الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ص
37] 3 ــ رواية المبتدع
لا شبهة أن المبتدع إن خرج ببدعته عن الإسلام لم تقبل روايته، لأن من شرط قبول الرواية: الإسلام.
وأنه إن ظهر عناده، أو إسرافه في اتباع الهوى، والإعراض عن حجج الحق، ونحو ذلك مما هو أدلّ على وهن التدين من كثير من الكبائر كشرب الخمر وأخذ الربا، فليس بعدل فلا تقبل روايته؛ وشرط قبول الرواية: العدالة.
وأنه إن استحلَّ الكذب، فإما أن يكفر بذلك، وإما أن يفسق. فإن عذرناه فمِنْ شرط قبول الرواية: الصدق، فلا تقبل روايته.
وأن من تردّد أهلُ العلم فيه، فلم يتجه لهم أن يكفِّروه أو يفسِّقوه، ولا أن يعدِّلوه، فلا تقبل روايته، لأنه لم تثبت عدالته.
ويبقى النظر فيمن عدا هؤلاء. والمشهور الذي نقل ابن حبان والحاكم
(1)
إجماع أئمة السنة عليه أن المبتدع الداعية لا يُقبل البتة، وأما غير الداعية فكالسُّنّي.
واختلف المتأخرون في تعليل ردّ الداعية، والتحقيق إن شاء الله تعالى: أن ما اتفق أئمة السنة على أنها بدعة، فالداعية إليها الذي حقّه أن يسمى داعية لا يكون إلا من الأنواع الأولى، إن لم يتجه تكفيره اتجه تفسيقه، فإن لم يتجه تفسيقه فعلى الأقل لا تثبت عدالتُه.
(1)
كلام ابن حبان في "المجروحين": (3/ 63). وكلام الحاكم في "معرفة علوم الحديث"(ص 133).
وإلى هذا أشار مسلم في "مقدمة صحيحه"
(1)
إذ قال: "اعلم ــ وفقك الله ــ أن الواجب على كلّ أحدٍ عرفَ التمييزَ بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي منها إلا ما عَرف صحة مخارجه والسِّتارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان عن أهل التُّهَم والمعاندين من أهل البدع. والدليل على أن الذي قلنا في هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] وقال جل ثناؤه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. فدل بما ذكرنا من هذه الآي أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة. والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه فقد يجتمعان في أعظم معانيهما، إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم".
هذا، وإذا كانت حجج السنة بينةً، فالمخالف لها لا يكون إلا معاندًا، أو متبعًا للهوى معرضًا عن حجج الحق. واتباعُ الهوى والإعراضُ عن حجج الحق قد يفحش جدًّا حتى لا يحتمل أن يُعذَر صاحبه. فإن لم يجزم أهل العلم بعدم العذر، فعلى الأقل لا يمكنهم تعديل الرجل. وهذه حال الداعية الذي الكلام فيه، فإنه لولا أنه معاند، أو منقاد لهواه انقيادًا فاحشًا، معرض عن حجج الحقّ إعراضًا شديدًا؛ لكان أقلّ أحواله أن يحمله النظر في حجج الحقِّ على الارتياب في بدعته، فيخاف إن كان متدينًا أن يكون على ضلالة،
(1)
(1/ 8).
ويرجو أنه إن كان على ضلالة فعسى الله تبارك وتعالى أن يعذره. فإذا التفت إلى أهل السنة علم أنهم إن لم يكونوا أولى بالحق منه، فالأمر الذي لا ريب فيه أنهم أولى بالعذر منه، وأحقُّ إن كانوا على خطأ أن لا يضرَّهم ذلك؛ لأنهم إنما يتبعون الكتاب والسنة، ويحرصون على اتباع سبيل المؤمنين، ولزوم سراط المنعَم عليهم: النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وخيار السلف. فيقول في نفسه: هب أنهم على باطل، فلم يأتهم البلاء من اتباع الهوى وتتبع السبل الخارجة. ولا ريب أن من كانت هذه حاله فإنه لا يكفِّر أهلَ السنة ولا يضلِّلهم، ولا يحرص على إدخالهم في رأيه، بل يشغله الخوف على نفسه، فلا يكون داعية.
فأما غير الداعية؛ فقد مرَّ نقلُ الإجماع على أنه كالسُّنّي، إذا ثبتت عدالته قُبِلت روايته. وقد ثبت عن مالك ما يوافق ذلك، ومن أصحابه مَن ينقل عنه أنه لا يُروى عنه أيضًا، والعمل على الأول. وذهب بعضهم إلى أنه لا يُروى عنه إلا عند الحاجة، وهذا أمر مصلحي لا ينافي قيام الحجة بروايته بعد ثبوت عدالته. وحكى بعضُهم أن غير الداعية إذا روى ما فيه تقوية لبدعته لم يؤخَذ عنه
(1)
.
ولا ريب أن ذلك المرويّ إذا حَكَم أهل العلم ببطلانه فلا حاجة إلى روايته إلا لبيان حاله. ثم إن اقتضى جرح صاحبه بأن ترجّح أنه تعمّد الكذب أو أنه متهم بالكذب عند أئمة الحديث سقط صاحبه البتة، فلا يؤخذ عنه ذاك ولا غيره، وليس هذا خاصًّا بالمبتدع. وإن ترجّح أنه إنما أخطأ، فلا وجه
(1)
انظر للأقوال في المسألة "علوم الحديث"(ص 114 - 115) لابن الصلاح، و"فتح المغيث":(2/ 58 - 70).
