الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللغَة: {يتفطَّرنْ) يتشققن، والفطور: الشقوق ومنه {هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} [الملك: 3]{فاطر} خالد ومبدع ومخترع {يَوْمَ الجمع} يقوم القيامة لاجتماع الخلائق فيه {أُمَّ القرى} مكة المكرمة {يَذْرَؤُكُمْ} ينشئكم وكثِّركم {مَقَالِيدُ} مفاتيح جمع إقليد على غير قياس {شَرَعَ} بيَّن وسنَّ وأوضح {كَبُرَ} عظم وشقَّ {يُنِيبُ} يرجع ويتوب من ذنبه {مُرِيبٍ} موقع في الريبة والقلق {دَاحِضَةٌ} باطلة وزائلة يقال: دحضت حجته أي بطلت، ودَحضت رجله أي زلقت.
التفسِير: {حم عسق} الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن، وإثارة انتباه الإِنسان بحروف أولية، وبدءٍ غير مألوف {كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم} أي مثل ما أوحى إليك ربك يا محمد هذا القرآن، أوحى إلى الرسل من قبلك في الكتب المنزلة، اللهُ العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي ما له ما في الكون مالكاً وخلقاً وعبيداً {وَهُوَ العلي العظيم} أي هو المتعالي فوق خلقه، المنفرد بالكبرياء والعظمة {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} أي تكاد السمواتُ يتشققن من عظمة الله وجلاله، ومن شناعة ما يقوله المشركون من اتخاذ الله الولد {والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي والملائكةُ الأبرار دائبون في تسبيح الله، ينزهونه عما لا يليق به {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} أي ويطلبون المغفرة لذنوب من في الأرض من المؤمنين قال في التسهيل: والآية عمومٌ يراد به الخصوص لأن الملائكة إنما يستغفرون للمؤمنين من أهل الأرض، فهي كقوله تعالى {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} [غافر: 7] {أَلَا إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} أي ألَا فانتبهوا أيها القوم إن الله هو الغقور لذنوب عباده، الرحيم بها حيث لا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وعصيانهم قال القرطبي: هيَّب وعظَّم جل وعلا في الابتداء، وألطف وبشَّر في الانتهاء {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} أي جعلوا له شركاء وأنداداً {الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أي اللهُ تعالى رقيبٌ على أحوالهم وأعمالهم، لا يفوقه منها شيءٌ، وهو محاسبُهم عليها {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أي وما أنت يا محمد بموكَّل على أعمالهم حتى تقسرهم على الإِيمان، إنما أنت منذرٌ فحسب {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً} أي وكما أوحينا إلى الرسل قبلك أوحينا إليك يا محمد قرآناً عربياً معجزاً، بلسان العرب لا لبس فيه ولا غموض {لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا} أي لتنذر بهذا القرآن أهل مكة ومن حولها من البلدان قال الإِمام الفخر: وأمُّ القُرى أصلُ القرى وهي مكة، وسميت بهذا الاسم إجلالاً لها، لأن فيها البيت ومقام إبراهيم، والعربُ تسمي أصلُ كل شيءٍ أمه، حتى يقال: هذه القصيدة من أمهات قصائد فلان {وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع} أي وتخوّف الناس ذلك اليوم الرهيب، يوم اجتماع الخلائق للحساب في صعيدٍ واحد {لَا رَيْبَ فِيهِ} أي لاشك في وقوعه، ولا محالة من حدوثه {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} أي فريقٌ منهم في جنات النعيم وهو المؤمنون، وفريق منهم في دركات الجحيم وهم الكافرون، حيث ينقسمون بعد الحساب إلى أشيقاء وسعداء كقوله تعالى
{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:
1
05] {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ
أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لو شاء الله لجعل الناس كله مهتدين، أهل دينٍ واحدٍ وملةٍ واحدة وهي الإِسلام قال الضحاك: أهل دينٍ واحد، أهل ضلالةٍ أو أهل هُدى {ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ} أي ولكنَّه تعالى حكيمٌ لا يفعل إلَاّ ما فيه المصلحة، فمن علم منه اختيار الهدى يهديه فيدخله في جنته، ومن علم منه اختيار الضلال يضلُّه فيدخله بذلك السعير ولهذا قال {والظالمون مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} أي والكافرون ليس لهم وليٌّ يتولاهم يوم القيامة، ولا نصيرٌ ينصرهم من عذاب الله قال أبو حيان: والآية تسليةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم َ عمَّا كان يقاسيه من كفر قومه، وتوقيفٌ على أنَّ ذلك راجعٌ إلى مشيئته جلال وعلا، ولكنْ من سبقت له السعادة أدخله في رحمته يعني دين الإِسلام {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} استفهامٌ على سبيل الإِنكار أي بل اتخذ المشركون من دون الله آلهة، يستعينون بهم، ويطلبون نصرهم وشفاعتهم؟ {فالله هُوَ الولي} أي فاللهُ وحده هو الوليُّ الحقُّ، الناصرُ للمؤمنين، لا وليَّ سواه {وَهُوَ يُحْيِي الموتى} أي هو تعالى القادر على إحياء الموتى، لا تلك الأصنام التي لا تضر ولا تنفع {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه شيء فهو الحقيق بأن يُتخذولياً دون من سواه {وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله} أي وما اختلفتم فيه أيها المؤمنون من شيء من أمر الدنيا أو الدين، فالحكم فيه إلا الله جل وعلا، هو الحاكم فيه بكتابه أو بسنة نبيه عليه السلام {ذَلِكُمُ الله رَبِّي} أي الموصوف بهذه الصفات هو ربي وحده، وَليِّي ومالك أمري قال القرطبي: وفيه إضمارٌ أي قل لهم يا محمد: ذلك الذي يُحيي الموتى، ويحكم بين المختلفين هو ربّي {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي عليه وحده اعتمدت في جميع أموري {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي وإِليه وحده أرجع في كل ما يعرض عليَّ من مشكلاتٍ ومعضلات، لا إلى أحدٍ سواه قال الرازي: والعبارة تفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه، ولا أنيب إلا إليه، وهو إشارة إلى تزييف طريقة من اتخذ غير الله ولياً. . ثم بيَّن تعالى صفاته الجليلة القدسية، التي هي من آثار ومظاهر الربوبية فقال {فَاطِرُ السماوات والأرض} أي هو جل وعلا خالقهما ومبدعهما على غير مثالٍ سابق {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} أي أوجد لكم بقدرته من جنسكم نساءً من الآدميات {وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً} أي وخلق لكم كذلك من الإِبل والبقر والضأن والمعز أصنافاً، ذكوراً وإناثاً {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أي يكثّركم بسببه بالتوالد، ولولا أنه خلق الذكر والأثنى لما كان ثَمة تناسلٌ ولا توالدٌ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي ليس له تعالى مثيلٌ ولا نظير، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهوالواحد الأحد، الفردُ الصمد والغرضُ: تنزيهُ الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، والكاف هنا لتأكيد النفي أي ليس مثله شيءٌ، قال ابن قتيبة: العربُ تقيم المثل مقام النفس فتقول: مثلي لا يُقال له هذا أي أنا لا يُقال لي هذا، ومعنى الآية ليس كالله جل وعلا شيءٌ وال القرطبي: والذي يُعتقد في هذا الباب أن الله جلَّ اسمُه في عظمته وكبريائه، وملوكته وحُسنى أسمائه، لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، ولا يُشبَّه به أحد، وما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي، إذْ صفاتُ القديم عز وجل بخلاف صفات
المخلوق، وإذْ صفِاتُهنم لا تنفك عن الأعراض والأغراض، وهو تعالى منزَّه عن ذلك، وقد قال بعض المحقيين: التوحيدُ إثباتُ ذاتٍ غير مشهبةٍ للذوات، ولا معطَّلة من الصفات، وزاد الواسطيُّ فقال: ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، وهذا مذهب أهل الحق، أهل السنة والجماعة {وَهُوَ السميع البصير} أي وهو تعالى السميع لأقوال العباد، البصير بأفعالهم {لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض} أي بيده جل وعلا مفاتيح خزائنهما من المطر والنبات وسائر الحاجات {يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} أي يوسِّعُ الرزق على من يشاء، ويضيّق على من يشاء، حسب الحكمة الإلهية {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تعليل لما سبق أي لأن علمه تعالى محيط بكل الأشياء، فهو واسع العلم، يعلم إذا كان الغنى خيراً للعبد أو الفقر {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} أي سنَّ وبيَّن لكم أيها المؤمنون من الشريعة السمحة والدين الحنيف، ما وصَّى به الرسل، وأرباب الشرائع من مشاهير الأنبياء، كنوح ومحمد عليه السلام {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى} أي وما أمرنا به بطريق الإِلزام إبراهيم وموسى وعيسى من أصول الشرائع والأحكام قال الصاوي: خصَّ هؤلاء بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء، وأولوا العزم، وأصحاب المعظمة، فلكل واحد من هؤلاء الرسل شرعٌ جديد، وأمَّا من عداهم، فإِنما كان يبعث بتبليغ شرع من قبله، ولم يزل الأمر يتأكد بالرسل، ويتناصر بالأنبياء، واحداً بعد واحد، وشريعةً إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل، ملةِ أكر الرسل نبينا محمد صلى الله عليه ووسلم، فتبيَّن أن شرعنا معشَر الأمة المحمدية قد جمع جميع الشرائع المتقدمة في أصول الاعتقادات، وأصول الأحكام ولهذا قال تعالى {أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} أي وصيناهم بأن أقيموا الدين الحق دين الإِسلام الذي هو توحيدُ الله وطاعتُه، والإِيمان بكتبه ورسله، وبالبعث والجزاء قال القرطبي: المراد اجعلوا الدين قائماً مستمراً محفوظاً من غير خلافٍ فيه واضطراب، في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة وهي: التوحيد، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وغيرها فهذا كله مشروعاً ديناً واحداً وأملة متحدة.
{كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} أي عظمُ وشقَّ على الكفار ما تدعوهم إليه من عبادة الله، وتوحيد الواحد القهار {الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} أي اللهُ يصطفي ويختار للإِيمان والتوحيد من يشاء من عباده، ويهدي إلى دينه الحق من يرجع إلى طاعته، فيوفقه له ويقربه إليه رحمةً وإكراماً {وَمَا تفرقوا إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم} أي وما تفرَّق أهل الأديان المختلفة من اليهود والنصارى وغيرهم إلاّ من بعد ما قامت عليهم الحجج والبراهين من النبي المرسل إليهم {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي ظلماً وتعدياً، وحسداً وعناداً {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي ولولا أن الله قضى بتأخير العذاب عنهم إلىيوم القيامة {لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ} أي لعجَّل لهم العقوبة في الدنيا سريعاً باستئصالهم قال ابن كثير: أي لولا الكلمة السالفة من الله تعالى بإِنظار العباد إلى يوم المعاد لعجل لهم العقوبة سريعاً {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ} أي وإِن بقيَّة أهل الكتاب الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ من
بعد أسلافهم السابقين {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} أي لفي شك من التوراة والإِنجيل، موقع لهم في أشد الحيرة والريبة، لأنهم ليسوا على يقين من أمر دينهم وكتابهم، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا برهان قال البيضاوي: لا يعلمون كتابهم كما هو ولا يؤمنون به حق الإِيمان، فهم في شك مقلق {فَلِذَلِكَ فادع واستقم كَمَآ أُمِرْتَ} أي فلأدل الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك، فادع يا محمد إليه ولزم النهج القويم مع الاستقامة كما أمرك ربك {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} أي ولا تتبع أهواء المشركين الباطلة فيما يدعونك إليه من ترك دعوة التوحيد {وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ} أي صدَّقت بكل كتابٍ أنزله الله تعالى قال الرازي: يعني الإِيمان بجميع الكتب السماوية، لأن أهل الكتاب المتفرقين في دينهم آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي وأمرني ربي بأن أعدل بينكم في الحكم قال ابن جزي: يعني العدل في الأحكام إذا تخاصموا إليه {الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي الله خالقنا جميعاً ومتولي أمورنا فيجب أن نفرده بالعبادة {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي لنا جزاء أعمالنا ولكم جزاء أعمالكم، من خير أو شرٍّ، لا نستفيد من حسناتكم ولا نتضرر من سيئاتكم قال ابن كثير: هذا تبرؤٌ منهم أي نحن برآء منكم كقوله تعالى
{وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41]{لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} أي لا جدال ولا مناظرة بيننا وبينكم، فإن الحقَّ قد ظهر وبَانَ كالشمس في رابعة النهار، وأنتم تعاندون وتكابرون {الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المصير} أي الله يجمع بيننا يوم القيامة لفصل القضاء، وإليه المرجع والمآب فيجازي كل أحدٍ بعمله من خير وشر قال الصاوي: والغرضُ أن الحقَّ قد ظهر، والحجج قد قامت، فلم يبق إلا العناد، وبعد العناد لا حجة ولا جدل، والله يفصل بين الخلائق يوم المعاد، ويجازي كلاً بعمله {والذين يُحَآجُّونَ فِي الله} أي يخاصمون في دينه لصدِّ الناس عن الإِيمان {مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ} أي من بعد ما استجاب الناسُ له ودخلوا في دينه {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} أي حجتهم باطلة لا ثبوت لها عند الله قال ابن عباس: نزلت في طائفةٍ من بني إسرائيل همَّت برد الناس عن الإِسلام وإضلالهم ومحاجتهم بالباطل {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي وعليهم غضب عظيم في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة، {الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق} أي نزَّل القرآن وسائر الكتب الإِلهية متلبساً بالصدق القاطع، والحقِّ الساطع، في أحكامه وتشريعاته وأخباره {والميزان} أي ونزَّل الميزان أي العدل والإِنصاف، فهو من تسمية الشيء باسم السبب {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} أي وما ينبئك أيها المخاطب لعلَّ وقت الساعة قري؟ فإن الواجب على
العاقل أن يحذر منها، ويستعدُّ لها. قال أبو حيان: ووجه اتصال الآية بما سبق أن الساعة يوم الحساب فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} أي يستعجل بالقيامة المشركون الذين لا يُصدِّقون بها فيقولون على سبيل الاستهزاء: متى تكون؟ {والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا} أي والمؤمنون المصدِّقون بها خائفون وجلون من قيامها {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق} أي وعلمون أنها كائنة وحاصلة لا محالة {أَلَا إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَي الساعة لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} أي الذين يُجالدون في أمر القيامة في ضلالٍ بعيد عن الحق، لإِنكارهم عدل الله وحكمته.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الساعة وما يلقاه عند قيامها المؤمنون الأبرار والكفرة الفجار من الحساب والجزاء، ذكر هنا أنه لطيف بالعباد لا يعاجل العقوبة للعصاة مع استحقاقهم للعذاب، ثم ذكر مآل المتقين، ومآل المجريمن في الآخرة، دار العدل والجزاء.
اللغَة: {لَطِيفٌ} برٌّ رفيقٌ رحيم {حَرْثَ الآخرة} الحرثُ في الأصل: إلقاء البذور في الأرض، ويطلق على الزرع الحاصل منه، ثم استعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها بطريق الاستعارة {
الفصل} القضاء السابق {يَقْتَرِفْ} يكتسب {رَوْضَاتِ} جمع روضة وهو الموضع الكثير الأزهار والأشجار والثمار كالمنتزه وغيره {يَقْتَرِفْ} يكتسب {الغيث} المطر سمي غيثاً لأنه الخلق {قَنَطُواْ} يئسوا {بَثَّ} فرَّق ونشر {بِمُعْجِزِينَ} فائتين من عذاب الله بالهرب.
التفسِير: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} أي بارٌّ رحيم بالخلق كثير الإِحسان بهم، يفيض عليهم من الخيرات والبركات مع عصيانهم قال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعاً بمعاصيهم {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} أي يوسِّع الرزق على من يشاء قال القرطبي: وفي تفضيل قومٍ بالمال حكمه، ليحتاج البعضُ إلى البعض، وهذا من لطفه بالعباد، وأيضاً ليتمحن الغنيَّ بالفير، والفقير بالغني كقوله تعالى {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20] ؟ {وَهُوَ القوي} أي القادر على كل ما يشاء {العزيز} أي الغالبُ الذي لا يُغالب ولا يُدافع ثم لما بيَّن كونه لطيفاً بالعباد، كثير الإِحسان إليهم، أشار إلى أن الإِنسان ما دام في هذه الحياة فعلية أن يسعى في طلب الخيرات لأسباب السعادة فقال {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} أي من كان يريد بعمله ثواب الآخرة ونعيمها، نزدْ له في أجره وثوابه، بمضاعفة حسناته {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي ومن كان يريد بعمله متاع الدنيا ونعيمها فقط، نعطه بعض ما يطلبه من المتاع العاجل ممَّا قُدر له {وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} أي وليس له في الآخرة حظٌ من الثواب والنعيم قال الزمخشري: سمَّى ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز، وفرَّق بينهما بأن عمل للآخرة ضوعفت حسناته، ومن عمل للدنيا أُعطي شيئاً منها لا ما يريده ويبتغيه وقال افي التسهيل: حرثُ الآخرة عبارة عن العمل لها، وكذلك حرث الدنيا، وهو مستعارٌ من حرث الأرض، لأن الحرَّاث يعمل وينتظر المنفعة بما عمل، ثم أخذ ينكر على الكفار عبادتهم لغير الله، مع أنه الخالق المتفضل على العباد فقال {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله} ؟ الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي ألهؤلاء الكفار شركاء من الشياطين أو آهلة من الأوثان، شرعوا لهم الشرك والعصيان الذي لم يأمر به الله؟ قال شيخ زاده: وإسنادٌ الشرع إلى الأوثان، وهي جمادات إسنادُ مجازي، ومن إسناد الفعل إلى السبب، وسمَّاه ديناً للماشكلة والتهكم {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الفصل لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لولا أنَّ الله حكم وقضى في سابق أزله أن الثواب والعقاب يكونان يوم القيامة لحكم بين الكفار والمؤمنين، بتعجيل العقوبة للظالم، وإِثابة المؤمن {وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وإِن الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان لهم غذابٌ مرجع مؤملم {تَرَى الظالمين مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ} أي ترى أيها المخاطب الكفارين يوم القيامة خائفين خوفاً شديداً من جزاء السيئات التي ارتكبوها في الدنيا {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي والجزاء عليها نازلٌ بهم يوم القيامة لا محالة، سواءً خافوا أو لم يخافوا {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات} أي والمؤمنون الصالحون في
رياض الجنة يتمتعون، في أطيب بقاعها، وفي أعلى منازلها {لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} أي لهم في الجنات ما يشتهونه من أنواع اللذائذ والنعيم والثواب العظيم عند رب كريم قال ابن كثير: فأين هذا من هذا؟ أين من هو في الذل والهوان، ممن هو في روضات الجنان؟ فيا يشاء من مآكل ومشارب وملاذ؟ ولهذا قفال تعالى {ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} أي ذلك النعيم والجزاء هو الفوز الأكبر الذي لا يوازيه شيء قال القرطبي: أي الفضل الذي لا يوصف، ولا تهتدي العقول إلى حقيقة صفته، لأن الحقَّ جلا وعلا إذا قال «كبير» فمن ذا الذي يقدر قدره {ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي ذلك الإِكرام والإِنعام هو الذي يبشر الله به عباده المؤمنين المتقين، ليتعجلوا السرور ويزدادوا شوقاً إلى لقائه {قُل لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَاّ المودة فِي القربى} أي قل لهم يا محمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئاً من الأجر والمال، إلَاّ أن تحفظوا حقَّ القربى ولا تؤذوني حتى أبلغ رسالة ربي قال ابن كثير: أي لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح مالاً، وإِنما أطلب أن تذروني حتى أبلغ رسالات ربي، فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة قال ابن عباس: يقول إلا أن تصلوا ما بين وبينكم من القرابة، وتؤذوني في نفسي لقرابتي منكم {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} أي ومن يكتسب ويفعل طاعةً من الطاعات نضاعف له ثوابها {إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ} أي غفور للذنوب شاكر لإِحسان المحسن، لا يضيع عنده عمل العامل، ولهذا يغفر الكثير من السيئات، ويكثِّر القليل من الحسنات {أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً} ؟ أي بل أيقول كفار قريش إن محمداً اختلق الكذب علىلله بنسبة القرآن إليه؟ قال أبو حيان: وهذا استفهام إنكار وتوبيخ للمشركين على هذه المقالة أي مثله لا يُنسب إلى الكذب على الله مع اعترافكم له قبل بالصدق والأمانة {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} أي لو افتريت على الله الكذب كما يزعم هؤلاء المجرمون لختم على قبلك فأنساك هذا القرآن، وسلبه من صدرك، ولكنك لم تفتر على الله كذباً ولهذا أيَّدك وسدَّدك قال ابن كثير: وهذه كقوله جل وعلا
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 4446] وقال أبو السعود: والآيةُ استشهادٌ على بطلان ما قالوا ببيان أنه عليه السلام لو افترى على الله تعالى لمنعه من ذلك قطعاً، بالختم على قلبه بحيث لا يخطر بباله معنى من معانيه، ولم ينطق بحرفٍ من حروفه {وَيَمْحُ الله الباطل} أي يزيل الله الباطل بالكلية {وَيُحِقُّ الحق بِكَلِمَاتِهِ} أي ويثبتُ اللهُ الحق ويوضّحه بكلامه المنزل، وقضائه المبرم وقال ابن كثير: بكلماته أي بحججه وبراهينه {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي عالم بما في القلوب، يعلم ما تكنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر وقال القرطبي: والمراد أنك لو حدثت نفسك أن تفتري الكذب لعمله الله وطبع على قلبك {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} هذا امتنانٌ من الرحمن على العباد أي هوجل وعلا بفضله وكرمه يتقبل التوبة من عباده، إِذا أقلعوا عن المعاصي وأنابوا بصدقٍ وإِخلاص نيّة {وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات} أي يصفح عن الذنوب صغيرها وكبيرها لمن يشاء {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} أي يعلم جميع ما تصنعون من
خيرٍ أو شر {وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي ويستجيب الله دعاء المؤمنين الصالحين قال الرازي: أي ويستجيبُ اللهُ للمؤمنين إلَاّ أنه حذف اللام كما حذف في قوله {وَإِذَا كَالُوهُمْ} [المطفيين: 3] أي كالوا لهم {وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} أي ويزيدهم من جوده وكرمه فوق ما سألوا واستحقوا لأنه الجواد الكريم، البرُّ الرحيم {والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي وأما الكافرون بالله فلهم العذاب الموجع الأليم في دار الجحيم {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض} أي ولو وسَّع الله الرزق على عباده لطغوا وبغَوْا وأفسدوا في الأرض بالمعاصي والآثام، لأن الغني والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً، وقال قتادة: خير العيش مالا يُلهيك ولا يُطغيك {ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ} أي ولكنه تعالى يُنزّل أرزاق العباد بما تقتضيه الحكمة المصلحة كما جاء في الحديث القدسي «إنَّ من عبادي من لا يصلُحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإِن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه» {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} أي عالم بأحوالهم وما يصلحهم، فيعطي ويمنع، ويبسط ويقبض، حسبما تقتضيه الحكمة الربانية {وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} تعديدٌ لنعمه على العباد أي هو تعالى الذي ينزّل المطر، الذي يغيثهم من الجدب، من بعد ما يئسوا من نزوله {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} أي ويبسط خيراته وبركاته على العباد {وَهُوَ الولي الحميد} أي وهو الوليُّ الذي يتولى عباده، المحمود بكل لسان على ما أسدى من النعماء {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض} أي ومن دلائل قدرته، وعجائب حكمته، الدالة على وحدانيته، خلقُ السموات والأرض بهذا الشكل البديع {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ} أي وما نشر وفرَّق في المسوات والأرض من مخلوقات قال ابن كثير: وهذا يشمل الملائكة والإِنس والجن، وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم وأجناسهم وأنواعهم وقال مجاهد: هم الناسُ والملائكة {وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ} أي وهو تعالى قادر على جمع الخلائق للحشر والحساب والجزاء، في أيِّ وقتٍ شاء {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي وما أصابكم أيها الناس مصيبة من المصائب في النفس أو المال فإنما هي بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها قال الجلال: وعبَّر بالأيدي لأن أكثر الأفعال تُزاول بها {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} لهلكتم وفي الحديث
«لا يصيب ابن آدم وخدش عود، أو عثرة قدمٍ، ولا اختلاجُ عرقٍ إلا بذنبٍ، وما يعفه عنه أكثر» {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض} أي ولستم أيها المشركون فائتين من عذاب الله، ولا هاربين من قضائه، وإِن هربتم من أقطارها كل مهرب {وَمَا لَكُمْ
مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} أي وليس لكم غير الله وليٌّ يتولى أموركم ويتعهد مصالحكم، ولا نصير يدفع عنكم عذابه وانتقامه.
