الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللغَة: {صَوَّرَكُمْ} التصوير: التخطيط والتشكيل الذي يكون به صورة وهيئة يتميز بها عن غيره {نَبَأُ} النبأ: الخبر الهام {وَبَالَ} الوبال: العقوبة والنكال {زَعَمَ} ظنَّ، والزعمُ هو القول بالظن ومنه قولهم «زعموا مطيةُ الكذب» قال شريح:«لكل شيءٍ كنيةٌ، وكنيةُ الكذب زعموا»
{التغابن}
الغبنُ ومعناه: النقص يقال: غبنه غبناً إِذا أخذ الشيء منه بدون قيمته، وسمي يوم القيامة يوم التغابن، لأنه يظهر فيه غبن الكافر بتركه الإِيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإِحسان.
التفسِير: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي ينزه الله تعالى ويمجده جميع ما في السموات والأرض من مخالوقات، تنزيهاً دائماً مستمراً بدون انقطاع، وصيغة المضارع تفيد التجدد والاستمرار {لَهُ الملك وَلَهُ الحمد} أي له جل وعلا المُلك التام والتصرف الكامل في خلقه، وهو المستحق للثناء وحده، لأن جميع النعم منه سبحانه وتعالى، وقدَّم الجار والمجرور فيهما لإِفادة حصر الملك والحمد فيه سبحانه {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قادر على كل شيء، يغني ويفقر، ويعز ويذل، وإِذا أراد شيئاً فإِنما يقول له كن فيكون، وهو كالدليل لما تقدم من أنَّ الملك والحمد له سبحانه {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} هذا تفصيلٌ لبعض آثار قدرته أي هو الذي خلقكم أيها الناس بهذا الشكل البديع المحكم، فكان يجب على كل واحدٍ منكم الإِيمان به، لكنْ منكم من كفر بربه، ومنكم من آمن وصدَّق بخالقه قال الطبري: أي منكم كافرٌ بخالقه وأنه هو الذي
خلقه، ومنكم مصدِّق به موقنٌ أنه خالقه وبارئه، وقدَّم الكافر على المؤمن، لكثر الكفار وقلة المؤمنين {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} [الأنعام: 116] {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13]{والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي عالمٌ بأحوالكم، مطَّلعٌ على أعمالكم، لا تخفى عليه خافية من شئونكم وسيجازيكم عليها،. . ثم فصَّل تعالى آثار قدرته ودلائل وحدانيته فقال {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} أي خلقهما بالحكمة البالغة، المتضمنة لمصالح الدنيا والدين، لا عبثاً ولا لهواً {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي خلقكم في أحسن صورة وأجمل شكل، فأتقن وأحكم خلقكم وتصويركم كقوله تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] فإِن من نظر في شكل الإِنسان وهيئته وتناسب أعضائه، علم أن صورته أحسن صورة بالنسبة لسائر أنواع الحيوان، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكب على وجهه {وَإِلَيْهِ المصير} أي وإليه تعالى وحده المرجع والمآب، فيجازي كلاً بعمله {يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض} أي يعلم ما في الكائنات من أجرامٍ ومخلوقات {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أي ويعلم ما تخفونه وما تظهرونه من نواياكم وأعمالكم {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي عالم بما في الصدور من الأسرار والخفايا، فكيف تخفى عليه أعمالكم الظاهرة؟ قال في البحر: نبَّه تعالى بعلمه بما في السمواتِ والأرض، ثم بعلمه بما يخفيه العباد وما يعلنونه، ثم بعلمه بما أكنَّته الصدور، على أنه تعالى لا يغيب عن علمه شيء، لا من الكليات ولا من الجزيئات، فابتدأ بالعلم الشامل، ثم بسرِّ العباد وعلانيتهم، ثم بما تنطوي عليه صدروهم، وهذا كله في معنى الوعيد، إِذ هو تعالى المجازي عليه بالثواب والعقاب.
. ثم ذكَّرهم تعالى بما حلَّ بالكفار قبلهم فقال {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} أي ألم يأتكم يا معشر قريش خبر كفار الأمم الماضية كقوم عاد وثمود، ماذا حلَّ بهم من العذاب والنكال!! {فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي فذاقوا العقوبة الوخيمة على كفرهم في الدنيا {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي وهلم في الآخرة عذاب شديد موجع {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي ذلك العذاب الذي ذاقوه في الدنيا وما سيذوقونه في الآخرة، بسبب أنه جاءتهم رسلهم بالمعجزات الواضحات، والبراهين الساطعات، الدالة على صدقهم {فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} ؟ أي فقالوا على سبيل الاستغراب والتعجب: أرسلٌ من البشر يصيرون هداةً لنا قال الرازي: أنكروا أن يكون الرسول بشراً، ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجراً، وذلك لقلة عقولهمك وسخافة أحلامهم {فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ} أي فكفروا بالرسول، وأعرضوا عن الإِيمان واتباع هدى الرحمن {واستغنى الله} أي استغنى الله عن طاعتهم وعبادتهم قال الطبري: أي استغنى اللهُ عنهم، وعن إِيمانهم به وبرسله {والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي غنيٌّ عن خلقه، محمودٌ في ذاته وصفاته، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، لأنه مستغنٍ عن العالمين. . ثم أخبر تعالى عن إِنكارهم للبعث بعد
تكذيبهم للرسالة فقال {زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ} أي ادَّعى كفار مكة وظنوا أن الله لن يبعثهم من قبورهم بعد موتهم أبداً {قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} أي قل لهم يا محمدا: ليس الأمر كما زعمتم، وأقسم بري لتخرجن من قبوركم أحياء ولتبعثنَّ {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} أي ثم تخبرنَّ بجميع أعمالكم، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، وتُجزون بها {وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} أي وذلك البعث والجزاء، سهلٌ هينٌ على الله، لأن الإِعادة أسهل من الابتداء قال الرازي: أنكروا البعث بعد أن صاروا تراباً، فأخبر تعالى أن إِعادتهم أهونُ في العقول من إنشائهم. . ولما بالغ في الإِخبار عن البعث، وذكر أحوال الأمم المكذبة، أمر بالاعتصام بالإِيمان والتمسك بالقرآن فقال {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذي أَنزَلْنَا} أي فصدِّقوا بالله وبرسوله وبهذا القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم َ فإنه النور الوضاء، المبدّد للشبهات، كما يبدد النور الظلمات {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي لاتخفى عليه خافية من أعمالكم {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع} أي واذكروا ذلك اليوم الرهيب يوم القيامة الذي يجمع الله فيه الخلائق كلها في صعيد واحد للحساب والجزاء قال ابن كثير: سمُي «يوم الجمع» لأن الله تعالى يجمع فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، كقوله تعالى
{ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103]{ذَلِكَ يَوْمُ التغابن} أي ذلك هو اليوم الذي يظهر فيه غبن الكافر وخسارته بتركه الإِيمان، وذلك أن المؤمنين اشتروا الجنة بترك الدنيا، واشترى الكفار النار بترك الآخرة، فظهر غبن الكافرين قال الخازن: وأصله من الغبن وهو أخذ الشيء بدون قيمته، والمغبونُ من غُبن أهله ومنازله في الجنة، وذلك لأن كل كافر له أهلٌ ومنزل في الجنة لو أسلم، فيظهر يومئذٍ غبن كل كافرٍ بتركه الإِيمان، ويظهر غبن كل مؤمن بتقصيره في الإِحسان {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} أي ومن يصدِّق بالله ويعمل عملاً صالحاً، يمح الله تعالى عنه ذنوبه {وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي ويدخله جنات النعيم، التي تجري من تحت أشجارها وقصورها أنهارُ الجنة {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أي مقيمين في تلك الجنات أبد الحياة، لا يموتون لا يُخرجون منها {ذَلِكَ الفوز العظيم} أي ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه، والسعادة التي لا سعادة بعدها {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} أي والذين جحدوا بوحدانيته الله وقدرته، وكذبوا بالدلائل الدالة على البعث وبآيات القرآن الكريم {أولئك أَصْحَابُ النار خَالِدِينَ فِيهَا} أي أولئك مآلهم جهنم، ما كثين فيها أبداً {وَبِئْسَ المصير} أي وبئست النار مرجعاً ومستقراً لأن الكفر والضلال. . ثم أخبر تعالى بأن كل ما يحدث في الكون بقضائه وإِرادته فقال {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ الله} أي ما أصاب أحداً مصيبةٌ في نفسه أو ماله أو ولده، إِلا بقضاء الله وقدره {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} أي ومن يصدِّق بالله ويعلم أن كل حادثة بقضائه وقدره، يهدِ قلبه للصبر والرضا ويثبته على الإِيمان قال ابن عباس: يهدِ قلبه لليقين، حتى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، ما أخطأه لم يكن ليصيبه وقال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى
بها ويُسلم لقضاء الله {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو الله تعالى عالمٌ بكل الأشياء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء قال القرطبي: أي لا يخفى عليه تسليم من انقاد وسلَّم لأمره، ولا كراهة من كرهه ولم يرض بقضائه {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في كل ما شرع لكم من الأوامر والنواهي، وكرَّر الأمر للتأكيد ولبيان أن طاعة الرسول واجبة كطاعة الله {فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} أي فإِن أعرضتم عن إجابة الرسول فيما دعاكم إِليه من الهداية والإِيمان، فليس عليه ضرر إِنما ضرر ذلك عليكم، إِذ ليس على الرسول إِلا تبليغ الرسالة وقد أدى ما عليه، والله ينتقم ممن عصاه وخالف أمره {الله لَا إله إِلَاّ هُوَ} أي اللهُ جل وعلا لا معبود سواه، ولا خالق غيره، عليه الاعتماد وإِليه المرجع والمآب {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أي فعليه وحده توكلوا أيها المؤمنون في جميع أموركم قال الصاوي: وهو تحريضٌ وحثٌّ للنبي صلى الله عليه وسلم َ على التوكل على الله، والالتجاء إِليه، وفيه تعليمٌ للأمة ذلك، بأن يلتجئوا إِلى إِلى الله ويثقوا بنصره وتأييده {ياأيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم} أي يا معشر المؤمنين إِن بعض الزوجات والأولاد أعداء لكم، يصدونكم عن سبيل الله، وثبطونكم عن طاعة الله، فاحذروا أن تستجيبوا لهم وتطيعوهم قال المفسرون: إِن قوماً أسلموا وأرادوا الهجرة، فثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة، فلم يهاجروا إلا بعد مدة، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فندموا وأسفوا وهمُّوا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم فنزلت الآية الكريمة، والآية نعم كلَّ من انشغل عن طاعة الله بالأزواج والأولاد {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ} أي وإِن عفوتم عنهم في تثبيطكم عن الخير، وصفحتم عما صدر منهم، وغفرتم لهم زلاتهم {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي فإن الله واسع المغفرة عظيم الرحمة، يعاملكم بمثل ما عاملتم {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} أي ليست الأموالُ والأولادُ إِلاّ اختباراً وابتلاءً من الله تعالى لخلقه، ليعلم من يطيعه ومن يعصيه، وقدَّم المال لأن فتنته أشدُّ {والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي وما عند الله من الأجر والثواب أعظم من متاعِ الدنيا، فلا تشغلكم الأموال والأولاد عن طاعة الله، والآية ترغيبٌ في الآخرة وتزهيدٌ في الدنيا، وفي الأموال والأولاد التي فتن الناسُ بها {فاتقوا الله مَا استطعتم} أي ابذلوا أيها المؤمنون في طاعة الله جهدكم وطاقتكم، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا تطيقون قال المفسرون: هذا في المأمورات وفضائل الأعمال يأتي الإِنسان منها بقدر طاقته، وأما في المحظورات فلا بدَّ من اجتنابها بالكلية ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه قال:
«إِذا أمرتكم بأمرٍ فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» {واسمعوا وَأَطِيعُواْ} أي واسمعوا ما توعظون به، وأطيعوا فيما تُؤْمرون به وتُنهون عنه {وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ} أي وأنفقوا في سبيل الله من أموالكم، يكنْ خيراً لأنفسكم {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} أي ومن سلم من البخل والطمع الذي تدعو إِليه النفس، فقد فاز بكل مطلوب {إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} أي إِذا تصدقتم في سبيل الله عن طيب نفس،
فإن الله يضاعف لكم الأجر والثواب، وفي تصوير الصدقة بصورة القرض تلطفٌ بليغ في الإِحسان إِلى الفقراء {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي ويمحُ عنكم سيئاتكم {والله شَكُورٌ حَلِيمٌ} أي شاكرٌ للمحسن إِحسانه، حليمٌ بالعباد حيث لا يعالجهم بالعقوبة مع كثرة ذنوبهم {عَالِمُ الغيب والشهادة} أي هو تعالى العالم بما غاب وحضر، لا تخفى عليه خافية {العزيز الحكيم} أي الغالب في ملكه الحكيم في صنعه.
البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الطباق في الاسم مثل {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} وكذلك بين {الغيب والشهادة} والطباق في الفعل مثل {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} وهو من المحسنات البديعية.
2 -
تقديم الجار والمجرور لإِفادة الحصر {لَهُ الملك وَلَهُ الحمد} أي له وحده الملك والحمد.
3 -
الإستعارة اللطيفة {والنور الذي أَنزَلْنَا} أطلق على القرآن النور بطريق الاستعارة، فإِن القرآن يزيل الشبهات، كما يزيل النور الظلمات.
4 -
المقابلة بين جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً. .} الآية وبين {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ النار خَالِدِينَ فِيهَا} الآية.
5 -
الجناس الناقص {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} لاختلاف الحركات في الشكل.
6 -
جناس الاشتقاق {أَصَابَ. . مُّصِيبَة} و {يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع} .
7 -
الإِطناب بتكرار الفعل زيادة في التأكيد واعتناءً بشأن الطاعة {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} .
8 -
صيغة المبالغة {والله شَكُورٌ حَلِيمٌ} لأن فعنل وفعيل من صيغ المبالغة.
9 -
الاستعارة التمثيلية {إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} شبَّه الإِنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء، بمن يُقرض الله قرضاً واجب الوفاء وذلك بطريق التمثيل، وهو من لطيف الاستعارة وبديع العبارة.
10 -
السجع المرصَّع لتوافق الفواصل مثل {والله شَكُورٌ حَلِيمٌ} {عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الحكيم} .
اللغَة: {العدة} المدة التي تحتبس فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها {أَحْصُواْ} اضبطوا بطريق العَدَد {حَسْبُهُ} كافية {وُجْدكم} طاقتكم ووسعكم {ارتبتم} شككتم {كَأِيِّن} كثير {عَتَتْ} تكبرت وتجبرت وأعرضت {نُّكْراً} منكراً شنيعاً وفظيعاً {خُسْراً} خساراً وهلاكاً.
سَبَبُ النّزول: أروى البخاري أن عبد الله بن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ فتغيَّظ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ثم قال: ليراجِعْها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإِن بدا له أن يطلِّقها فليطلِّقها طاهراً قبل أن يمسَّها، فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل.
ب وروي عن أنس قال طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم َ حفصة فأتت أهلها فأنزل الله تعالى {يا أيها
النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فقيل له: راجعْها فإِنها صوَّامة قوَّامة، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة.
ج وروي أنه لما نزل قوله تعالى {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قرواء} {البقرة: 228] قال جماعة من الصحابة يا رسول الله: فما عدة لا قرء لها من صغر أو كِبَر فنزلت {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. .} الآية.
التفسِير: {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم َ والحكم عام له ولأمته، وخصَّ هو بالنداء صلى الله عليه وسلم َ تعظيماً له، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا أي افعل أنت وقومك، فهو نداء على سبيل التكريم والتعظيم قال القرطبي: الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم َ خوطب بلفظ الجماعة {طَلَّقْتُمُ} تعظيماً وتفخيماً والمعنى: يا أيها النبي ويا أيها المؤمنون إِذا أردتم تطليق النساء {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي فطلقوهن مستقبلاتٍ لعدتهن، وذلك في الطهر، ولا تطلقوهن في الحيض قال مجاهد: أي طاهراً من غير جماع لقوله صلى الله عليه وسلم َ: «فليطلقها طاهراً قبل أن يمسَّها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يُطلَّق لها النساء» قال المفسرون: وإِنما نُهي عن طلاق المرأة وقت الحيض لئلا تطول عليها العدة فتتضرر، ولأن حالة الحيض منفِّرة للزوج، تجعله يتسرع في طلاقها بخلاف ما إِذا كانت طاهراً، وكونه لم يجامعها في ذلك الطهر، لئلا يحصل من ذلك الوطء حملٌ، فتنتقل العدة من الحيض لوضع الحمل وفي ذلك ضرر ظاهر {وَأَحْصُواْ العدة} أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء كاملة لئلا تختلط الأنساب {واتقوا الله رَبَّكُمْ} أي خافوا الله ربَّ العالمين، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} أي لا تخرجوهن من مساكنهم، بعد فراقكم لهن إِلى أن تنقضي عدتهن {وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} أي ولا يخرجن من البيوت حتى تنقضي عدتهن، إِلا إِذا قارفت المطلقة عملاً قبيحاً كالزنى فتخرج لإِقامة الحد عليها قال في التسهيل: نهى الله سبحانه وتعالى أن يُخرج الرجلُ المرأة المطلَّقة من المسكن الذي طلقها فيه، ونهاها هي أن تخرج باختيارها، فلا يجوز لها المبيت خارجاً عن بيتها، ولا أن تغيب عنه نهاراً إِلا لضرورة التصرف، وذلك لحفظ النسب وصيانة المرأة، واختلف في الفاحشة التي تبيح خروج المعتدة فقيل: إِنها الزنى فتخرج لإِقامة الحد عليها، وقيل إِنه سوء الكلام مع الأصهار وبذاءة اللسان فتخرج ويسقط حقها من السكنى، ويؤيده قراءة «إِلا أن يفحشن عليكم» {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} أي وهذه الأحكام هي شرائع الله ومحارمه {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أي ومن يخرج عن هذه الأحكام، ويتجاوزها إِلى غيرها ولا