لمؤاخذته بالخطأ. وإن ترجح صحة ذلك المروي، فلا وجه لعدم أخذه. نعم قد تدعو المصلحة إلى عدم روايته حيث يخشى أن يغترَّ بعض السامعين بظاهره، فيقع في البدعة.
قرأت في جزء قديم من "ثقات العجلي"
(1)
ما لفظه: "موسى الجهني قال جاءني عمرو بن قيس المُلائي وسفيان الثوري فقالا
(2)
: لا تحدّث بهذا الحديث بالكوفة أن النبي عليه السلام قال لعَليّ: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"
(3)
. كان في الكوفة جماعة يغلون في التشيّع ويدعون إلى الغلو، فَكَرِه عمرو بن قيس وسفيان أن يسمعوا هذا الحديث، فيحملوه على ما يوافق غلوَّهم، فيشتدّ شرُّهم.
وقد يمنع العالمُ طلبةَ الحديث عن أخذ مثل هذا الحديث، لعلمه أنهم إذا أخذوه ربما رووه حيث لا ينبغي أن يُروى. لكن هذا لا يختص بالمبتدع، وموسى الجهني ثقة فاضل لم يُنسب إلى بدعة.
هذا، وأول من نسب إليه هذا القول إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وكان هو نفسه مبتدعًا منحرفًا عن أمير المؤمنين عليّ، متشددًا في الطعن على المتشيِّعين، كما يأتي في القاعدة الآتية. للجوزجاني كتاب في الجرح والتعديل. قال في مقدمته
(4)
ــ كما نقله السخاوي في "فتح المغيث"
(1)
من هذا الجزء نسخة في المكتبة الآصفية (رقم 54 ـ رجال)، وانظر ترتيبه (2/ 183 - تحقيق البستوي).
(2)
الأصل: "فقال" والمثبت من كتاب العجلي.
(3)
أخرجه البخاري ومسلم.
(4)
(ص 11 - ت البستوي). واسم كتابه "الشجرة" وطبع باسم "أحوال الرجال".
(ص 142)
(1)
: "ومنهم زائغ عن الحق، صدوق اللهجة، قد جرى في الناس حديثُه، لكنه مخذول
(2)
في بدعته، مأمون في روايته، فهؤلاء ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يُعرف وليس بمنكر، إذا لم تقوَ به بدعتُه، فيتَّهمونه (؟ ) بذلك"
(3)
.
والجوزجاني فيه نَصْب، وهو مولع بالطعن في المتشيّعين كما مرّ، ويظهر أنه إنما يرمي بكلامه هذا إليهم، فإن في الكوفيين المنسوبين إلى التشيع جماعة أجلّة، اتفق أئمة السنة على توثيقهم، وحُسْن الثناء عليهم، وقبول رواياتهم، وتفضيلهم على كثير من الثقات الذين لم يُنسبوا إلى التشيُّع، حتى قيل لشعبة: حَدِّثنا عن ثقات أصحابك. فقال: إن حدثتكم عن ثقات أصحابي فإنما أحدثكم عن نفرٍ يسير من هذه الشيعة: الحكم بن عُتيبة، وسَلَمة بن كُهيل، وحبيب بن أبي ثابت، ومنصور
(4)
.
راجع تراجم هؤلاء في "التهذيب"
(5)
.
فكأنَّ الجوزجاني لما علم أنه لا سبيل إلى الطعن في هؤلاء وأمثالهم مطلقًا، حاول أن يتخلّص مما يكرهه من مرويّاتهم، وهو ما يتعلق بفضائل أهل البيت.
وعبارته المذكورة تعطي أن المبتدع الصادق اللهجة، المأمون في
(1)
(2/ 66 - ط السلفية بالهند).
(2)
في "الشجرة": "إذ كان مخذولًا".
(3)
في "الشجرة": "إذا لم يُقوِّ به بدعته، فيُتَّهم عند ذلك".
(4)
الخبر في "تقدمة الجرح والتعديل": (1/ 138).
(5)
(2/ 432 - 434 و 4/ 155 - 157 و 2/ 178 و 10/ 312 - 315) على التوالي.
الرواية، المقبول حديثه عند أهل السنة، إذا روى حديثًا معروفًا عند أهل السنة غير منكر عندهم، إلا أنه مما قد تَقوَى به بدعتُه، فإنه لا يؤخَذ وأنه يُتَّهم. فأما اختيار أن لا يؤخذ، فله وجه رعاية للمصلحة كما مرَّ. وأما أنه يُتَّهم راويه، فلا يظهر له وجه بعد اجتماع تلك الشرائط. إلا أن يكون المراد أنه قد يتهمه مَن عَرَف بدعته ولم يعرف صدقه وأمانته، ولم يعرف أن ذاك الحديث معروف غير منكر، فيسيء الظن به وبمروياته. ولا يبعد من الجوزجاني أن يصانع عما في نفسه بإظهار أنه إنما يحاول هذا المعنى، فبهذا تستقيم عبارتُه.