فَائِدَة: المصائب التي تُصيب الناس لتكفير السيئات، وأما الأنبياء فإِنما هي لرفع الدرجات لأنهم معصومون عن الذنوب والآثام.
تنبيه: قال بعض العلماء: لا يستبعد أن يكون في الكواكب السيارة، والعوالم العلوية مخلوقات غير الملائكة تشبه مخلوقات الأرض، وأن يكون فيها حيوانات تشبه الحيوانات التي على أرضنا كما تدل الدلائل الفكلية على وجود حياةٍ في المريخ، واستدلوا بهذه الآية {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ} الآية، أقول: يحتمل أن يوجد في هذا الفضاء الواسع، مخلوقات حيَّة غير الإِنسان، أم الإِناسن فإِننا نقطع بأنه لا يوجد إلا فوق سطح الكوكب الأرضي لقوله تعالى:{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25] .
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى بعض الدلائل على وحدانيته في خلق السموات والأرض، وما بثَّ فيهما من مخلوقات لا تُحصى، أتبعه بذكر آية أخرى تدل على وجود الإِله القادر الحكيم، وهي السفن الضخمة التي تشبه الجبال تسير بقدرته تعالى فوق سطح البحر، محمَّلة بالأقوات والأرزاق، وختم السورة الكريمة ببيان إثبات الوحي وصدق القرآن.
اللغَة: {الجوار} جمع جارية وهي السفينة سميت جارية لأنها تجري في الماء {كالأعلام} جمع علم وهو الجبل العظيم الشاهق قالت الخنساء:
وإِنَّ صخْراً لتأْتمُّ الهُداةُ به
…
كأنَّهُ علمٌ في رأسهِ نارُ
{رَوَاكِدَ} ثوابت ساكنة لا تسير، من ركدَ الماء إذا سكن ووقف عن الجري {مَّحِيصٍ} مهرب ومخلص من العذاب {يُوبِقْهُنَّ} يهلكهنَّ يقال: أوبقه أي أهلكه {الفواحش} جمع فاحشة وهي ما تناهى قبحه كالزنى والقتل والشرك وغيرها {نَّكِيرٍ} منكِرٌ يُنكِر ما ينزل بكم من العذاب {عَقِيماً} لا تلد.
التفسِير: {وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام} أي ومن علاماته الدالة على قدرته الباهرة، وسلطانه العظيم، السفنُ الجارية في البحر كأنها الجبال من عظمها وضخامتها {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ} أي لو شاء تعالى لأسكن الرياح وأوقفها فتبقى السفن سواكن وثوابت على ظهر البرح لا تجري {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي إن في تسييرها لعبراً وعظات لكن مؤمن صابر في البأساء، شاكر في الرخاء قال الصاوي: أي كثير الصبر على البلايا، عظيم الشكر على العطايا وقال أبو حيان: وإنما ذكر السفن الجارية في البحر، لما فيها من عظيم دلائل القدرة، من جهة أن الماء جسم لطيف شفاف، يغوص فيه الثقيل، والسفن تحمل الأجسام الثقيلة الكثيفة ومع ذلك جعل الله تعالى في الماء قوة يحملها بها ويمنعها من الغوص، ثم جعل الرياح سبباً لسيرها فإذا أراد أن ترسوا أسكن الريح فلا تبرح عن مكانها، {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} أي وإِن يشأ يجعل الرياح عواصف فيغرق هذه السفن وأهلها بسبب ما اقترفوا من جرائم {وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} أي ويتجاوز عن كثير من الذنوب فينجيهم الله من الهلاك {وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} أي وليعلم الكفار المجادلون في آيات الله بالباطل، أنه لا ملجأ لهم ولا مهرب من عذاب الله قال القرطبي: أي ليعلم الكافر إِذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان أنه لا ملجأ لهم سوى لله، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم فيخصلون له العبادة {فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ
الحياة الدنيا} أي فما أعطيتم أيها الناس من شيء من نعيم الدنيا وزهرتها الفانية، فإنما هو نعيم زائل، تتمتعون به مدة حياتكم ثم يزول {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى} أي وما عند الله من الثواب والنعيم، خيرٌ من الدينا وما فيها لأنَّ نعيم الآخرة دائم مستمر، فلا تُقدِّموا الفاني على الباقي {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} أي للذين صدَّقوا الله ورسوله وصبروا على ترك الملاذ في الدنيا {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي واعتمدوا على الله وحده في جميع أمورهم {والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم} أي وهؤلاء المؤمنون هم الذين يجتنبون كبائر الذنوب كالشرك والقتل وعقوق الوالدين {والفواحش} قال ابن عباس: يعني الزنى {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} أي إذا غضبوا على أحدٍ ممَّن اعتدى عليهم عفوا وصفحوا قال الصاوي: من مكارم الأخلاق التجاوز والحلم عند حصول الغضب، ولكن يشترط أن يكون الحلم غير مخلٍ بالمروءة، ولا واجباً كما إِذا انتهكت حرماتُ الله فالواجب حنيئذٍ الغضب لا الحلم، وعليه قول الشافعي «من استُغضب ولم يغضب فهو حمار» وقال الشاعر «وحلمُ الفتى في غير موضعه جهل» {والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ} أي أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة قال البيضاوي: نزل في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إلى الإِيمان فاستجابوا {وَأَقَامُواْ الصلاة} أي أدوها بشروطها وآدابها، وحافظوا عليها في أوقاتها {وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ} أي يتشاورون في الأمور ولا يعجلون، ولا يُبرمون أمراً من مهمات الدنيا والدين إلا بعد المشورة {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي وينفقون مما أعطاهم الله في سبيل الله بالإِحسان إلى خلق الله {والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ} أي ينتقمون ممن بغى عليهم، ولا يستسلمون الظلم المعتدي قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يُذلُوةا أنفسهم فتجترىء عليهم الفساق قال أبو السعود: وهو وصفٌ لهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر الفضائل، وهذا لا ينافي وصفهم بالغفران فإِن كلاً في موضعه محمود {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} أي وجزاء العدوان أن ينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي عليه بالزيادة قال الإِمام الفخر: لما قال تعالى {والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ} أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أني كون مقيداً بالمثل دون زيادة، وإِنما سمَّى ذلك سيئة لأنها تسوء من تنزل به {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} أي فمن عفا عن الظالم، وأصلح بينه وبين عدوه، فإِن الله يثيبه على ذلك الأجر الجزيل قال ابن كثير: شرع تعالى العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو، فمن عفا فإِن الله لا يضيع له ذلك كما جاء في الحديث
«وما زاد اللهُ تعالى عبداً بعفوٍ إلا عزاً» {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظالمين} أي إنه جل وعلا يبغض البادئتين بالظلم، والمعتدين في الانتقام {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي انتصر ممن ظلمه دون عدوان {فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} أي فليس عليهم عقوبة ولا مؤاخذة، لأنهم أتوا بما أبيح له من الانتصار {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} إي إنما العقوبة والمؤاخذة على المعتدين الذين يظلمون الناس بعدوانهم {وَيَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} أي
ويتكبرون في الأرض تجبراً وفساداً بالمعاصي والاعتداء على الناس في النفوس والأموال {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي أولئك الظالمون الباغون لهم عذاب مؤلم موجع بسبب ظلمهم وبغيهم {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} أي ولمن صبر على الأذى، وترك الانتصار لوجه الله تعالى، فإِن ذلك الصبر والتجاوز من الأمور الحميدة التي امر الله بها وأكد عليها قال الصاوي: كرَّر الصبر اهتماماً به وترغيباً فيه وللإِشارة إلى أنه محمد العاقبة {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ} أي ومن يضلله اللهُ فلس له ناصر ولا هادٍ يهديه إلى الحق {وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي وترى الكافرين حين شاهدوا عذاب جهنم {يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} أي يطلبون الرجوع إلى الدنيا لهول ما يشاهدون من العذاب ويقولون: هل هناك طريق لعودتنا إلى الدنيا؟ قال القرطبي: يطلبون أن يُردُّوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله عز وجل فلا يجابون {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أي وتراهم أيها المخاطب يُعرضون على النار {خَاشِعِينَ مِنَ الذل} أي متضائلين صاغرين مما يلحقهم من الذل والهوان {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} أي يسارقون النظر خوفاً منها وفزعاً كما ينظر من قُدِّم ليقتل بالسيف، فإِنه لا يقدر أن ينظر إليه بملء عينه قال ابن عباس: ينظرون بطرفٍ ذابلٍ ذليل وقال قتادة والسدي: يُسارقون النظر من شدة الخوف {وَقَالَ الذين آمنوا إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة} أي يقول المؤمنون في الجنة لما عاينوا ما حلَّ بالكفار: إن الخسران في الحقيقة ما صار إليه هؤلاء، فإِنهم خسروا أنفسهم وأهليهم بخلودهم في نار جهنم {أَلَا إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} أي ألا إنهم في عذاب دائمٍ لا ينقطع {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله} أي وما كان لهم من أعوان ونصراء ينصرونهم من عذاب الله كما كانوا يرجون ذلك في الدنيا {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ} ومن يضلله اللهُ فليس له طريق يصل به إلى الحق في الدنيا، وإِلى الجنة في الآخرة، لأنه قد سُدَّت عليه طريق النجاة قال ابن كثير: من يضلله الله فليس له خلاص {استجيبوا لِرَبِّكُمْ} أي استجيبوا أيها الناسُ إلى ما دعاكم غليه ربكم من الإِيمان والطاعة {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَاّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} أي من قبل أن يأتي ذلك اليوم الرهيب الذي لا يقدر أحدٌ على ردِّه، لأنه ليس له دافع ولا مانع {مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ} أي ليس لكم مفر تلتجئون إليه {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ} أي وليس لكم مكِرٌ يثنكِر ما ينزل بكم من العذاب وقال أبو السعود: أي ما لكم إنكار لما اقترفتموه لأنه مدوَّن في صحائف أعمالهكم وتشهد عليه جوارحكم {فَإِنْ أَعْرَضُواْ} أي فإِن أعرض المشركون عن الإِيمان ولم يقبلوا هداية الرحمن {فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أي فما أرسلناك يا محمداً رقيباً على أعمالهم ولا محاسباً لهم {إِنْ عَلَيْكَ إِلَاّ البلاغ} أي ما عليك إلَاّ أن تبلغهم رسالة ربك وقد فعلت قال أبو حيان: والآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم َ وتأنيسٌ له، وإِزالةٌ لهمِّه، ثم أخبر تعالى أن طبيعة الإِنسان الكفران لنعم الله فقال {وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ
بِهَا} وأراد بالإِنسان الجنس بدليل قوله {وَإِن تُصِبْهُمْ} والمعنى إنا إذا أكرمنا الإِنسان بنعمةٍ من النعم من صحة وغنى وأمنٍ وغيرها بطر وتكبَّر {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ} أي وإِن أصاب الناسَ جدبٌ ونقمة، وبلاءٌ وشدة، بسبب ما اقترفوه من آثام فإِن الإِنسان مبالغٌ في الجحود والكفران، ينسى النعمة ويذكر البلية قال الصاوي: والحكمةُ في تصدير النعمة ب «إذا» والبلاء ب «إنْ» هو الإِشارة إلى أن النعمة محققة الحصول بخلاف البلاء، لأن رحمة الله تغلب عضبه وقال الإِمام الفخر: نِعمُ اللهِ في الدنيا وإِن كانت عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر فلذلك سمَّاها ذوقاً، فبيَّن تعالى أن الإِنسان إذا فاز بهذا القدر الحقير في الدنيا فإِنه يفرح بها ويعظم غروره وبسببها ويقع في العجب والكبر، ويظن أنه فاز بكل المُنى، وذلك لجهله بحال الدنيا وبحال الآخرة {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} أي هو تعالى المالك للكون كلِّه، علويه وسفليّه، والمتصرف فيه بالخلق والإِيجاد، كيفما يشاء، والمقصودُ من الآية أن لا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه، وأن يعلم أن الكل ملك الله وحده، وبيده مقاليد التصرف في السموات والأرض، يعطي ويمنع، لا رادَّ لقاضه ولا معقّب لحكمه {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً} أي يخص من شاء من عبداه بالإِناث دون البنين {وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور} أي ويخص من شاء بالذكور دون الإِناث {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} أي جعلهم إن شاء من النوعين فيجمع للإِنسان بين البنين والبنات {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} أي ويجعل بعض الرجال عقيماً فلا يولد له، وبعض النساء عقيماً فلا تلد قال البيضاوي: والمعنى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة، على مقتضى المشيئة، فيهب لبعضٍ إمّا صنفاً واحداً من ذكر أو أنثى، أو الصنفين جمعاً، ويُعقم آخرين، والمراد من الآية بيان نفاذ قدرته تعالى في الكائنات كيف يشاء، ولهذا قال {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} أي مبالغ في العلم والقدرة، يفعل ما فيه مصلحة وحكمة قال ابن كثير: جعل تعالى الناس أربعة أقسام: منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه النوعين الذكر والإِناث، ومنهم من يمنعه هذا وهذا فيجعله عقيماً لا نسل له ولا ولد، فسبحان العليم القدير.