يأتمر بها، فقد ظلم نفسه بتعريضها للعقاب، وأضرَّ بها حيث فوَّت على نفسه إِمكان إِرجاع زوجته إِليه قال الرازي: وهذا تشديدٌ فيمن يتعدى طلاق السنة، ومن يطلق لغير العدة {لَا تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} أي لا تعرف أيها السامع ماذا يحدث اللهُ بعد ذلك الطلاق من الأمر؟ فلعل الله يقلّب قلبه من بغضها إِلى محبتها، ومن الرغبة عنها إِلى الرغبة فيها، فيجعله راغباً في زوجته بعدما كان كارهاً لها قال ابن عباس: يريد الندم على طلاقها، والمحبة لرجعتها في العدة {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي فإِذا شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي فراجعوهنَّ إِلى عصمة النكاح مع الإِحسان في صحبتهن كما أمر الله، أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن قال المفسرون: الإِمساك بالمعروف هو إِحسان العشرة وتوفية النفقة، من غير قصد المضارة في الرجعة لتطول عليها العدة، والفراق بالمعروف هو أداء الصَّداق، والمتعة عند الطلاق، والوفاء بالشروط مع توفية جميع حقوقها {وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} أي وأشهدوا عند الطلاق أو الرجعة، شخصين من أهل العدالة والاستقامة من تثقون في دينها وأمانتها قال في البحر: وهذا الإِشهاد مندوبٌ إِليه عند أبي حنيفة كقوله تعالى
{وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وعند الشافعية واجبٌ في الرجعة، مندوبٌ إِليه في الفرقة {وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ} أي اشهدوا بالحق دون تحيز لأحد، خالصاً لوجه الله تعالى من غير تبديل ولا تغيير، ودون مراعاةٍ للمشهود له أو المشهود عليه {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} أي هذا الذي شرعناه من الأحكام، إِنما ينتفع ويتعظ به المؤمن الذي يخشى الله، ويخاف الحساب والعقاب في الدار الآخرة {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} أي ومن يراقب الله ويقف عند حدوده، يجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله ولا يعلمه قال مجاهد: كنت عند ابن عباس فجاءه رجلٌ فقال: إِنه طلَّق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه رادها إِليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب أحموقته ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس!! والله تعالى يقول {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} وإِنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجاً، عصيت ربك وبانت منك امرأتك وقال المفسرون: الآية عامة وقد
«نزلت في» عوف بن مالك الأشجعي «أسر المشركون ابنه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وشكا إِليه الفاقة وقال: إن العدوَّ أسر ابني وجزعتْ أمه فما تأمرني؟ فقال صلى الله عليه وسلم َ له: اتق الله واصبر، وآمرك وإِياها أن تستكثروا من قول» لا حول ولا قوة إِلا بالله «ففعل هو وامرأته، فينا هو في بيته إِذ قرع ابنه الباب، ومعه مائة من الإِبل غفل عنها
العدو فاستاقها» فنزلت {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} أي ومن يعتمد على الله، ويثقْ به فيما أصابه ونابه، فإِن الله كافيه قال الصاوي: أي من فوَّض إِليه أمره كفاه ما أهمَّه، والأخذُ بالأسباب لا ينافي التوكل، لأنه مأمور به ولكنْ لا يعتمد على تلك الأسباب، وفي الحديث «لو توكلتم على الله حقَّ توكله لزرقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً» {إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ} أي نافذُ أمره في جميع خلقه، يبلغ ما يريد ولا يعجزه شيء قال في التسهيل: وهذا حضُّ على التوكل وتأكيدٌ له، لأن العبد إِذا خلقه، يبلغ ما يريد ولا يعجزه شيء قال في التسهيل: وهذا حضٌ على التوكل وتأكيدٌ له، لأ، العبد إِذا تحقق أن الأمور كلها بيد الله، توكَّل على الله وحده ولم يعوِّل على سواه {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} أي قد جعل اله لكل أمرٍ من الأمور، مقداراً معلوماً ووقتاً محدوداً، حسب الحكمة الأزلية قال القرطبي: أي جعل لكل شيءٍ من الشدة والرخاء أجلاً ينتهي إِليه. . ثم بيَّن سبحانه حكم المطلَّقة التي لا تحيض لصغرها أو لكبر سنها فقال {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم} أي والنسوة اللواتي انقطع حيضهن لكبر سنهنَّ، إِن شككتم وجهلتم كيف عدتهن؟ فهذا حكمهن {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} أي فعدةُ الواحدة منهن ثلاثة أشهر، كل شهرٍ يقوم مقام حيضة {واللائي لَمْ يَحِضْنَ} أي وكذلك اللواتي لم يحضن لصغرهن عدتهن ثلاثة أشهر {وَأُوْلَاتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أي والمرأة الحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل، سواءً كانت مطلقة، أو متوفى عنها زوجها {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} أي ومن يخضى الله في أقواله وأفعاله، ويجتنب ما حرَّم الله عليه، يسهِّل عليه أمره ويوفقه لكل خير {ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} أي ذلك هو حكم الله وشرعه الحكيم، أنزله عليكم أيها المؤمنون لتأتمروا به، وتعملوا بمقتضاه {وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرا} أي ومن يتَّق ربه يمح عنه ذنوبه، ويضاعف له الأجر والثواب قال الصاوي: كرر التقوى لعلمه سبحانه وتعالى أن النساء ناقصات عقلٍ ودين، فلا يصبر على أمورهن إِلا أهل التقوى وقال في البحر: لمَّا كان الكلام في أمر المطلقات، وكنَّ لا يطلَّقن إِلا عن بغض أزواجهنَّ لهنَّ، وقد ينسب الزوج إِليها ما يشينها وينفِّر الخُطَّاب عنها، فلذلك تكرر الأمر بالتقوى، وجاء مبرزاً في صورة شرط وجزاء {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل} الآية {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} أي أسكنوا هؤلاء المطلقات في بعض مساكنكم التي تسكنونها، على قدر طاقتكم ومقدرتكم، فإِن كان موسراً وسَّع عليها في المسكن والنفقة، وإِن كان فقيراً فعلى قدر الطاقة {وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ} أي ولا تضيقوا عليهن في السكنى والنفقة، حتى تضطروهن إِلى الخروج أو الافتداء {وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ} أي وإِن كانت المطلَّقة حاملاً {فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أي فعلى الزوج أن ينفق عليها ولو طالت مدة الحمل حتى تضع حملها {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} أي فإِذا ولدت ورضيت أن ترضع له ولده {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي فعلى الرجل أن يدفع لها أجر الرضاعة، لأن الأولاد ينسبون
إِلى الآباء قال في التسهيل: والمعنى إِن أرضع هؤلاء الزوجات المطلقات أولادكم، فآتوهنَّ أجرة الرضاع وهي النفقة وسائر المؤن {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أي وليأمر كلٌ منهما صاحبه بالخير، من المسامحة والرفق والإِحسان، قال القرطبي: أي وليْقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل، والمعروف منها: إِرضاعُ الولد من غير أجرة، والمعروف منه: توفيرُ الأجرة عليها للإِرضاع {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ} أي تضايقتم وتشددتم، وعسر الاتفاق بين الزوجين، فأبى الزوج أن يدفع أن يدفع لها ما تطلب، وأبت الزوجة أن ترضعه بأنقص من ذلك الأجر {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} أي فليستأجر لولده مرضعةً غيرها وهو خيرٌ بمعنى الأمر أي فليسترضعْ لولده مرضعةً أُخرى قال أبو حيان: وفيه عتابٌ للأم لطيف كما تقول لمن تطلب منه حاجة فيتوانى عنها: سيقضيها غيرك، تريد أنها لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم قال الضحاك: إِن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإِن لم يقبل أُجبرت أمه على الرضاع بالأجر {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} هذا بيانٌ لقدر الإِنفاق والمعنى: لينفقْ الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير، على قدر وسعة وطاقته، قال في التسهيل: وهو أمرٌ بأن ينفق كل واحد على مقدار حاله، فلا يكلف الزوج ما لا يطيق، ولا تُضيَّع الزوجة بل يكون الحال معتدلاً، وفي الآية دليلٌ على أن النفقة تختلف باختلاف أحوال الناس يسراً وعسراً {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ومن ضُيّق عليه رزقه فكان دون الكفاية {فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله} أي فلينفق على مقدار طاقته، وعلى قدر ما آتاه الله من المال {لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَاّ مَآ آتَاهَا} أي لا يكلف الله أحداً إِلا قدر طاقته واستطاعته، فلا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني قال أبو السعود: وفيه تطييبٌ لقلب المعسر، وترغيبٌ له في بذل مجهوده، وقد أكد ذلك الوعد بقوله {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} أي سيجعل الله بعد الضيق الغنى، وبعد الشدة السعة والرخاء، وفيه بشارة للفقراء بفتح أبواب الرزق عليهم.
