المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

اللغَة: {تجلى} انكشف وظهر {شتى} متفرق ومختلف {الحسنى} الكلمة الحسنى - صفوة التفاسير - جـ ٣

[محمد علي الصابوني]

الفصل: اللغَة: {تجلى} انكشف وظهر {شتى} متفرق ومختلف {الحسنى} الكلمة الحسنى

اللغَة: {تجلى} انكشف وظهر {شتى} متفرق ومختلف {الحسنى} الكلمة الحسنى وهي كلمة التوحيد {اليسرى} الخصلة المؤدية الى اليسر والراحة وهي الجنة {العسرى} الخصلة المؤدية إلى العسر والشدة وهي جهنم {تردى} هلك وسقط في الهاوية {تلظى} أصلها تتلظى أي تتلهب وتتوقد {يَصْلَاهَآ} يدخلها وياقسي حرها.

المنَاسَبَة: روي أن بلالاً رضي الله عنه كان عبداً مملوكاً ل «أُمية بن خلف» وكان سيده يعذبه لإِسلامه، ويخرجه إِذا حميت الشمسُ فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد! {فيقول وهو في تلك الحالة: أحدٌ، أحدٌ، فمرَّ به أبو بكر الصديق وهم يصنعون به ذلط، فقال لأمية: ألا تتقي الله في هذا المسكين} ! فقال له: أنت أفسدته عليَّ فأنقذه مما ترى، فاشتراه أبو بكرٍ منه وأعتقه في سبيل الله، فقال المشركون: إِنما أعتقه ليدٍ كانت له عنده فنزلت {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى إِلَاّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى وَلَسَوْفَ يرضى} .

التفسِير: {و‌

‌الليل

إِذَا يغشى} أي أُقسمُ بالليل إِذا غطَّى بظلمته الكون، وستر بشبحه الوجود {والنهار إِذَا تجلى} أي وأُقسمُ بالنهار إِذا تجلَّى وانكشف، وأنار العالم وأضاء الكون قال المفسرون: أقسم تعالى بالليل لأنهسكنٌ لكافة الخلق، يأوي فيه الإِنسان والحيوان إلى مأواه، ويسكن عن الاضطراب والحركة، ثم أقسم بالنهار لأن فيه حركة الخلق وسعيهم إلى اكتساب الرزق، والحكمة في هذا القسم ما في تعاقب الليل والنهار من مصالح لا تُحصى فإِنه لو كان العمر كله ليلاً لتعذر المعاش، ولو كان كله نهاراً لما سكن الإِنسان إلى الراحة، ولاختلت مصالح البشر {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} أي وأُقسمُ بالقادر العظيم الذي خلق صنفي الذكر والأنثى، من نطفةٍ إذا تمنى. . أقسم تعالى بذاته على خلق النوعين {الذكر والأنثى} للتنبيه على أنه الخالق المبدع الحكيم، إِذْ لا يُعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى يحصل بمحض الصدفة من طبيعة بلهاء لا شعور لها فإِن الأجزاء الأصلية في المنيّ متساوية، فتكوينُ الولد من عناصر واحدة تارةً ذكراً، وتارة أنثى، دليلٌ على أن واضع هذا النظام عالم، بما يفعل، محكم لما يصنع {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} هذا هو جواب القسم أي إن عملكم لمختلف، فمنكم تقيٌ ومنكم شقي، ومنكم صالحٌ ومنكم طالح، ثم فسَّره بقوله {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} أي فأما من أعطى ماله وأنفق ابتغاء وجه الله، واتقى ربه فكف عن

ص: 541

محارم الله قال بان كثير: أعطى ما أُمر باخراجه، واتقى الله في أموره {وَصَدَّقَ بالحسنى} أي وصدَّق بالجنة التي أعدَّها الله للأبرار {فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} أي فسنهيئه لعمل الخير، ونسهّل عليه الخصلة المؤدية لليسر، وهي فعل الطاعات وترك المحرمات {وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى} أي وأمَّا من بخل بإِنفاق المال، واستغنى عن عبادة ذي الجلال قال ابن عباس: بخل بماله، واستغنى عن ربه عز وجل {وَكَذَّبَ بالحسنى} أي وكذَّب بالجنة ونعيمها {فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} أي فسنهيئه للخصة المؤدية للعسر، وهي الحياة السيئة في الدنيا والآخرة وهي طريق الشر قال المفسرون: سمَّى طريقة الخير يسرى لأن عاقبتها اليسر وهي دخول الجنة دار النعيم، وسمَّى طريقة الشرِّ عسرى لأن عاقبتها العسر وهو دخول الجحيم {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} استفهام إِنكاري أيْ أيُّ شيء ينفعه ماله إذا هلك وهو في نار جهنم؟ هل نفعه المال، ويدفع عنه الوبال؟ {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى} أي إنَّ علينا أن نبيِّن للناس طريق الهدى من طريق الضلالة، ونوضّح سبيل الرشد من سبيل الغي كقوله

{وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]{وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى} أي لنا ما في الدنيا والآخرة، فمن طلبهما من غير الله فقد أخطأ الطريق {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} أي فحذرتكم يا أهل مكة ناراً تتوقَّد وتتوهج من شدة حرارتها {لَا يَصْلَاهَآ إِلَاّ الأشقى} أي لا يدخلها للخلود فيها ولا يذوق سعيرها، إِلاّ الكافر الشقي. . ثم فسَّره تعالى بقوله {الذي كَذَّبَ وتولى} أي كذَّب الرسل وأعرض عن الإِيمان {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} أي وسيبعد عن النار التقيُ النقيُّ، المبالغ في اجتناب الشرك والمعاصي. . ثم فسَّره تعالى بقوله {الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} أي الذي ينفق ماله في وجوه الخير ليزكي نفسه {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى} أي وليس لأحدٍ عنده نعمة حتى يكافئه عليها، وإِنما ينفق لوجه الله قال المفسرون: نزلت الآيات في حقِّ «أبي بكر الصديق» حين اشترى بلالاً وأعتقه في سبيل الله فقال المشركون: إِنما فعل ذلك ليد كانت له عنده فنزلت {إِلَاّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى} أي ليس له غاية إِلا مرضاة الله {وَلَسَوْفَ يرضى} أي ولسوف يعطيه الله في الآخرة ما يرضيه وهو وعدٌ كريم من رب رحيم.

البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

الطباق بين لفظة {الأشقى} و {الأتقى} وبين {اليسرى} و {العسرى} .

2 -

المقابلة اللطيفة {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى} وبين {وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى} الآيات.

3 -

جناس الاشتقاق {فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} لأن اليسرى من التيسير فبينهما مجانسة.

4 -

حذف المفعول للتعميم ليذهب ذهن السامع كل مذهب {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى. .} الآيات.

ص: 542

5 -

السجع الرصين غير المتكلف كقوله {لَا يَصْلَاهَآ إِلَاّ الأشقى. . وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} الخ.

كان عمر رضي الله عنه يقول: أعتق سيدُنا سيدَنا يريد أعتق سيدنا أبو بكر سيدنا بلالاً، فما أروع هذه النفوس؟ اللهم ارزقنا محبة أصحاب الرسول جميعاً.

ص: 543

اللغَة: {سجى} سجى الليل: اشتد ظلامه {قلى} أبغض قال الراغب: القلي: شدة البغض يقال: قلاه ويقليه أي أبغضه {آوى} ضمَّه إلى من يرعاه {عَآئِلاً} فقيراً معدماً وهو من اشتد به الفقر قال جرير:

ص: 544

اللهُ نزَّل في الكتاب فريضةٌ

لابن السبيل وللفقير العائل

{تَقْهَرْ} تذله وتحقره {تَنْهَرْ} تزجره وتغلظ عليه في الكلام.

سَبَبُ النّزول: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت امرأةٌ وهي أم جميل امرأة أبي لهب شفقالت يا محمد: إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك!! لم أره قربك ليلتين أو ثلاثاً فأنزل اله عز وجل: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} .