. ثم ذكر تعالى الوحي وأقسامه وأنواعه فقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلَاّ وَحْياً} أي وما صحَّ لأحدٍ من الشر أياً كان أن يكلمه الله إلا بطريق الوحي في الناس أو بالإلهام، لأن رؤيا الأنبياء حقٌ كما وقع للخليل إبراهيم عليه السلام {إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] {أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} أي أو يكلمه من وراء حجاب كما كلَّم موسى عليه السلام {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} أي أو يرسل ملكاً فيبلغ الوحي إلى الرسل بأمره تعالى ما يشاء تبليغه كما نزل جبريل بالوحي على الأنبياء قال في التسهيل: بيَّن تعالى في الآية أن كلامه لعباده على ثلاثة أوجه: أحدها الوحي بطريق الإلهام أو المنام، والآخر أن يُسمعه كلامه من وراء حجاب، والثالث: الومحي بواسطة الملك، وهذا خاص بالإنبياء، والثاني خاص بموسى وبمحمد إذ كلمه الله ليلة الإِسراء، وأما الأول فيكون للأنبياء والأولياء وقال الصاوي: وقد
يقع الإِلهام لغير الأنبياء كالأولياء، غير أن إلهام الأولياء قد يختلط به الشيطان لأنهم غير معصومين، بخلاف الأنبياء فإلهامهم محفوظ منه {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} أي إنه تعالى متعالٍ عن صفات المخلوقين، حكيم في أفعاله وصنعه، تجري أفعاله على موجب الحكمة {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} أي وكما أوحينا إلى غيرك من الرسل أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن، وسمَّاه روحاً لأن فيه حياة النفوس من موت الجهل، وكان مالك بن دينار يقول: يا أهل القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع القلوب كما أن الغيب ربيع الأرض {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلَا الإيمان} أي ما كنت يا محمد تعرف قبل الوحي ما هو القرآن، ولا كنت تعرض شرائع الإِيمان ومعالمه على وجه التفصيل {ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا} أي ولكن جعلنا هذا القرآن نوراً وضياءً نهدي به عبادنا المتقين {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي وإنك يا محمد لترشد إلى دين قيمٍ مستقيم هو الإِسلام {صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي هذا الدين الذي لا اعوجاج فيه هو دينُ الله الذي له كل ما في الكون ملكاً وخلقاً وعبيداً {أَلَا إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} أي ألا إلى الله وحده ترجع الأمور فيفصل فيها بين العباد بحكمه العادل وقضائه المبرم.
البَلَاغَة: تصمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان نوجزها فيما يلي:
1 -
المجاز المرسل {لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى} [الشورى: 7] أي لتنذر أهل مكة لأن الإِنذار لأهل القرية لا لها.
وفي الآية احتباك حيث حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر وتقديره: لتنذر أم القرى العذاب، وتنذر الناس يوم الجمع.
2 -
توالي المؤكدات مع صيغة المبالغة {أَلَا إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} [الشورى: 5] وهي ألا، وإن، وضمير الفصل.
3 -
الطباق بين {الجنة. . والسعير} وبين {يَبْسُطُ. . ويَقْدِرُ} وبين {ذُكْرَاناً. . وَإِنَاثاً} .
4 -
طباق السلب {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا} [الشورى: 18] .
5 -
الاستعارة {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة} [الشورى: 20] الآية شبه العمل للآخرة بالزارع يزرع الزرع ليجني منه الثمرة والحب، بطريق الاستعارة التمثيلية وهي من لطائف الاستعارة.
6 -
المقابلة {وَيَمْحُ الله الباطل وَيُحِقُّ الحق بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى: 24] .
7 -
عطف العام على الخاص {يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28] فالغيث خاص والرحمة عام.
8 -
التشبيه المرسل المجمل {وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام} أي كالجبال في الضخامة والعظم.
9 -
10 -
جناس الاشتقاق {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ} [الشورى: 30] .
11 -
صيغة المبالغة {لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي عظيم الصبر، كبير الشكر.
12 -
المشاكلة {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} سميت الثانية سيئة لمشابهتها للأولى في الصورة.
13 -
توافق الفواصل وهو من المحسنات البديعية وهو كثير في القرآن العظيم.
اللغَة: {صَفْحاً} إعراضاً يقال: ضربت عنه صفحاً إِذا أعرضت عنه وتركته {بَطْشاً} قوة وانتقاماً، وبطش به أخذه بشدة وعنف {مَهْداً} فراشاً وبساطاً {أَنشَرْنَا} أحيينا، والنشور، الإِحياء بعد
الموت {تَسْتَوُواْ} تستقروا وتركبوا {مُقْرِنِينَ} مطيقين {كَظِيمٌ} مملوء غماً وغيظاً {يَخْرُصُونَ} يكذبون {أُمَّةٍ} دين وطريقة {مُتْرَفُوهَآ} المترف: المتنعم المنغمس في الشهوات.
التفسِير: {حم} الحروف المقطعمة للتنبيه على إِعجاز القرآن {والكتاب المبين} قسمٌ أقسم الله به أي أُقْسمُ بالقرآن البيّن الواضح الجلي، المظهر طريق الهدى من طريق الضلال، المبيِّين للبشرية ما تحتاج إليه من الأحكام والدلائل الشرعية {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} هذا هو المقسم عليه أي أنزلناه بلغة العرب، مشتملاً على كمال الفصاحة والبلاغة، بأسلول محكم، وبيانٍ معجز {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تفهموا أحكامه، وتتدبروا معانيه، وتعقلوا أن أسلوبه الحكيم خارج عن طوق البشر قال البيضاوي: أقسم تعالى بالقرآن على أنه جعله قرآناً عربياً، وهو من البدائع البلاغية لتناسب القسم والمُقْسم عليه، تنبيهاً على أنه لا شيء أعلا منه فيقسم به، وهذا يدل على شرف القرآن وعزته بأبلغ وجهٍ وأدقه {وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا} أي وإِنه في اللوح المحفوظ عندنا {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} أي رفيع الشأن عظيم القدرة، ذو حكمةٍ بالغةٍ ومكانةٍ فائقة قال ابن كثير: بيِّن شرف القرآن في الملأ الأعلى، ليشرّفه ويعظّمه أهل الأرض أي وإِن القرآن في اللوح المحفوظ عندنا ذو مكانةٍ عظيمة، وشرف وفضل {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً} الاستفهام إِنكاري أي أنترك تذكيركم إعراضاً عنكم، ونعتبركم كالبهائم فلا نعظكم بالقرآن؟ {أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ} أي لأجل أنكم مسرفون في التكذيب والعصيان؟ لا، بل نذكّركم ونعظكم به إلى أن ترجعوا إلى طريق الحق قال قتادة: لو أن هذا القرآن رُفع حين ردَّه الأوائل لهلكوا، ولكنَّ الله برحمته كرَّره عليهم، ودعاهم إليه عشرين سنة قال ابن كثير: وقول قتادة لطيف المعنى جداً وحاصله أن تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير، وإلى الذكر الحكيم، وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل يأمر به ليهتدي به من قدَّر هدايته، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأولين} ؟ ت سلية للنبي عليه السلام أي ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم الاولين؟ {وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلَاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي ولم يكن يأتيهم نبي إلا سخروا منه واستهزءوا به قال الصاوي: وهاذ اتسلية له صلى الله عليه وسلم َ والمعنى تسلَّ يا محمد ولا تحزن فإنه وقع للرسل قبلك ما وقع لك {فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً} أي فأهلكنا قوماً كانوا أشد قوة من كفار مكة وأعتى منهم وأطغى {ومضى مَثَلُ الأولين} أي وسبق في القرآن أحاديثُ إِهلاكهم، ليكونوا عظة وعبرة لمن بعدهم من المكذبين قال الإِمام الفخر: إن كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم، فليحذروا أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك فقد ضربنا لهم مثَلَهم {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض} أي ولئن سألتَ يا محمد هؤلاء المشركين من خلق السمواتِ والأرض بهذا الشكل البديع {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} أي ليقولُنَّ خلقهنَّ اللهُ وحده، العزيزُ في ملكه، العليمُ بخلقه قال القرطبي: أقروا له بالخلق والإِيجاد، ثم عبدوا معه غيره
جهلاً منهم وسفهاً.
