الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله عز وجل، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم. فخلَّى عنه.
قلت: ولا يُتهم من ألف في نصرة العقيدة السلفية -في كل عصر ومصر- إلا من عصبيٍّ، أو مفتر، أو قليل ورع، أو صاحب هوى ومراء، أو من حاسد. نعوذ بالله من الخذلان.
وهذا الحافظ رحمه الله قد ألف في الحصدة مؤلفات على مذهب السلف الصالح رضي الله عنهم، فله "كتاب التوحيد"، وقد قرأته -مخطوطًا- وما فيه إلا الأثر، وله "كتاب الأربعين من كلام رب العالمين" وكتاب "الصفات" وكتاب "اعتقاد الشافعي".
فرحمه الله من سلفي أثري متبع.
9 - ما ابتلي به الحافظ
ابتلي الحافظ رحمه الله كثيرًا، كغيره من أهل السنة، قال ابن قدامة:"وكمل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعداوتهم". فقد آذوه، وبلغ بهم الحال أن وشوا به إلى الحكام.
وبلغ الحال من بعضهم أن أرسل إلى الملك العادل يبذل في قتل الحافظ خمسة آلاف دينار!
ولكنه رحمه الله لم يكن ممن تأخذه في الله لومة لائم، وأكثر ما جر عليه البلاء قيامه بنشر أحاديث النزول والصفات، وكعادة أهل البدع والضلال في كل عصر ومصر، وموقفهم من الآثار ومتبعيها، فقد قاموا عليه، ورموه بالتجسيم، وأما هو رحمه الله فقد كان قويًا في الحق، يجهر به، ولم يكن يداريهم كما فعل غيره من علماء عصره.
قال الضياء: كان الحافظ يقرأ الحديث بدمشق، ويجتمع الخلق عليه، ويبكّي الناس، وينتفعون بمجالسه كثيرًا، فوقع الحسد عند المخالفين بدمشق، فجعلوا لهم وقتًا لقراءة الحديث، وجمعوا الناس (1)، فكان هذا ينام، وهذا بلا قلب، فلم تشتف قلوبهم بذلك!
فشرعوا في المكيدة؛ بأن أمروا الإِمام الناصح أبا الفرج؛ عبد الرحمن بن نجم بن الحنبلي الواعظ بأن يجلس يعظ في الجامع تحت قبة النسر بعد الجمعة وقت جلوس الحافظ.
فلما بلغني ذلك قلت لبعض أصحابنا: هذه مكيدة والله. ما ذلك لحبهم الناصح، وإنما يريدون أن يعملوا شيئًا.
فأول ذلك أن الحافظ والناصح أرادا أن يختلفا الوقت، ثم اتفقا على أن يجلس الناصح بعد صلاة الجمعة، ثم يجلس الحافظ بعد صلاة العصر، فلما كان بعض الأيام، والناصح قد فرغ من مجلسه، فدسوا له رجلًا ناقص العقل من بيت ابن عساكر (2)، فقال للناصح كلامًا معناه: إنك تقول الكذب على المنبر، فضرب ذلك الرجل وهرب فأتبع وخبّئ في الكَلاسة، فتمت لهم المكيدة بهذه الواقعة.
فمشوا إلى الوالي، وقالوا: هؤلاء الحنابلة ما قصدهم إلا الفتنة، واعتقادهم يخالف اعتقادنا.
(1) يعني: بغير رغبتهم في الحضور.
(2)
قال الذهبي في "السير"(20/ 568): "بلغنا أن الحافظ عبد الغني المقدسي بعد موت ابن عساكر نَفَّذَ من استعار له شيئًا من (تاريخ دمشق) فلما طالعه انبهر لسعة حفظ ابن عساكر، ويقال: ندم على تفويت السماع منه، فقد كان بين ابن عساكر وبين المقادسة واقع، رحم الله الجميع".
ثم إنهم جمعوا كبراءهم ومضوا إلى القلعة إلى الوالي، وقالوا: نشتهي أن يحضر الحافظ عبد الغني، وكان مشايخنا قد سمعوا بذلك، فانحدروا إلى دمشق؛ خالي الإِمام موفق الدين، وأخي الإِمام الشمس البخاري وجماعة الفقهاء، وقالوا: نحن نناظرهم.
