الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
شبهات وجوابها
لعل فيما تقدم من الأدلة الواضحة على وجوب الحجاب كفاية وبلاغًا
لمن صدق الله عز وجل في طلب الحق، وصدق مع نفسه.
غير أنه بقيت بعض النصوص استدل بها المبيحون للسفور، نحاول فيما
يلي - إن شاء الله - رفع الغشاوة عنها، ودفع الشبه فيها، مع حسن الظن
بالمخالفين الذين بنوا عليها مذهبهم.
غير أن هناك فريقَا من الذين في قلوبهم مرض، ممن هو على شعبة من النفاق في إيمانه بالله، تعرفهم في لحن القول، استغلوا هذه الشبهات
ليبرروا بها دعوتهم إلى ما يسمُّى بـ "تحرير المرأة "(1) .
إن الغرض مرض، وصاحب الغرض الخبيث يستطيع أن يقحم في كل سطر مما ذكره شبهًا وإشكالات يتعلق بها في إثبات عكس ما تقدم تحقيقه، ليتخذ السفور سلمَا إلى مآربه الأبليسية، وان كان يعلم من نفسه أنه كاذب
(1) فلا تغتر - أخي - بالمجادلات الواقعة من هؤلاء المغرضين من دعاة ما يسمى بـ (تحرير المرأة، فكلها خيالات مختلة، وعلل معتلة، وما تمسكوا به من الأدلة النقلية فهو إما اعتماد على نص ضعيف أو مكذوب، وإما خبر متشابه لا يدل على المطلوب، وأما ما تمسكوا به من الأدلة العقلية فهو كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وإما يتصرفون في النقل بما يوافق أهواءهم فيحذفون ما عليهم، ويثبتون ما لهم، وإما لقصور عن فهم عبارات
العلماء مما لم يريدوه، وإما بالتقصير في النظر والحكم بالظن الكاذب، والتمسك بالأمور المتشابهة الخفية، والإعراض عن الأشياء الواضحة الجلية، وليس هذا طريق العلماء القاصدين لإيضاح الدين، وإرشاد المسلمين، بل هو السمة المميزة لأولئك المضلين على اختلاف أمصارهم
في دعواه.
(وصناعة التأويل في الكلام والتلاعب بالألفاظ ليست عسيرة، أتقنها بنو إسرائيل من قبل لنيل عَرَض من الدنيا قليل، ويتقنها كثير من المحامين اليوم لجمع مزيد من البضاعة نفسها، كما يتقنها كثير من المشتغلين
ببضاعة العلم الشرعي ليتجملوا بذلك أمام من يملكون – في الظاهر - رعايتهم ودفعهم في سلم المناصب الدنيوية الفانية) (1) .
يقول الإمام الشاطبي في "الموافقاتَ" بعد أن أستَعرض صورا ونماذج من حيل المبطلين في التلاعب بنصوص، الأدلة، والتحايل على قواعد الأحكام:
"ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة، ولا أحدًا من المختلفين في الأحكام يعجز عن الاستدلال على مذهب بظواهر من الأدلة وقد مَرَّ من
ذلك أمثلة بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل
الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة. . . " (2) اهـ.
ولكن ليس معنى هذا أن الطالب لمعرفة الحق يضيع بين تلبيس المخادعين ونصيحة العلماء الصادقين، فإن الصادق في طلب الحق لا يعدم أن يجد دلائل الحق في محكمات النصوص الواضحة النيرة، فإن تاه
عن معرفة هذه النصوص لم يعدم أن يجد دلائله فيما اجتمع عليه السلف الصالح خلال القرون الماضية.
يقول الإمام الشاطبي – رحمه الله – معلقا على الفقرة السابقة:
"فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه
الأولون، وما كانوا عليه من العمل فهو أحرى بالصواب، وأقوم في
(1)"إلى كل فتاة تؤمن بالله" ص (55 – 56) .
(2)
"الموافقات"(3/76 - 77) بتصرف.
العلم والعمل" (1) اهـ.
فإن لم يعلم شيئَا عن. أخبار السلف؛ لم يعدم أن يجد دلائله في استقامة العالم الذي يفتيه، وحسن سيره وسيرته بين الناس، وثباته أمام مزالق الفتن والأهواء، فإن عدم من حقائق إسلامه ما يبصره بشيء من هذا كله، فإن بلاءه من نفسه قبل أن يكون من مكيدة المخادعين، أو مكر الضالين المضلين، إذ لا يكون مسلما حقُّا إلا بعد أن يكون على شيء من البصيرة
بدينه، بحيث تشير له - ولو من بُعْدٍ - إلى معالم الحق، وتحذره - ولو في الجملة - من مهاوي الضلال، فإن على الحق نورًا.
