المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[اهتمام الصحابة بالخشوع في الصلاة] - عمارة المساجد المعنوية وفضلها

[عبد العزيز الحميدي]

الفصل: ‌[اهتمام الصحابة بالخشوع في الصلاة]

اشتغل بها كثير من الفقهاء ولم يلتفتوا إلى أسرار العبادات وحكمها، غير أنه يلاحظ على كلام بشر الحافي غلبة النظر إلى أعمال القلوب على النظر إلى الأحكام الظاهرة حيث لم يعمل بسنة وضع اليدين إحداهما على الأخرى خشية أن لا يكون وصل في الخشوع إلى ما يعادل هذا الحكم الظاهر، والحقيقة أن المصلي مأمور بالأمرين: أن يخشع بقلبه، وأن يعمل بهذه السنة الظاهرة، فإذا جمع بينهما فهذا هو الكمال، أما إذا شعر الإنسان بتقصيره في الخشوع فلا يعني ذلك أن يعطل السنة الظاهرة، بل المطلوب منه أن يعمل بها وأن يجعل من مواظبته عليها مُذكَّرًا له ودافعًا إلى العمل بمقتضيها وهو خشوع القلب.

[اهتمام الصحابة بالخشوع في الصلاة]

اهتمام الصحابة بالخشوع في الصلاة مما يدل على اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بحضور القلب مع الله تعالى في الصلاة ما أخرجه الإمام أحمد من حديث عمر بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه أن عمارًا صلى ركعتين، فقال له عبد الرحمن بن الحارث: يا أبا اليقظان لا أراك إلا قد خففتهما، قال:

ص: 43

هل نقصت من حدودها شيئًا؟ قال: لا ولكن خففتهما، قال: إني أبادر بهما السهو، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن الرجل ليصلي ولعله أن لا يكون له من صلاته إلا عشرها أو تسعها أو ثمنها أو سبعها» حتى انتهى إلى آخر العد (1) .

فأبو اليقظان عمار بن ياسر رضي الله عنه يهتم بالخشوع واجتناب السهو بالفكر خارج الصلاة أكثر من اهتمامه بإطالة الصلاة وإكمال مظهرها، وذلك لأنه لا فائدة من كمال المظهر إذا وقع الخلل في الخبر.

ومن اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بعدم إشغال الفكر بغير الصلاة ما أخرجه الإمام مالك بن أنس من حديث عبد الله بن أبي بكر: أن أبا طلحة الأنصاري رضي الله عنه كان يصلي في حائطه (2) فطار دبسِي (3) فطفق يتردد يلتمس مخرجًا، فأعجبه ذلك فجعلَ يُتبعه بصره ساعة ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لا يدري كم صلى فقال: لقد أصابتني في مالي هذا فتنة، فجاء إلى رسول الله

(1) مسند أحمد 4 / 319. وأخرجه الإمام محمد بن نصر في كتابه تعليم الصلاة رقم 152.

(2)

أي بستانه.

(3)

هو طائر يشبه اليمامة.

ص: 44

صلى الله عليه وسلم فذكر له الذي أصابه في حائطه من الفتنة وقال: يا رسول الله هو صدقة لله فضعه حيث شئت (1) .

وكذلك أخرجه من حديث عبد الله بن أبي بكر أن رجلاً من الأنصار كان يصلي في حائط له بالقفّ - وادٍ من أودية المدينة - في زمن الثمر، والنخل قد ذللت (2) فهي مطوقة بثمرها، فأعجبه ما رأى من ثمرها، ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لا يدري كم صلى! فقال: لقد أصابتني في مالي هذا فتنة فجاء عثمان بن عفان وهو يومئذ خليفة، فذكر ذلك وقال: هو صدقة فاجعله في سُبل الخير، فباعه عثمان بخمسين ألفا، فسُمِّي ذلك المال الخمسين (3) .

وفي هذين الخبرين عبرة عظيمة في تضحية الصحابة رضي الله عنهم بأموالهم في سبيل المحافظة على دينهم، فليس من اليسير على الإنسان أن يتصدق ببستان كامل دفعة واحدة، وفي مقابل ماذا؟ في مقابل أنه انشغل به عن صلاة واحدة! !