أما الحافظ ابن حجر، ففهم منها معنًى آخر قال في "النخبة وشرحها"
(1)
: "الأكثر على قبول غير الداعية، إلا أن يروي ما يقوِّي مذهبه، فيُرَدُّ على المذهب المختار. وبه صرح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ أبي داود والنسائي". وسيأتي الكلام معه إن شاء الله تعالى
(2)
.
ولابن قتيبة في كتاب "تأويل مختلف الحديث"
(3)
كلام حاصله أن المبتدع الصادق المقبول لا يُقبل منه ما يقوِّي بدعتَه، ويُقبل منه ما عدا ذلك. قال:"وإنما يَمنع من قبول قول الصادق فيما وافق نحلته وشاكل هواه لأن نفسه تريه أن الحقَّ فيما اعتقده، وأن القربة إلى الله عز وجل في تثبيته بكل وجه. ولا يؤمَن مع ذلك التحريف والزيادة والنقص". كذا قال، واحتجّ بأن شهادة العدل لا تُقبل لنفسه وأصله وفرعه. وقد مر الجواب عن ذلك
(4)
. ولا أدري كيف
(1)
(ص 104).
(2)
(ص 73 فما بعدها).
(3)
(ص 141).
(4)
(ص 58 - 59).
ينعت بالصادق من لا يؤمَن منه تعمدُ التحريف والزيادة والنقص؟ وإنما يستحق النعت بالصادق من يوثَق بتقواه، وبأنه مهما التبس عليه من الحق فلن يلتبس عليه أن الكذب ــ بأيّ وجه كان ــ منافٍ للتقوى، مجانبٌ للإيمان.
ولا ريب أن فيمن يتسم بالصلاح من المبتدعة ــ وأهل السنة ــ من يقع في الكذب إما تقحُّمًا في الباطل، وإما على زعم أنه لا حرج في الكذب في سبيل تثبيت الحق. ولا يختص ذلك بالعقائد، بل وقع فيما يتعلق بفروع الفقه وغيرها، كما يُعلَم من مراجعة كتب الموضوعات. وأعداءُ الإسلام وأعداءُ السنة يتشبثون بذلك في الطعن في السنة، كأنهم لا يعلمون أنه لم يزل في أخبار الناس في شؤون دنياهم الصدق والكذب، ولم تكن كثرة الكذب بمانعة من معرفة الصدق إما بيقين وإما بظن غالب يجزم به العقلاء ويبنون عليه أمورًا عظيمة. ولم يزل الناس يغُشُّون الأشياء النفيسة ويصنعون ما يشبهها كالذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر والسمن والعسل والحرير والخز والصوف وغيرها، ولم يَحُل ذلك دون معرفة الصحيح. والخالقُ الذي هيَّأ لعباده ما يحفظون به مصالح دنياهم هو الذي شرع لهم دين الإسلام، وتكفّل بحفظه إلى الأبد. وعنايتُه بحفظ الدين أشدّ وآكد، لأنه هو المقصود بالذات من هذه النشأة الدنيا، قال الله عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
ومن مارس أحوال الرواية وأخبار رواة السنة وأئمتها علم أن عناية الأئمة بحفظها وحراستها ونفي الباطل عنها والكشف عن دخائل الكذابين والمتهمين كانت أضعاف عناية الناس بأخبار دنياهم ومصالحها. وفي "تهذيب التهذيب"(1/ 152): "قال إسحاق بن إبراهيم: أخذ الرشيد
[زنديقًا، فأراد قتله، فقال: أين أنت من ألف حديث وضعتُها! فقال له: أين أنت يا عدوَّ الله من أبي إسحاق الفَزاري وابن المبارك ينخُلانها حرفًا حرفًا! "]
(1)
.
وقيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة. وتلا قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
(2)
[الحجر: 9]. والذكر يتناول السنة بمعناه، إن لم يتناولها بلفظه؛ بل يتناول العربية وكلّ ما يتوقّف عليه معرفة الحق. فإن المقصود من حفظ القرآن أن تبقى الحجةُ قائمةً والهدايةُ دائمةً إلى يوم القيامة، لأن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، والله عز وجل إنما خلق الخلق لعبادته، فلا يقطع عنهم طريق معرفتها. وانقطاعُ ذلك في هذه الحياة الدنيا انقطاعٌ لعلَّة بقائهم فيها.
قال العراقي في "شرح ألفيته"(ج 1 ص 267)
(3)
: "رُوِّينا عن سفيان قال: ما ستر الله أحدًا يكذب في الحديث. ورُوّينا عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: لو أن رجلا هَمَّ أن يكذب في الحديث لأسقطه الله. ورُوِّينا عن ابن المبارك قال: لو هَمَّ رجل في السَّحَر أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب".
والمقصود هنا أن من لا يؤمَن منه تعمّدُ التحريف والزيادة والنقص ــ على أيّ وجهٍ كان ــ فلم تثبت عدالتُه. فإن كان كلّ من اعتقد أمرًا ورأى أنه
(1)
ترك المؤلف باقي القصة بياضا فأكملناه من المصدر.