وقالوا للحافظ: اقعد أنت لا تجئ؛ فإنك حادٌّ، ونحن نكفيك، فاتفق أنهم أرسلوا إلى الحافظ من القلعة وحده فأخذوه، ولم يعلم أصحابنا بذلك، فناظروه، وكان أجهلهم يغرى به، فاحتد.
وكانوا قد كتبوا شيئًا من اعتقاداتهم، وكتبوا خطوطهم فيه، وقالوا له: اكتب خطك، فأبى، ولم يفعل.
فقالوا للوالي: الفقهاء كلهم قد اتفقوا على شيء وهو يخالفهم، وكان الوالي لا يفهم شيئًا، فاستأذنوه في رفع منبره، فأرسلوا الأسرى، فرفعوا ما في جامع دمشق من منبر وخزانة ودرابزين. وقالوا: نريد أن لا تجعل في الجامع إلا صلاة أصحاب الشافعي، وكسروا منبر الحافظ، ومنعوه من الجلوس، ومنعوا أصحابنا من الصلاة في مقامهم في الجامع (1)، ففاتتهم صلاة الظهر!
ثم إن الناصح ابن الحنبلي جمع السوقة وغيرهم، وقال: إن لم يخلونا نصلي باختيارهم صلينا بغير اختيارهم، فبلغ ذلك القاضي (2) -وهو كان
(1) وذلك أن أصحاب كل مذهب! كانت لهم جماعتهم، وإمامهم، وكانوا لا يصلون جماعة واحدة، ولا يصلي بعضهم خلف بعض، بل في المسجد الواحد تقام أربع جماعات على عدد المذاهب الفقهية!! نعوذ بالله من الجهل والهوى وفرقة الكلمة، انظر التعليق على الحديث (161).
(2)
هو: محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن عبد العزيز القرشي قاضي دمشق، قال الحافظ ابن كثير في حوادث سنة (598 هـ): "ثم إنه خولط في عقله، فكان يعتريه شبه الصرع إلى أن =
صاحب الفتنة -فأذن لهم بالصلاة، وخاف أن يصلَّى بغير إذنه! وكان الحنفية قد حموا مقصورتهم بالجند!
ثم إن الحافظ ضاق صدره، ومضى إلى بعلبك، فأقام بها مدة يقرأ الحديث، وكان الملك العادل في بلاد الشرق، فقال أهل بعلبك للحافظ: إن اشتهيت جئنا معك إلى دمشق؛ نؤذي من أذاك، فقال: لا، ثم إنه توجه إلى مصر، ولم يعلم أصحابنا بسفره، فبقي مدة بنابلس، يقرأ الحديث.
وجاء شاب من أهل دمشق بفتاوى من أهلها إلى صاحب مصر الملك العزيز، ومعه كتب: أن الحنابلة يقولون كذا وكذا، مما يشنعون به ويفترونه عليهم، وكان ذلك الوقت قد خرج -أي: الملك- نحو الإسكندرية يتفرج، فقال: إذا رجعنا من هذه السفرة أخرجنا من بلادنا من يقول بهذه المقالة، فلم يرجع إلا ميتًا؛ فإنه عدا به الفرس خلف صيد، فشبّ به الفرس وسقط عليه، وخسف صدره، فأقيم ابنه صبي، فجاء الأفضل ابن صلاح الدين من صرخد وأخذ مصر، وعسكر وكرّ إلى دمشق، فلقي الحافظ عبد الغني في الطريق، فأكرمه إكرامًا كثيرًا، وبعث يوصي به بمصر.
فلما وصل الحافظ إلى مصر تلقي بالبشر والإكرام، وأقام بها يُسمع الحديث بمواضع منها وبالقاهرة، وقد كان بمصر كثير من المخالفين، لكن كانت رائحة السلطان تمنعهم من أذى الحافظ لو أرادوه.
ثم جاء الملك العادل، وأخذ مصر، وأكثر المخالفون عنده على الحافظ،
= توفي في شعبان من هذه السنة، ودفن بتربته بسفح قاسيون. ويقال: إن الحافظ عبد الغني دعا عليه، فحصل له هذا الداء العضال، ومات، وكذلك الخطيب الدولعي توفي فيها، وهما اللذان قاما على الحافظ عبد الغني، فماتا في هذه السنة، فكانا عبرة لغيرهما".