فما أعظم قدر الصلاة في نظر الصحابة رضي الله عنهم!

(1) الموطأ، الصلاة رقم 69 (1 / 98) .

(2)

أي قد نضج ثمرها ومالت عراجينها من الثقل.

(3)

الموطأ، الصلاة، رقم 70 (1 / 99) .

ص: 45

وما أعمق نظرتهم إلى الحياة الآخرة!

وما أهون الدنيا في قلوبهم!

ومن أخبار الصحابة رضي الله عنه في اهتمامهم بالصلاة ما أخرجه محمد بن إسحاق بإسناده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع من نخل، فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين - يعني أخذها سبيَّة - فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً، أتى زوجها وكان غائبًا، فلما أخبر الخبر حلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دما، فخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا، فقال: من رجل يكلؤنا ليليتنا هذه؟ قال: فانتدب رجل من المهاجرين ورجل آخر من الأنصار فقالا: نحن يا رسول الله، قال: فكونا بفم الشعب، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد نزلوا إلى شعب من الوادي، وهما عمار بن ياسر وعباد بن بشر» فيما قال ابن هشام.

قال ابن إسحاق: «فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب قال الأنصاري للمهاجري: أيّ الليل تحب أن أكفيكه أولَّه أو آخره؟ قال: بل اكفني أولَّه. قال: فاضطجع المهاجريّ

ص: 46

فنام، وقام الأنصاري يصلي، قال: وأتى الرجل، فلما رأى شخص الرجل عرف أن ربيئة القوم - يعني طليعة القوم - قال: فرمى بسهم فوضعه فيه، قال: فنزعه ووضعه وثبت قائما، ثم رماه بسهم آخر فوضعه فيه، قال: فنزعه فوضعه، وثبت قائماً ثم عادله بالثالث فوضعه فيه، قال: فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد ثم أهبَّ صاحبه - يعني أيقظه من نومه - فقال: اجلس فقد أثبتُّ- يعني اثبتتني الجراحة - قال: فوثب فلما رآهما الرجل عرف أنهما قد نذرا به فهرب، قال: ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال: سبحان الله، أفلا أهببتني أوَّل ما رماك؟ قال: كنت في سورة اقرؤها فلم أحب أن اقطعها حتى أنفذها، فلما تابع علي الرمي ركعت فآذنتك، وايم الله لولا أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها» (1) .

ففي هذا الخبر مثل واضح على قوة الصبر واحتمال الأذى في سبيل الله تعالى لدى الصحابة رضي الله عنهم،

(1) مسيرة ابن هشام 3 / 245. وقال الحافظ ابن حجر: وأخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم - فتح الباري 1 / 281) .

ص: 47

كما أنه يدل على عنايتهم بالصلاة وأنها أغلى عندهم من أنفسهم وأموالهم، وهذه الصلاة التي عُمرت بالخشوع وكللت بحضور القلب مع الله تعالى هي الصلاة المؤثرة، التي أنجبت أبطالا عظماء كهؤلاء الصحابة الكرام، فعلى قدر ما يعطونه ربهم جل جلاله في الليل من الخضوع والتذلل وتجريد القلب لعبادته يعطيهم بالنهار من القوة على مكابدة الأعداء ومواجهة الشدائد، ولذلك لا نجد في الأمر غرابة إذا وجدناهم ينامون قليلاً من الليل ويواجهون عدوهم مع انبلاج الفجر بعزائم قوية وهمم عالية تفوق طاقة الكفار بأضعاف، مع أن أعداءهم قد أخذوا قسطًا أكبر بكثير من النوم والراحة، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم كما جاء في وصفهم " عُبَّاد في الليل فرسان في النهار ".