تدور شُبه المغرضين حول أقوالٍ لا رصيد لها من المعنى الذي يمكن أن
يتقبله العقل السليم، لأنها من نوع ما يسميه علماء المنطق بالسفسطة التي
لها شكل الحجة، وليست لها حقيقتها (2) .
وهي أقوال يراد بها إخضاع النفس، أكثر مما يراد بها إقناع العقل.
هذا فيما يتعلق بالمغرضين من أعداء الدين الذين يتخذون السفور
ذريعة لمقاصدهم السيئة، أما الفريق الآخر الذي يبيح السفور بناءً على اجتهاد فقهي مخلص في طلب الحق، فأغلب ما تعلقوا به:
- إما أحاديث ضعيفة، لا تثبت عند أهل العلم بالحديث.
- وإما وقائع أحوال لا عموم لها.
- وإما نصوص يفهم منها إباحة السفور لكنها كانت قبل نزول الحجاب.
- وإما نصوص يفهم منها حصول السفور في حالة من حالات الترخيص فيه مثل الخِطبة، والشهادة، والتطبيب، وغيرها، وهذه في الحقيقة تؤيد أن الأصل منع السفور، وإلا لما كان لهذه الاستئناءات
(1) السابق.
(2)
انظر الجواب عن بعضها في صفحة (408-456) .
معنى (1) .
- وإما نصوص غير صريحة يطرقها الاحتمال، فيسقط بها الاستدلال. وقد تقدم الجواب عن بعض الشبهات (2) ، وهذا أوان الشروع في الجواب عما تبقى من شبهات الفريقين، فنقول بتوفيق الله وحده:
الشبهة الأولى
* ما أخرجه أبو داود في "سننه" باب: فيما تبدي المرأة من زينتها، قال:
حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي ومؤمل بن الفضل الحراني، قالا: أخبرنا الوليد، عن سعيد بن بَشير، عن قتادة، عن خالد- قال يعقوب: ابن درَيك - عن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رِقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يَصلُح أن يُرَى منها إلا هذا وهذا"، وأشار إلى وجهه وكفيه (3) .
قالوا: فهذا نص صريح في أنه يجوز للمرأة كشفُ وجهها وكفيها عند الرجال الأجانب.
(1) انظر "المغني" لابن قدامة (6/ 559) .
(2)
مثل: دعوى إجماع العلماء على إخراج الوجه والكفين من العورة، انظر جوابها في صفحة (244 - 250) .
ومثل دعوى خصوصية آيات الحجاب بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وقد تقدم
جوابها ص (256) وما بعدها.
(3)
رواه أبو داود في "سننه" رقم (4104)، في اللباس: باب فيما تبدي المرأة من زينتها، والبيهقي في "السنن الكبرى" من هذا الوجه في موضعين:(2/ 226) ، (7/ 86) .
جواب هذه الشبهة
الأصل أنه لا يُتكلف الجوابُ عن الحديث حتى يصح، والضعيفُ يكفي في رَدِّه كونُه ضعيفا، فمن باب (أثبت العرش، ثم انقش) نناقش:
* أولا: إسنادَ الحديث:
في الحديث علل قادحة:
العلة الأول: انقطاع سنده، كما صَرَّح بذلك الأمام أبو داود رحمه الله نفسه، فقد قال عقب روايته الحديث:
هذا مُرْسَل، خالد بن دُرَيْك لم يدرك عائشة. (1)
وكذا قال أبو حاتم الرازي (2) ، وعبد الحق في "أحكامه"(3) .
وقال ابن معين: مشهور، وقال مرة: ثقة، وقال النسائي. ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، في أتباع التابعين (4) .
وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب": ثقة يرسل (5) .
العلة الثانية: أن في سنده سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن البصري (6) ،
(1)"السابق".
(2)
ذكره الحافظ ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم"(3/ 294) .
(3)
"تهذيب التهذيب"(3/ 87) .
(4)
"السابق"(3/ 86-87) .
