الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الباب الثاني: قواعد خلط فيها الكوثري]
(
1)
1 -
رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي
تقدم في الفصل الثاني
(2)
قول مالك: "لا تأخذ العلم من أربعة، وخذ ممن سوى ذلك: لا تأخذ عن سفيه مُعْلن بالسَّفَه وإن كان أروى الناس. ولا تأخذ عن كذّاب يكذب في حديث الناس إذا جُرِّب عليه ذلك، وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
…
". أسنده الخطيب في "الكفاية" (ص 116) إلى مالك كما تقدم، ثم قال (ص 117): "باب في أن الكاذب في غيرِ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تُرَدُّ روايته - قد ذكرنا آنفًا قولَ مالك بن أنس. ويجب أن يقبل حديثه إذا ثبتت توبته". ولم يذكر ما يخالف مقالة مالك. وأسند (ص 23 - 24) إلى الشافعي: "
…
ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورًا، منها: أن يكون من حدَّثَ به ثقةً في دينه معروفًا بالصدق في حديثه
…
". وهذه العبارة ثابتة في "رسالة الشافعي"
(3)
.
وفي "لسان الميزان"(ج 1 ص 469)
(4)
: "قال ابن أبي حاتم عن أبيه أن يحيى بن المغيرة سأل جريرًا (ابن عبد الحميد) عن أخيه أنس فقال: قد
(1)
زيادة من المحقق، لأنه قد تقدم الباب الأول (ص 5)، وفيه الفصول الأربعة التي ذكرها المؤلف، وهذا هو الباب الثاني وفيه القواعد التي خلط الكوثري فيها.
(2)
(ص 15). ووقع في الأصل: "الثالث".
(3)
(ص 370).
(4)
(2/ 223).
سمع من هشام بن عروة، ولكنه يكذب في حديث الناس، فلا يُكْتَب عنه".
وفي "النخبة وشرحها"
(1)
: " (ثم الطعن) يكون بعشرة أشياء
…
ترتيبها على الأشدّ فالأشدّ في موجِب الردّ على سبيل التدلِّي
…
(إما أن يكون بكذب الراوي) في الحديث النبويّ
…
(أو تُهْمتِه بذلك)
…
وكذا مَن عُرِف بالكذب في كلامه وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث النبوي، وهو
(2)
دون الأول. (أو فحش غلطه)
…
(أو غفلته)
…
(أو فسقه)
…
(أو وهمه)
…
(أو مخالفته) أي الثقات
(3)
(أو جهالته)
…
(أو بدعته)
…
(أو سوء حفظه)
…
".
هذه النقول تعطي أن الكذب في الكلام تُرَدُّ به الرواية مطلقًا، وذلك يشمل الكذبة الواحدة التي لا يترتّب عليها ضرر ولا مفسدة. وقد ساق صاحب "الزواجر" الأحاديث في التشديد في الكذب ثم قال (ج 2 ص 169):"عَدُّ هذا [هو ما صرحوا به. قيل: لكنه مع الضرر ليس كبيرة مطلقًا، بل قد يكون كبيرة كالكذب على الأنبياء، وقد لا يكون ــ انتهى ــ. وفيه نظر بل الذي يتجه أنه حيث اشتدّ ضررُه بأن لا يحتمل عادة كان كبيرة. بل صرَّح الروياني في "البحر" بأنه كبيرة وإن لم يضر، فقال: مَن كذب قصدًا رُدّت شهادته وإن لم يضر بغيره، لأن الكذب حرام بكل حال؛ وروى فيه حديثًا. وظاهر الأحاديث السابقة أو صريحها يوافقه، وكأن وجه عُدولهم عن ذلك ابتلاء أكثر الناس به، فكان] كالغيبة على ما مرَّ فيها عند جماعة".
(1)
(ص 87 - 89 - ط. العتر).
(2)
في "النزهة": "وهذا".
(3)
في "النزهة": "للثقات".
أقول: لا يلزم من التسامح في الشاهد أن يُتسامح في الراوي لوجوه:
الأول: أن الرواية أقرب إلى حديث الناس من الشهادة، فإن الشهادة تترتب على خصومة، ويحتاج الشاهد إلى حضور مجلس الحكم، ويأتي باللفظ الخاص الذي لا يحتاج إليه في حديث الناس، ويتعرَّض للجرح فورًا. فمن جُرِّبت عليه كذبة في حديث الناس لا يترتب عليها ضرر، فخوفُ أن يجرَّه تساهلُه في ذلك إلى التساهل في الرواية أشدُّ من خوف أن يجرَّه إلى شهادة الزور.
الثاني: أن عماد الرواية الصدق، فمعقول أن يشدَّد فيها فيما يتعلق به ما لم يشدَّد في الشهادة. وقد خُفِّف في الرواية في غير ذلك ما لم يخفَّف في الشهادة. تقومُ الحجةُ برواية الواحد والعبد والمرأة وجالبِ منفعةٍ إلى نفسه أو أصله أو فرعه، أو ضررٍ على عدوّه ــ كما يأتي ــ بخلاف الشهادة. فلا يليق بعد ذلك أن يخفَّف في الرواية فيما يمسُّ عمادَها.