. ثم حذَّر تعالى من عصيانه وتعدي حدوده، وضرب الأمثال بالأمم السابقة فقال {وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ} أي وكثير من أهل قرية من الأمم السالفة {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} أي طغت وتمردت على أوامر الله وأوامر رسله {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً} أي فجازيناها على عصيانها وطغيانها بأنواع العذاب الأليم، من الجوع والقحط وعذاب الاستئصال {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً} أي عذاباً منكراً عظيماً يفوق التصور {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} أي فذاقت عاقبة كفرها وطغيانها وتمردها على أوامر الله {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} أي وكانت نتيجة بغيها الهلاك والدمار، والخسران الذي ما بعده خسران. . ولّما ذكر ما حلَّ بالأمم الطاغية، أمر المؤمنين بتقوى الله، تحذيراً من عقابه لئلا يصيبهم ما أصاب أولئك المجرمين فقال {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} أي هيأ الله لهم في الآخرة عذاب جهنم الشديد المؤبد {فاتقوا الله ياأولي الألباب} أي فخافوا الله واحذروا بطشه وانتقامه يا أصحاب العقول السليمة {الذين آمَنُواْ} أي أنت يا معشر المؤمنين الذي صدقتم بالله ورسوله {قَدْ أَنزَلَ الله
إِلَيْكُمْ ذِكْراً} أي قد أنزل الله إِليكم وحياً يتلى وهو القرآنُ الحكيم {رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ} أي وأرسل إِليكم رسولاً وهو محمد صلى الله عليه وسلم َ يقرأ عليكم آياتِ الله، واضحات جليات، تبيِّن الحلال والحرام وما تحتاجون إِليه من الأحكام قال في البحر: والظاهر أن الذكر هو القرآن، وأن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم َ {لِّيُخْرِجَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنَ الظلمات إِلَى النور} أي ليخرج المؤمنين المتقين، من الضلالة إِلى الهدى، ومن ظلمة الكفر والجهل إِلى نور الإِيمان والعلم {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً} أي ومن يُصدق بالله ويعمل بطاعته {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي يدخله في الآخرة جنات النعيم، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أي ماكثين في تلك الجنات جنان الخلق أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون {قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً} أي قد طيَّب الله رزقهم في الجنة ووسَّعه لهم، لأن نعيمها دائم لا ينقطع قال الطبري: أي وسَّع لهم في الجنات الرزق، وهو ما رزقهم من المطاعم والمشارب وسائر ما أعدَّ لأوليائه فيها فطيَّبه لهم، وفي الآية معنى التعجب والتعظيم لما رزق الله المؤمن من الثواب.
. ثم أشار تعالى إِلى آثار قدرته، وعظيم سلطانه وجلاله فقال {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سماوات وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} أي اللهُ العظيم الكبير هو الذي خلق بقدرته سبع سمواتٍ طباقاً، ومن الأرض كذلك خلق سبع أرضين بعضها فوق بعض بدون فتوق بخلاف السموات {يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ} أي يتنزل وحيُ الله ويجري أمره وقضاؤه بين السموات والأرضين {لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لتعلموا أن من قدر على خلق ذلك قادر على كل شيءٍ {وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} أي ولتعلموا أنه تعالى عالم بكل شيء، لا تخفى عليه خافية.
البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الطباق {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ} وكذلك {بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} .
2 -
الإِظهار في موضع الإِضمار للتهويل {وَتِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} .
3 -
الالتفات لمزيد الاهتما {لَا تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} ورد بطريق الخطاب والأصل أن يكون بطريق الغائب «لا يدري» .
4 -
إيجاز الحذف {واللائي لَمْ يَحِضْنَ} حذف منه الخبر أي فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً.
5 -
تكرار الوعيد للتفظيع والترهيب {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} الآية.
6 -
المجاز المرسل {وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ} يراد بها أهل القرية من باب تسمية الحال باسم المحل.
7 -
الاستعارة اللطيفة {لِّيُخْرِجَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنَ الظلمات إِلَى النور} استعار الظلمات للضلال والكفر، واستعار النور للهدى والإيمان، وهو من روائع البيان، وجلال تعبير القرآن.
8 -
السجع المرصَّع كأنه الدر والياقوت مثل {قد جعل الله لكل شيء قدراً. . يجعل له من أمره يُسراً. . ويُعظم له أجراً. . وكان عاقبةُ أمرهها خُسراً} الخ وهو من المحسنات البديعية.
اللغَة: {تَحِلَّةَ} تحليل اليمين بالكفارة {صَغَتْ} مالت عن الحقِّ وزاغت، وأصغى الإِناء أماله {قَانِتَاتٍ} مطيعات من القنوت وهو ملازمة الطاعة مع الخضوع {نَّصُوحاً} خالصة صادقة، والتوبةُ النَّصوح هي التي لا عودة بعدها إِلى الذنب، سميت نصوحاً لما فيها من الصدق والإِخلاص يقال: هذا عسلٌ ناصح إِذا خلص من الشمع {اغلظ} من الغلظة وهي الشدة {أَحْصَنَتْ} عفَّت وصانت نفسها عن مقارنة الفاحشة.
سَبَبُ النّزول: أروي «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ كان يقسم بين نسائه، فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في زيارة أبويها فأذن لها، فلما خرجت أرسل إِلى جاريته» مارية القبطية «فعاشرها في بيت حفصة، فرجعت فوججتها في بيتها، فغارت غيرةً شديدة، وقالت: أدخلتها بيتي في
غيابي وعاشرتها على فراشي؟ {ما أراك فعلت هذا إِلا لهواني عليك} فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ مسترضياً لها: إِني حرمتها عليَّ ولا تخبري بذلك أحداً، فلما خرج من عندها قرعت فحصة الجدار الذي بينها وبين عائشة وكانتا متصافيتين وأخبرتها بسرِّ النبي صلى الله عليه وسلم َ فغضب رسول الله وحلفت ألا يدخل على نسائه شهراً واعتزلهن» فأنزل الله {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ. .} الآية.
ب وروي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ كان يدخل على زوجه» زينب «رضي الله عنها فيشرب عندها عسلاً، فاتفقت عائشة وحفصة على أن تقول له كل واحد إِذا دنا منها: أكلتَ معافير وهو طعام حلٌ كريه الريح فلما مرَّ على حفصة قالت له ذلك، ثم دخل على عائشة فقالت له مثل ذلك وكان صلى الله عليه وسلم َ يكره أن توجد منه رائحة كريهة فقال عليه السلام: لا ولكني شربت عسلاً عند زينب ولن أعود له وحلف» فنزلت {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ. .} الآيات.
التفسِير: {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} الخطاب بلفظ النبوة مشعرٌ بالتوقير والتعظيم، والتنويه بمقامه الرفيع الشريف، فلم يخاطبه باسمه العلم كما خاطب سائر الرسل بقوله «يا إِبراهيم، يا نوحٌ، يا عيسى بن مريم» وإنما خاطبه بلفظ النبوة أو الرسالة، وذلك أعظم دليلٍ وبرهانٍ على أنه صلوات الله عليه أفضل الأنبياء والمرسلين ومعنى الآية: يا أيها الموحى إِليه من السماء، المنبأ بواسطة الأمين جبريل عليه السلام، لما تمنع نفسك ما أحلَّ الله لك من النساء؟! قال المفسرون: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ خلا بأم ولده «مارية» في بيت حفصة وعلمت بذلك فقال لها: اكتمي عليَّ وقد حرمت مارية على نفسي فنزلت الآية {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} وفي افتتاح العتاب من حسن التلطف ما لا يخفى، فقد عاتبه على إِتعاب نفسه والتضييق عليها من أجل مرضاة أزواجه، كأنه يقول: لا تتعب نفسك في سبيل أزواجك، وأزواجك يسعين في مرضاتك، فأرح نفسك من هذا العناء {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} ؟ أي تطلب رضا أزواجك بتحريم ما أحلَّ الله لك؟
قال في التسهيل: يعني تحريمه للجارية ابتغاء رضا حفصة، وهذا يدل على أنها نزلت في تحريم الجارية، وأما تحريم العسل فلم يقصد فيه رضا أزواجه وإنما تركه لرائحته {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي والله واسع المغفرة، عظيم الرحمة، حيث سامحك في امتناعك عن مارية، وإِنما عاتبك رحمة بك، وفي هذه إشارة إِلى أن عتابه في ذلك إِنما كان كرامةً له، وإِنما وقع العتاب لتضييقه عليه السلام على نفسه، وامتناعه مما كان له فيه أُنسٌ ومتعة، وبئس ما قاله الزمخشري في أن هذا كان منه صلى الله عليه وسلم َ زلة لأنه حرَّم ما أحل الله له الخ فإِن هذا القول قلة أدب مع مقام النبوة، وجهل بصفات المعصوم، فلم يكن منه صلوات الله عليه تحريمٌ للحلال كما زعم حتى تعبتر مخالفة ومعصية، وإِنما امتنع عن بعض إِمائه تطييباً لخاطر بعض أزواجه، فعاتبه الله تعالى عليه رفقاً به، وتنويهاً بقدره، وإِجلالاً لمنصبه عليه السلام أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه، جرياً على ما أُلف من لطف الله تعالى به {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أي قد شرع الله لكم يا معشر المؤمنين ما تتحللون به من أيمانكم وذلك بالكفارة {والله مَوْلَاكُمْ} أي واللهُ وليْكم ونارصكم {وَهُوَ العليم الحكيم} أي وهو العليم بخلقه الحكيم في صنعه، فلا يأمر ولا ينهى إِلا بما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