(5)
"تقريب التهذيب"(1/ 212) ،
(6)
وفي ترجمته في "تهذيب التهذيب"(4/ 8-10)، و"سير أعلام النبلاء" (7/ 304- 305) ما حاصله: [قال أبو مسهر: "لم يكن في بلدنا أحد أحفظ منه، وهو منكر الحديث"، وقال أبو حاتم:"محله الصدق"، وقال أبو أحمد الحاكم:"ليس بالقوي"، وقال بقيهَ: سألت شعبة عن سعيد بن بشير، فقال:"ذاك صدوق اللسان"، وقال ابن عيينة:"حدثنا سعيد بن بشير، وكان حافظا"، وقال دحيم:
"يوثقونه، كان حافظا"، وأما ابن مهدي فروى عنه، ثم ترك، وقال أبو زرعة:
"لا يحتج به، ومحله الصدق"، وقال البخاري:"يتكلمون في حفظه"، وقال ابن =
قال الحافظ: "ضعيف"(1) .
العلة الثالثة: أن فيه قتادة، وهو مدلس، وقد عنعنه، كما أن فيه الوليدَ ابنَ مسلم، قال الحافظ:"ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية"(2) ، وقد عنعنه.
والحديث رواه أبو داود في "المراسيل" عن محمد بشار، عن أبي داود، عن هشام الدستوائي، عن قتادة مرسلا:"إن الجارية إذا حاضت، لم يصلع أنه يُرى منها إلا وجهُها ويداها إلى المفصل".
* ثانيا: فرض صحة الحديث:
وعلى فرض صحة الحديث، أو تقويته بشواهده، فبماذا أجاب عنه العلماء القائلون بتحريم السفور؟
لقد اختلفت أجوبتهم عنه:
1-
فمنهم من حمله على أنه كان قبل الأمر بالحجاب:
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
والسلف تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين:
= معين والنسائي: "ضعيف"، وقال سعيد بن عبد العزيز:"كان حاطب ليل"، وقال علي بن المديني:"كان ضعيفا"، وقال محمد بن عبد الله بن نمير:"منكر الحديث، ليس بشيء، ليس بقوي الحديث، يروي عن قتادة المنكرات"، وقال ابن عدي:"له عند أهل دمشق تصانيف، ولا أرى بما يرويه بأسا، ولعله يهم في الشيء بعد الشيء، ويغلط، والغالب على حديثه الاستقامة، والغالب عليه الصدق"، وقال الساجي:"حَدث عن قتادة بمناكير": وقال ابن حبان: "كان رديء الحفظ، فاحش الخطأ، يروي عن قتادة ما لا يتابع عليه" وقال أبو بكر
البزار: (هو عندنا صالح ليس به بأس"] اهـ.
(1)
"تقريب التهذيب"(1/ 292) .
(2)
"تقريب التهذيب"(2/ 336) .
فقال ابن مسعود: هي الثياب، وقال ابن عباس ومن وافقه: هي ما في الوجه واليدين مثل الكحل والخضاب.
ثم بين رحمه الله أن تشريع الحجاب مر بمرحلتين:
أولاهما تغطية البدن ما عدا الوجه والكفين.
والأخرى: حجاب جميع البدن بما في ذلك الوجه والكفان.
ثم قال رحمه الله تعالى ما نصه: "فإذا كُنَّ مأمورات بالجلباب وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب، كان حينئذ الوجه واليدان من الزينة التي أُمِرَت ألا تظهرها للأجانب، فما بقي يَحِل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة، فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول
الأمرين" (1) اهـ.
إلى أن قال شيخ الإسلام: وعكس ذلك الوجه واليدان والقدمان، ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين بخلاف ما كان قبل النسخ بل لا تبدي إلا الثياب " (2) اهـ.
* وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله في معرض الرد على من أباح النظر إلى الوجه والكفين محتجًا بحديث أسماء رضي الله عنها:
وأما حديث أسماء فيحمل على أنه كان قبل نزول آية الحجاب، فنحمله عليه (3) .
* وقال القاري في شرح هذا الحديث:
قولها "وعليها ثياب رِقَاق" بكسر الراء جمع رقيق، ولعل هذا كان قبل الحجاب (4) .
(1)"مجموع الفتاوى"(22/110-112) بتصرف.
(2)
"السابق"(22/117 - 118) .
(3)
"المغني"(6/559) .
(4)
مرقاة المفاتيح" (4/438) .