وسمعت أن بعضهم بذل في قتل الحافظ خمسة آلاف دينار، فاستدعي وأكرمه العادل، حتى قال الحافظ نفسه:
"والملك العادل اجتمعت به، وما رأيت منه إلا الجميل، فأقبل عليّ وقام لي، والتزمني، ودعوت له، ثم قلت: عندنا قصور هو الذي يوجب التقصير فقال: ما عندك لا تقصير ولا قصور، وذُكر أمر السنة، فقال: ما عندك شيء تعاب به، لا في الدين ولا الدنيا، ولا بد للناس من حاسدين".
فلما كان اليوم الثاني من دخوله عليه، إذا الأمراء مثل سركس وأزكش قد جاءوا إلى الحافظ، فقالوا: آمنا بكرامتك يا حافظ. وذكروا أن العادل قال: ما خفت من أحد ما خفت من هذا الرجل، فقلنا: أيها الملك! هذا رجل فقيه! أيش خفت منه؟ قال: لما دخل ما خيل إليّ إلا أنه سبع يريد أن يأكلني. فقلنا: هذه كرامة للحافظ.
ثم سافر العادل إلى دمشق، وبقي الحافظ بمصر، والمخالفون لا يتركون الكلام فيه، فلما أكثروا عزم الملك الكامل علي إخراجه من مصر.
واعتقل في دار سبع ليالى، فكان يقول: ما وجدت راحة بمصر مثل تلك الليالي وقال الشجاع ابن أبي زكريا الأمير: قال لي الملك الكامل يومًا: هاهنا رجل فقيه، قالوا: إنه كافر. قلت: لا أعرفه. قال: بلى. هو محدِّث. قلت: لعله الحافظ عبد الغني؟ قال: هذا هو. فقلت: أيها الملك! العلماء أحدهم يطلب الآخرة، والآخر يطلب الدنيا، وأنت هاهنا باب الدنيا، فهذا الرجل جاء إليك، أو أرسل إليك شفاعة، أو رقعة؛ يطلب منك شيئًا؟ قال: لا. فقلت: أيها الملك! والله هؤلاء القوم يحسدونه، فهل في هذه البلاد أرفع
منك؟ قال: لا. فقلت: هذا الرجل أرفع العلماء كما أنت أرفع الناس هاهنا. فقال: جزاك الله خيرًا كما عرفتني هذا.
تم إني أرسلت (1) رقعة إلى الملك الكامل أوصيه به، فأرسل إليّ: تجئ. فمضيت إليه، وإذا عنده جماعة، منهم شيخ الشيوخ - يعني: ابن حمويه - وعز الدين الزنجاني الأمير، فقال لي الملك: نحن في أمر الحافظ، فقلت: أيها الملك! القوم يحسدونه، ثم بيننا شيخ الشيوخ - وحلّفته-: هل سمعت من الحافظ كلامًا يخرج عن الإِسلام؟ فقال: لا والله. ما سمعت عنه إلا كل جميل وما رأيته قط.
ثم تكلم ابن الزنجاني، فمدح الحافظ مدحًا كثيرًا، ومدح تلامذته، وقال: أنا أعرفهم، فما رأيت مثلهم.
فقلت: وأنا أقول شيئًا آخر. فقال: ما هو؟ فقلت: لا يصل إليه شيء يكرهه حتى يقتل من الأكراد ثلاثة آلاف. فقال الملك الكامل: لا يؤذى الحافظ. فقلت: اكتب خطك بذلك، فكتب.
تم طلب من الحافظ أن يكتب اعتقاده، فكتب: أقول كذا لقول الله كذا، وأقول كذا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، حتى فرغ من المسائل التي يخالفونه فيها، فلما وقف عليها الملك الكامل، قال: أيش أقول في هذا، يقول بقول الله عز وجل وقول رسوله صلى الله عليه وسلم؟!
ومما ابتلي به ما وقع له في أصبهان
فقد كان الحافظ أبو نعيم أخذ علي الحافظ ابن منده أشياء في كتاب "معرفة الصحابة"، وكان الحافظ أبو موسى المديني يشتهي أن يأخذ علي أبي
(1) الكلام للأمير الشجاع.