المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الثاني ‌ ‌تاريخ الحجاب تعتبر قضية "الحجاب" جزءا من مقومات المرأة، مرتبطًا - عودة الحجاب - جـ ٣

[محمد إسماعيل المقدم]

الفصل: ‌ ‌الفصل الثاني ‌ ‌تاريخ الحجاب تعتبر قضية "الحجاب" جزءا من مقومات المرأة، مرتبطًا

‌الفصل الثاني

‌تاريخ الحجاب

تعتبر قضية "الحجاب" جزءا من مقومات المرأة، مرتبطًا بأوائل وجودها، إذ كانت بدايته مع الأبوين في الجنة حيث أسكنهما الله تعالى، يأكلان منها حيث شاءا إلا شجرة واحدة فوسوس لهما الشيطان حتى أكلا منها، قال تعالى:(فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ)[الأعراف: 22] ، ثم أهْبِطا إلى الأرض، وبدءا حياة جديدة، فأنزل الله عليهما اللباس مرة أخرى.

كما قال تعالى:

(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26] ) ،.

وقد حذر الله عز وجل بني آدم من فتنة الشيطان في موضوع هذا اللباس خصوصًا حتى لا يعيد معهم الكرَّة، فقال جل وعلا:

(يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)[الأعراف: 27] ،.

فماذا عن التطورات التاريخية لحجاب المرأة عند الأمم المختلفة، ونخص منها أهل الكتاب وعرب الجاهلية؟

الحجاب عند أهل الكتاب

من الأوهام الشائعة خاصة عند الغربيين أن حجاب النساء نظام ابتدعه الإسلام، وأنه لم يكن له وجود قبل الإسلام لا في جزيرة العرب، ولا في

ص: 81

غيرها، وكادت المرأة المحجبة عندهم أن تكون مرادفة للمرأة المسلمة، أو المرأة التركية (1) التي كانت تمثل الإسلام في نظرهم من خلال "تركيا" دار الخلافة، وهذا الوهم مما يبين مدى جهلهم لا بحقائق الإسلام نفسه فحسب، بل أيضا بحقائق التاريخ، ونصوص كتبهم الدينية التي يتداولونها، ويتعصبون لها، ولا يكلفون أنفسهم عناء قراءتها ومراجعتها، ونخص بالذكر التوراة، والإنجيل.

فمن يقرأ كتبهم يعلم بغير عناء كبير في البحث أن حجاب المرأة كان معروفا بين العبرانيين، من عهد إبراهيم عليه السلام، وظل معروفًا بينهم في أيام أنبيائهم جميعا، إلى ما بعد ظهور النصرانية (2) .

وقد تكررت الإشارة إلى البرقع في غير كتاب من كتب العهدين القديم والجديد (3) : ففي الأصحاح الرابع والعشرين من "سفر التكوين" عن

(1) اشتهر الحجاب في تركيا لا لأنه "تقليد" تركي كما يزعم المغالطون أو الواهمون، وإنما كمظهر من مظاهر تمسك التركيات بالإسلام، فالحجاب في تركيا كان إسلاميّا فحسب، والترك لم يعرفوه إلا من خلال إسلامهم؟ لأنهم أخذوه عن الشعوب التي تعلموا منها الإسلام، الذي يفرض على المرأة الحجاب، ومن ثم

كان الحجاب- بصورة من الصور- أصلا مرعيُّا في العالم الإسلامي كله- وليس في تركيا وحدها- خلال قرون متطاولة من الزمان.

انظر: "واقعنا المعاصر للأستاذ "محمد قطب " ص (157) .

وليس العجب من ترويج الكتاب الغربيين لهذه الفِرية أمثال أرنولد توينبي" صاحب كتاب "مدخل تاريخي للدين"، وذلك لأن هؤلاء الغربيين جميعا كانت،

لهم مهمة معروفة عندما كتبوا هذا في حق الأتراك، ولكن العجب من أناس يدعون العلم والمعرفة وهم مقلدة لهؤلاء الغربيين حتى في أكاذيبهم الصارخة مثل دعواهم أن الحجاب بدعة تركية (!) .

(2)

وهنا نسأل: هل يحتمل عند "توينبي" وأذنابه أن يكون الأتراك هم الذين كتبوا لليهود والنصارى كتابهم المقدس عندهم؟

(3)

أنظر: "المرأة في القرآن" لعباس محمود العقاد، الفصل السادس ص (87) ، وما بعدها.