وقد ضعف الشنقيطي - رحمه الله تعالى – الحديث، ثم قال:
"مع أنه مردود بما ذكرنا من الأدلة على عموم الحجاب، ومع أنه لو قدر ثبوته قد يحمل على أنه كان قبل الأمر بالحجاب"(1) اهـ.
* وقال الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي:
"لو قدرَ أن حديث عائشة صحيح، فهو محمول على أنه كان قبل الأمر بالحجاب، وبناءً على هذا يكون منسوخا، لا يجوز العمل به"(2) اهـ.
* وقال الشيخ محمد علي الصابوني في "روائع البيان":
ويحتمل أنه كان قبل آيات الحجاب، ثم نسخ بها (3) .
* وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين:
ثم على تقدير الصحة - أي صحة حديثه عائشة رضي الله عنها يحمل على ما قبل الحجاب، لأن نصوص الحجاب ناقلة عن الأصل فتقدم عليه (4) .
(1)"أضواء البيان"(6/597) .
(2)
"يا فتاة الإسلام" ص (257) .
(3)
"روائع البيان"(2/157) .
(4)
"رسالة الحجاب" ص (30) .
واعلم أنه هناك جملة من الأحاديث والآثار يفهم منها كشف الوجه واليدين أو اليدين فقط، وعادة العلماء الموجبين للحجاب أن يجيبوا عنها بقولهم (هذا كان قبل الأمر بالحجاب) " ومن أمثلة ذلك:
أ- حديث عائشة هذا الذي نحن بصدده.
ب- عن عائشة رضي الله عنها قالت: دَخَلَت علي خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص الأسلمية، وكانت عند عثمان بن مظعون رضى الله عنه،
قالت: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاذة هيئتها، فقال لي:"يا عائشة ما أبذ هيئة خويلة! "، فقالت: فقلت: يا رسول الله امرأة لها زوج يصوم النهار، ويقوم =
2-
ومن العلماء من ذهب إلى وجوب تأويل حديث عائشة رضي الله عنها إن صَحَّ:
إذا ثبت لدينا دليل واحد يفيد تحريم كشف الوجه والكفين؛ ثم فرضنا جدلًا ثبوت حديث عائشة رضي الله عنها الذي يبيح كشفهما؛ وافترضنا أيضا تكافؤ الدليلين من حيث الثبوت؛ وعلمنا أن الأصل في الدليل
= الليل، فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها، وأضاعتها. . . الحديث، وقد تقدم في القسم الثاني ص 172، وانظر "الفتح الرباني"(17/304) .
ج- عن أبي جحيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء، فقال: فجاءه سلمان يزوره فإذا أم الدرداء متبذلة (أي لابسة ثياب المهنة، وتاركة للبس ثياب الزينة)، فقال: ما شأنك يا أم الدرداء؟ قالت: إن أخاك أبا الدرداء يقوم الليل، ويصوم النهار، وليس له في شيء من الدنيا حاجة. . . الحديث، رواه البخاري (4/ 246-247) ، والترمذي (3/ 290) ، والبيهقي (4/ 376) ، والمؤاخاة كانت في أوائل الهجرة، وانتهت بعد آية التوريث، وآية التوريث نزلت قبل الحجاب.
د- ما رواه البيهقي في قصة توبة أبي لبابة وقال "حديث صحيح"، وفيه قول أم سلمة رضي الله عنها: أفلا أبشره يا رسول الله بذلك؟ قال: "بلى إن شئتِ" قالت: فقمتُ على باب حجرتي، فقلت - وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب - يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك.
هـ- وعن أنس رضي الله عنه قال: "لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوّب عليه بحَجَفَة له. . . ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما وأم سُليم وأنهما لمُشَمرتان أرى خَذمَ سُوقِهما - يعني الخلاخيل - تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم) ، رواه البخاري في المغازي، باب إذا همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما "فتح الباري" (7/ 418) ، وفي الجهاد، باب (عزو النساء وقتالهن مع الرجال، وباب المجن ومن يتترس بترس صاحبه، وفي فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب أبي طلحة، ومسلم رقم (1811) في الجهاد، باب غزوة النساء مع الرجال.
مجوب عليه بحَجَفَةْ أي ساتر له، قاطع بينه وبين الناس، مترس عليه بترس، تنقزان: أي تثبان، والمقصود تحملان القرب، وتقفزان بها وثبا.