ونلاحظ في هذا الخبر أن عَبَّاد بن بشر قد أغفل من حساب فكره النظر إلى مستقبل أولاده وأهله وأمواله فيما إذا أصيب واستشهد، وإنما كان يوازن النظر حينما رماه ذلك الرجل بين أمرين: أن يكمل السورة التي بدأها أو أن يقطعها ليوقظ أخاه عمارًا حتى لا يضيَّع المهمة الكبيرة التي

ص: 48

أناطها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلا الأمرين من أمور الآخرة، وبهذا نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يحسبون للدنيا حسابًا في تفكيرهم وإنما كان تفكيرهم منحصرا في أعمال الآخرة.

ولقد كانت صلاة الصحابة رضي الله عنهم الكاملة في مظهرها ومخبرها سببًا مهمًّا من أسباب انتصارهم على أعدائهم، وذلك لأن الأعداء إذا رأوا المسلمين وهو يؤدون الصلاة بخشوع وانتظام يكبرون في أعينهم ويداخلهم شيء من الرعب منهم، فينهزمون معنويًّا قبل الدخول في قتال مع المسلمين.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما كان من المقوقس حاكم مصر، وقد أرسل رسلا إلى المسلمين القادمين لفتح مصر بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه ولما رجع الرسل إلى المقوقس سألهم عن المسلمين فقال: كيف رأيتموهم؟ قالوا: رأينا قومًا الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما جلوسهم على التراب وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يُعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا

ص: 49

السيد من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم واحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم، فقال عند ذلك المقوقس: والذي يُحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها وما يقوَى على قتال هؤلاء أحد (1) .

ونرى بهذا أن هؤلاء الرسل قد أثنوا على حياة الصحابة الاجتماعية والأخلاقية من الزهد في الدنيا والتواضع والمساواة بينهم في مظاهر الحياة.

كما أبدوا إعجابهم بانتظام المسلمين جميعًا في الصلاة حيث لا يتخلف منهم أحد، وهو مظهر مهم من مظاهر الانضباط عند المسلمين، كما أبدوا إعجابهم بما يقومون به بين يدي الصلاة من الوضوء، ثم في مظهر السكينة والخشوع الذي يعلو وجوه المؤمنين ويحكم جوارحهم وهم يؤدون الصلاة.

ومما يذكر من تأثير الصلاة على غير المسلمين ما كان من خبر البوذيين في فتوح السند حيث أسلم طائفة كبيرة

(1) النجوم الزاهرة للمؤرخ يوسف بن تغري بردي 1 / 10.

ص: 50

منهم على يد محمد بن القاسم الثقفي، وكانوا قد أرسلوا مندوبًا لهم لمعرفة خبر المسلمين فوافاهم وهم يصلون جماعة في خشوع مهيب فاندهش لمنظرهم وأخبر قومه بذلك فقالوا: إذا كان العرب هكذا يعبدون الرب ويطيعونه ولا يتركون صلاتهم حتى في أخطر المواقف وهم بهذا الشكل من الاجتماع فلا يمكن لنا مقاومتهم وهذا دليل على صحة دينهم.

وقد أرسلوا وفدا من زعمائهم فأعلنوا إسلامهم، وأسلم قومهم جميعا (1) .

ولا شك أن صورة المؤمنين وهم يستعدون للصلاة بالوضوء الذي هو مظهر من مظاهر الطهارة والنظافة التي يتفق العقلاء على أهميتها في حياة الإنسان، ثم انضباطهم جميعًا وراء إمام واحد، وخشوعهم جميعًا بحيث لا يلتفتون ولا يرفعون أبصارهم. . لا شك أن هذه الصورة تأسر أنظار الناس الذين يشاهدونها لأول مرة، وتخلب ألبابهم، ويدركون من خلال هذه الصورة الأخَّاذة أن هؤلاء المصلين وهم في هذا السكون الرهيب والخشوع

(1) موسوعة التاريخ الإسلامي لبلاد السند والبنجاب للدكتور عبد الله الطرازي 1 / 174 - 176.

ص: 51

المهيب، قد خرجوا عن التفكير في هذه الحياة التي يشترك في جواذبها عموم البشر إلى التفكير فيما وراء الحياة، فيدفع هؤلاء المتأملين ذلك إلى التساؤل عن الأمر المهم الذي شغل هؤلاء العظماء عن التفكير في أمور الدنيا، وعندها يدركون أن هذا الأمر المهم هو الخضوع لعظمة الله عز وجل ولذة مناجاته والشوقُ إلى لقائه والظفر بنعيمه في دار الخلود.

