراً فخيرٌ، وإشن كان شراً فشرٌّ قال في البحر: كادحٌ أي جاهد في عملك من خير وشر طول حياتك إِلى لقاء ربك، فملاقٍ جزاء كدحك من ثوابٍ وعقاب. . ثم ذكر تعالى انقسام الناس إِلى سعداء وأشقياء وإِلى من يأخذ كتابه بيمينه، ومن يأخذ كمتابه بشماله فقال {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} أي فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه، وهذه علامة السعادة {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} أي فسوف يكون حسابه سهلاً هيناً، يُجازي على حسناته،

ص: 511

ويُتجاوز عن سيئاته، وهذا هو العرضُ كما جاء في الحديث الصحيح {وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} أي ويرجع إلى أهله في الجنة مبتهجاً مسروراً بما أعطاه الله من الفضل والكرامة {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ} أي وأمَّا من أعطي كتاب أعماله بشماله من وراء ظهره، وهذه علامة الشقاوة {فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً} أي يصيح بالويل والثبور، ويتمنى الهلاك والموت {ويصلى سَعِيراً} أي ويدخل ناراً مستعرة، يقاسي عذابها وحرَّها {إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً} أي لأنه كان في الدنيا مسروراً مع أهله، غافلاً لاهياً، لا يفكر في العواقب، ولا تخطر بباله الآخرة قال ابن زيد: وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء في الدنيا، فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة، ووصف أهل النار بالسرور بالدنيا والضحك فيها، فأعقبهم به الحزن الطويل {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} أي إنه ظنَّ أن لن يرجع إِلى ربه، ولن يحييه الله بعد موته للحساب والجزاء، فلذلك كفر وفجر {بلى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} أي بلى سيعيده الله بعد موته، ويجازيه على أعماله كلها خيرها وشرها، فإِنه تعالى مطلع على العباد، لا تخفى عليه خافية من شئونهم {فَلَا أُقْسِمُ بالشفق} {لَا} لتأكيد القسم أي فأقسم قسماً مؤكداً بحمرة الأفق بعد غروب الشمس {والليل وَمَا وَسَقَ} أي وبالليل وما جمع وضمَّ إِليه، وما لفَّ في ظلمته من الناس والدواب والأنعام، فكلٌ يأوي إِلى مكانه وسربه، ولهذا امتن تعالى على العباد فقال

{وَجَعَلَ الليل سَكَناً} [الأنعام: 96] فإِذا جاء النهار انتشروا، وإِذا جاء الليل أوى كل شيء إِلى مأواه {والقمر إِذَا اتسق} أي وأقسمُ بالقمر إِذا تكامل ضوءه ونوره، وصار بدراً ساطعاً مضيئاً {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} هذا جواب القسم أي لتلاقُنَّ يا مشعر الناس أهوالاً وشدائد في الآخرة عصيبة قال الألوسي: يعني لتركبن أحوالاً بعد أحوال، هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض، وهي الموتُ وما بعده من مواطن القيامة وأهولها وقال الطبري: المراد أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالاً {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} استفهام يقصد به التوبيخ أي فيما لهؤلاء المشركين لا يؤمنون بالله، ولا يصدّقون بالعبث بعد الموت، بعد وضوح الدلائل وقيام البراهين على قوعه؟ {وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ القرآن لَا يَسْجُدُونَ} أي وإِذا سمعوا آيات القرآن، لم يخضعوا ولم يسجدوا للرحمن؟ {بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ} أي بل طبيعة هؤلاء الكفار التكذيب والعناد والجحود، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته {والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} أي والله أعلم بما يجمعون في صدورهم من الكفر والتكذيب قال ابن عباس:{يُوعُونَ} أي يضمرون من عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم َ والمؤمنين {فَبَشِّرْهُمْ

ص: 512

بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فبشرهم على كفره وضلالهم بعذاب مؤلم موجع، واجعل ذلك بمنزلة البشارة لهم قال في التسهيل: ووضع البشارة في موضع الإِنذار تهكم بالكفار {إِلَاّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي لكنْ الذين صدَّقوا الله ورسوله، وجمعا بين الإِيمان وصالح الأعمال {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي لهم ثوابٌ في الآخرة غير منقوص ولا مقطوع، بل هو دائم مستمر.

ختم تعالى السورة الكريمة ببيان نعيم الأبرار، بعد أن ذكر مآل الفجار، وهو توضيح لما أجمله في أول السورة من ملاقاة كل عامل لجزائه في قوله {ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} .

البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

الطباق بين لفظ {السمآء} و {الأرض} .

2 -

المقابلة بين {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} وبين {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ} .

3 -

الكناية {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} كنَّى به عن الشدة والأهوال التي يلقاها الإِنسان.

4 -

الجناس الناقص بين كلمتي {وَسَقَ} و {اتسق} .

5 -

الأسلوب التهكمي {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} استعمال البشارة في موضع الإِنذار تهكم وسخرية بالكفار.

6 -

توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل {إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} ومثل {فَلَا أُقْسِمُ بالشفق والليل وَمَا وَسَقَ والقمر إِذَا اتسق لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} ويسمى وهو من المحسنات البديعية.

ص: 513