الشرعي الإعمال لا الإهمال؛ وأن الواجبَ - عند التعارض - أن لا يصار إلى ترجيح أحد الدليلين إلا عند تعذر الجمع بينهما، لأن إعمال الدليلين
معا أولى من إلغاء أحدهما؛ إذن يتعين محاولة الجمع بينهما (1) ، وهذا ما
فعله فريق من العلماء:
* قال ابن رسلان في حديث عائشة رضي الله عنها:
"والحديث مقيد بالحاجة إلى رؤية الوجه والكفين كالخطبة ونحوها (2) ،
ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن
(1) لا يتَصَوَّرُ أن تأمر الآية والأحاديث الصحيحة المؤمنين بغض الأبصار، في حين نجد في هذا الحديث تصريحًا بإباحة النظر إن الوجه والكفين مِمّا يوجب تأويل
الحديث - على فرض ثبوته- لأن فيه قرينةَ تدل على قابليته للتأويل، أو التقييد
بالحاجة أو الضرورة، ألا وهي قوله:"لا يصلح أن يُرى منها"، ومعلوم معارضة
لفظه "يُرى" للنصوص الآمرة بغض البصر، وهذا بخلاف ما لو قال: (لا يصلح
أن يظهر منها إلا وجهها وكفيها) ، بل إنه إذا أباح الكشف بلا قيد فقد أوقع
المسلمين في حرج شديد حين يطلق الكشف، وبأمر بالغض، والشريعة منزهة عن ذلك الحرج (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78) ولأنه يحول دون
أطهرية قلوب المؤمنين بكثرة المشاهد، ومحاولات الغض، خاصة في زماننا، وهذا بخلاف نظرة الفجأة إلى ما قد يظهر من النساء بدون قصد إظهار، فذلك قليل نادر في المجتمع الإسلامي.
وعلى فرض جواز كشف الوجه واليدين بلا تقييد بحاجة أو ضرورة، مع الأمر
بغض البصر، فما هو واجب المرأة المسلمة إذا عاشت بين قوم رَقّ دينهم، وذهب ورعهم، فلا يرتدعون عن النظر المحرم إلى وجهها، هل تعينهم على هذا الفسق،
وتشارك في هذه الفتنة أم أنه يجب عليها حينئذٍ منع هذا المنكر، إما بقرارها في بيتها، وإما بالخروج عند الحاجة متسترة محجبة درءًا للفتنة وسدُّا للذريعة؟!
_________
(2)
ومثلها: النظر للمداواة، وللشهادة لها أو عليها، والنظر للمعاملة من بيع أو رهن أو إجارة، أو تعليم، ويشترط لجواز ذلك فقْدُ جنس، ومحرم صالح، وتعذره من وراء حجاب، ووجود مانع خلوة، ويشترط في النظر للتزويج أن يكون بعد العزم على التزوج، ورجاء الإجابة.
سافرات الوجوه، لاسيما عند كثرة الفساق (1) اهـ.
* وقال الشيخ خليل أحمد السهارنفوري:
"ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لاسيما عند كثرة الفساد وظهوره"(2) اهـ.
* وقال الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي:
"لو ثبت أن حديث عائشة صحيح - مع العلم بأنه لم يثبت - فحينئذِ كشف المرأة وجهها لرجل أجني مقيد ذلك بالحاجة، والضرورة، لا مطلقا"(3) اهـ.
ومقصودهم - والله أعلم - أن المرأة إذا بلغت لم يحل أن يظهر من بدنها شيء لأنها كلها عورة، إلا أن تحتاج أو تضطر لكشف وجهها وكفيها فيحل لها ذلك حينئذ بقدره.
أو: أن المرأة إذا بلغت حل لها أن تظهر وجهها وكفيها ما لم تُخَفْ الفتنه
بهما، فإن خيفت الفتنة فعليها ستر ذلك.
فإذا قيل: بل يتعين الترجيح لأن التكلف في الجمع بينهما غير خافٍ
على من تأمله.
قلنا: نحن أسعد بهذا المسلك منكم؛ إذ إن أدلة وجوب ستر الوجه والكفين ناقلة عن الأصل، وأدلة جواز كشفه مبقية على الأصل، والناقل عن الأصل مُقَدَّم كما هو معروف عند الأصوليين، وذلك لأن الأصل بقاء الشيء على ما كان عليه، فإذا وجد الدليل الناقل عن الأصل دل ذلك على طروء الحكم على الأصل وتغييره إياه.