ص: 82

"رفقة" أنها رفعت عينيها، فرأت إسحاق، فنزلت عن الجمل، وقالت للعبد:"من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائي "، فقال العبد:"هو سيدي "، فأخذت البرقع، وتغطت.

وفي الأصحاح الثامن والثلاثين من "سفر التكوين " أيضًا: أن ثامار مضت، وقعدت في بيت أبيها، ولما طال الزمن، خلعت عنها ثياب ترمُّلِها، وتغطت ببرقع، وتلففت.

وفي النشيد الخامس من أناشيد سليمان تقول المرأة أخبرني يا من تحبه نفسى أين ترعى عند الظهيرة؟ ولماذا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك؟.

وفي الأصحاح الثالث من "سِفر أشْعِيا": إن الله سيعاقب بنات صِهْيْونَ على تبرجهن والمباهات برنين خلاخيلهن بأن ينزع عنهن زينة الخلاخيل والضفائر والأهِلَّة والحِلَق والأساور والبراقع والعصائب (1) .

ويقول "بُولس" في رسالته "كورنثوس " الأولى: (إن النقاب شرف للمرأة) ، وكانت المرأة عندهم تضع البرقع على وجهها حين تلتقي بالغرباء، وتخلعه حين تتروي في الدار بلباس الحداد.

وكانت الكنيسة في القرون الوسطى تخصص جانبا منها للنساء حتى لا يختلطن بالرجال.

قال الكونت "هنري دي كاستري":

ربما كان الإنجيل أكثر تدقيقًا في التشديد- يعني في الحجاب- ولكنه لا يعمل به إلا قوم خصَّهم الله بمواهب الكمال، اهـ من كتاب "الإسلام خواطر وسوانح " اهـ (2) .

(1) ولعل من مظاهر هذه العقوبة منعهن من المساجد لما أحدثن الزينة كما في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم ص (22) .

(2)

"المرأة العصرية وصفاتها المنافية للإسلام " للشيخ محمد الزمزمي الغماري ص (8) .

ص: 83

(وفي يوم من الأيام حكمت الكنيسة الأرثوذوكسية بحرمان المرأة حقها

في المجتمع، فحظرت عليها حضور المآدب والحفلات، وألزمتها الحجاب صامتة صابرة،، لا شأن لها إلا الطاعة للزوج، والقيام بالغزل والنسيج، وطهي الطعام، وإذا خرجت من بيتها خرجت مستورة الجسم من قمة رأسها إلى أخمص قدمها) (1) .

ولعله لهذا بقيت آثار البرقع والحجاب عند أهل الكتاب حتى يومنا هذا، وذلك واضح في زي راهبات النصارى، ودخول النصرانيات الكنيسة، وقد غطين رؤوسهن بساتر، بل هن حتى اليوم في حفلات أعراسهن يغطين وجوههن بنقاب شفاف فلعله من بقايا دينهم.

الحجاب عند عرب الجاهلية

نبين في هذا الفصل- إن شاء الله- أن العرب عرفوا في جاهليتهم حجاب القرار في البيت، وئقاب الوجه، ولعل هذا من بقايا الحنيفية السمحة التي تلقاها عرب الجاهلية عن ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما تلقوا منها الختان والعقيقة وغيرهما، كما عرفوا سفور الوجه الذي كان أغلب حالات فتيات العرب، وعرفوا هيئات مختلفة من التبرج الذي وصفه الله عز وجل بأنه "تيرج الجاهلية الأولى"، وذلك في قوله تعالى:(وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)[الأحزاب: 33] ؛ فقد كانت المرأة تلبس درعًا من اللؤلؤ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال (2) .

وفي أقصى الطرف الآخر كان هناك طائفة من العرب عرفوا التكشف الفاضح حيث كانوا يطوفون بالبيت عراة، ويُسَوِّغون ذلك بقولهم: "لا

(1)"حقوق المرأة في الإسلام" - من رسائل الجزائري ص (7)(2)(2)"تفسير غرائب القرآن " للنيسابوري (22/ 10) - حاشية الطبرى

ص: 84

نطوف في ثياب عصينا الله فيها" (1) !، بل افتروا على الله الكذب حيث قالوا في تسويغ تلك الفاحشة:(وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)[الأعراف: 28] ،.