ومن هنا نعلم أن هذه الصلاة الجماعية بذلك المظهر الأخَّاذ من الخشوع والسكينة تعتبر أعلى مظهر من مظاهر الدعوة إلى الإسلام.

ولقد أثرت هذه المظاهر الأخلاقية على المقوقس فقال ما قال من الثناء على المسلمين والاعتراف بأنهم لو استقبلوا الجبال لأزالوها، وإنما قال ذلك بناء على تجاربه الحربية، وإدراكه بأن التفوق الأخلاقي يترتب عليه التفوق الحربي.

وقد يقال إن الأعداء الآن يسمعون أذان المسلمين ويشاهدون صلاتهم فلم لم تؤثر هذه المشاهد عليهم؟

فيقال: إن السلاح مهما كان قويًا ماضيًا فإن مفعوله

ص: 52

يضيع إذا كان بأيدي الضعفاء والجبناء، وقد كان أسلافنا المجاهدون من الصحابة والتابعين قاموا بعمل جهادي ضخم لفت الأنظار وأسر الأفكار، فأصبح عقلاء العالم آنذاك يتفحصون أولئك المجاهدين ويبحثون عن أسرار عظمتهم وقوتهم، أما العالم الإسلامي اليوم فقد أصبح ذيولا ذليلة للأعداء فأي قوة لهم تلفت الأنظار وأي تفوق لهم يأسر الأفكار؟ ! !

والخشوع من صفات المؤمنين الخلَّص، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم ينصفون به لقوة إيمانهم.

وحينما يضعف إيمان الأمة يرفع منهم الخشوع كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد بإسناده عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: «بينما نحن جلوس عند رسول الله عليه ذات يوم فنظر في السماء ثم قال: هذا أوان العلم أن يرفع، فقال له رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد: أيرفع العلم يا رسول الله وفينا كتاب الله تعالى وقد علمناه أبناءنا ونساءنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت لأظنك من أفقه أهل المدينة، ثم ذكر ضلالة أهل الكتابين وعندهما ما عندهما من كتاب الله عز وجل» .

ص: 53

قال: فلقي جبير بن نفير شداد بن أوس فحدثه بهذا الحديث عن عوف بن مالك، فقال: صدق عوف، ثم قال: وهل تدري ما رفع العلم؟ قال: قلت: لا أدري، قال: ذهاب أوعيته، قال: وهل تدري أي العلم أول يرفع؟ قال: قلت: لا أدري، قال: الخشوع حتى لا تكاد ترى خاشعًا (1) .

ونظرًا لكون الصحابة رضي الله عنهم يصلون بقلوبهم قبل أبدانهم فإن الصلاة كان لها منزلة عظيمة في قلوبهم، ومن الأخبار الرائعة في ذلك ما رُوي من أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه غشي عليه لما طُعن فحاول الصحابة إفاقته فلم يستطيعوا فقال المسور بن مخرمة رضي الله عنه: أيقظوه بالصلاة، فقال: فقال عمر: ها الله إذا، ولا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة.

ذكر محقق " طبقات الحنابلة " أن الحافظ الهيثمي ذكره في " مجمع الزوائد " وقال: رواه الطبراني في الأوسط

(1) المسند 6 / 26، وأخرجه الإمام الترمذي من حديث جبير بن نفير عن أبي الدرداء رضي الله عنه وفيه: وأخبرته بالذي قال فقال: صدق أبو الدرداء إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلا خاشعا - سنن الترمذي، رقم 2653، كتاب العلم، باب 5 (5 / 31) .

ص: 54

ورجاله رجال الصحيح (1) .

وإذا كانت الحقن الطبية لها أثر في تنبيه العقل وإزالة الغشاوة عنه فإن الصلاة لها أثر خاص في إزالة الغشاوة عن عقول المؤمنين السابقين بالخيرات.

(1) طبقات الحنابلة 1 / 353.

ص: 55