. ثم بيَّن تعالى لهم صفاته الجليلة، الدالة على كمال القدرة والحكمة فقال {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} أي بسط الأرض وجعلها كالفراش لكم، تستقرون عليها وتقومون وتنامون {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أي وجعل لكم فيها طُرُقاً تسلكونها في أسفاركم {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لكي تهتدوا إلى قدرة الخالق الحكيم، مودع هذا النظام العجيب {والذي نَزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ} أي نزَّل بقدرته الماء من السماء بمقدارٍ ووزنٍ معلوم، بحسب الحاجة والكفاية قال القرطبي: أي بمقدار ينفع ولا يضر {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} أي فأحيينا به أرضاً ميتةً مقفرةً من النبات {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي كذلك نخرجكم من قبوركم كما نُخرج النبات من الأرض الميتة {والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا} أي خلق جميع الأصناف من الحيوان والنبات وغير ذلك قال ابن عباس: «الأزواج» الأصناف والأنواع كلها كالحلو والحامض، والأبيض والأسود، والذكر والأنثى {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} أي وسخَّر لكم من السفن في البحر، والإِبل في البر ما تركبونه في أسفاركم قال ابن كثير أي ذلَّلها وسخَّرها ويسَّرها لكم، لتأكلوا لحومها وتركبوا ظهورها {لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} أي لتستقروا على ظهور هذا المركوب، سفينةً كانت أو جملاً {ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ} أي وتتذكروا نعمة ربكم الجليلة عليكم حين تستقرون فوقها فتشكروه بقلوبكم {وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا} أي وتقولوا بألستنكم عند ركوبكم: سبحان الله الذي ذلَّل ويسَّر لنا ركوب هذا المركوب {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أو وما كنا قادرين ولا مطيقين لركوبه لولا تسخيره تعالى لنا {وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} أي وإِنا إلى ربنا لراجعنن، وصائرون إليه بعد الموت قال في حاشية البيضاوي: وليس المراد من ذكر النعمة تصورها وإِخطارها في البال، بل المراد تذكر أنها نعمة حاصلةٌ بتدبير القادر العليم الحكيم، مستدعية لطاعته وشكره، فإن من تفكر في أنَّ ما يركبه الإِنسان من الفُلكْ والأنعام، أكثرة قوة وأكبر جثة من راكبه، ومع ذلك كان مسخراً لراكبه يتمكن من تصريفه إلى أيّ جانب شاء، وتفكر أيضاً في خلق البحر والريح وفي كونهما مسخرين للإِنسان مع ما فيهما من المهابة والأهوال، استغرق في معرفة عظمة الله تعالى وكبريائه، وكما قدرته وحكمته، فيحمله ذلك الاستغراق على أن يقول متعجباً من عظمة الله {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} .
. ولما ذكر تعالى اعتراف المشركين بأن خالق السموات والأرض هو رب العالمين، ذكر بعده ما يدل على سفههم وجهلهم في عبادة غير الله فقال {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} أي جعل المشركون لله ولداً حيث قالوا: الملائكةُ بنات الله {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} أي إن القائل لهذا المبالغُ في الكفر، عظيم الجحود والطغيان قال البيضاوي: أي ظاهر الكفران لأنه نسبة الولد إليه تعالى من فرط الجهل به والتحقير لشأنه {أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بالبنين} إِنكارُ وتعجبُ من حالهم أي هل اتخذ تعالى لنفسه البنات، وخصَّكم واختار لكم البنين؟ قال ابن كثير: وهذا إنكار
عليهم غاية الإِنكار، ثم ذكر تعالى تمام الإِنكار فقال {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً} أي وإِذا بُشِّر أحد المشركين بالأنثى التي جعلها مثلاً لله بنسبة البنات له {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} أي صار وجهه كأنه أسود من الكآبة والحزن، وهو ممتلىءٌ غيظاً وغماً من سوء ما بُشّر به قال الإِمام الفاخر: والمقصودُ من الآية التنبيهُ على قلة عقولهم وسخافة تفكيرهم، فإِن الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحدِّ كيف يجوز للعاقل إثباتُه لله تعالى؟ وقد روي عن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية} أي أيجعلون للهِ من يُربَّى في الزينة وينشأ ويكبر عليها وهنَّ الإِناث؟ {وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} أي ومن هو في الجدال غيرُ مظهرٍ لحجته لضعف رأيه؟ أوَمَنْ يكونُ هكذا يُنْسب إلى جناب الله العظيم؟ قال في التسهيل: والمقصد الرد على الذين قالوا الملائكةُ بنات الله، كأنه قال: أجعلتم للهِ من ينشأ في الحيلة؟ يعني يكبر وينبت في استعمالها، وذلك صفةُ النقص، ثم أتبعها بصفة نقصٍ أُخرى فقال {وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} يعني أن الأنثى إذا خاصمت أو تكلمت لم تقدر أن تبيّن حجتها لنقص عقلها، وقلّما تجد امرأة إلا تفسد الكلام، وتخلط المعاني، فكيف يُنسب لله من يتصف بهذه النقائص؟ وقال ابن كثير: المرأة ناقصة في الصورة والمعنى، فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي ليجبر ما فيها من نقص، كما قال بعض الشعراء:
وما الحليُ إلا زينةٌ من نقيصةٍ
…
يتمِّم من حُسْنٍ إِذا الحُسْنُ قصَّرا
وأما نقصُ معناها فإِنها صعيفةٌ عاجزةٌ عن الانتصار، كما قال بعض العرب وقد بُشِّر ببنت «ما هي بنعم الولد، نصرُها بكاءٌ، وبرُّها سرقة» {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} كفرٌ آخرٍ تضمنه قولهم الشنيع أي واعتقد كفار العرب بأن الملائكة الذين هم أكمل العباد وأكرمهم على الله إناثٌ وحكموا عليهم بذلك {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} أي أحضروا وقت خلق الله لهم حتى عرفوا أنهم إناث؟ وهذا تجهيلٌ وتهكمٌ بهم {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} أي سنأمر الملائكة بكتابة شهادتهم الكاذبة في ديوان أعمالهم ويُسألون عنها يوم القيامة، وهو وعيدٌ شديدٌ مع التهديد قال المفسرون: حكى تعالى عن كفار العرب ثلاثة أقوال شنيعة: الأول: أنهم نسبوا إلى الله الولد، الثاني: أنهم نسبوا إليه البناتِ دون البنين، الثالث: أنهم حكموا على الملائكة المكرمين بالأنوثة بلا دليل ولا برهان، فكذَّبهم القرآن الكريم في تلك الأقوال، ثم زادوا ضلالاً وبهتاناً فزعموا أنَّ ذلك برضى الله {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ} أي قالوا على سبيل السخرية والاستهزاء: لو شاء اللهُ ما عبدنا هؤلاء الملائكة ولا الأصنام، ولمَّا كانت عبادتنا واقعة بمشيئته فهو راضٍ بها قال القرطبي: وهذا منهم كلمةُ حقٍّ أُريد بها باطل، فكل شيءٍ بإِرادة الله، والميشئةُ غير الرضى، ولا يصح الاحتجاج بالمشيئة، فإِنهم لو عبدوا الله بدل الأصنام لعلمنا أنَّ الله أراد منهم ذلك، وقد
كذبهم الله بقوله {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} إي ما لهم بذلك القول ولا برهان {إِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} أي ما هم إلا يكذبون ويتقوَّلون على الله كذباً وزوراً {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} ردٌّ آخر عليهم أي أم أنزلنا على هؤلاء المشركين كتاباً من قبل القرآن فهم بذلك الكتاب متمسكون يعملون بتوجيهاته؟ قال الإِمام الفخر: والمعنى: هل وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزَّل قبل القرآن حتى يعوِّلوا عليه ويتمسكوا به {بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ} بل للإِضراب وهو الانتقال من كلام إلى آخر أي لم يأتوا بحجةٍ عقلية أو نقلية على ما زعموا بل اعترفوا بأنه لا مستند لهم سوى تقليد آبائهم الجهَلة قال أبو السعود: والأُمةُ: الدينُ والطريقةُ سميت أمةً لأنها تؤم وتقصد {وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} أي ونحن ماشون على طريقتهم مهتدون بآثارهم {وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ} أي وكما تبع هؤلاء الكفار آباءهم بغير حجة ولا برهان كذلك فعل من قبله من المذكبين، فما بعثنا قبلك رسولاً في أمةٍ من الأمم {إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} أي إلا قال المتنعمون فيها الذي أبطرتهم النعمة، وأعمتهم الشواتُ والملاهي عن تحمل المشاق في طلب الحق: إنا وجدنا أسلافنا على ملةٍ ودين، وإِنا مقتدون بهم في طريقتهم قال البيضاوي: والآية تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ ودلالةٌ على أن التقليد في نحو هذا ضلالٌ قديم، وأسلافُهم لم يكن سندٌ منظور يُعتَدُّ به، وإِنما خصَّص المترفين بالذكر للإِشعار بأن التنعم وحبَّ البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد الأعمى، وذكر هنا {مُّقْتَدُونَ} وهناك {مُّهْتَدُونَ} تفنناً لأن معناهما واحد {قال أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ} ؟ أي قال كل نبيٍّ لقومه حين أنذرهم عذاب الله: أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بدينٍ أهدى وأرشد مما كانوا عليه؟ {قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي قالوا إنا كافرون بكل ما أُرسلتم به من التوحيد والإِيمان والبعث والنشور {فانتقمنا مِنْهُمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} أي فانتقمنا من الأمم المكذبة بأنواع العذاب فانظر كيف صار حالهم ومآلهم!!
المنَاسَبَة: لما حكى عن المشركين تقليدهم الأعمى للآباء، ذكر هنا إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام، الذي يفتخر به العرب وينتسبون إليه، وتبرءه من قومه ومن عبادة الأوثان، للمقارنة بين الهدى والضلال، وبين منطق العقل السديد، ومنطق الهوى والتقليد.
اللغَة: {بَرَآءٌ} مصدر بمعنى بريء أي متبرىء يقال: تبرأتُ من الأمر أي تخليت منه بالكلية {عَقِبِهِ} ذريته ونسله قال ابن شهاب: العقب: الولدُ وولد الولد {سُخْرِيّاً} أي مسخراً في العمل مستخدماً فيه {مَعَارِجَ} مصاعد ومراقي جمع مِعْراج وهو ما يصعد عليه الإِنسان كالدرج ونحوه {يَظْهَرُونَ} يرتقون ويصعدون {زُخْرُف} زينة من ذهب وفضة وغيرهما {يَعْشُ} يُعرض وأصله من عشيَ البصرُ إذا ضعف قال الخليل: العشو هو النظر ببصر ضعيف.
التفسِير: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ} أي واذكر يا محمد حين قال إبراهيم الخليل لأبيه وقومه المشركين إنني بريءٌ من هذا الأوثان التي تعبدونها من دون الله {إِلَاّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} أي لكنْ ربي الذي خلقني وأنشأني من العدم فإِنه يرشدني إلى الدين الحق، ويهديني إلى طريق السعادة {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي وجعل إبراهيم هذه الكلمة كلمة التوحيد باقيةً في ذريته فلا يزال فيهم من يوحِّد الله {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي رجاء أن يرجع إلى الإِيمان من الشرك منهم من قال مجاهد:«وجعلها كلمة» يعني «لا إله إلا الله» لا يزال في ذريته من يقولها إلى ايوم الدين {بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء وَآبَآءَهُمْ} أي بل متعتُ أهل مكة وآبائهم وهم من عقب إبراهيم بالإِمداد في العمر والنعمة، فاغتروا بالمهلة واشتغلوا بالتنعم واتباع الشهوات عن كلمة التوحيد {حَتَّى صلى الله عليه وسلم َ صلى الله عليه وسلم َ mp;
1648 -
; جَآءَهُمُ الحق وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} أي حتى جاءهم القرآن ورسولٌ ظاهر الرسالة، مؤيدٌ بالمعجزات الباهرة من عند الله قال الإِمام الفخر: وجه نظم الآية أنهم لما عوَّلوا على تقليد الآباء، ولم يتفكروا في الحجة، اغتروا بطول الإِمهال وإِمتاع الله إياهم بنعيم الدنيا فأعرضوا عن الحق {وَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق قَالُواْ هذا سِحْرٌ} أي ولمَّا جاءهم القرآن لينبههم من غفلتهم، ويرشدهم إلى التوحيد، ازدادوا
عتواً وضلالاً فقالوا عن القرآن إنه سحر {وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} أي ونحن كافرون به، لا نصدّق أنه كلام الله قال أبو السعود: سمَّوا القرآن سحراً وكفروا به واستحقروا الرسول عليه السلام، فضمُّوا إلى كفرهم السابق معاندة الحق والاستهانة به {وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} أي وقال المشركون: هلَاّ أُنزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير في مكة أو الطائف!! قال المفسريون: يعنون «الوليد بن المغيرة» في مكة أو «عُروة بن مسعود الثقفي» في الطائف.