(1) نقله عنه الشوكاني في "نيل الأوطار"(6/130) .
(2)
"بذل المجهود في حل أبي داود"(16/164)
(3)
"يا فتاة الإسلام" ص (258) ، بهذا السياق.
ولذلك نقول: إن مع الناقل زيادةَ علم، وهو إثبات تغيير الحكم الأصلي، والمثبِت مقدم على النافي، وهذا الوجه إجمالي ثابت حتى على تقدير تكافؤ الأدلة ثبوتَا ودلالة (1) .
* فوائد:
الأولى: أكثر أهل الأصول يرجحون الخبر الناقل عن الأصل، على الخبر المبقي على البراءة الأصلية، وإليه الإشارة بقول صاحب "مراقي السعود" في مبحث الترجيح باعتبار المدلول:
وناقل ومثبت والآمر
…
بعد النواهي ثم هذا الآخر
على أباحة. . . إلخ
لأن معنى قوله: (وناقل) أن الخبر الناقل عن البراءة الأصلية مقدم على
(1) رسالة الحجاب للشيخ محمد بن صالح العثيمين (ص 28) .
ويحسن أن ندعم هذا الكلام بقول محدث الشام رحمه الله في معرض الرد على من استدل بقول جابر بن عبد الله عن النساء في صلاة العيد: (فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتيمهن) على إباحة الذهب المحلق للنساء، فقال حفظه الله في أثناء الرد: [لو فرضنا أنه جاء في حديث أو أحاديث
التصريح بذلك - أي إباحة المحلق - فينبغي أن يحمل ذلك على الأصل الأول، وهو الإباحة، ثم طرأ عليها ما أخرجها من هذا الأصل إلى التحريم بدليل أحاديث التحريم، فإن مثل هذه الأحاديث لا تصدر من الشارع في الغالب إلا لرفع ذلك الأصل وهو الإباحة في الأمور التي نص على تحريمها، ولذلك يقول علماء "أصول الفقه":(إذا تعارض حاظر ومبيح قدم الحاظر) ، وفي هذه الحالة
لا يلزمنا أن نثبت تأخر النص المحرم على النص المبيح، لأن النص المحرم يتضمن
في الواقع الإشارة إلى رفع ما تضمنه النص المبيح كما هو ظاهر] اهـ. من
"حجاب المرأة المسلمة" هامش ص (27) .
وهو كما ترى يحمل في طياته الرد على من قال: "أين دليل التراخي الزمني بين الحاظر والمبيح الذي هو أحد شروط النسخ؟ "، وانظر أيضَا:"إرواء الغليل"(1/149) .
الخبر المبقي عليها، وعزاه في شرحه المسمى "نشر البنود، للجمهور، وهو المشهور عند أهل الأصول"(1) اهـ.
واستدل الجمهور لمذهبهم بما يأتي:
أولاً: أن الحديث المبقي للبراءة لا يستفاد منه فائدة جديدة، وذلك لأنه
لا يفيد أكثر مما استفيد من البراءة الأصلية، أما الحديث الرافع للبراءة فيستفاد منه فائدة جديدة.
ثانيا: أن الخبر الناقل عند ترجيحه يُقَدَّرُ متأخرا، وعليه فيكون ناسخا
للخبر المبقي للبراءة الأصلية، والخبر المبقي لها لم ينسخ البراءة الأصلية،
وإنما هو مُقَرِّر لها، وبذلك يتحقق النسخ مرة واحدة.
أما لو جعل لخبر المبقي للبراءة هو الراجح فسيقدر متأخرَا فيكلون ناسخا للناقل للبراءة، والناقل قد نسخ البراءة الأصلية لأنه غير مقرر لها فيلزم من ذلك النسخ مرتين، والنسخ خلاف الأصل، فالخبر الناقل مقلل له، وعليه يكون راجحا (2) .
الفائدة الثانية:
ذهب جماعة من أهل الأصول إلى أنه إِذا تعارض خبران، وكان أحدهما دالا على الوجوب، والآخر دالا على الإباحة، ففي هذه الحالة يقدم الدال على الوجوب، وذلك لأن العمل به مقَدم للاحتياط في الخروج من عهدة
الطلب، ثم الدال على الإباحة - ويشمل غير الواجب - فيدخل فيه المسنون والمندوب لاشتراك الجميع على عدم العقاب على ترك الفعل (3) .