. ثم شرع تعالى في بيان القصة التي حدثت لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ مع بعض زوجاته فقال {وَإِذْ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} أي واذكر حين أسرَّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم َ إِلى زوجاته حفصة خبراً واستكتمها إِياه قال ابن عباس: هو ما أسرَّ إِلى حفصة من تحريم الجارية على نفسه، كما أخبرها بأن الخلافة بعده تكون في أبي بكر وعمر، وطلب منها ألا تخبر بذلك أحداً {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أي فلما أخبرت بذلك السرِّ عائشة وأفشته لها {وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ} أي وأطلع الله نبيه بواسطة جبريل الامين على إفشائها للسرِّ {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} أي أعلمها وأخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ببعض الحديث الذي أفشته معاتباً لها، ولم يخبرها بجميع ما حصل منها حياءً منه وكرماً، فإِن من عادة الفضلات التغافل عن الزلات، والتقصير في اللوم والعتاب قال الحسن: ما استقصى كريمٌ قط، وقال سفيان: ما زال التغافل من شيم الكرام قال الخازن: المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم َ أخبر حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم مارية على نفسه، وأعرض عن ذكر الخلافة لأنه صلى الله عليه وسلم َ كره أن ينتشر ذلك في الناس {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} أي فلما أخبر الرسول حفصة بأنها قد أفشت سرِّه {قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا} أي قالت: من أخبرك يا رسول الله بأني أفيشتُ سرك؟ قال أبو حيان: ظنت حفصة أن عائشة فضحتها وكانتك قد استكتمتها فقالت من أنبأك هذا على سبيل التثبيت، فأخبرها أن الله جل وعلا هو الذي نبأه به فسكتت وسلَّمت {قَالَ نَبَّأَنِيَ العليم الخبير} أي فقال عليه السلام: أخبرني بذلك ربُّ العزة، العليم بسرائر
العباد، الخبير الذي لا تخفى عليه خافية {إِن تَتُوبَآ إِلَى الله} الخطاب لحفصة وعائشة، خاطبهما بطريق الالتفات ليكون أبلغ من معاتبتهما وحملهما على التوبة مما بدر منهما من الإِيذاء لسيد الأنبياء، وجوابه محذوف تقديره أي إِن تبتما كان خيراً لكما من التعاون على النبي صلى الله عليه وسلم َ بالإِيذاء {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي فقد زاغت ومالت قلوبكما عما يجب عليكما من الإِخلاص لرسول الله، بحب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} أي وإِن تتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم َ بما يسوءه، من الوقيعة بينه وبين سائر نسائه {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} أي فإنَّ الله تعالى هو وليُّه وناصره، فلا يضره ذلك التظاهر منكما {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} أي وجبريل كذلك وليه وناصره، والصالحون من المؤمنين قال ابن عباس: أراد بصالح المؤمنين أبا بكر وعمر فقد كانا عوناً له عليه الصلاة والسلام ُ عليهما قال في التسهيل: معنى الآية: إِن تعاونتما عليه صلى الله عليه وسلم َ بما يسوءه من إِفراط الغيرة، وإِفشاء سره ونحو ذلك، فإِنَّ له من ينصره ويتولاه، وقد ورد في الصحيح أنه لما وقع ذلك جاء عمر إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقال يا رسول الله: ما يشقُّ عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلقتهنَّ فإنَّ الله معك وملائكته وجبريل، وأبو بكر وعمر معك فنزلت الآية موافقة لقول عمر {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} أي والملائكة الأبرار بعد حضرة الله، وجبريل، وصالح المؤمنين أعوانٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ على من عاداه، فماذا يفيد تظاهر أمرأتين على من هؤلاء أعوانه وأنصارهُ؟! أفرد {جِبْرِيلُ} بالذكر تعظيماً له، وإِظهاراً لمكانته عند الله تعالى فيكون قد ذُكر مرتين: مرةً بالإِفراد، ومرةً في العموم، ووسَّط {صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} بين جبريل والملائكة تشريفاً لهم، واعتناءً بهم، وإِشادةً بفضل الصلاح، وختم الآية بذكر {الْمَلَائِكَةُ} أعظم المخلوقات وجعلهم ظهراء للنبي عليه السلام ليكون أفخم بالنبي صلوات الله عليه، وعظم مكانته، والانتصار له، إِذ هم بمثابة جيشٍ جرارس، يملأ القفار، نصرةً للنبي المختار، فمن ذا الذي يستطيع أن يناوىء الرسول صلى الله عليه وسلم َ بعد ذلك؟ ثم خوَّف تعالى نساء النبي بقوله {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} قال المفسرون:{عسى} من الله واجبٌ أي حقٌّ واجب على الله إِن طلقكنَّ رسوله {أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} أي أن يعطيه عليه السلام بدلكُنَّ زوجاتٍ صالحاتٍ خيراً وأفضل منكنَّ قال القرطبي: هذا وعدٌ من الله تعالى لرسوله لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه نساءً خيراً منهن، والله عاملٌ بأنه لا يطلقهن، ولكنْ أخبر عن قدرته، على أن رسوله لو طلقهن، لأبدله خيراً منهن، تخويفاً لهنَّ.
. ثم وصف تعالى هؤلاء الزوجات اللواتي سيبدله بهنَّ فقال {مُسْلِمَاتٍ} أي خاضعات مستسلماتٍ لأمر الله تعالى وأمر رسوله {مُّؤْمِنَاتٍ} أي مصدقاتٍ بالله وبرسوله {قَانِتَاتٍ} أي مطيعات لما يُؤمرن به، مواظباتٍ على الطاعة {تَائِبَاتٍ} أي تائباتٍ من الذنوب، ولا يصررن على معصية {عَابِدَاتٍ} أي متعدباتٍ لله تعالى يكثرن العبادة، كأنَّ العدباة امتزجت بقلوبهن حتى صارت
سجيةً لهن {سَائِحَاتٍ} أي مسافراتٍ مهاجراتٍ إِلى الله ورسوله {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} أيم منهنَّ ثيباتٍ، ومنهم أبكاراً قال ابن كثير: قسمهن إِلى نوعين ليكون ذلك أشهى إِلى النفس، فإنَّ التنوع يبسط النفس، وإِنما دخلت واو العطف على هنا {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} للتنويع والتقسيم، ولو سقطت لاختل المعنى، لأن الثيوبة والبكارة لا يجتمعان، فتدبر سرَّ القرآن. . ولما وعظ نساء الرسول موعظةً خاصة، أتبع ذلك بموعظةٍ للمؤمنين فقال {ياأيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} أي يا من صدقتم بالله ورسوله وأسلمتم وجوهكم لله، احفظوا أنفسكم، وصونوا أزواجكم وأولادكم، من نارٍ حامية مستعرة، وذلك بترك المعاصي وفعل الطاعات، وبتأديبهم وتعليمهم قال مجاهد: أي اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله وق لالخازن: أي مروهم بالخير، وانهوهم عن الشر، وعلموهم وأدبوهم حتى تقوهم بذلك من النار، والمراد بالأهل النساءُ والأولاد وما ألحق بهما {وَقُودُهَا الناس والحجارة} أي حطبها الذي تُسعَّر به نار جهنم هو الخلائق والحجارة قال المفسرون: أرد بالحجارة حجارة الكبريت، لأنها أشد الأشياء حراً، وأسرع اتِّقاداً، وعنى بذلك أنها مفرطة الحرارة، تتقد بما ذكر، لا كنار الدنيا تتقد بالحطب ونحوه قال ابن مسعود: حطبها الذي يلقى فيها بنو آدم، وحجارةٌ من كبريت، أنتن من الجيفة {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} أي على هذه النار زبانيةٌ غلاظ القلوب، لا يرحمون أحداً، مكلفون بتعذيب الكفار قال القرطبي: المراد بالملائكة الزبانية، وهم غلاظ القولب لا يرحمون إِذا استرحموا، لأنهم خلقوا من الغضب، وحُبّب إِليهم عذاب الخلق كما حُبب لبني آدم أكل الطعام والشراب {لَاّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ} أي لا يعصون أمر الله بحالٍ من الأحوال {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي وينفِّذون الأوامر بدون إِمهال ولا تأخير.
. ثم يقال للكفار عند دخولهم النار {ياأيها الذين كَفَرُواْ لَا تَعْتَذِرُواْ اليوم} أي لا تعتذروا عن ذنوبكم وإِجرامكم، فلا ينفعكم اليوم الاعتذار، لأنه قد قُدّم إِليكم الإِنذار والإِعذار {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إِنما تنالون جزاء أعمالكم القبيحة، ولا تظلمون شيئاً كقوله تعالى {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} [غافر: 17] ثم دعا المؤمنين إِلى التوبة الصادقة الناصحة فقال {ياأيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} أي توبوا إِلى الله من ذنوبكم توبةً صادقةً خالصة، بالغةً في النصح الغاية القصوى، سئل عمر عن التوبة النصوح فقال: هي أن يتوب ثم لا يعود إِلى الذنب، كما لا يعود اللبن إِلى الضَّرْع قال العلماء: التوبة النصوح هي التي جمعت ثلاثة شروط: الإِقلاع عن الذنب، والندم على ما حدث، والعزم على عدم العودة إِليه، وإِن كان الحق
لآدمي زيد شرط رابع وهو: ردٌّ المظالم لأصحابها {عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي لعل الله يرحمكم فيمحو عنكم ذنوبكم قال المفسرون: «عسى» من الله واجبة بمنزلة التحقيق، وهذا إِطماعٌ من الله لعباده في قبول التوبة، تفضلاً منه وتكرماً، لأن العظيم إِذا وعد وَفَّى، وعادة الملوك أنهم إِذا أرادوا فعلا قالوا «عسى» فهو بمنزلة المحقق {وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي ويدخلكم في الآخرة حدائق وبساتين ناضرة، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {يَوْمَ لَا يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ} أي يوم لا يفصح الله النبي وأتباعه المؤمنين أمام الكفار، بل يعزهم ويكرمهم قال أبو السعود: وفيه تعريضٌ بمن أخزاهم اللهُ تعالى من أهل الكفار والفسوق {نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} أي نور هؤلاء المؤمنين يضيء لهم على الصراط، ويسطع أمامهم وخلفهم وعن أيمانهم وشمائلهم، كإِضاءة القمر في سواد الليل {يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} أي يدعون الله قائلين: يا ربنا أكمل علينا هذا النور وأدمه لنا، ولا تتركنا نتخبط في الظلمات قال ابن عباس: هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين، يدعون ربهم به إِشفاقاً حتى يصلوا إِلى الجنة {واغفر لَنَآ} أي وامح عنا ما فرط من الذنوب {إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي إنك أنت القادر على كل شيء، من المغفرة والعقاب، والرحمة والعذاب. . ثم أمر تعالى بجهاد أعداء الله من الكفرة والمنافقين فقال {ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين} أي جاهد الكفار بالسيف والسِّنان، والمنافقين بالحجة والبرهان، لأن المنافقين يظهرون الإِيمان، فيهم مسلمون ظاهراً فلذلك لم يؤمر عليه الصلاة والسلام ُ بقتالهم {واغلظ عَلَيْهِمْ} أي وشدِّد عليهم في الخطاب، ولا تعاملهم بالرأفة واللين، إِرعاباً وإِذلالاً لهم، لتنكسر صلابتهم وتلين شكيمتهم {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي ومستقرهم في الآخرة جهنم {وَبِئْسَ المصير} أي وبئست جهنم مستقراً ومصيراً للمجرمين.
