المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

اللغَة: ‌ ‌{الطارق} مأخوذ من الطرق بمعنى الضرب بشدة ومنه المطرقة، - صفوة التفاسير - جـ ٣

[محمد علي الصابوني]

الفصل: اللغَة: ‌ ‌{الطارق} مأخوذ من الطرق بمعنى الضرب بشدة ومنه المطرقة،

اللغَة: ‌

{الطارق}

مأخوذ من الطرق بمعنى الضرب بشدة ومنه المطرقة، وكل ما جاء بليل يسمى طارقاً {دَافِقٍ} مصبوب بقوة وشدة يقال: دفق الماء دفقاً إِذا انصبَّ بدفع وشدة {الترآئب} عظام الصدر جمع تربية مثل فصيلة وفصائل قال امرؤ القيس:

«تَرائبُها مصقولةٌ كسجنجل»

{الرجع} المطر سمي به لرجوعه إِلى الأرض مراراً {الصدع} النبات الذي تنشق عنه الأرض {رُوَيْداً} قليلاً أو قريباً.

التفسِير: {والسمآء والطارق} أي أٌقسم بالسماء وبالكواكب النيرة، التي تظهر ليلاً وتختفي نهاراً قال المفسرون: سُمي النجم طارقاً لأنه إِنما يظهر بالليل ويختفي بالنهار، وكلُّ ما يجيء ليلاً فهو طارق {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطارق} استفهام للتفخيم والتعظيم أي وما الذي أعلمك يا محمد ما حقيقة هذا النجم؟ ثم فسره بقوله {النجم الثاقب} أي النجم المضيء الذي يثقب الظلام بضيائه قال الصاوي: قد كثر منه تعالى في كتابه المجيد ذكرُ الشمس والقمر والنجوم، لأن أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها، ومغاربها عجيبة دالة على انفراد خالقها بالكمالات، لأن الصّنعة تدل على الصانع {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} هذا جواب القسم أي ما كلُّ نفسٍ إِلا عليها حافظ من الملائكة، يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خيرٍ وشر كقوله {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10 11] قال ابن كثير: أي كلُّ نفسٍ عليها من الله حافظ يحرسها من الآفات. . ثم أمر تعالى بالنظر والتفكر في خلق الإِنسان، تنبيهاً على إِمكان البعث والحشر فقال {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ} ؟ أي فلينظر الإِنسان في أول نشأته نظرة تكفرٍ واعتبار، من أي شيءٍ خلقه الله؟ {خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} أي خلق من المنيّ المتدفق، الذي ينصب بقوةٍ وشدة، يتدفق من الرجل والمرأة فيتكون منه الولد بإِذن الله {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب} أي يخرج هذا الماء من بين الصلب وعظم الصدر، من الرجل والمرأة {إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} أي إِن الله تعالى الذي خلق الإِنسان ابتداءً، قادر على إِعادته بعد موته قال بن كثير: نبه تعالى الإِنسان على ضعف أصله الذي خلق منه، وأرشده إِلى الاعتراف بالمعاد، لأن من قدر على البداءة، فهو قادر على الإِعادة بطريق الأول {يَوْمَ تبلى السرآئر} أي يوم تمتحن القلوب وتختبر، ويُعرف ما بها من العقائد والنيات، ويميز بين ما طاب منها وما خبث {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} أي فليس للإِنسان في ذلك الوقت قوة تدفع عنه العذاب، ولا ناصر ينصره ويجيره، قال في التسهيل: لما كان دفع المكاره في الدنيا إِما بقوة الإِنسان، أو بنصرة غيره له، أخبره الله تعالى أنه يعدمها يوم القيامة، فلا قوة له في نفسه، ولا أحد ينصره من الله.