(1)"أضواء البيان"(5/657 - 658) .
(2)
انظر: "شرح الأسنوي"(3/178) ، و"أصول الفقه" للشيخ محمد أبو النور زهير (4/213) .
(3)
"أضواء البيان"(5/658)، وانظر:"حاشية السعد"(2/312) .
الفائدة الثالثة:
أن المسلمة إن عملت بقول من أوجب ستر الوجه والكفين فأدت ذلك على سبيل الوجوب برئت ذمتها عند القائلين بأنه فرض وعند القائلين بأنه فضل كليهما، ولو أسفرت عن وجهها وكشفت كفيها، ولم تسترهما على سبيل الوجوب تبقى مطالَبَة بواجب على قول جمع كبير من العلماء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"دع ما يَريبُك إلى ما لا يَرِيبُك"(1)، ويقول:"فمن اتقَى الشُبُهاتِ فقد استبرَأ لدِينِه وعِرْضِهِ"(2) .
* ثالثًا: متن الحديث:
قد عرفتَ ضعف هذا الحديث من حيث السند، أما من حيث معانيه وألفاظهُ فهو معارض للأدلة المتوافرة على وجوب الحجاب سواء في ذلك عموم آيات الحجاب، أو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وتقريره، فهل يسوغ أن يؤخذ بظاهرِ حديثْ هذا حاله فيكون مخصصًا لكل ما ورد من عموم ألفاظ القرآن وما صح من فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع صفية، وتقريره لفعل سودة رضي الله عنهما؟
أضف إلى ذلك مخالفة لفظه: "لا يصلح أن يرى منها" لحديث جرير بن
(1) وتتمته "فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة" أخرجه الترمذي عن الحسن بن
علي رضي الله عنهما رقم (2518) في صفة القيامة، باب رقم (60) وقال:
(حسن صحيح) ، والنسائي (8/327 - 328) بدون التتمة في الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات، والإمام أحمد في مسنده (1/200) ، (3/112 -
153) ، وصححه ابن حبان (512) ، والحاكم (2/13) ووافقه الذهبي،
وأخرج النسائي هذه الجملة في آخر حديث طويل (8/ 230) في القضاة، باب الحكم باتفاق أهل العلم، وقال:(هذا الحديث جيد جيد) .
(2)
قطعة من حديث رواه البخاري (1/153) في الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، وفي البيوع: باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات، ومسلم
(1599)
في المساقاة: باب لعن آكل الربا وموكله.
عبد الله رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن
أصرف بصري" (1) . وقد كان إسلام جرير رضي الله عنه في رمضان سنة عشر من
الهجرة (2) .
كما أنه مخالف لحال أمهات المؤمنين ونسائهم، وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عملا ليسَ عليه أمرُنا فهو رَدٌّ"(3) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحرِمات، فإذا حاذَوْنا سَدَلت إحدانا جلبابَها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه"(4) .
وعنها رضي الله عنها قالت: "تَسدُل المحرمة جلبابها من فوق رأسها على وجهها"(5) .
روى ابن أبي خيثمة من طريق إسماعيل بن خالد عن أمه، قالت: كنا ندخل على أم المؤمنين يوم التروية، فقلت لها: "يا أم المؤمنين! هنا امرأة
تأبى أن تغطي وجهها وهي محرمة"، فرفعت عائشة خمارها من صدرها،
فغطت به وجهها (6) - أي وجه المرأة المشار إليها.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كنا نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مُحرمات فيمر بنا الراكب فتَسدُل المرأة الثوب من فوق رأسها على وجهها"(7) .
(1) سبق تخريجه.
(2)
أي قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر.
(3)
أخرجه مسلم (1718)(18) بهذا اللفظ، وقد اتفقا على إخراجه بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ) .
(4)
سبق تخريجه.
(5)
سبق تخريجه.
(6)
انظر "تلخيص الحبير"(2/ 292) .
(7)
انظر: ص (350) .
وعن فاطمة بنت المنذر قالت: "كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن
مع أسماء رضي الله عنها" (1) .
فلو كان لهن سعة من السفور؛ ولو كان حديث عائشة صحيحَا ومعمولًا به؛ لما كان النساء يلتزمن تغطية الوجوه، ولاسيما في حالة الإحرام.