(2)
"تقدمة الجرح والتعديل": (1/ 3 و 2/ 18)، "التعديل والتجريح":(1/ 33).
(3)
(ص 124).
الحق وأن القُربة إلى الله تعالى في تثبيته لا يؤمَن منه ذلك، فليس في الدنيا ثقة. وهذا باطل قطعًا، فالحكم به على المبتدع إن قامت الحجة على خلافه بثبوت عدالته وصدقه وأمانته فباطل، وإلا وجب أن لا يحتجّ بخبره البتة، سواء أوافق بدعته أم خالفها.
والعدالة: "مَلَكة تمنع من اقتراف الكبائر
…
" وتعديل الشخص شهادةٌ له بحصول هذه المَلَكة، ولا تجوز الشهادة بذلك حتى يغلب على الظن غلبة واضحة حصولها له. وذلك يتضمن غلبة الظن بأن تلك المَلَكة تمنعه من تعمُد التحريف والزيادة والنقص، ومن غلب على الظن غلبةً يصح الجزم بها أنه لا يقع منه ذلك، فكيف لا يؤمَن أن يقع منه؟ ومن لا يؤمَن أن يقع منه ذلك، فلم يغلب على الظن أن له مَلَكةً تمنعه من ذلك. ومن خيف أن يغلبه ضربٌ من الهوى، فيوقعه في تعمُّد الكذب والتحريف، لم يؤمَن أن يغلبه ضرب آخر، وإن لم نشعر به. بل الضربُ الواحدُ من الهوى قد يوقع في أشياء يتراءى لنا أنها متضادة. فقد جاء أن موسى بن طريف الأسدي كان يرى رأي أهل الشام في الانحراف عن عَليّ رضي الله عنه، ويروي أحاديث منكرة في فضل عليّ، ويقول: "إني لأسخر بهم" يعني بالشيعة، راجع ترجمته في "لسان الميزان"
(1)
.
وروى محمد بن شجاع الثلجي الجهمي، عن حَبَّان بن هلال أحد الثقات الأثبات، عن حماد بن سلمة أحد أئمة السنة، عن أبي المهزِّم، عن أبي هريرة مرفوعًا:"إن الله خلق الفرس، فأجراها، فعرقت ثم خلق نفسه منها"
(2)
. وفي
(1)
(8/ 205).
(2)
أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات"(231).
"الميزان"
(1)
أن غرض الجهيمة من وضع هذا الحديث أن يستدلوا به على زعمهم أن ما جاء في القرآن من ذكر "نفس الله" عز وجل إنما المراد بها بعض مخلوقاته.
أقول: ولهم غرضان آخران:
أحدهما: التذرُّع بذلك إلى الطعن في حماد بن سلمة، كما يأتي في ترجمته
(2)
.
الثاني: التشنيع على أئمة السنة بأنهم يروون الأباطيل.
والشيعيُّ الذي لا يؤمَن أن يكذب في فضائل أهل البيت، لا يؤمَن أن يكذب في فضائل الصحابة على سبيل التقية، أو ليُري الناس أنه غير متشدّد في مذهبه، يُمهِّد بذلك لِيُقبَل منه ما يرويه مما يوافق مذهبه.
وعلى كلّ حال فابن قتيبة ــ على فضله ــ ليس هذا فنُّه، ولذلك لم يعرج أحد من أئمة الأصول والمصطلح على حكاية قوله ذلك فيما أعلم. والله الموفق.
وفي "فتح المغيث"(ص 140)
(3)
عن ابن دقيق العيد: "إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه إخمادًا لبدعته وإطفاءً لناره. وإن لم يوافقه أحد، ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده ــ مع ما وصفنا من صِدْقه وتحرّزه عن الكذب، واشتهاره بالتدين، وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته ــ فينبغي أن تقدَّم مصلحةُ تحصيلِ ذلك الحديث ونشرِ تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء ناره".
(1)
(5/ 24 - 25).
(2)
رقم (85).
(3)
(2/ 60 - 61) وكلام ابن دقيق العيد في كتابه "الاقتراح"(ص 294).
ويظهر أن تقييده بقوله: "وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته" إنما مغزاه: إذا كان فيه تقوية لبدعته لم تكن هناك مصلحة في نشره، بل المصلحة في عدم روايته، كما مرَّ. ويتأكد ذلك هنا بأن الفرض أنه تفرد به، وذلك يدعو إلى التثبت فيه. وإذا كان كلام ابن دقيق العيد محتملًا لهذا المعنى احتمالًا ظاهرًا، فلا يسوغ حمله على مقالة ابن قتيبة التي مرّ ما فيها.
وقال ابن حجر في "النخبة وشرحها"
(1)
: "الأكثر على قبول غير الداعية، إلا أن يروي ما يقوِّي مذهبه
(2)
فيُرَدُّ على المذهب المختار. وبه صرَّح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ أبي داود والنسائي
…
وما قاله متّجه، لأن العلة التي لها رُدَّ حديثُ الداعية واردة فيما إذا كان ظاهرُ المروي يوافق مذهبَ المبتدع، ولو لم يكن داعية. والله أعلم".