وفي "صحيح مسلم"، (2) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافًا؟ تجعله على فرجها وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله

فما بدا منه فلا أحله

فنزلت هذه الآية: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)(3) الآية [الأعراف: 31] ،.

وكان من لباس نساء الجاهلية المهلهل والهفاف، وهما دقيقا الخيط، رقيقا النسيج، أما ما كَثُف حَوْكُه، وضوعفت حواشيه فيدعى بالصفيق والشبيع والحصيف.. ومن لباسها الدثار، وهو جلباب شامل، والنطاق وهو ثوب تشده المرأهْ إلى وسطها، وترخي نصفه الأعلى على نصفه الأسفل (4) .

وقد سجلت لنا آثارهم الأدبية وأشعارهم على وجه الخصوص الحالة الاجتماعية للمرأة الجاهلية، وهذا ما نفصِّله فيما يلي إن شاء الله.

أولا: حجاب الجدر

عرف العرب حجاب الجدر، وهو قرار المرأة في بيتها،- فمن ذلك قول

(1) انظر "تفسير القرآن العظيم " لابن كثير (3/398) ط. دار الشعب.

(2)

"صحيح مسلم بشرح النووي"(18/ 162) .

(3)

وهذه الضلالة الجاهلية المشار إليها أبطلها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع حين أذن مؤذنه في الناس يوم النحر بمنى: "ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان " رواه البخاري وغيره.

(4)

"المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها"(1/ 110- 111) بتصرف.

ص: 85

بعضهم:

ما كان أغناني عن حُب مَن

مِن دونه الأستار والحجبُ

ومنه أيضًا قول امرئ القيس:

وَبَيْضَةِ خِدر لا يُرَام خِباؤها

تَمَتَّعْتُ! مِنْ لَهْوٍ بها غَيْر مُعْجلٍ

يقول: وَرُبَّ امرأة كالبيض في سلامتها أو في الصون والستر أو في صفاء اللون ونقائه ملازمة خِدرَها غير خَرَّاجةٍ وَلا ولاجَة انتفعت باللهو فيها على تمكث وتلبث لم أعجل عنها، ولم أشغل عنها بغيرها (1) . وامتدح العرب المرأة التي تقر في بيتها، ولا تخرج منه، فقال بعضهم في ذلك:

من كان حربًا للنسا

ءِ فإنني سلم لهنه

فإذا عثرن دعونني

وإذا عثرت دعوتهنه

وإذا برزن لمحفل

فقصارهن ملاحهنه

فقوله: قصارهن يعني المقصورات منهم في بيوتهن اللاتي لا يخرجن منها إلا نادرًا، كما أوضح ذلك كثير عزة في قوله:

وأنتِ التي حببتِ كل قصيرة

إليَّ وما تدري بذاك القصائر

عنيت قصيرات الحَجال ولم أرد

قصار الخطا شر النساء البحاتر

والحجال جمع حجلة، وهي البيت الذي يزين للعروس، فمعنى قصيرات الحجال: المقصورات في حجالهن، البحاتر: جمع بُحْتُر وهو القصير المجتمع الخَلْق.

وذكر بعضهم أن رجلًا سمع آخر قال: لقد أجاد الأعشى في قوله:

غراءُ فرعاء مصقول عوارضها

تمشي الهوينا كما يمشى الوَجِي الوَحِلُ (2)

(1) شرح المعلقات السبع للزوزني ص (15)

(2)

الوَجِي: من يشتكي ألما في قدمه، والوَحِلْ الذي يتوحل في الطين.

ص: 86

كان مشيتها من بيت جارتها

مر السحابة لا ريث ولا عجلُ

ليست كمن يكره الجيران طلعتها

ولا تراها لسر الجار تختتل

فقال له: قاتلك الله، تستحسن غير الحسن، هذه الموصوفة خرَّاجة وَلاجة، والخراجة الولاجة لا خير فيها، ولا ملاحة لها، فهلا قال كما قال أبو قيس بن الأسلت:

وتكسل عن جاراتها فيزرنها

وتعتل من إتيانهن فَتُعْذَرُ (1)

ومن امتداح العرب المرأة القارَّة فِى بيتها قول امرئ القيس:

ويضحى فتيتُ المسكِ فوق فراشها

نؤومَ الضُّحى لم تنتطِقْ عن تَفَضُّلِ (2)

فهو يذكر ترف هذه المرأة، وأن لها من يكفيها، فقال "نؤوم الضحى" أي أنها تنام إلى وقت الضحى، وأن فتيت المسك - وهو ما تفتت من المسك عن جلدها فوق الفراش- يبقى إلى الضحى، وهي لا تنتطق أي لا تلبس النطاق في وسطها لِتَخْدُمَ، ولكنها في بيتها متفضلة.