. استبعدت قريش نزول القرآن على محمد وهو فقير يتيم، واقترحوا أن ينزل على أحد الرؤساس والعظماء، ظناً منهم أن العظيم هو الذي يكون له مال وجاه، وفاتهم أن العظيم هو الذي يكون عند الله عظيماً، وهم يعتبرون مقياس العظمة: الجاه والمال، وهذا رأي الجاهلين في كل زمانٍ ومكان، أما مقياسُ العظمة الحقيقة عند الله تعالى وعند العقلاء، فإنما هو عظمة النفس، وسُموُّ الروح، ومَنْ أعظمُ نفساً وأسمى روحاً من محمد بان عبد الله عليه الصلاة والسلام ُ! {ولهذا ردَّ تبارك وتعالى عليهم بقوله {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} ؟ أي أهم يمنحون النبة ويخصَّون بها من شاءوا من العباد، حتى يقترحوا أن تكون لفلان الغني، أو فلانٍ الكبير من الناس؟ {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي صلى الله عليه وسلم َ صلى الله عليه وسلم َ mp;
1649 -
;لْحَيَاةِ الدنيا} أي نحن بحكمتنا جعلنا هذا غنياً وهذا فقيراً، وفاوتنا بينهم في الأموال والأرزاق، وإِذا كان أمر المعيشة وهو تافه حقير لم نتركه لهم بل تولينا قسمته بأنفسنا، فكيف نترك أمر النبوة وهو عظيم وخطير لأهوائهم ومشتهياتهم} ! قال في التسهيل: كما قسمنا المعايش في الدنيا كذلك قسمنا المواهب الدينية، وإِذا كنا لم نهمل الحظوظ الحقيرة الفانية، فأولى وأحرى ألا نُهمل الحظوظ الشريفة الباقية {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أي فضلنا بين الخلق في الرزق والعيش، وجعلناهم مراتب: هذا غني، وهذا فقير، وها متوسط الحال {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} أي ليكون كلٌ منهم مسخراً للآخر، ويخدم بعضهم بعضاً، لينتظم أمر الحياة قال الصاوي: إن القصد من جعل الناس متفاوتين في الرزق، لينتفع بعضهم ببعض، ولو كانوا سواءً في جميع الأحوال لم يخدم أحدٌ أحداً، فيفضي إلى خراب العالم وفساد نظامه وقال أبو حيانن: وقوله تعالى: {سُخْرِيّاً} بضم السين من التسخير بمعنى الاستخدام، لا من السخرية بمعنى الهزء، والحكمة هي أن يترفق بعضهم ببعضٍ، ويصلوا إلى منافعهم، ولو تولَّى كل واحدٍ جميع أشغاله بنفسه ما أطاق ذلك، وضاع وهلك، وفي قوله {نَحْنُ قَسَمْنَا} تزهيدٌ في الإِكباب على طلب الدنيا، وعونٌ على التوكل على الله، وقال قتادة: تلقى ضعيف القوة، قليل الحيلة، عييَّ اللسان وهو موسَّع عليه في الرزق، وتلقى شديد الحيلة، بسيط اللسان وهو مقتَّر عليه في الرزق، وقال الشافعي:
ومن الدليل على القضاء وكونِه
…
بؤسُ اللبيب وطيبُ عيشِ الأحمق
{وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} أي وإِنعامه تعالى عليك بالنبوة خيرٌ مما يجمع الناسُ من حطام الدنيا الفاني، ثم بيَّن تعالى حقارة الدنيا ودناءة قدرها عند الله فقال {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً
وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ} أي ولولا أن يرغب الناسُ في الكفر إذا رأوا الكافر في سعة من الرزق، ويصيروا أمةً واحدة في الكفر، لخصصنا هذه الدنيا بالكفار، وجعلنا لهم القصور الشاهقة المزخرفة بأنواع الزينة والنقوش، سقفها من الفضة الخالصة {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} أي وجعلنا لهم مصاعدَ وسلالم من فضة عليها يرتقون ويصعدون {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً} أي ولبيوتهم أبواباً من قضة وسرراً من فضة، زيادةً في الرفاهية والنعيم {عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} أي على تلك الأسرَّة الفضيَّة يتكئون ويجلسون {وَزُخْرُفاً} أي وجعلنا لهم زينةً من ستور ونمارق ونقوش وقال ابن عباس:{زُخْرُفاً} ذهباً أي جعلنا لهم سقفاً وأبواباً وسرراً من فضة وذهب {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا} أي وما كل ذلك النعيم العاجل الذي نعطيه للكفار، إلاّ شيء يُتمتع به في الحياة الدنيا الزائلة الحقيرة {والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} أي والجنةُ وما فيها من أنواع الملاذ والنعم التي يقصر عنها البيان، هي خاصة بالمتقين لا يشاركهم فيها أحد قال المفسرون: والآياتُ سِيقتْ لبيان حقارة الدنيا وقلة شأنها، وأنها من الهوان بحيث لولا الفتنة لخصَّ بها الكفارين، فجل بيوت الكفرة ودرجها وسقوفها من ذهب وفضة، وأعطى الكافر كل ذلك النعيم في الدنيا لعدم حظه في الآخرة، ولكنه تعالى رحيم بالعباد فلذلك أغنى بعض الكفار وأفقر بعضهم، وأغنى بعض المؤمنين وأفقر بعضهم وفي الحديث
«لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها جرعة ماء» قال الزمخشري: فإِن قلت: فحين لم يوسّع على الكفارين للفتنة التي كان يؤدي إليها التوسعة عليهم، من إطباق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها، فهلَاّ وسَّع على المسلمين ليطبق الناس على الإِسلام؟ قلتُ التوسعةُ عليهم مفسدة أيضاً لما تؤدي إليها من دخول الناس في الإِسلام لأَجل الدنيا وذلك من دين المنافقين، فكانت الحكمة فيما دبَّر، حيث جعل الفريقين أغنياء وفقراء، وغلَّب الفقر على الغنى {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ا ;لرحمن} أي ومن يعرض ويتعام ويتغافل عن القرآن وعبادة الرحمن {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} أي نهيء ونيسّر له شيطاناً لا ينفك عن الوسوسة له والإِغواء كقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم: 83] {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} فهو له ملازم ومصاحب له لا يفارقه {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل} أي وإن الشياطين ليصدون هؤلاء الكفار الضالين عن طريق الهدى {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} أي ويحسب الكفار أنهم على نور وبصيرة وهدايةٍ من أمرهم {حتى إِذَا جَآءَنَا} أي حتى إذا جاء الكافر مع قرينه وقد ربط بلسلسةٍ واحدة {قَالَ ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين} أي قال الكافر لقرينه: يا ليت بيني وبينك مثل ما بين المشرق والمغرب قال الطبري: وهذا من التغليب كما يقال: القمران، والعمران، والأبوان، فغلَّب ههنا المشرق عل المغرب {فَبِئْسَ القرين} أي فبئس الصاحب أنت لأنك كنت سبباً في شقائي بتزينك الباطل لي قال أبو سعيد الخدري: إذا بُعث الكافر زُوّد بقرينه من الشياطين، فلا يفارقه حتى
يصير به إلى النار {وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} أي ولن ينفعكم ويفيدكم اشتراككم في العذاب، ولن يخفف ذلك عنكم شيئاً بسبب ظلمكم، فإِن لكل واحد نصيبه الأوفر منه قال في التسهيل: المراد أنه لا ينفعهم اشتراكهم في العذاب، ولا يجدون راحة التأسي التي يجدها المكروب في الدنيا إذا رأى غيره قد أصابه مثل ما أصابه لأن المصيبة إذا عمَّت هانت، فدفع تعالى ذلك التوهم بأن اشتراكهم في العذاب، لا يخفِّف عنهم البلاء {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} أي فأنت يا محمد تقدر أن تسمع هؤلاء الكفار الذين هم كالصُّم والعُمي، ومن كان في ضلالٍ واضح؟ ليس لك ذلك فلا يَضِقْ صدرك إن كفروا قال المفسرون: والآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم َ فقد كان يجتهد في دعائهم إلى الإِيمان، ولا يزدادون إلَاّ تعامياً عن الحق وطغياناً وضلالاً {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} أي إن عجلنا وفاتك قبل الانتقام منهم، فإِنا سننتقم منهم بعد وفاتك {أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} أي أو نرينَّك يا محد العذاب الذي وعدناهم به في حياتك فإِنا قادرون عليهم فهم في قبضتنا لا يفوتوننا قال ابن عباس: قد أراه الله ذلك يوم بدر وقال ابن كثير: المعنى لا بدَّ أن ننتقم منهم ونعاقبهم في حياتك أو بعد وفاتك، ولم يقبض الله تعالى رسوله حتى أقرَّ عينه من أعدائه، وحكَّمه في نواصيهم {فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ} أي فتمسكْ يا محمد بالقرآن الذي أوحيناه لك {إِنَّكَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي فإِنك على الحق الواضح والطريق المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} أي وإِن هذا القرآن لشرفٌ عظيم لك ولقومك من قريش، إذ أُنزل بلغتهم وعلى رجلٍ منهم وسوف تسألون عن شكر هذه النعمة قال في التسهيل: والذكرُ هنا بمعنى الشرف، وقومُ النبي صلى الله عليه وسلم َ هم قريشٌ وسائر العرب، فإِنهم نالوا بالإِسلام شرف الدنيا والآخرة، ويكفيك أن فتحوا مشارق الدنيا ومغاربها وصارت فيهم الخلافة والملك، وهذا القرآن شرفٌ لكل من تبعه، وهذه الآية نظير قوله تعالى
{لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10] ؟ {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} هذا على سبيل الفرض، وفي الكلام محذوف أي إن كنت يا محمد شاكاً في أمر التوحيد فسلْ من سبقك من الرسل {أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ؟ أي هل هناك أحدٌ من الرسل دعا لعبادة غير الله؟ ولاآية كقوله تعالى {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} [يونس: 94] قال أبو السعود: والمراد بالآية الاستشهاد بإِجماع الأنبياء على التوحيد، والتنبيه على أنه ليس ببدع ابتدعه حتى يُكذَّب ويُعادى وقال أبو حيان: ويظهر أن الخطاب للسامع، والسؤال هنا مجاز عن النظر في أديان الأنبياء، هل جاءت عبادة الأوثان في ملةٍ من مللهم؟ وهذا كما يساءل الشعراء الديار والأطلال، ومنه قولهم: سل الأرض من شقَّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإِنها إن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً، وهذا كله من باب المجاز.
المنَاسَبَة: لما طغت قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم َ في أمر النبوة، بسبب أنه فقيرٌ عديم المال والجاه، واختاروا أن يتنزَّل القرآن على رجلٍ كثير المال عظيم الجاه، ذكر تعالى قصة «موسى مع فرعون» ليشير إلى أن المنطق العناد والطغيان واحد، فقد سبقهم فرعون إلى التجبر بماله وسلطانه، وفرضَ قبول دعوة الحق بحجة أنه أكثر مالاً وجاهاً من موسى، فردت الآيات الكريمة هذه الشبهة السقيمة بالحجة والبرهان.
اللغَة: {يَنكُثُونَ} نكث العهد: نقضه {مَهِينٌ} حقير لا قدر له ولا مكانة {آسَفُونَا} أغضبونا وغاضونا {سَلَفاً} قُدْوة {يَصِدُّونَ} بكسر الصاد بمعنى يضجّون ويصيحون، وبضمها بمعنى الإِعراض ومنع الناس عن الإِيمان قال الجوهري: صدَّ يصُدُّ صديداً أي ضجَّ، وقيل إنه بالضم من الصدود وهو الإِعراض، وبالكسر من الضجيج، وقال الفراء: هما سواء {تَمْتَرُنَّ} الامتراء: الشك، امترى في الأمر شكَّ فيه، والمريةُ: الشكُ.
سَبَبُ النّزول: عن مجاهد قال: إن قريشاً قالت إن محمداً يريد أن نعبده كما عبد النصارى عيسى ابن مريم فأنزل الله {وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} .