أقول: الضمير في قوله: "فيُرَدُّ" يعود فيما يظهر على المبتدع غير الداعية، أوقَعَ الردَّ على الراوي في مقابل إطلاق القبول عليه. وقد قال قبل ذلك:"والتحقيق أنه لا يُرَدُّ كلُّ مكفَّر ببدعة" والمراد برد الراوي: رد مروياته كلها. وقد يقال: يحتمل عود الضمير على المرويّ المقوّي لمذهبه، وعلى هذا فقد يفهم منه أنه يُقبل منه ما عداه، وقد يُشعِر بهذا استناد ابن حجر إلى قول الجوزجاني.
فأقول: إن كان معنى الردّ على هذا المعنى الثاني ترك رواية ذاك الحديث للمصلحة، وإن كان محكومًا بصحته؛ فهذا هو المعنى الذي تقدَّم أن به تستقيم عبارة الجوزجاني. وإن كان معناه رد ذاك الحديث اتهامًا
(1)
(ص 104).
(2)
في "النزهة": "بدعته".
لصاحبه، ويردُّ معه سائر رواياته؛ فهذا موافق للمعنى الأول، ولا تظهر موافقته لعبارة الجوزجاني. وإن كان معناه رد ذلك الحديث اتهامًا لرواية فيه، ومع ذلك يبقى مقبولًا فيما عداه؛ فليست عبارة الجوزجاني بصريحة في هذا ولا ظاهرة فيه كما مرَّ، وإنما هو قول ابن قتيبة.
وسياق كلام ابن حجر ــ ما عدا استناده إلى قول الجوزجاني ــ يدل على أن مقصوده ردّ الراوي مطلقًا، أو رد ذاك الحديث وسائر روايات راويه، وذلك لأمور، منها: أن ابن حجر صرَّح بأن العلة التي رد بها حديث الداعية واردة في هذا، وقد قدَّم أن العلة في الداعية هي "أن تزيين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه". ومن كانت هذه حاله فلم تثبت عدالته ــ كما تقدم ــ فيردّ مطلقًا. ومنها: أن هذه العلة اقتضت في الداعية الردّ مطلقًا فكذلك هنا، بل قد يقال على مقتضى كلام ابن حجر: هذا أولى، لأن الداعية يردّ مطلقًا، وإن لم يَروِ ما يوافق بدعته، وهذا قد روى.
هذا، وقد وثَّق أئمة الحديث جماعةً من المبتدعة، واحتجوا بأحاديثهم، وأخرجوها في الصحاح. ومن تتبع رواياتهم وجد فيها كثيرًا مما يوافق ظاهرُه بدَعَهم. وأهلُ العلم يتأوّلون تلك الأحاديث غير طاعنين فيها ببدعة راويها، ولا في راويها بروايته لها
(1)
. بل في رواية جماعة منهم أحاديث
(1)
كحديث مسلم [78] من طريق الأعمش، عن عدي بن ثابت، عن زر قال: قال علي: "والذي فَلَق الحبة وبرأ النَّسَمة، إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليَّ أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق". عديّ قال فيه ابن معين: "شيعي مفرط". وقال أبو حاتم: "صدوق وكان إمام مسجد الشيعة وقاصّهم". وعن الإمام أحمد: "ثقة إلا أنه كان يتشيع". وعن الدارقطني: "ثقة إلا أنه كان غاليًا في التشيع". ووثقه آخرون. ويقابل هذا رواية قيس بن أبي حازم عن عَمرو بن العاص: عهد النبي صلى الله عليه وسلم جهارًا غير سرٍّ يقول: "ألا إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين، إن لهم رحمًا سأبلها ببلالها". ورواه غندر عن شعبة بلفظ: "إن آل أبي
…
" ترك بياضًا، وهكذا أخرجه الشيخان. وقيس ناصبي منحرف عن علي رضي الله عنه. ولي في هذا كلام. [المؤلف].
ظاهرة جدًّا في موافقة بدعهم أو صريحة في ذلك إلا أن لها عللًا أخرى. ففي رواية الأعمش أحاديث كذلك ضعَّفها أهل العلم، بعضها بضعف بعض مَن فوق الأعمش في السند، وبعضها بالانقطاع، وبعضها بأن الأعمش لم يصرح بالسماع وهو مدلس. ومن هذا الأخير حديث في شأن معاوية ذكره البخاري في "تاريخه الصغير"(ص 68)
(1)
ووهَّنه بتدليس الأعمش، وهكذا في رواية عبد الرزاق وآخرين.
هذا، وقد مرَّ تحقيق علة رد الداعية، وتلك العلة ملازمة أن يكون بحيث يحق أن لا يؤمَن منه ما ينافي العدالة، فهذه العلة إن وردت في كل مبتدع روى ما يقوّي بدعته، ولو لم يكن داعية، وجب أن لا يُحتج بشيء مِن مرويات مَن كان كذلك، ولو فيما يوهن بدعته؛ وإلاّ ــ وهو الصواب ــ فلا يصح إطلاق الحكم، بل يدور مع العلة. فذاك المروي المقوِّي لبدعة راويه إما غير منكر، فلا وجه لرده، فضلًا عن ردّ راويه. وإما منكر، فحكم المنكر معروف، وهو أنه ضعيف. فأما راويه فإن اتجه الحمل عليه بما ينافي العدالة، كرميه بتعمّد الكذب أو اتهامه به، سقط البتة. وإن اتجه الحمل على غير ذلك، كالتدليس المغتفَر والوهم والخطأ، لم يجرح بذلك. وإن تردد
(1)
(2/ 802 - ط الرشد) والصحيح أنه التاريخ الأوسط طبع خطأ باسم "الصغير".