التفسِير: {والضحى والليل إِذَا سجى} أقسم تعالى بوقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمسُ، وأقسم بالليل إِذا اشتد ظلامه، وغطَّى كل شيء في الوجود قال ابن عباس:{سجى} أقبل بظلامه قال ابن كثير: هذا قسمٌ منه تعالى بالضحى وما جعل فيه من الضياء، وبالليل إِذا سكن فأظلم وأدلهمَّ، وذلك دليلٌ ظاهر على قدرته تعالى {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} أي ما تركك ربك يا محمد منذ اختارك، ولا أبغضك منذ أحبك، وهذا ردٌّ على المشركين حين قالوا: هجره ربه، وهو جواب القسم {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} أي وللدارُ الآخرة خيرٌ لك يا محمد من هذه الحياة الدنيا، لأن الآخرة باقية، والدنيا فانية، ولهذا كان عليه السلام يقول:«اللهم لا عيش إِلا عيشُ الآخرة» {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} أي سوف يعطيك ربك في الآخرة من الثواب، والكرامة، والشفاعة، وغير ذلك إلى أن ترضى قال ابن عباس: هي الشفاعة في أُمته حتى يرضى، لما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم َ ذكر أمته فقال: اللهم أُمتي أُمتي وبكى، فقال الله يا جبريل إِذهب إلى محمد واسأله ما يبكيك: اذهب إِلى محمد وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك» ، وفي الحديث «لكل نبي دعوةٌ مستجابة، فتعجَّل كل نبي دعوته، وإِني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي يوم القيامة» الحديث قال الخازن: والأولى حملُ الآية على ظاهرها ليشمل خيري الدنيا والآخرة معاً، فقد أعطاه الله تعالى في الدنيا النصر والظفر على الأعداء، وكثر الأتباع والفتوح، وأعلى دينه، وجعل أمته خير الأمم، وأعطاه في الآخرة الشفاعة العامة، والمقام المحمود، وغير ذلك من خيري الدنيا والآخرة. . ثم لما وعده بهذا الوعد الجليل، ذكَّره بنعمه عليه في حال صغره ليشكر ربه فقال {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} أي ألم تكنْ يا محمد يتيماً في صغرك، فآواك الله إلى عمك أبي طالب وضمَّك إليه؟ قال ابن كثير: وذلك أن أباه توفي وهو حملٌ في بطن أمه، ثم توفيت أُمه وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده «عبد المطلب» إِلى أن تُوفي وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه «أبو طالب» ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من قدره حتى ابتعثه الله على رأس الأربعين وأبو طالب على عبادة الأوثان مثل قومه ومع ذلك كان يدفع الأذى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، وكلُّ هذا من حفظ الله له، كلاءته

ص: 545

وعنايته به {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} أي ووجدك تائهاً عن معرفة الشريعة والدين فهداك إِليها كقوله تعالى

{مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلَا الإيمان} [الشورى: 52] قال الإِمام الجلال: أي وجدك ضالاً عمان أنت عليه الآن من الشريعة فهداك إليها، وقيل: ضلَّ في بعض شعاب مكة وهو صغير فردَّه الله إِلى جده قال أبو حيان: لا يمكن حمله على الضلال الذي يقابله الهدى، لأن الأنبياء معصومون من ذلك قال ابن عباس: هو ضلاله وهو في صغره في شعاب مكة، وقيل: ضلَّ وهو مع عمه طريق الشام {وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى} أي ووجدك فقيراً محتاجاً فأغناك عن الخلق، بما يسَّ لك من أسباب التجارة. . ولمَّا عدَّد عليه هذه النعم الثلاث، وصَّاه بثلاث وصايا مقابلها فقال {فَأَمَّا اليتيم فَلَا تَقْهَرْ} أي فأما اليتيم فلا تحتقره ولا تغلبه على ماله قال مجاهد: أي لا تحتقره وقال سفيان: لا تظلمه بتضييع ماله، والمراد كن لليتيم كالأب الرحيم، فقد كنت يتيماً فآواك الله {وَأَمَّا السآئل فَلَا تَنْهَرْ} أي وأمَّا السائل المستجدي الذي يسأل عن حاجة وفقر، فلا تزجره إِذا سألك ولا تُغلظ له القول بل أعطه أو ردَّه رداً جميلاً قال قتادة: ردَّ المسكين برفقٍ ولين {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أي حدِّثْ الناس بفضل الله وإِنعامه عليك، فإِن التحدث بالنعمة شكر لها قال الألوسي: كنت يتيماً وضالاً وعائلاً، فأواك الله وهداك وأغناك، فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث، فتعطَّف على اليتيم، وترحَّم على السائق، فقد ذقت اليتم والفقر، وأرشد العباد إِلى طريق الرشاد، كما هداك ربك.

البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

الطباق بين {الآخِرَةُ} و {الأولى} لأن المراد بالأولى الدنيا وهي تطابق الآخرة.

2 -

المقابلة اللطيفة {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى. . وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى} قابلها بقوله {فَأَمَّا اليتيم فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلَا تَنْهَرْ} وهي من لطائق علم البديع.

3 -

الجناس الناقص بين {تَقْهَرْ} و {تَنْهَرْ} لتغير الحرف الثاني من الكلمتين.

4 -

السجع المرصَّع كأنه الدر المنظوم في عقد كريم {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى} الخ.