بل كان من الجاهليات من توصف بأنها غاية في التستر والانجماع عن الأجانب، ولزوم الأخلاق الفاضلة، ألم تسمع قول الشَّنْفَرى يمتدح زوجته أميمة:

لقد أعجبتني لا سَقُوطًا قِناعُهاِ

إذا ما مشت، ولا بذات تَلَفّتِ (3)

(1)"أضواء البيان "(7/687- 688) .

(2)

انظر "شرح المعلقات " للزوزني ص (23) .

(3)

يقول: إنها عفيفة ستيرة رزينة في مِشيتها، لا تتعمد إسقاط نقابها أمام الأجانب لاحتشامها، وحيائها، ولا تكثر من التلفت كما تفعل ذوات الريبة من النساء.

ص: 87

تبيتُ بُعَيْد النوم تُهدى غَبُوقَها

لجاراتها إذا الهديةُ قَلَّتِ (1)

تُحِل بمنجاةٍ من اللؤم بيتَها

إذا ما بُيوت بِالمَذَمَّةِ حُلَّتِ (2)

كأنَّ لها في الأرض نِسْبًا تَقُصُهُ

على أُمِّها، وإن تكَلّمكَ تَبْلِتِ (3)

أمَيْمَةُ لا يُخزي نَثَاها حليلَها

إذا ذُكرَ النسوانُ عَفَّتْ وَجَلَّتِ (4)

إذا هو أمسى آبَ قرَّة عينِه

مآبَ السعيدِ، لم يَسَلْ: أين ظَلَّتِ (5)

ثانيا: حجاب البدن والوجه

أما حجاب الوجه فقد كان معروفًا عندهم أيضا:

فمما يذكر في كتب التاريخ والأدب (أن النابغة أحد فحول الشعر لجاهلي (6) قد مرت به امرأة النعمان المسماة بالمتجردة في مجلس، فسقط

(1) وهي كريمة سخية تجود بالهدية على جاراتها في وقت يعز فيه الإهداء.

(2)

وهي حريصة على سمعتها، وسمعة بيتها، فهي تصونه عن كل ما يُخِل، فالذمُّ لا يلحقها.

(3)

وهى من شدة حيائها إذا مشت تُطْرِقُ بصرها في الأرض، ولا ترفعه، حتى يظن من رآها أنها تبحث عن شيء ضاع منها، فهي تتبع أثره، وإن كَلَّمت غريبًا، فإنها تكلمه بما تحتاج، ولا تطيل حديثها معه.

(4)

لذا فإذا ذكرت أفعالها وأخبارها، لم تَسُوْ حليلها لحسن مذهبها وعفتها.

(5)

وإذا عاد زوجها آخر النهار وجد ما يَسُرُّه منها، ولم يحتج إلى سؤالها: أين كانت؟ لأنها لا تبرح بيتها.

وانظر "المفضليات" بشرح التبريزي (1/ 515- 518)

(6)

النابغة: زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني، شاعر جاهلي من الحجاز، كان عند النعمان بن المنذر- من ملوك الحيرة- وقد شبب بامرأته بهذا البيت المشهور به =

ص: 88

نَصِيفها- أي برقعها- الذي كانت قد تقنعت به، فسترت وجهها بذراعيها، وانحنت على الأرض ترفع النصيف بيدها الأخرى، فطلب النعمان من النابغة أن يصف هذه الحادثة في قصيدة، فعمل القصيدة التي مطلعها:

أمن أل مية رائح أو مغتدي

عجلان ذا زاد وغير مزود

إلى أن قال:

سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ

فَتَنَاوَلَتْهُ، وَاتَقَتْنَا بِالْيَدِ) (1)

ومما يدل على أنهم عرفوا البرقع قول أحدهم:

إن لم أقاتل فألبسوني برقعًا

وفتخات في اليدين أربعا

وفي قصيدته التي مطلعها:

أفاطِمُ قَبل بَيْنِكِ وَدّعيني

ومنعَك ما سألتُك أنْ تبيني

قال محصن بن ثعلبة الشاعر الجاهلي الملقب ب "المثقب العبدي":

وثقبن الوصاوص بالعيون

والوصاوص: البراقع.