ص: 519

ولما ذكر تعالى أمر المبدأ والمعاد، عاد فأقسم على صدق هذا الكتاب المعجز فقال {والسمآء ذَاتِ الرجع} أي أُقسم بالسماء ذات المطر، الذي يرجع على العباد حيناً بعد حين قال ابن عباس: الرَّجع المطرُ ولولاه لهلك الناس وهلكت مواشيهم {والأرض ذَاتِ الصدع} أي وأُقسم بالأرض التي تتصدع وتنشق، فيخرج منها النبات والأشجار والأزهار قال ابن عباس: هو انصداعها عن النبات والثمار. . أقسم سبحانه وتعالى بالسماء التي تفيض علينا الماء، والأرض التي تخرج لنا الثمار والنبات، والسماء للخلق كالأب، والأرض لهم كالأم، ومن بينهما تتولد النعم العظيمة، والخيرات العميمة، التي بها بقاء الإِنسان والحيوان {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} أي إِن هذا القرآن لقولٌ فاصل بين الحق والباطل، قد بلغ الغاية في بيانه وتشريعه وإِعجازه {وَمَا هوَ بالهزل} أي ليس فيه شيءٌ من اللهو والباطل والعبث، بل هو جدٌّ كله، لأنه كلام أحكم الحاكمين، فجديرٌ بقارئه أن يتعظ بآياته، ويستنير بتوجيهاته وإِرشاداته {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} أي إِن هؤلاء المشركين كفار مكة يعملون المكايد لإِطفاء نور الله، وإِبطال شريعة محمد صلى الله عليه وسلم َ {وَأَكِيدُ كَيْداً} أي وأجازيهم على كيدهم بالإِمهال ثم النكال، حيث آخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر كقوله تعالى {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] قال أبو السعود: أي أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده حيث استدرجهم من حيث لا يعلمون {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} أي لا تستعجل في هلاكهم والانتقام منهم، وأُمهلهم قليلاً فسوف ترى ما أصنع بهم، وهذا منتهى الوعيد والتهديد.

البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

الاستفهام للتفخيم والتعظيم {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطارق} ؟

2 -

الطباق بين {السمآء والأرض} وبين {الفصل والهزل} .

3 -

جناس الاشتقاق {يَكِيدُونَ كَيْداً} .

4 -

الإِطناب بتكرار الفعل مبالغة في الوعيد {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} .

5 -

الكناية اللطيفة {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب} كنَّى بالصلب عن الرجل، وبالترائب عن المرأمة، وهذا من لطيف الكنايات.

6 -

السجع الرصين الذي يزيد في جمال الأسلوب ورشاقته ونضارته مثل {والسمآء ذَاتِ الرجع والأرض ذَاتِ الصدع} ومثل {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بالهزل} وهو من المحسنات البديعية.

ص: 520

اللغَة: {غُثَآءً} الغُثاء: ما يقذف به السيل على جانب الوادي ن الحشائش والأوراق والنباتات {أحوى} أسود مأخوذ من الحُوة وهي السواد أو السمرة {يَصْلَى} يدخل ويقاسي حرّها يقال: أصليتُه ناراً وجعلته يذوق حرها.

ص: 521

التفسِير: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} أي نزِّه يا محمد ربك العلي الكبير عن صفات النقص، وعما يقوله الظالمون، مما لا يليق به سبحانه وتعالى من النقائص والقبائح، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم َ كان إذا قرأ هذه الآية قال:«سبحانه ربي الأعلى» . ثم ذكر من أوصافه الجليلة، ومظاهر قدرته الباهرة، ودلائل وحدانيته وكماله فقال {الذي خَلَقَ فسوى} أي خلق المخلوقات جميعها، فأتقن خلقها، وأبدع صنعها، في أجمل الأشكال، وأحسن الهيئات قال في البحر: أي خلق كل شيء فسواه، بحيث لم يأت متفاوتاً، بل متناسباً على إحكام وإتقان، للدلالة على أنه صادر من عالم حكيم {والذي قَدَّرَ فهدى} أي قدَّر في كل شيء خواصه ومزاياه بما تجلُّ عنه العقول والأفهام، وهدى الإِنسان لوجه الانتفاع بما أودعه فيها، وهدى الإِنعام إلى مراعيها، ولو تأملت ما في النباتات من الخواص، وما في المعادن من المزايا والمنافع، واهتداء الإِنسان لاستخراج الأدوية والعقاقير النافعة من النباتات، واستخدام المعادن في صنع المدافع والطائرات، لعلمتَ حكمةَ العلي القدير، الذي لولا تقديره وهدايته لكنا نهيم في دياجير الظلام كسائر الأنعام قال المفسرون: إِنما حذف المفعول لإِفادة العموم أي قدَّر لكل مخلوق وحيوان ما يصلحه، فهداه إِليه وعَرَّفه وجه الانتفاع به {والذي أَخْرَجَ المرعى} أي أنبت ما ترعاه الدواب، من الحشائش والأعشاب {فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى} أي فصيِّره بعد الخضرة أسود بالياً، بعد أن كان ناضراً زاهياً، ولا يخفى ما في المرعى من المنفعة بعد صيرورته هشيماً ياسباً، فإنه يكون طعاماً جيداً لكثير من الحيوانات، فسبحان من أحكم كل شيء و {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] !! وبعد أن ذكر دلائل قدرته ووحدانيته، ذكر فضله وإنعامه على رسوله فقال {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تنسى} أي سنقرئك يا محمد هذا القرآن العظيم فتحفظه في صدرك ولا تنساه {إِلَاّ مَا شَآءَ الله} أي لكن ما أراد الله نسخه فإنك تنساه. . وفي هذه الآية معجزة له عليه الصلاة والسلام ُ، لأنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكان مع ذلك لا ينسى ما أقرأه جبريل عليه السلام، وكونه يحفظ هذا الكتاب العظيم من غير دراسة ولا تكرار ولا ينساه أبداً، من أعظم البراهين على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم َ قال ابن كثير: هذا إخبار من الله تعالى ووعدٌ لرسوله صلى الله عليه وسلم َ بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى} أي هو تعالى عالم بما يجهر به العباد وما يخفونه من الأقوال والأفعال، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء {وَنُيَسِّرُكَ لليسرى} أي ونوفقك للشريعة السمحة البالغة اليسر، التي هي أيسر وأسهل الشرائع السماوية، وهي شريعة الإِسلام {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى} أي فذكر يا محمد بهذا القرآن حيث تنفع الموعظة والتذكرة كقوله

{فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] قال ابن كثير: ومن ههنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله، كما قال علي رضي الله عنه «ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا فتنة لبعضهم» وقال: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله «؟ {سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى} أي سينتفع بهذه الذكرى والموعظة من يخاف الله تعالى {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى} أي ويرفضها

ص: 522

ويبتعد عن قبول الموعظة الكافر المبالغ في الشقاوة {الذى يَصْلَى النار الكبرى} أي الذي يدخل نار جهنم المستعرة، العظيمة الفظيعة قال الحسن: النار الكبرى نارُ الآخرة، والصغرى نارُ الدنيا {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} أي لا يموت فيستريح، ولا يحيا الحياة الطيبة الكريمة، بل هو دائم في العذاب والشقاء {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} أي قد فاز من طهَّر نفسه بالإِيمان، وأخلص عمله للرحمن {وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} أي وذكر عظمة ربه وجلاله، فصلى خشوعاً وامتثالا لأمره {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا} أي بل تفضلون أيها الناس هذه الحياة الفانية على الآخرة الباقية، فتشتغلون لها وتنسون الآخرة {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} أي والحال أن الآخرة خيرٌ من الدنيا وأبقى، لأن الدنيا فانية، والآخرة باقية، والباقي خيرٌ من الفاني، فكيف يؤثر عاقلٌ ما يفنى على ما يبقى؟ وكيف يهتم الغرور، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلود؟ قرأ ابن مسعود هذه الآية فقال لأصحابه: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ قالوا: لا، قال: لأن الدنيا أحضرت وعجلت لنا بطعامها، وشرابها، ونسائها، ولذاتها، وبهجتها، وإن الآخرة غُيبتْ وزُويت عنا، فأحببنا العاجل، وتركنا الآجل {إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} أي إن هذه المواعظ المذكورة في هذه السورة، مثبتة في الصحف القديمة المنزلة على إِبراهيم وموسى عليهما السلام، فهي مما توافقت فيه الشرائع، وسطرته الكتب السماوية، كما سطره هذا الكتاب المجيد.

البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

الطباق {لَا يَمُوتُ. . وَلَا يَحْيَا} وكذلك {الجهر. . وَمَا يخفى} .

2 -

جناس الاشتقاق {نُيَسِّرُكَ لليسرى} و {ذَكِّرْ. . والذكرى} .

3 -

المقابلة بين {سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى} وبين {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى} .

4 -

حذف المفعول ليفيد العموم في قوله {خَلَقَ فسوى} وفي {قَدَّرَ فهدى} لأن المراد خلق كل شيء فسواه، وقدر كل شيء فهداه.

5 -

السجع غير المتكلف وهو كثير في القرآن مثل {أَخْرَجَ المرعى فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى سَنُقْرِئُكَ فَلَا تنسى} وهو من المحسنات البديعية.

تنبيه: صحف موسى غير التوراة، وقد رود أنه أعطي عشر صحف وكانت كلها عبراً، قال أبو ذر: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عن صحف موسى ما كانت؟ قال: كانت عبراً كلها (عجبتُ لمن أيقن بالموت كيف يفرح {عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك} عجبتُ لمن رأى الدنيا وتقلُّبها بأهلها كيف يطمئن إليها {عجبت لمن أيقن بالقَدَر ثم ينصب} عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل!!)

ص: 523