ص: 546

التفسِير: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} استفهامٌ بمعنى التقرير أي قد شرحنا لك صدرك يا محمد بالهدى والإِيمان، ونور القرآن كقوله تعالى {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ} [الأَنعام: 125] قال ابن كثير: أي نورناه وجعلناه فسيحاً، رحيباً، واسعاً، وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحاً، سمحاً، سهلاً، لا حرج فيه ولا إِصرْ ولا ضيق وقال أبو حيان: شرحُ الصدر تنويره بالحكمة، وتوسيعه لتلقي ما يوحى إِليه وهو قول الجمهور، وقيل: هو شق جبريل لصدره في

ص: 547

صغره وهو مرويٌ عن ابن عباس {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} أي حططنا عنك حملك الثقيل {الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} أي الذي أثقل وأوهن ظهرك قال المفسرون: المراد بالوزر الأمور التي فعلها صلى الله عليه وسلم َ، وَوَضْعُها عنه هو غفرانها له كقوله تعالى {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وليس المراد بالذنوب المعاصي والأثام، فإِن الرسل معصومون من مقارفة الجرائم، ولكن ما فعله عليه السلام عن اجتهاد وعوتب عليه، كإِذنه صلى الله عليه وسلم َ للمنافقين في التخلف عن الجهاد حين اعتذروا، وأخذه الفداء من أسرى بدر، وعبسه في وجه الأعمى ونحو ذلك، قال في التسهيل: وإِنما وصفت ذنوب الأنبياء بالثقل، وهي صغائر مغفورة لهم، لهمِّهم بها وتحسرهم عليهان فهي ثقيلة عندهم لشدة خوفهم من الله وهذا كما ورد في الأثر «إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه كالذبابة تطير فوق أنفه» والنقيضُ هو الصوتُ الذي يسمع من المحمل فوق ظهر البعير من شدة الحمل {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} أي رفعنا شأنك، وأعلينا مقامك في الدنيا والآخرة، وجعلنا اسمك مقروناً باسمي قال مجاهد: لا أَذكر إِلا ذكرت معي وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب، ولا متشهد، ولا صاحب صلاة إِلا ينادي: أشهد أن لا إِله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وفي الحديث «أتاني جبريل فقال لي يا محمد: إن ربك يقول: أتدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت: الله تعالى أعلم، قال: إِذا ذكرتُ ذكرتَ معي» قال في البحر: قرن الله ذكر الرسول بذكره جل وعلا في كلمة الشهادة، والأذان والإِقامة، والتشهد، والخطب، وفير غير موضع من القرآن، وأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به كما قال حسان بن ثابت:

وضمَّ الإِله اسم النبي إِلى اسمه

إِذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشقَّ له من إِسمه ليُجله

فذو العرش محمودٌ وهذا محمد

{فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} أي بعد الضيق يأتي الفرج، وبعد الشدة يكون المخرج قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ كما عدَّد عليه النعم في أول السورة تسلية وتأنسياً له، لتطيب نفسه ويقوى رجاؤه، وكأن الله تعالى يقول: إِنَّ الذي أنعم عليك بهذه النعم الجليلة، سينصرك عليهم، ويظهر أمرك، ويبدل لك هذا العسر بيسرٍ قريب، ولذلك كرره ومبالغة فقال:{إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} أي سيأتي الفرج بعد الضيق، واليسر بعد العسر فلا تحزن ولا تضجر وفي الحديث

«لن يغلب عسرٌ يسرين» {فَإِذَا

ص: 548

فَرَغْتَ فانصب} أي فإِذا فرغت يا محمد من دعوة الخلق، فاجتهد في عبادة الخالق، وإِذا انتهيت من أمور الدنيا، فأتعب نفسك في طلب الآخرة {وإلى رَبِّكَ فارغب} أي اجعل همَّك ورغبتك فيما عند الله، لا في هذه الدنيا الفانية قال ابن كثير: المعنى إِذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها، وقطعت علائقها، فانصب إِلى العبادة، وقم إِليها نشيطاً فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة.

البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

الاستفهام التقريري للامتنان والتذكير بنعم الرحمن {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. .} الخ.

2 -

الاستعارة التمثيلية {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} شبَّه الذنوب بحمل ثقيل يرهق كاهل الإِنسان ويعجز عن حمله بطريق الاستعارة التمثيلية:

3 -

التنكير للتفخيم والتعظيم {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} نكر اليسر للتعظيم كأنه يسراً كبيراً.

4 -

الجناس الناقص بين لفظ {اليُسْر} و {العسر} .

5 -

تكرير الجملة لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} ويسمى هذا بالإِطناب.

6 -

السجع المرصَّع مراعاة لرءوس الآيات {فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب وإلى رَبِّكَ فارغب} ومثلها {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} وهو من المحسنات البديعية.

ص: 549