وكانت بعض نساء العرب لا يسفرن عن وجوههن إلا لخطب عظيم يلم بهن، ولهذا قال رؤبة الحميري عاشق "ليلى الأخيلية" من قصيدة يمدحها بها، ويثني عليها بالتبرقع غالبا، مع جمالها، ويشير فيها إلى أن إسفارها عن وجهها تارة رابه إذ لعله لخطب ألمَّ بها:

وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت

وقد رابني منها الغداةَ سفورها (2)

وقال ربيع بن زياد العبسي يرثي مالك بن زهير:

من كان مسرورًا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهارِ

= من قصيدة له، فأراد النعمان قتله، فهرب إلى الغسانيين بالشام، ثم رجع إلى النعمان "الأعلام " للزركلي ص (54) ،

(1)

نقلًا من "الإسلام وتيارات الجاهلية" لآدم عبد الله الألوري ص (151-152) .

(2)

"زاد المسلم بحاشية فتح المنعم "(1/383) .

ص: 89

تجد النساء حواسرًا يندبنه

يلطمن أوجههن بالأسحار

فد كن يخبأن الوجوه تسترًا

فاليوم حين برزن لِلنظار (1)

وكانت المرأة في حالة الحرب، إذا اشتملت عليها الوقائع، أو دارت على فريقها الدوائر، وارتقبت من وراء ذلك ذل السباء وعار الإسار، تظهر سافرة حاسرة حتى تلتبس بالإماء، وفي هذا الموطن يقول مُهَلْهِلُ بن ربيعة:

قربا مربط المشهر مني

سوف تبدو لنا ذواتُ الحجال (2)

وقال سبرة بن عمر الفقعسى يْعَيِّرُ أعداءه بكشف وجوه نسائهم في الحرب:

ونسوتكم في الرَّوْعِ بادٍ وجوهُها

يُخَلْنَ إماءً، والإماء حرائر

وهو صريح فيْ أنْ ستر الوجوه وكشفها كان هو الفارق بين الحرائر

والإماء.

وقالي عمرو بن معد يكرب يحكي احتدام حرب من حروبه التي كانت قبل الإسلام:

وبدت لميس كأنها

بدر السماء إذا تبدى

أي إنها! التجأت لشدة الحرب، وشغلها بالجليل من الأمر إلى كشف وجهها، فظهرت كالبدر، ومعناه أنها كانت تحتجب في عامة أحوالها.

(وهذه حرت الفجار تنشب بين قريش وهوازن بسبب تعرض شباب

من كنانة لامرأة من غمار الناس، راودوها على كشف وجهها، فنادت:

"يا آل عامر" فلبتها سيوف بني عامر) (3) .

وكان بين نساء الجاهلية من تستر وجهها لِكَلَف أصابه، وفي نحو ذلك ما نقل أبو زيد في نوادره عن أعرابي قيل له:

(1)"المرأة العربية"(1/107) .

(2)

المشهر: فرس مهلهل والحجال- جمع حجلة- ستور العروس

(3)

المرأة العربية (1/ 28) .

ص: 90

"ما تقول في نساء بني فلان؟ " فقال: "بَرْقِعْ وانظر"، يريد بذلك أن عيونهن خير ما فيهن.

وشبيه ذلك ما حَدَّثَ الراغب (أن أسديًّا قبيح الوجه خطب امرأة قبيحة، فقيل لها: إنه قبيح وقد تعمَّم لك، فقالت: إن كان تَعَمَّم لنا، فإنا قد تبرقعنا له)(1) .