الناظر وقد ثبتت العدالة وجب القبول، وإلا أخذ بقول مَن هو أعرف منه، أو وقف. وقد مرَّ أوائلَ القاعدة الثانية
(1)
بيان ما يمكن أن يبلغه أهل العصر من التأهل للنظر، فلا تغفل.
وبما تقدم يتبين صحةُ إطلاق الأئمة قبولَ غير الداعية إذا ثبت صلاحُه وصدقه وأمانته. ويتبين أنهم إنما نصوا على ردّ المبتدع الداعية تنبيهًا على أنه لا يثبت له الشرط الشرعي للقبول، وهو ثبوت العدالة.
هذا كله تحقيق للقاعدة. فأما الأستاذ، فيكفينا أن نقول له: هب أنه اتجه أن لا يقبل من المبتدع الثقة ما فيه تقوية لبدعته، فغالب الذين طعنتَ فيهم هم من أهل السنة عند مخالفيك وأكثر موافقيك، والآراء التي تعدُّها هوى باطلًا، منها ما هو عندهم حق، ومنها ما يسلِّم بعضهم أنه ليس بحق ولكن لا يعدُّه بدعة. وسيأتي الكلام في الاعتقاديات والفقهيات، ويتبين المحقّ من المبطل إن شاء الله تعالى. وفي الحق ما يُغنيك لو قنعتَ به، كما مرت الإشارة إليه في الفصل الثاني. ومن لم يقنع بالحق أوشكَ أن يُحرَم نصيبَه منه، كالراوي يروي أحاديثَ صادقةً موافقةً لرأيه، ثم يكذب في حديث واحد، فيفضحه الله تعالى، فتسقط أحاديثه كلُّها! {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279].
والمتبادر من عبارة الجوزجاني أنه يرى أنهم أحقَّاء [ص 24] بأن يتهموا فيما يروونه من ذلك، وإن كان معروفًا غير منكر عند أهل السنة وعند الناصبة أيضًا، وكان راويه منهم صدوق اللهجة مأمونًا في روايته، قد اتفق أئمة السنة على توثيقه وقبول حديثه.
(1)
(ص 53).
وهذا كما ترى، فإن كون المروي معروفًا غير منكر كافٍ في دفع التهمة، فكيف إذا كان راويه كما ذكر؟
فإن كان هذا المتبادر هو مراد الجوزجاني، فلا يخفى بُطلانُه، ويقال له: أما أن نتهم الثقات بالكذب في الروايات، فلا سبيل إليه، ولكن لا مانع أن نتهمهم بما لا ينافي العدالة إذا اقتضى الحال ذلك، ونبدأ بك أيها المبتدع، فنتهمك في رأيك هذا.
ولولا قوله: "ما يعرف وليس بمنكر" لقلنا: إنه أراد ما يشكوه من بعضهم، كالأعمش وأبي إسحاق السبيعي من تدليس المنكرات، فيكون أراد المنع من رواية ذلك؛ لاتهام الراوي بأنه سمعه ممن ليس بثقة فدلَّسَه.
ولولا ذِكْره الاتهام، لقلنا: لم يُرِد الحكم ببطلان ما منع من أخذه، فإنه إذا لم يكن له علة فهو صحيح ضرورةَ أنه معروف غير منكر، وأن راويه صدوق اللهجة، مأمون الرواية، مقبول عند أئمة السنة، ولكن منع من أخذه إرغامًا للمبتدع بأن لا يروى عنه ما يحبّ أن يروي، مع أنه لا حاجة إلى روايته لوجهين:
الأول: أنه معروف من غير طريقه.
الثاني: أنه يتعلق ببدعته، والمصلحة تقضي بعدم رواية ذلك، ولو عن السّنّي.
ذكر العجلي ــ كما في جزء قديم من "ثقاته"
(1)
ــ: عن موسى الجهني قال: جاء عَمرو بن قيس المُلائي وسفيان الثوري، فقالا: لا تحدِّث بهذا
(1)
انظر ترتيبه: (2/ 183 ــ تحقيق البستوي). وانظر (ص 156) حاشية (1).
الحديث في الكوفة: أن النبي عليه السلام قال لعلي: "أنت مِنّي بمنزلة هارون من موسى"
(1)
.
وإلى هذا أشار ابن دقيق العيد.
وقد يقال: لعل الجوزجاني لم يرد بذكر الاتهام إثبات أنهم أحقاء أن يتهموا، وإنما أراد أنه ينبغي أن لا يُروى ذلك عنهم خشية أن يسمعه من لا يعرف حالهم فيتهمهم، فيضر ذلك بهم وبمروياتهم، أو يقال: لم يرد الاتهام القادح وإنما أراد ما يوقعه موافقة ظاهر الخبر لمذهب راويه من الارتياب، وذلك كما إذا شهد رجلان لأخيهما، فإن القاضي يرتاب في شهادتهما، وقد يبقى أثر الريبة بعد أن يُعدَّلا، فكما أن للقاضي أن يقول للمدَّعي: زدني شهودًا، وإن كان إذا لم يجد المدعي غير أخويه يلزم القاضي أن يقضي بشهادتهما.