. ثم ضرب الله تعالى مثلاً للكفار في عدم انتفاعهم بصلة القرابة أو المصاهرة أو النكاح، لأن الأسباب لكها تنقطع يوم القيامة ولا ينفع إِلا العمل الصالح فقال {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ} أي مثلَّل تعالى للكفار في عدم استفادتهم بقرابة المؤمنين، بحال امرأة نوحٍ وامرأة لوط {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} أي كانتا في عصمة نبيين عظيمين هما «نوح و» لوط «عليهما السلام، وإِنما وصفهما بالعبودية تشريفاً وتكريماً لهما بإِضافتهما إِليه تعالى {فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً} أي فخانت كل واحدة زوجها بالكفر وعدم الإِيمان، فلم يدفعا عن امرأتيهما
مع نبوتهما شيئاً من عذاب الله {وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين} أي وتقول لهما خزنة النار يوم القيامة: ادخلا نار جهنم مع سائر الداخلين، من الكفرة المجرمين قال القرطبي: ضرب تعالى هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يغني في الآخرة أحدٌ عن قريبٍ ولا نسيب، إِذا فرَّق بينهما الدين، كما لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما لما عصتا شيئاً من عذاب الله {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ} وهذا مثلٌ آخر للمؤمن في عدم تضرره ببقاء قريبه على الكفر إِذا كان هو مؤمناً قال أبو السعود: أي جعل حالها مثلاً لحال المؤمنين في أن وصلة الكفر لا تضرهم، حيث كانت في الدنيا تحت أعدى أعداء الله» فرعون «وهي في أعلى غرف الجنة قال المفسرون: واسمها» آسية بنت مزاحم «آمنت بموسى عليه السلام، فبلغ ذلك فرعون فأمر بقلتها، فنجَّاها الله من شره، فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو من أكفر الكافرين، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا ربِّ العالمين {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة} أي حين دعت ربها قائلةً: يا ربِّ اجعل لي قصراً مشيداً بجوار رحمتك في جنة النعيم قال بعض العلماء: ما أحسن هذا الكلام فقد اختارت الجار قبل الدار حيث قالت {ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة} فهي تطمع في جوار الله قبل طمعها في القصور، وفي الآية دليل على إِيمانها وتصديقها بالبعث {وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} أي وأنقذني من كفر فرعون وطغيانه {وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} أي وأنقذني من الأقباط، أتباع فرعون الطاغين، قال الحسن: لما دعت بالنجاة نجَّاها الله تعالى أكرم نجاة، فرفعها إِلى الجنة تأكل وتشرب وتتنعم {وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ} أي ومريم ابنة عمران مثلٌ آخر في الإِيمان {التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي حفظت فرجها وصانته عن مقارنة الفواحش، فهي عفيفةٌ شريفة طاهرة، لا كما زعم اليهود عليهم لعنة الله، أنها زنت وأن ولدها عيسى ابن زنى {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} أي فنفخ رسولنا جبريل في فتحة جيبها، فوصل أثر ذلك إِلى فرجها فحملت بعيسى قال ابن كثير: إن الله بعث جبريل فتمثل لها في صورة بشر، وأمره أن ينفخ بفيه في جيب درعها، فنزلت النفخة فولجت في فرجها فكان منه الحمل بعيسى عليه السلام {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} أي وآمنت بشرائع الله القدسية، وكتبه السماوية {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} أي وكانت من القوم المطيعين، العابدين لله عز وجل، وهو ثناءٌ عليها بكثرة العبادة والطاعة، والخشوع، وفي الحديث
البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الطباق بين حرَّم وأحلَّ {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ} وبين {عَرَّفَ. . وَأَعْرَضَ} وبين {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} وكلها من المسحنات البديعية التي تزيد في جمال الكلام.
2 -
الإلتفات من الغيبة إِلى الخطاب {إِن تَتُوبَآ إِلَى الله} زيادةً في اللوم والعتاب.
3 -
صيغ المبالغة {العليم الخبير} {نَّصُوحاً} {ظَهِيرٌ} {قَدِيرٌ} الخ.
4 -
ذكر العام بعد الخاص {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ} فقد خصَّ جبريل بالذكر تشريفاً، ثم ذكره ثانية مع العموم اعتناءً بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم َ ووسَّط صالح المؤمنين بين الملائكة المقربين.
5 -
المجاز المرسل {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} ذكر المسبِّب وأراد السبب أي لازموا على الطاعة لتقوا أنفسكم وأهليكم من عذاب الله.
6 -
المقابلة بين مصير أهل الإِيمان ومصير أهل الطغيان {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} و {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} .
7 -
التغليب {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} غلَّب الذكور على الإِناث.
8 -
السجع المرصَّع كأنه اللؤلؤ والمرجان، وهو كثير في القرآن فتدبره بإِمعان.
اللغَة: {طِبَاقاً} بعضها فوق بعض، من طابق النعل بالنعل إِذا قطعه بقدره وجعله فوقه {فُطُورٍ} شقوق وخروق، من فطر بمعنى شق قال الشاعر:
بنى لكمو بلا عَمدٍ سماءً
…
وسوَّاها فما فيها فُطور
{حَسِيرٌ} كليل من الحسور وهو الإِعياء يقال حسر البعير إِذا كلَّ وانقطع قال الشاعر:
نظرتُ إِليها بالمحصب من منى
…
فعاد إِليَّ الطَّرف وهو حسير
{شَهِيقاً} صوتاً منكراً كصوت الحمير {تَمَيَّزُ} تتقطع وينفصل بعضها من بعض، وأصلها تتميَّز حذفت احدى التاءين تخفيفاً {مَنَاكِبِهَا} أطرافها ونواحيها، وأصل المنكب: الجانب ومنه منكب الرجل {لَّجُّواْ} تمادوا وأصروا {تَمُورُ} ترتج وتضطرب {زُلْفَةً} قريباً منهم {غَوْراً} غائراً ذهباً في الأرض.
التفسِير: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} أي تمجَّد وتعالى اللهُ العلي الكبير، المفيض على المخلوقات من فنون الخيرات، الذي بقبضة قدرته ملك السموات والأرض، يتصرف فيهما كيف يشاء قال ابن عباس: بيده الملك، يعزُّ من يشاء ويذل من يشاء، ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وهو القادر على كل شيء له القدرة التامة، والتصرف الكامل في كل الأمور، من غير منازع ولا مدافع. . ثم بيَّن تعالى آثار قدرته، وجليل حكمته فقال {الذي خَلَقَ الموت والحياة} أي أوجد في الدنيا الحياة والموت، فأحيا من شاء وآمات من شاء، وهو الواحد القهار، وإِنما قدم الموت لأنه أهيب في النفوس وأفزع قال العلماء: ليس الموت فناءاً وانقطاعاً بالكلية عن الحياة، وإِنما هو انتقال من دار إِلى دار، ولهذا ثبت في الصحيح أن الميت يسمع، ويرى، ويُحسُّ وهو في قبره كما قال عليه السلام «إنَّ أحدكم إِذا وضع في قبره وتولَّىعنه أصحابه وإِنه ليسمع قرع نعالهم» الحديث وقال صلى الله عليه وسلم َ:«والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم لكنهم لا يجيبون» فالموتُ هو انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقتها للجسد {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي ليمتحنكم ويختبركم أيها الناس فيرى المحسن منكم من المسيء قال القرطبي: أي يعاملكم معالمة المختبر، فإن الله تعالى عالم بالمطيع والعاصي أزلاً {وَهُوَ العزيز} أي الغالبُ في انتقامه ممن عصاه {الغفور} لذنوب من تاب وأناب إِليه {الذي خَلَقَ سَبْعَ سماوات طِبَاقاً} أي لست ترى أيها السامع في خلق الرحمن البديع من نقص أو خلل، أو اختلاف أو تنافر، بل هي في غاية الإِحكام والإِتقان، وإِنما قال {فِي خَلْقِ الرحمن} ولم يقل «فيهن» تعظيماً لخلقهن، وتنبيهاً على باهر قدرة الله {فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} ؟ أي فكرّر النظر في السموات وردّده في خلقهن المحكم، هل ترى من شقوق وصدوع؟ {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي ثم ردِّد النظر مرةً بعد أُخرى، وانظر بعين الاعتبار في هذه السموات العجيبة، مرةً بعد مرة {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً} أي يرجع إِليك بصرك خاشعاً ذليلاً، لم ير ما تريد {وَهُوَ حَسِيرٌ} أي وهو كليلٌ متعب قد بلغ الغاية في الإِعياء قال الإِمام الفخر: المعنى إِنك إِذا كررت نظرك لم يرجع إِليك بصرك بما طلبته من وجود الخلل والعيب، بل رجع خاسئاً مبعداً لم ير ما يهوى مع الكلال والإِعياء وقال القرطبي: أي ارددك طرفك وقلّب البصر في السماء {كَرَّتَيْنِ} أي مرةً بعد أخرى، يرجع إِليك البصر خاشعاً صاغراً، متباعداً عن أن يرى شيئاً من ذلك العيب والخلل، وإنما أمر بالنظر كرتين، لأن
الإِنسان إِذا نظر في الشيء مرة لا يرى عيبه، ما لم ينظر إِليه مرة أخرى، والمراد بالكرتين التكثير بدليل قوله {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} وهو دليلٌ على كثرة النظر.