التفسِير: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي واللهِ لقد أرسلنا موسى بالمعجزات الباهرة الدالة على صدقه إلى فرعون وقومه الأقباط {فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين} أي
فقال له موسى: إني رسول الله إليك، أرسلني لأدعنك وقومك إلى عبادة الله وحده {فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} أي فلما جاءهم بتلك الآيات الباهرة الدالة على رسالته ضحكوا سخريةً واستهزاءً به قال القرطبي: إِنما ضحكوا منها ليوهموا أتباعهم أن تلك الآياتِ سحرٌ، وأنهم قادرون عليها، قال تعالى {وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَاّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} أي وما نريهم آية من آيات العذاب كالطوفان، والجراد، والقُمَّل إلا وهي في غاية الكبر والظهور، بحيث تكون أوضح من سابقتها قال الصاوي: والمعنى إلا وهي بالغة الغاية في الإِعجاز، بحيث يظن الناظر إليها أنها أكبر من غيرها {وَأَخَذْنَاهُم بالعذاب لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي عاقبناهم بأنواع العذاب الشديد، لعلهم يرجعون عما هوعليه من الكفر والتكذيب {وَقَالُواْ ياأيه الساحر ادع لَنَا رَبَّكَ} أي وقالوا لما عاينوا العذاب ياأيها الساحرُ ادع لنا ربك ليكشف عنا هذا البلاء والعذاب {بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} أي بالعهد الذي أعطاك إياه من استجابة دعائك {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي لنؤمِنن بك إن كشف عنا العذاب بدعائك قال المفسرون: ليس قولهم {ياأيه الساحر} على سبيل الانتقاص، وإنما هو تعظيم في زعمهم، لأن السحر كان عِلم زمانهم، ولم يكن مذموماً، فنادوه بذلك على سبيل التعظيم قال ابن عباس: معناه يا أيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيماً يوقرونه {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} أي فلما رفعنا عنهم العذاب بدعوة موسى، إذا هم ينقضون العهد ويصرون على الكفر والعصيان {ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} أي نادى فرعون رؤساء القبط وعظماءهم، لما رأى الآيات الباهرة من موسى وخاف أن يؤمنوا {قَالَ ياقوم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي} ؟ أي قال مفتخراً متبجحاً: أليست بلادُ مصرَ الواسعة الشاسعة ملكاً لي؟ وهذه الخُلجان والأنهار المتفرعمة من نهر النيل تجري من تحتي قصوري؟ قال القرطبي: ومعظمها أربعة: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تينس وكلها من النيل وقال قتادة: كانت جنانها وأنهارها تجري من تحت قصره {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ؟ أفلا تبصرون عظمتي وسعة ملكي، وقلة موسى وذلته؟ {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ} أي بل أنا خيرٌ من هذا الضعيف الحقير الذي لا عزَّ له ولا جاه ولا سلطان، فهو يمتهن نفسه في حاجاته لحقارته وضعفه؟ يعني بذلك موسى عليه السلام {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} أي لا يكاد يفصح عن كلامه، ويوضّح مقصوده، فكيف يصلح للرسالة؟ قال أبو السعود: قال فرعون ذلك افتراءً على موسى، وتنقيصاً له عليه السلام في أعين الناس، باعتبار ما كان في لسانه من عُقدة، ولكنَّ الله أذهبها عنه بدعائه
{واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي} [طه: 2728]{فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} أي فهلَاّ ألقى الله إليه أسورةً من ذهب كرامةً له ودلالة على نبوَّتاه! {قال مجاهد: كانوا إذا أرادوا أن يجعلوا رجلاً رئيساً عليهم سّوروه بسوارين وطوقوه بطوق من ذهبٍ علامة لسيادته {أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ} أي أو جاءت معه الملائكةُ يكتنفونه خدمةً له وشهادة بصدقه قال أبو حيان: لما
وصف فرعون نفسه بالعزة والمُلك، ووان بينه وبين موسى عليه السلام، ووصفه بالضعف وقلة الأعوان، اعترض فقال: إن كان صادقاً فهلَاّ ملَّكه ربُه وسوَّره وجعل الملائكة أنصاره} ! {فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} أي فاستخفَّ بعقول قومه واستجهلهم لخفة أحلامهم، فأطاعوه فيما دعاهم إليه من الضلالة {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} لأي إنما أجابوه لفسقهم وخروجهم عن طاعة الله {فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ} أي فلما أغضبونا وغاظونا انتقمنا منهم بأشد أنواع العقاب {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} أي فأغرقنا فرعون وقومه في البحر أجمعين فلم نبق منهم أحداً قال المفسرون: اغتر فرعنن بالعظمة والسلطان والأنهار التي تجري من تحته، فأهلكه الله بجنس ما تكبر به هو وقومه وذلك بالغرق بماء البحر، وفيه إشارة إلى أن من تعزَّز بشيء أهلكه الله به {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ} أي جعلنا قوم فرعون قُدوةً لمن يعدهم من الكفار في استحقاق العذاب والدمار، ومثلاً يعتبرون به لئلا يصيبهم مثل ذلك قال مجاهد: سلفاً لكفار قريش يتقدمونهم إلى النار، وعظة وعبرةً لمن يأتي بعدهم {وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} أي ولمَّا ذُكر عيسى بن مريم في القرآن وضُرب المثلُ بالآلهة التي عُبدت من دون الله إذا مشركو قريش يضجون وترتفع أصواتُهم بالصياح قال المفسرون:
«لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] قال ابن الزبعرى: أهذا لنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام: هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم فقال: قد خصمتك وربِّ الكعبة؟ أليست النصارى يعبدون المسيح، واليهود يعبدون عزيراً؟ وبنو فلان يعبدون الملائكة!! فإِن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، فسكت عليه الصلاة والسلام ُ انتظاراً للوحي، فظنوا أنه أُلزم الحجة فضحك المشركون وضجوا وارتفعت أصواتهم فأنزل الله {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] » قال القرطبي: ولو تأمل ابن الزبعرى الآية ما اعترض عليها، لأنه تعالى قال {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} ولم يقل «ومنْ تعبدون» وإِنما أراد الأصنام ونحوها مما لايعقل، ولم يرد المسيح ولا الملائكة وإِن كانوا معبودين {وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} أي أآلهتنا خيرٌ أم عيسى؟ فإِن كان عيسى في النار فلتكنْ آلهتنا معه {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَاّ جَدَلاً} أي ما قالوا هذا القول لك إلَاّ على وجه الجدل والمكابرة لا لطلب الحقِّ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} أي بل هم قوم شديدو الخصومة واللجاج بالباطل قال في التسهيل: أي ما ضربوا لك هذا المثال إلا على وجه الجدل، وهو أن يقصد الإِنسان أن يغلب من يناظره، سواء غلبه بحقٍ أو بباطل، فإِن ابن الزبعرى وأمثاله ممن لا يخفى عليه أن عيسى لم يدخل في قوله تعالى {حَصَبُ جَهَنَّمَ} ولكنهم أرادوا المغالطة فوصفهم الله بأنهم قوم خَصِمون {إِنْ هُوَ إِلَاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} أي ما عيسى إالا عبد كسائر العبيد أنعمنا عليه بالنبوة وشرفناه بالرسالة، وليس هو إلهاً ولا ابن إله كما زعم النصارى {إِوَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ} أي
وجعلناه آيةً وعبرةً لبني إسرائيل، يستدلون بها على قدرة الله تعالى، حيث خُلق من أمٍ بلا أب قال الرازي: أي صيرناه عبرةً عجيبة كالمثل السائر حيث خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَائِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ} أي ولو أردنا لجعلنا بدلاً منكم ملائكةً يسكنون في الأرض يكونون خلفاً عنكم قال مجاهد: ملائكة يعمرون الأرض بدلاً منكم {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} أي وإِن عيسى علامة على قبل الساعة قال ابن عباس وقتادة: إن خروج عيسى عليه السلام من أعلام الساعة لأن الله ينزله من السماء قبيل قيام الساعة، {فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} أي فلا تشكُّوا في أمر الساعة فإنها آتية لا محالة وفي الحديث
«يوشك أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً
…
» الحديث {واتبعون هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أي وقل لهم يا محمد: ابتعوا هُداي وشرعي، فإِن هذا الذي أدعوكم إليه دينٌ قيّم وطريق مستقيم {وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي لا تغتروا بوساوس الشيطان، واحذروا أن يصدكم عن اتباع الحق، فإِنه لكم عدوٌ ظاهر العداوة، حيث أخرج أباكم من الجنة، ونزع عنه لباس النور {وَلَمَّا جَآءَ عيسى بالبينات قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة} أي ولما جاء عيسى بالمعجزات وبالشرائع البينات الواضحات، قال قد جئتكم بما تقتضيه الحكمة الإلهية من الشرائع {وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أيوجئتكم لأبين لكم ما اختلفتم فيه من أمور الدين قال ابن جزي: وإِنما قال {بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} دون الكل، لأن الأنبياء إِنما يبيّنون أمور الدين لا أمور الدنيا وقال الطبري: يعني من الأمور الدينية لا الدنيوية {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} أي فاتقوا اللهَ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأطيعوا أمري فيما أبلغه إليكم من التكاليف {إِنَّ الله هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} أي إن الله جلا وعلا هو الربُ المعبود لا ربَّ سواه فأخلصوا له الطاعة والعبادة قال ابن كثير: أي أنا وأنتم عبيد له، فقراء إليه، مشتركون في عبادته وحده {هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أي هذا التوحيد والتعبد بالشرائع، طريق مستقيم موصلٌ إلى جنات النعيم.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أمر عيسى ودعوته إلى الدين الحق، أتبعه بذكر ضلال أهل الكتاب حيث تفرقوا شيعاً وأحزاباً في شأنه، فقد بعضهم إنه إله، وقال بعضهم إنه ابن الإِله، وقال آخرون إنه ثالث ثلاثة، ثم ذكر تعالى أحوال القيامة وأهوالها، وختم السورة الكريمة ببيان صفات المعبود الحق، الواحد الأحد جلَاّ وعلا.
اللغَة: {الأخلاء} جمع خليل وهو الصديق الحميم {تُحْبَرُونَ} تُسرون وتفرحون، والحبورُ: السرور والفرح {أَكْوَابٍ} جمع كوب وهو القدح الذي لا عروة له {مُبْلِسُونَ} آيسون من الرحمة، وحزينون من شدة اليأس {أبرموا} أحكموا الشيء يقال: أبرم القوم أمرهم أحكموه، والإِبرام، الإِحكام {يُؤْفَكُونَ} يُقلبون ويُصرفون، أَفكه أفْكاً أي قلبه وصرفه عن الشيء.
سَبَبُ النّزول: عن مقاتل قال: مكر المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم َ في دار الندورة، وتآمروا على قتله حين استقر أمرهم على ما أشار به أبو جهل عليهم، وهو أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتله وتضعف المطالبة بدمه فنزلت:{أَمْ أبرموا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} .