وإذا سمى المدّعي شهودَه قبل أن يحضرهم، فسمى أخويه ورجالًا آخرين، فللقاضي أن يقول له: جئني بالذين سميتهم غير أخويك. فكذلك لأهل الحديث أن يعرضوا عما يرويه المبتدع الثقة مما يوافق ظاهره بدعته؛ لأن ذاك الارتياب ــ وإن كان لا ينافي ثبوت الخبر ــ قد أوقع فيه بعض الوهن، ومع ذلك فلا داعي إلى روايته، إذ الغرض أنه إنما يقضي بظاهره موافقة بدعة الراوي، فليس في روايته إلا مساعدة تلك البدعة، فيحتاج أهل السنة إلى تأويله وصرفه عن ظاهره، فالأولى أن لا يُروى رأسًا.
وهذا المعنى في نظري أحسن ما تُحْمَل عليه عبارة الجوزجاني.
(1)
أخرجه البخاري (3706)، ومسلم (2404) من حديث سعد بن أبي وقاص.
وقد يحمل كلامه على معنى أن من أتى منهم بمنكر، أو بما يقوِّي به بدعته ــ وحقه أن يتهم فيه ــ فإنه يُترك ألبتة، ولا يُروى عنه ذلك الحديث، ولا غيره؛ لخروجه بذلك عن حَدِّ أن يكون صدوق اللهجة مأمونًا في روايته، ويأتي عن ابن حجر ما يظهر منه أنه حمل عبارة الجوزجاني على هذا المعنى.
[ص 27] هذا والمنقول عن كبار أئمة السنة في شأن المبتدع إنما هو الامتناع والمنع من السماع منه والرواية عنه، وأكثرهم يخصُّون ذلك بالداعية، ومع ذلك فقد روى بعضُهم عمن جاء أنه كان داعية، ولم أرَ في نصوصهم ما يبين العلة، واختلف من بعدهم؛ فمنهم من قال: إن العلة هي كراهية ترويج البدعة، وعلى هذا فما دعت الحاجةُ إلى روايته عن المبتدع، فينبغي أن يروى عنه، كما مرَّ عن ابن دقيق العيد
(1)
.
وهذه العلة إنما تَقْوَى في الداعية؛ لأن أهل العلم إذا لم يمتنعوا ويمنعوا الناس من السماع منه، قَصَده الناسُ ليسمعوا منه، فدعاهم إلى بدعته ورغَّبهم فيها، وإذا لم يمتنع أهل العلم ويمنعوا الناس من الرواية عن الداعية لم يمتنع الناس من قصده، أو قصد مثله للسماع منه.
[ص 28] ومنهم من قال: إن العلة هي أن المبتدع فاسق، وكثير من أهل العلم يستبعدون هذا بأن المبتدع قد يكون مخطئًا، غير مقصِّر تقصيرًا يعتدّ به، وقد قال الله عز وجل:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، في آيات أخرى.
(1)
(ص 72).
وأسلم ما يجاب به عن هذا: أن حجج السنة في العقائد ونحوها ظاهرة، فالمبتدع إما غير معتدٍّ بها، كما يقول غُلاة المتكلمين: إن النصوص القرآنية والسنية لا تصلح حجة في صفات الله عز وجل، ونحوها من العقائد، وإما متهاون بها مسرف في إيثار هواه إيثارًا شديدًا لا يُعْذَر فيه، فإن لم يظهر كفرُه فعلى الأقل يتبين فسقه.
أقول: ولك أن تنزل عن هذا فتقول: فإن لم يتبين فسقه فعلى الأقل لا يوثَق بعدالته، فلا يمكن تعديله.
ومن يخص الداعية له أن يقول: قد يجوز أن تَقْوَى الشبهةُ في نفس من ليس بمؤثرٍ هواه إيثارًا شديدًا، ولكنه لا بد أن يبقى في نفسه تردد يحمله على أن يعذر مخالفيه فيما زاغ فيه، ويخشى أن يكون هو المخطئ لا هم، ويرى أنهم إن كانوا هم المخطئين فلم يأتهم ذلك من خارج، وإنما أتاهم من جهة وقوفهم عند ما فهموه من النصوص لقوة إيمانهم بها، واعتمادهم عليها.
فمن تعدَّى هذا الحدّ، وضلَّل أهلَ السنة، ودعا إلى بدعته فقد بان عناده، وانقطع عذرُ من يحاول أن يعذره. ويشير إلى هذا قول مسلم رحمه الله في "مقدمة صحيحه"
(1)
إذ قال: "اعلم ــ وفقك الله ــ أن الواجب على كل أحدٍ عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين: أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع.
والدليل على أن الذي قلنا في هذا هو اللازم دون ما خالفه: قول الله
(1)
(1/ 8).
تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
وقال جل ثناؤه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].
وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2].
فدلّ بما ذكرنا من هذه الآي أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة.
والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه، فقد يجتمعان في أعظم معانيهما، إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم".
فالمبتدع الذي يتضح عناده إما كافر، وإما فاسق، والذي لم يتضح عناده ولكنه حقيق بأن يتهم بذلك هو في معنى الفاسق؛ لأنه مع سوء حاله لا تثبت عدالته، والداعية الذي الكلام فيه واحدٌ من هذين ولا بدّ.
[ص 30] قد عَرَّف أهلُ العلم العدالة بأنها: "مَلَكَة تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة
…
"، زاد التقي السبكي: "وهوى النفس". وقال: "لا بدّ منه، فإن المتقي للكبائر وصغائر الخسة مع الرذائل المباحة قد يتبع هواه عند وجوده لشيء منها فيرتكبه، ولا عدالة لمن هو بهذه الصفة".
نقله المحليُّ في "شرح جمع الجوامع"
(1)
لابن السبكي، ثم ذكر أنه
(1)
(2/ 148 - 150 - مع حاشية البناني) وأشار المحلّي إلى أن هذه الزيادة موجودة في بعض نسخ "جمع الجوامع"، وهي مأخوذة من والده تقي الدين السبكي. وهي ثابتة في نسخة الأصل لشرح ابن حلولو. "الضياء اللامع":(2/ 216 - 218).
صحيح في نفسه، ولكن لا حاجة إلى زيادة القيد، قال:"لأنَّ مَن عنده ملكة تمنعه عن اقتراف ما ذكر ينتفي عنه اتباع الهوى لشيء منه، وإلا لوقع في المهوي، فلا يكون عنده ملكة تمنع منه".
أقول: ما من إنسان إلا وله أهواء فيما ينافي العدالة، وإنما المحذور اتباع الهوى، ومقصود السبكي تنبيه المعدِّلين، فإنه قد يخفى على بعضهم معنى "الملكة"، فيكتفي في التعديل بأنه قد خَبَر صاحبه فلم يره ارتكب منافيًا للعدالة فيعدّله، ولعله لو تدبر لعلم أن لصاحبه هوى غالبًا، يخشى أن يحمله على ارتكاب منافي العدالة إذا احتاج إليه وتهيّأ له، ومتى كان الأمر كذلك فلم يغلب على ظنّ المعدّل حصول تلك المَلَكة، وهي العدالة لصاحبه.
بل إما أن يترجح عنده عدم حصولها، فيكون صاحبه ليس بعدل، وإما أن يرتاب في حصولها لصاحبه، فكيف يشهد بحصولها له؟
(1)
، وهذا هو معنى التعديل.
وأهل البدع كما سماهم السلف "أصحاب الأهواء"، واتِّباعُهم لأهوائهم في الجملة ظاهر، وإنما يبقى النظر في العمد والخطأ، ومَن ثبت تعمّده أو اتهمه بذلك عارفوه، لم يؤمَن كذبُه.
وفي الكفاية للخطيب (ص 123): "عن علي بن حرب الموصلي: كلّ صاحب هوى يكذب ولا يبالي".
(1)
بعده في الأصل: "بثبوت تلك الملكة لصاحبه" وهذه العبارة مما نسي المؤلف أن يضرب عليها، وبقاؤها يفسد المعنى.
يريد ــ والله أعلم ــ أنهم مظنة ذلك، فيُحْتَرَس من أحدهم حتى تتبيّن براءتُه.
وأما ما ذكروه في كلام النسائي في أحمد بن صالح، فإنهم لم يرموا النسائي بتعمّد الباطل، ولا اتهموه، ولا قالوا: إن ذلك لا يؤمَن منه، بل برّؤوه من ذلك، وإنما أقاموا الأدلة على خطائه.
ولمّا كان قد يُستغرب الخطأ من النسائي؛ لما عُرِف به من شدّة التحرّي والتثبت، ذكروا أنه كان ساخطًا على أحمد بن صالح، ومن شأن التسخُّط أن يورث سوء الظن، ومن وقفتَ على ما يقتضي بظاهره جرحه فإنك إن كنت حسن الظن به ارتبت في ذاك الظاهر، فاحتجت إلى التثبت، بل قد يقوى الظن فلا يؤثر عندك ذاك الظاهر، بل تجزم بحمله على ما لا ينافي ظنك. وإن كنت سيِّئ الظن به لم يكن هناك ما يدفع ذاك الظاهر، ولا ما يريب فيه، وحينئذٍ تبادر نفسك إلى قبوله.
وفي "ألفية العراقي"
(1)
:
وربما رُدّ كلامُ الجارحِ
…
كالنّسَئي في أحمدَ بنِ صالح
فربما كان لجرحٍ مخرجُ
…
غَطّى عليه السُّخْطُ حين يُحرجُ
قال ابن الصلاح
(2)
: "إلا أن ذلك لا يقع منهم تعمدًا للقدح مع العلم ببطلانه".
(1)
(ص 183).
(2)
في "علوم الحديث"(ص 391).
وقد شرحت القضية في ترجمة أحمد بن صالح
(1)
، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
* * * *
(1)
في كتاب "التنكيل" رقم (20).