الثالث: أن الضرر الذي يترتب على الكذب في الرواية أشدُّ جدًّا من الضرر الذي يترتّب على شهادة الزور، فينبغي أن يكون الاحتياط للرواية آكد. وقد أجاز الحنفية قبول شهادة الفاسق دون روايته. والتخفيف في الرواية بما تقدّم من قيام الحجة بخبر الواحد وحده وغير ذلك لا ينافي كونها أولى بالاحتياط؛ لأن لذلك التخفيف حِكمًا أخرى، بل ذلك يقتضي أن لا يخفف فيها فيما عدا ذلك، فتزداد تخفيفًا على تخفيف.
الرابع: أن الرواية يختص بها قوم محصورون ينشؤون عادةً على العلم والدين والتحرُّز عن الكذب، والشهادة يحتاج فيها إلى جميع الناس؛ لأن المعاملات والحوادث التي تحتاج إلى الشهادة فيها تتفق لكل أحد، ولا
يحضرها غالبًا إلا أوساط الناس وعامتهم الذين ينشؤون على التساهل، فمعقولٌ أنه لو رُدَّت شهادةُ كلِّ من جُرِّبت عليه كذبة لضاعت حقوق كثيرة جدًّا، ولا كذلك الرواية. هذا كله في كذب يسير في حديث الناس لا تترتب عليه مفسدة.
فأما الكذب في رواية ما يتعلق بالدين ولو غير الحديث النبوي، فلا خفاء في إسقاط صاحبه؛ فإن الكذب في روايةِ أثرٍ عن صحابي قد يترتب عليه أن يحتج بذلك الأثر من يرى قول الصحابي حجة، ويحتج هو وغيره به على أن مثل ذلك القول ليس خرقًا للإجماع، ويستند إليه في فهم الكتاب والسنة، ويردّ به بعض أهل العلم حديثًا رواه ذاك الصحابي يخالف ذلك القول. ويأتي نحو ذلك في الكذب [في] رواية قولٍ عن تابعي، أو عالم ممن بعده، وأقلُّ ما في ذلك أن يقلّده العامي.
وهكذا الكذب في روايةِ تعديلٍ لبعض الرواة، فإنه يترتب عليها قبول أخبار ذلك الراوي، وقد يكون فيها أحاديث كثيرة غير صحيحة، فيترتب على هذا من الفساد أكثر مما يترتب على كذب في حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك الكذب في رواية الجرح، فقد يترتب عليها إسقاط أخبار كثيرة صحيحة، وذلك أشد من الكذب في حديث واحد. وهكذا الإخبار عن الرجل بما يقتضي جرحه. وهكذا الكذب في الجرح والتعديل كقوله:"هو ثقة"، "هو ضعيف"، أو نحو ذلك.
فالكذب في هذه الأبواب في معنى الكذب في الحديث النبوي أو قريب منه، وتترتب على ذلك مضارُّ شديدة ومفاسد عظيمة. فلا يتوهّم محلٌّ للتسمُّح فيه، على فرض أن بعضهم تسامح في حديث الناس فلم يجرح
الراوي بما قد يقع له فيه من كذب يسير لا يترتب عليه ضرر.
والأستاذ يرمي بعض أئمة السنة فمَن دونهم مِن ثقات الرواة بتعمّد الكذب في الرواية وفي الجرح والتعديل كذبًا يترتب عليه الضرر الشديد والفساد الكبير، ثم يزعم أنه إنما يقدح بذلك فيما لا يقبله هو منهم، فأما ما عداه فإنهم يكونون فيه عدولًا مقبولين ثقات مأمونين. وكأنه يقول: وإذا لزم أن يسقطوا البتة فليسقطوا جميعًا! وليت شعري مَن الذي يعادي أبا حنيفة؟ أمن يقتضي صنيعه أنه لا يمكن الذبُّ عنه إلا بمثل هذا الباطل، أم مَن يقول: يمكن المتحرِّي للحق أن يذبَّ عنه بدون ذلك؟
تنبيه:
ليس من الكذب ما يكون الخبر ظاهرًا في خلاف الواقع، محتملًا للواقع احتمالًا قريبًا، وهناك قرينة تدافع ذاك الظهور، بحيث إذا تدبرها السامعُ صار الخبر عنده محتملًا للمعنيين على السواء، كالمجمل الذي له ظاهر ووقت العمل به لم يجئ، وكالكلام المرخَّص فيه في الحرب، وكالتدليس، فإن المعروف بالتدليس لا يبقى قوله:"قال فلان" ــ ويسمي شيخًا له ــ ظاهرًا في الاتصال بل يكون محتملًا، وهكذا من عُرِف بالمزاح إذا مَزَح بكلمة يعرف الحاضرون أنه لم يُرِدْ بها ظاهرها، وإن كان فيهم من لا يعرف ذلك، إذا كان المقصود ملاطفته أو تأديبه على أن ينبَّه في المجلس. وهكذا فلتات الغضب، وكلمات التنفير عن الغلو ــ وقد مرت الإشارة إليها في الفصل الثالث
(1)
ــ، على فرض أنه وقع فيها ما يظهر منه خلاف الواقع.
(1)
(ص 20 - 32). ووقع في الأصل: "الثاني".
وقد بسطت هذه الأمور وما يشبهها في "رسالتي في أحكام الكذب"
(1)
.
فأما الخطأ والغلط، فمعلوم أنه لا يضرُّ وإن وقع في رواية الحديث النبوي، فإذا كثر من الراوي أو فحش قدَحَ في ضبطه ولم يقدح في صدقه وعدالته. والله الموفق.
* * * *
(1)
واسمها "إرشاد العامِه إلى الكذب وأحكامه" وهي مطبوعة ضمن هذا المشروع ــ قسم الفقه.