التفسِير: {فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} أي اختلفت فرق النصارى في شأن عيسى وصاروا شيعاً وأحزاباً فيه قال ابن كثير: صاروا شيعاً فيه، منهم من يُقرُّ بأنه عبدُ الله ورسولُه وهو الحقُّ، ومنهم من يدّعي أنه ولد الله، ومنهم من يقول إنه الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي فهلاكٌ ودمارٌ لهؤلاء الكفرة الظالمين من عذاب يومٍ مؤلم وهو يوم القيامة {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون إلا إتيانَ الساعة ومجيئها فجأةً {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أي وهم غافلون عنها مشتغلون بأمور الدنيا، وحينئذٍ يندمون حيث لا ينفعهم الندم، ثم ذكر تعالى أحوال القيامة فقال {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
إِلَاّ المتقين} أي الأصدقاء والأحباب يوم القيامة يصبحون أعداء "لَاّ من كانت صداقته ومحبته لله قال ابن كثير: كلُّ خلةٍ وصداقة لغير الله، فإِنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عز وجل فإِنه دائم بدوامه قال ابن عباس: صارت كل خلَّةٍ عداوةً يوم القيامة إلا المتقين تشريفاً وتطييباً لقلوبهم فيقول: {ياعباد لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} يا عباد الله المؤمنين الذين تحققتم في العبودية لرب العالمين، لا خوفٌ عليكم في هذا اليوم العصيب، ولا أنتم تحزنون على ما فاتكم من الدنيا، ثم وضَّحهم بقوله {الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ} أي هم الذين صدَّقوا بالقرآن، واستسلموا لحكم الله وأمره، وانقادوا لطاعته {ادخلوا الجنة أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} أي يقال لهم: أدخلوا الجنة أنتم ونساؤكم المؤمنات، تُنعَّمون فيها وتُسرُّون سرورا يظهر أثره على وجوهكم {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} أي يُطاف على أهل الجنة بأوانٍ من الذهب فيها طعام، وأقداحٍ من ذهب فيها الشراب قال المفسرون: آنية أهل الجنة التي يأكلون فيها الطعام، والكئوس التي يشربون فيها الشراب كلُّها من ذهب وفضة كما قال تعالى
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ} [الإنسان: 15] وفي الحديث «لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها في الدنيا ولكم في الآخرة» {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين أي وفي الجنة كل ما تشتهيه النفوس من أنواع اللذائذ والمشتهيات، وتُسرُّ به الأعين من فنون المناظر الجميلة، والمشاهد اللطيفة {وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي وأنتم في الجنة باقون دائمون، لا تخرجون منها أبداً قال أبو السعود: وهذا إتمامٌ للنعمة وإِكمال للسرور، فإِنَّ كل نعيمٍ زائلٍ موجبٌ لخوف الزوال. . لمَّا ذكر الجنة وأنها موضع الحبور، ذكر ما فيها من النعم، فذكر أولاً المطاعم، ثم ذكر المشارب، ثم بعد ذلك التفصيل ذكر بياناً كلياً بقوله {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} ثم ذكر تمام النعمة بالخلود في دار النعيم، وهذا حصرٌ لأنواع النعم، لأنها إمّا مشتهاة في القلوب، أو مستلذةٌ في العيون {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي وتلك الجنة الموصوفة بتلك الأوصاف الجليلة أُعطيتموها بسبب أعمالكم الصالحة التي قدمتموها في الدنيا قال ابن كثير: أي أعمالكم الصالحة كانت سبباً لشمول رحمة الله إياكم، فإنه لا يدخل أحد الجنة بعمله، ولكنْ برحمة الله وفضله، وإِنما الدرجاتُ يُنال تفاوتها بحسب الأعمال الصالحات وفي الحديث «مامن أحدٍ إلاّ وله منزلٌ في الجنة ومنزلٌ في النار، الكافر يرث المؤمن منزله في النار، والمؤمن يرثُ الكافر منزله في الجنة، وذلك قوله تعالى {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} أي لكم في الجنة من أنواع الفواكة والثمار الشيء الكثير سوى الطعام والشراب من هذه الفواكة تأكلون تفكهاً وتلذذاًَ قال المفسرون: يأكل أهل الجنة من بعض الثمار، وأما الباقي فعلى الأشجار على الدوام، لا
ترى فيها شجرةٌ تخلو عن ثمرها لحظة، فهي مزنيةٌ بالثمار أبداً، لأن كل ما يؤكل يخلف بدله وفي الحديث» لا ينزع رجلٌ في الجنة من ثمرها إلا نبت مثلاها مكانها «. ولما ذكر حال السعداء الأبرار أعقبه بذكر حال الأشقياء الفجار فقال {إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} أي إن الكافرين الراسخين في الإِجرام في العذاب الشديد في جهنم دائمون فيها أبداً قال الصاوي: والمراد بالمجرمين الكفار لأنهم ذكروا في مقابلة المؤمنين {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} أي لا يخفَّف عنه العذاب لحظة {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي وهم في ذلك العذاب يائسون من كل خير {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} أي وما ظلمناهم بعقابنا لهم، ولكنْ كانوا هم الظالمين لتعريضهم أنفسهم للعذاب الخالد {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي ونادى الكفار مالكاً خازن النار قائلين: ليمتْنا اللهُ حتى نستريحمن العذاب قال ابنك ثير: أي ليقبضْ أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه قال ابن عباس: فلم يجبهم إلا بعد ألف سنة {قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} أي أجابهم إنكم مقيمون في العذاب أبداً، لا خلاص لكم منه بموتٍ ولا بغيره {لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} خطاب توبيخ وتقريع أي لقد جئناكم أيها الكفار بالحق الساطع المبين، ولكنكم كنتم كارهين لدين الله مشمئزين منه لكونه مخالفاً لأهوائكم وشهواتكم قال الرازي: هذا كالعلة لما ذُكر والمرادُ نفرتهم عن محمد وعن القرآن، وشدة بُغضْهم لقبول الدين الحق {أَمْ أبرموا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} الكلام عن كفار قريش أي أم أحكم هؤلاء المشركون أمراً في كيد محمد صلى الله عليه وسلم َ فإِنا محكمون أمرنا في نصرته وحمايته، وإهلاكهم وتدميرهم قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم َ في دار الندوة {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم} أي أم يظنون أنَّا لا نسمع ما حدَّثوا به أنفسهم، وما تكلموا به فيما بينهم بطريق التناجي قال في التسهيل: السرُّ ما يحدث به الإِنسان نفسه أو غيره في خفية، والنجوى ما تكلموا به بينهم {بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} أي لى إنا نسمع سرَّهم وعلانيتهم، وملائكتنا الحفظة يكتبون عليهم أعمالهم، روي أنها نزلت في» الأخنس بن شُريق «و» الأسود بن عبد يغوث «اجتمعنا فقال الأخنس: أترى الله يسمع سرَّنا!! فقال الآخر: يسمع نجوانا ولا يسمع سرنا {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: لو فُرض أنَّ لله ولداً لكنت أنا أول من يعبد ذلك الولد، ولكنه جلا وعلا منزَّه عن الزوجة والولد قال القرطبي: وهذا كما تقول لمن تناظره: إن ثبتَ ما قلت بالدليل فأنا أول من يعتقده، وهذا مبالغةٌ في الاستبعاد، وترقيقٌ في الكلام وقال الطبري: هو ملاطفةٌ في الخطاب وقال البيضاوي: ولا يلزم من هذا الكلام صحة وجود الولد وعبادته له، بل المراد نفيهما على أبلغ الوجوه، وإِنكاره للولد ليس للعناد والمراء، بل لو كان لكان أولى الناس بالاعتراف به، فإن النبي يكون أعلم بالله وبما يصح له وما لا يصح {سُبْحَانَ رَبِّ السماوات
والأرض رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزَّه وتقدَّس اللهُ العظيمُ الجليل، ربُّ السمواتِ والأرضِ، وربُّ العرشِ العظيم، عمَّا يصفه به الكافرون من نسبة الولد إليه {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ} أي اترك كفار مكة في جهلهم وضلالهم، يخوضوا في باطلهم ويلعبوا بدنياهم {حتى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ} أي إلى ذلك اليوم الرهيب الذي وُعدوه وهو يوم القيامة فسوف يعلمون حينئذٍ كيف يكون حالهم ومصيرهم ومآلهم {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله} أي هو جل وعلا معبودٌ في السماء ومعبود في الأرض، لأنه هو الإِله الحق، المستحق للعابدة في السماء والأرض قال في التسهيل: أي هو الإِله لأهل الأرض وأهل السماء وقال ابن كثير: أي هو إله من في السَّمء وإلهُ من في الأرض، يعبده أهلهما وكلُّهم خاضعون له أذلاء بين يديه {وَهُوَ الحكيم العليم} أي هو الحكيم في تدبير خلقه، العليمُ بمصالحهم، وهذا كالدليل على وحدانيته تعالى {وَتَبَارَكَ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي تمجَّد وتعظَّم الله الذي له مُلك السمواتِ والإرض وما بينهما من المخلوقات، من الإِنس والجن والملائكة، فهو الخالق والمالك والمتصرف في الكائنات بلا ممانعةٍ ولا مدافعة {وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة} أي وعنده وحده علم زمان قيام الساعة {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي وإليه لا إلى غيره مرجع الخلائق للجزاء، فيجازي كلاً بعمله {وَلَا يَمْلِكُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشفاعة} أي ولا يملك أحدٌ ممن يعبدونهم من دون الله أن يشفع عند الله لأحد، لأنه شفاعته إلا بإذنه {إِلَاّ مَن شَهِدَ بالحق} أي إلا لمن شهد بالحق، وآمن عن علم وبصيرة، فإنه تنفع شفاعته عند الله {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي وهم يعلمون أن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه قال المفسرون: والمرادُ ب {مَن شَهِدَ بالحق} عيسى وعزير والملائكة، فإِنهم يشهدون بالحق والوحدانية للهِ، فهؤلاء تنفع شفاعتهم للمؤمنين وإِن كانوا قد عُبدوا من دون الله {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} أي ولئن سألت يا محمد كفار مكة من الذي خلقهم وأوجدهم؟ ليقولُنَّ اللهُ خلقنا، فهم يعترفون بأنه خالق ثم يعبدون غيره ممن لا يقدر على شيء {فأنى يُؤْفَكُونَ} أي فكيف ينصرفون عن عبادة الرحمن إلى عبادة الأوثان؟ فهم في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقول {وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لَاّ يُؤْمِنُونَ} أي وقول محمد في شكواه لربه يا ربِّ إن هؤلاء قوم معاندون جبارون لا يصدقون براستلي ولا بالقرآن قال قتادة: هذا قول نبيكم صلى الله عليه وسلم َ يشكو قومه إلى ربه عز وجل {فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} أي فأعرض عنهم يا محمد وسامحهم ولا تقابلهم بمثل ما يقابلونك به قال الصاوي: وهو تباعدٌ وبترؤٌ منهم، وليس في الآية مشروعية السلام على الكفار وقال قتادة: أمر بالصفح عنهم ثم أُمر بقتالهم، فصار الصفح منسوخاً بالسيف {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي فسوف يعلمون عاقبة إجرامهم وتكذيبهم، وهو وعدٌ وتهديد للمشركين، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ.
البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
التشبيه البليغ
{جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} [الزخرف: 10] أي كالمهد والفراش حذفت منه الأداة ووجه الشبه فأصبح بليغاً.
2 -
الاستعارة التبعية {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} [الزخرف: 11] شبَّه الأرض قبل نزول المطر بالإِنسان الميت ثم أنشرها الله أي أحياها بالمطر ففيه استعارة تبعية.
3 -
التأكيد بإِنَّ واللام مع صيغة المبالغة {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} [الزخرف: 15] لأن فعول وفعيل من صيغ المبالغة.
4 -
الأسولب التهكمي للتوبيخ والتقريع {أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بالبنين} [الزخرف: 16] ؟ وبين لفظ البنات والبنين طباقٌ.
5 -
المجار المرسل {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28] المراد بالكملة الجملة التي قالها {إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26] ففي اللفظ مجاز.
6 -
الاستعارة {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي} [الزخرف: 40] شبه الكفار بالصم والعمي بطريق الاستعارة التمثيلية.
7 -
جناس الاشتقاق {أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} [الزخرف: 45] لتغير الشكل وبعض الحروف بينهما.
8 -
حذف الإِيجاز {بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} أي أكواب من ذهب وحذف لدلالة السابق عليه.
9 -
ذكر العام بعد الخاص {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس} بعد قوله {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ} الآية.
10 -
الطباق {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم} لأن المراد سرَّهم وعلانيتهم.
11 -
السجع الرصين غير المتكلف مثل {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف: 11]{مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12]{وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] وغير ذللك وهو من المحسنات البديعية.