وهذا أعرابي تضايقه البراقع لأنها تحول بينه وبين الحسان، وتخدعه في غير الحسان، فيقول:

جؤى الله البراقع من ثياب

عن الفتيان شرًا ما بقينا

يوارين الحِسانَ فلا نراها

ويسترن القباح فتزدهينا (2)

ثالثا: سفور الوجه

وبين أيدينا أمثلة سائرة مما أرسله العرب تنبئنا أن كشف القناع كان أغلب حالات فتيات العرب (3) وأمثلها بهن، فمن ذلك قولهم:"تَرَكَ الخِداعَ مَن كَشَفَ القِناع "، يريدون أن الفتاة لا تستر وجهها إلا لشر تؤثر أن تستره، وقولهم فيمن لا يستر عيبه:

"كذات الشيب ليس لها خمار"، فهم لا يرون الخِمار لزامًا إلا لذات الشيب، فإن خليقا بها أن تواريه (4) .

ولم يكن لحجاب الانتقاب بين نساء العرب نظام شامل، ولا هيئة

(1)"المرأة العربية"(1/ 104- 105) .

(2)

"فتح المنعم حاشية زاد المسلم"(1/383) .

(3)

ومن ثَمَ قال العلامة محمد بن جزي الكلبي رحمه الله: كان نساء العرب يكشفن وجوههن كما تفعل الإماء. اهـ من "التسهيل"(3/ 144) .

وقال العلامة أبو حيان رحمه الله: كان دأب الجاهلية أن تخرج المرأة الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار) ، وقال أيضَا: الذي كان يبدو منهن في الجاهلية

هو الوجه. اهـ من "البحر المحيط "(7/ 250) .

(4)

"المرأة العربية"(1/ 105) .

ص: 91

واحدة، ففي القبيلة الواحدة ترى "الْبَرْزَةَ" وهي التي تجلس إلى الرجال، وتجاذبهم الحديث سافرة غير محجوبة، و"المحتشمة" كما قدمنا، وهي التي ترخي قناعها إذا خرجت من بيتها، فلا تطرحه حتى تعود.

قال الفراء: "كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها، وتكشف ما قُدَّامَها فأُمِرن بالاستتار" اهـ (1) .

ومنهن "سقوط القناع " وهي التي لا تكاد تنتقب ثقة بنفسها، وإدلالَا بحسنها، أو سيرًا على سجيتها.

وفي مثلها يقول المسيِّب بن علس:

إذا تستبيك بأصلتيّ ناعم

قامت لتفننه بغير قناع

تستبيك: تغلبك على نفسك حتى تكون سبيًا لها، والأصلتي: الخد الحسن.

وقال المرقش الأصغر:

أرتك بذات الضال منهما معاصما

وخدّا أسيلًا كالوذيلة ناعما

ذات الضال: موضع، والوذيلة: المرأة، ومعنى ذلك أنها لم تتحرج بما يخفى معاصمها، أو يحجب وجهها.

وإلى هذه يشير عمر بن أبي ربيعة في قوله:

فلما توافقنا وسلمت أقبلت

وجوهٌ زهاها الحسن أن تتقنَّعا

زهاها الحسن: استخفها، يقول: إن هذه الوجوه استخفها الحُسن عن

أن تتقنَّع.

وقال الأصمعي: وقد تُلْقي المرأةُ خِمارَها لحسنها وهي على عفة، وأنشد

في ذلك قول أبي النجم في إحدى أراجيزه:

مِن كُلَ غراء سَقْوطِ البرقع

بَلْهَاءَ لم تَحْفَظْ ولم تُضَيِّع

(1) نقله عنه الحافظ في "الفتح "(8/347) .

ص: 92

غراء: من الغُرَّةَ وهي بياض الوجه، والبلهاء الغافلة عن الشر، الحسنهَ الظن بالناس (1) .

وكان من شيمة نساء العرب تطويلُ الثياب، وجَرُّ الذيول كما اشتهر في أشعار أهل الجاهلية منهم كامرئ القيس الذي قال في معلقته:

خرجتُ بها تمشي تَجُرُّ وراءنا

على أثَرَيْنا ذَيلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ

والمرط الكساء من صوف أو خز أو غيرهما، والمرَحل - بالحاء المهملة - المنقوش بنقوش تشبه رحال الإبل.

وكذلك اشتهر في أشعار العرب بعد الإسلام، قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي الشاعر المفلق المتهالك قي مدح النساء:

كتِبَ القتلُ والقِتالُ علينا

وعلى الغانياتِ جَزُ الذّيُولِ (3)

* * *

(1)"المرأة العربية"(1/ 103- 104) بتصرف.

(2)

"زاد المسلم بحاشية فتح المنعم "(1/383) .

ص: 93

94

ص: 94