. ثم بيَّن تعالى ما زين به السماء من النجوم الزاهرة والكواكب الساطعة فقال {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ} أي خلق سبع سمواتٍ متطابقة، بعضها فوف بعض، كل سماء كالقبة للأُخرى {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ} اللام لام القسم و {قد} للتحقيق والمعنى والله لقد زينا السماء القريبة منكم أيها الناس بكواكب مضيئة ساطعة، هي السماء الأولى أقرب السموات إِلى الأرض قال المفسرون: سميت الكواكب مصابيح لإِضاءتها بالليل إضاء السراج {وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} أي وجعلنا لها فائدةً أُخرى وهي رجم أعدائكم الشياطين، الذين يسترقون السمع قال قتادة: خلق الله تعالى النجوم لثلاثٍ: زينةً للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها في البر والبحر وقال الخازن: فإِن قيل: كيف تكون زينةً للسماء، ورجوماً للشياطين، وكونها زينة يقتضي بقاءها، وكونها رجوماً يقتضي زوالها، فيكف الجمع بين هاتين الحالتين؟ فالجواب أنه ليس المراد أنهم يرمون بأجرام الكواكب، بل يجوز أن تنفصل من الكواكب شعلة وتُرمى الشياطين بتلك الشعلة وهي الشهب، ومثلها كمثل قبسٍ يؤخذ من النار وهي على حالها، أقول: ويؤيده قوله تعالى {إِلَاّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] فعلى هذا، الكواكب لا يرجم بها؛ وإِنما يكون الرجم بالشهب {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير} أي وهيأنا وأعددنا للشياطين في الآخرة بعد الإِحراق بالشهب في الدنيا العاذب المستعر، وهو النار الموقدة {وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} أي وللكافرين بربهم عذاب جهنم أيضاً، فليس العذاب مختصاً بالشياطين بل هو لكل كافر بالله من الإِنس والجن {وَبِئْسَ المصير} أي وبئست النار مرجعاً ومصيراً للكافرين. . ثم وصف تعالى جهنم وما فيها من العذاب والأهوال والأغلال فقال {إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا} أي إِذا قذفوا وطرحوا في جهنم كما يطرح الحطبُ في النار العظيمة {سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً} أي سمعوا لجهنم صوتاً منكراً فظيعاً كصوت الحمار، لشدة توقدها وغليانها قال ابن عباس: الشهيقُ لجهنم عند إِلقاء الكفار فيها، تشهق إِليهم شهقة البغلة للشعير، ثم تزفرُ زفرة لا يبقى أحدٌ إِلا خاف {وَهِيَ تَفُورُ} أي وهي تغلي بهم كما يغلي المرجل القدر من شدة الغضب ومن شدة اللهب قال مجاهد: تفور بهم كما يفور الحبُّ القليل في الماء الكثير {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} أي تكاد جهنم تتقطع وينفصل بعضها من بعض، من شدة غيظها وحنقها على أعداء الله {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} أي كلما طرح فيها جماعةٌ من الكفرة {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ} أي سألتهم الملائكة الموكلون على جنهم وهم الزبانية سؤال توبيخ وتقريع {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} أي ألم يأتكم رسولٌ ينذركم ويخوفكم من هذا اليوم الرهيب؟ قال المفسرون: وهذا السؤال زيادة لهم في الإِيلام، ليزدادوا حسرةً فوق حسرتهم، وعذاباً فوق عذابهم {قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} أي أجابوا نعم لقد جاءنا رسول منذر، وتلا علينا
آيات الله، ولكننا كذبناه وأنكرنا رسالته {وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ} أي وقلنا إِمعاناً في التكذيب وتمادياً في النكير: ما أنزل الله شيئاً من الوحي على أحدٍ قال الرازي: هذا اعترافٌ منهم بعدل الله، وإِقرار بأن الله أزاح عللهم ببعثة الرسل الكرام، ولكنهم كذبوا الرسل وقالوا ما نزَّل الله من شيء {إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} هذا من تتمة كلام الكفار أي ما أنتم يا معشر الرسل إِلا من بعدٍ عن الحق، وضلال واضح عميق {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} أي وقال الكفار: لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو كنا نسمع سماع طالب للحق، ملتمسٍ للهدى {مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير} أي ما كنا نستوجب الخلود في جهنم {فاعترفوا بِذَنبِهِمْ} أي فأقروا بإِجرامهم وتكذيبهم للرسل {فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير} أي فبعداً وهلاكاً لأهل النار قال ابن كثير: عادوا على أنفسهم بالملامة، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة، والجملة دعائية أي أبعدهم الله من رحمته وسحقهم سحقاً.
. ثم لما ذكرحال الأشقياء الكفار أتبعه بذكر حال السعداء الأبرار فقال {إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} أي يخافون ربهم ولم يروه، ويكفُّون عن المعاصي طلباً لمرضاة الله {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} أي لهم عند الله مغفرةٌ عظيمة لذنوبهم، وثواب جزيل لا يعلم قدره غير الله تعالى {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ} الخطاب لجميع الخلق أي أخفوا قولكم وكلامكم أيها الناس أو أعلنوا وأظهروه، فسواءٌ أخفيتموه أو أظهرتموه فإنَّ الله يعلمه {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي لأنه تعالى العالم بالخفايا ولنوايا، يعلم ما يخطر في القلوب، وما توسوس به الصدور قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فيخبره جبريل بما قالوا، فقال بعضهم لبعض: أسرُّوا قولكم حتى لا يسمع إِله محمد، فأخبره الله أنه لا تخفى عليه خافية {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} ؟ أي ألا يعلم الخالق مخلوقاته؟ كيف لا يعلم من خلق الأشياء وأوجدها سرَّ المخلوق وجهره؟ {وَهُوَ اللطيف الخبير} أي والحال أنه اللطيف بالعباد، الذي يعلم دقائق الأمور وغوامضها، الخبير الذي لا يعزب عن علمه شيء، فلا تتحرك ذرة، ولا تسكن أو تضطرب نفسٌ إِلا وعنده خبرها.
. ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته، وآثار فضله وأمتنانه على العباد فقال {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً} أي الله جل وعلا جعل لكم الأرض لينةً سهلة المسالك {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا} أي فاسلكوا أيها الناس في جوانبها وأطرافها قال ابن كثير: أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وتردّدوا في أقاليمها وأرجائها للمكاسب والتجارات {وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ} أي وانتفعوا بما أنعم به جل وعلا عليكم من أنواع الكسب والرزق قال الألوسي: كثيراً ما يُعبر عن وجوه الانتفاع بالأكل لأنه الأهم الأعم، وفي الآية دليل على ندب التسبب والكسب، وهو لا ينافي التوكل، فقد مرَّ عمر رضي الله عنه بقومٍ فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون فقال: بل أنتم المتواكلون، إِنما المتوكل رجلٌ ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على ربه عز وجل {وَإِلَيْهِ النشور} أي وإِليه تعالى المرجع بعد الموت والفناء، للحساب والجزاء. . ثم توعّد تعالى كفار مكة المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقال {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن
يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض} أي هل أمنتم يا معشر الكفار ربكم العليَّ الكبير أن يخسف بكم الأرض فيغيبكم في مجاهلها، بعد ما جعلها لكم ذلولاً تمشون في مناكبها؟ {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} أي فإِذا بها تضطرب وتهتز بكم هزاً شديداً عنيفاً قال الرازي: والمراد أنَّ الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها فيذهبون، والأرضُ فوقهم تمور فتلقيهم إِلى أسفل سافلين {أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السمآء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} أي أم أمنتم الله العليَّ الكبير أن يرسل عليكم حجارة من السماء، كما أرسلها على قوم لوطٍ وأصحاب الفيل؟ {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} أي فستعلمون عند معاينة العذاب، كيف يكون إِنذاري وعقابي للمكذبين!! وفيه وعيد وتهديدٌ شديد، وأصلها {نذيري} و {نكيري} حذفت الياء مراعاةً لرءوس الآيات {وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي ولقد كذب كفار الأمم السابقة رسلهم، كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود وأمثالهم، وهذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم َ وتهديد لقومه المشركين {فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} أي فكيف كان إنكاري عليهم بنزول العذاب؟ ألم يكن في غاية الهول والفظاعة؟ ثم لما حذَّرهم ما عسى أن يحل بهم من الخسف وإِرسال الحاصب، نبَّههم على الاعتبار بالطير، وما أحكم الله من خلقها، وعن عجز آلهتهم المزعومة عن خلق شيءٍ من ذلك فقال {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} أي أولم ينظروا نظر اعتبار الى الطيور فوقهم، باسطاتٍ أجنحتهن في الجو عند طيرانها وتحلقيها، {وَيَقْبِضْنَ} أي ويضممنها إِذا ضربن بها جنوبهن وقتاً بعد وقت؟ ولما كان الغالب هو فتح الجناحين فكأنه هو الثابت عبَّر عنه بالإِسم {صَافَّاتٍ} وكان القبض متجدداً عبَّر عنه بالفعل {وَيَقْبِضْنَ} قال في التسهيل: فإِن قيل: لِمَ لم يقل «قابضات» على طريقة {صَافَّاتٍ} ؟ فالجواب أن بسط الجناحين هو الأصل في الطيران، كما أن مدَّ الأطراف هو الأصل في السباحة، فذكره بصيغة اسم الفاعل {صَافَّاتٍ} لدوامه وكثرته، وأما قبضُ الجناحين فإِنما يفعله الطائر قليلاً للاستراحة والاستعانة، فلذلك ذكره بلفظ الفعل لقلته {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَاّ الرحمن} أي ما يمسكهن في الجو عن السقوط في حال البسط والقبض، إِلا الخالق الرحمن الذي وسعت رحمته كل ما في الأكوان قال الرازي: وذلك أنها مع ثقلها وضخامة أجسامها، لم يكن بقاؤها في جو الهواء إِلا بإِمساك الله وحفظه، وإِلهامها الى كيفية البسط والقبض المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} أي يعلم كيف يخلق، وكيف يبدع العجائب، بمقتضى عمله وحكمته.
. ثم وبَّخ تعالى المشركين في عبادتهم لما لا ينفع ولا يسمع فقال {أَمَّنْ هذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرحمن} ؟ أي من هذا الذي يستطيع أن يدفع عنكم الله من الأنصار والأعوان؟! قال ابن عباس: أي من ينصركم مني إِن أردتُ عذابكم؟ {إِنِ الكافرون إِلَاّ فِي غُرُورٍ} أي ما الكافرون في اعتقادهم أن آلهتهم تنفع أو تضرُّ إِلا في جهل عظيم، وضلال مبين، حيث ظنوا الأوهام حقائق، فاعتزوا بالأوثان والأصنام {أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} ؟ أي من هذا الذي يرزقكم غير الله إِن منع الله عنكم رزقه؟ والخطاب في الآيتين للكفار على وجه التوبيخ
والتهديد، وإِقامة الحجة عليهم {بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} أي بل تمادوا في الطغيان، وأصرّوا على العصيان، ونفروا عن الحق والإِيمان. . ثم ضرب تعالى مثلاً للكافر والمؤمن فقال:{أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ؟ أي هل من يمشي منكساً رأسه، لا يرى طريقه فهو يخبط خبط عشواءً، مثل الأعمى الذي يتعثر كل ساعة فيخرّ لوجهه، هل هذا أهدى أم من يمشي منتصب القامة، ويرى طريقه ولا يتعثر في خطواته، لأنه يسير على طريق بيّن واضح؟ قال المفسرون: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالكافر كالأعمى الماشي على غير هدى وبصيرة، لا يهتدي الى الطريق فيتعسف ولا يزال ينكب على وجهه، والمؤمن كالرجل السويّ الصحيح البصر، الماشي على الطريق المستقيم فهو آمن من لخبط والعثار، هذا مثلهما في الدنيا، وكذلك يكون حالهما في الآخرة، المؤمن يحشر يمشي سوياً على صراطٍ مستقيم، والكافر يحشر يمشي على وجهه إِلى دركات الجحيم قال قتادة: الكافر أكبَّ على معاصي الله فحشره الله يوم القيامة على وجهه، والمؤمن كان على الدين الواضح فحشره الله على الطريق السويّ يوم القيامة وقال ابن عباس: هو مثلٌ لمن سلك طريق الضلالة ولمن سلك طريق الهدى.
. ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه الجليلة، ليعرفوا قبح ما هم عليه من الكفر والإِشراك فقال {قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} أي قل لهم يا محمد: الله جل وعلا هو الذي أوجدكم من العدم، وأنعم عليكم بهذه النعم «السمع والبصر والعقل» وخصَّ هذه الجوارح بالذكر لأنها أداة العلم والفهم {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي قلَّما تشكرون ربكم على نعمه التي لا تُحصى قال الطبري: أي قليلاً ما تشكرون ربكم على هذه النعم التي أنعمها عليكم {قُلْ هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض} أي خلقكم وكثَّركم في الأرض {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وإِليه وحده مرجعكم للحساب والجزاء {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي متى يكون الحشر والجزاء الذي تعدوننا به؟ إِن كنتم صادقين فيما تخبروننا به من مجيء الساعة الحشر، وهذا استهزاء منهم {قُلْ إِنَّمَا العلم عِنْدَ الله} أي قل لهم يا محمد: علم وقت قيام الساعة ووقت العذاب عند الله تعالى لا يعمله غيره {وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي وما أنا إِلا رسولٌ منذر أخوفكم عذاب الله امتثالاً لأمره. . ثم أخبر تعالى عن حال المشركين في ذلك اليوم العصيب فقال {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} أي فلما رأوا العذاب قريباً منهم، وعاينوا أهوال القيامة {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} أي ظهرت على وجوههم آثار الاستياء، فعلتها الكآبة والغم والحزن، وغشيها
الذل والانكسار، قال افي البحر: أي ساءت رؤية العذاب وجوههم، وظهر فيها السوء والكآبة، كمن يساق الى القتل {وَقِيلَ هذا الذي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ} أي وقالت لهم الملائكة توبيخاً وتبكيتاً: هذا الذي كنتم تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه استهزاءً وتكذيباً {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذي يتمنون هلاكك: أخبروني إِن أماتني الله ومن معي من المؤمنين، أو رحمنا بتأخير آجالنا {فَمَن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فمن يحميكم من عذاب الله الأليم، ووضع لفظ {الكافرين} عوضاً عن الضمير «يجيركم» تشنيعاً وتسجيلاً عليهم بالكفر قال المفسرون: كان الكفار يتمنون هلاك النبي صلى الله عليه وسلم َ والمسلمين، فأمره الله أن يقول لهم: إِن أهلكني الله بالإِماتة وأهلك من معي، فأي راحةٍ وأي منفعة لكم فيه، ومن الذي يجيركم من عذاب الله إِذا نزل بكم؟ هل تظنون أن الأصنام تخلصكم وتنقذكم من العذاب الأليم؟ {قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} أي قل لهم: آمنا بالله الواحد الأحد، وعليه اعتمدنا في جميع أمورنا، لا على الأموال والرجال {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} أي فسوف تعلمون عن قريب من هو في الضلالة نحن أم أنتم؟ وفيه تهديد للمشركين {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً} أي قل لهم يا محمد: أخبروني إِذا صار الماء غائراً ذاهباً في أعماق الأرض، بحيث لا تستطيعون إِخراجه {فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} أي فمن الذي يخرجه لكم حتى يكون ظاهراً جارياً على وجه الأرض؟ هل يأتيكم غير الله به؟ فلم تشركون مع الخالق الرازق غيره من الأصنام والأوثان؟
البَلَاغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
الطباق بين {الموت.
. والحياة} وبين {وَأَسِرُّواْ أَوِ اجهروا} وبين {صَافَّاتٍ. . وَيَقْبِضْنَ} لأن المعنى صافات وقابضات.
2 -
وضع الموصول للتفخيم والتعظيم {الذي بِيَدِهِ الملك} أي له الملك السلطان، والتصرف في الأكوان.
3 -
الإِطناب بتكرار الجملة مرتين زيادة في التذكير والتنبيه {فارجع البصر. . ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} وكذلك {مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير. . فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير} .
4 -
الاستفهام الإِنكاري للتقريع والتوبيخ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} ؟
5 -
المقابلة {وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} قابله بقوله {إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب لَهُم مَّغْفِرَةٌ} وهو من المحسنات البديعية.
6 -
الاستعارة المكنية {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} شبَّه جهنم في شدة غليانها ولهبها بإِنسان شديد الغيظ والحنق على عدوه يكاد يتقطع من شدة الغيظ، وحذف المشبه به ورمز إِليه بشيء من لوازمه وهو الغيظ الشديد بطريق الاستعارة المكنية.
7 -
الاستعارة التمثيلية {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ} هذا بطريق التمثيل للمؤمن والكافر، فالمؤمن من يمشي سوياً على صراط مستقيم، والكافر يمشي مكباً على وجهه إِلى طريق الجحيم، ويا لها من استعارة رائعة!!
8 -
السجع المرصَّع مراعاة لرءوس الآيات مثل {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} {فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} ؟ {بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} ومثل {إِنِ الكافرون إِلَاّ فِي غُرُورٍ} {فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} الخ.