وحديث عائشة رضي الله عنها أيضًا مخالف لما ثبت عن أسماء رضي الله عنها نفسها:
فقد قالت أسماء رضي الله عنها: "كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا
نمتشط قبل ذلك في الإحرام" (2) .
و (عمل من نسب إليه الحديث بخلافه حتى عند الرخصة دليل على ضعف الحديث أو على الأقل نسخه)(3) .
* قال الشيخ عبد العزيز بن خلف:
فتمسك أسماء بهذا يرد على من أخذ بحديث عائشة أن أسماء قد أمرها
النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا تكشف إلا وجهها وكفيها (4) اهـ.
* وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين:
وأيضًا فإن أسماء رضي الله تعالى عنها كان لها حين هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
سبع وعشرون سنة، فهي كبيرة السن فيبعد أن تدخل على النبي صلى الله عليه وسلم
وعليها ثياب رقاق تصف منها ما سوى الوجه والكفين، فلابد على تقدير الصحة من أن يحمل على ما قبل الحجاب، لأن نصوص الحجاب ناقلة عن
(1) سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
"فصل الخطاب" ص (88) .
(4)
"نظرات في حجاب المرأة المسلمة" ص (54) .
الأصل فتقدم عليه (1) اهـ.
* قال الشيخ عبد العزيز بن خلف:
"هذا الحديث - يقصد حديث عائشة رضي الله عنها لا يصح العمل به، لأنه ضعيف هو وطرقه، وأيضا فغير سائغ أن تدخل أسماء بنت أبي
بكر الصديق رضي الله عنهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بثياب رقاق تصف بَشرَتها، وذلك بالمدينة بعد أن نزل الحجاب، إلا أن يكون ذلك في مكة وقبل الهجرة، وقبل نزول الحجاب، وإذا كان كذلك، فلا يلتفت إليه،
وليس بحجة" (2) اهـ.
(1)"رسالة الحجاب" ص (30) ، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم بستر المرأة المسلمة منذ أوائل مراحل الدعوة بمكة، وأمر ابنته زينب بتخمير نحرها، فهل يخفى ذلك
على المسلمات، بما فيهن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وهى التي كان
يتردد صلى الله عليه وسلم، على بيت أبيها صباح مساء.
روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: لم أعقل أبوي إلا
وهما يَدينان الدين، ولم يمر عليهما يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا. . . الحديث - انظر "فتح الباري"(10/671-672) .
وعن الحارث بن الحارث الغامدي، قال: قلت لأبي ونحن بمنى: ما هذه
الجماعة؟ قال: هؤلاء القوم قد اجتمعوا على صابئ لهم، قال: فنزلنا - وفي
رواية: فتشرفنا - فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله والإيمان به،
وهم يردون عليه قوله، ويؤذونه، حتى انتصف النهار، وتصدّع عنه الناس،
وأقبلت امرأة قد بدا نحرها تبكي، تحمل قدحًا فيه ماء، ومنديلا، فتناوله منها، وشرب، وتوضأ، ثم رفع رأسه، فقال: "يا بنية! خمري عليك نحركِ، ولا تخافي
على أبيك غلبة ولا ذلا"، قلت: من هذه؟ قالوا: هذه زينب ابنته.
قال الألباني: أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" اهـ. من "حجاب المرأة المسلمة" ص (35-36) .
(2)
"نظرات في حجاب المرأة المسلمه" ص (66-67) .
* وقال الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي:
إن أسماء رضي الله عنها عندها من التقوى، والخشية لله، والورع،
والحياء، ما يمنعها أن تدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق (1) .
وعن محمد بن قنفذ عن أمه أنها سألت أم سلمة رضي الله عنها: ماذا تصلي
فيه المرأة من الثياب؟ قالت: "تصلي في الخمار والدرع السابغ إذا غيب
ظهور قدميها" (2) .
وفي رواية أبي داود عن أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أتصلي المرأة في درع وخمار، وليس لها إزار؟ قال:"إذا كان الدرع سابغَا يغطي ظهور قدميها"(3) .
فإذا عدَّ القدمين عورة، وأذن لها في الإسبال كي لا تنكشف القدمان،
وأمر بعدم الضرب بالأرجل حتى لا يسمع صوت الخلاخل، أو تظهر
الزينة الخفية، فإن أمره بتغطية الوجه الذي هو مجمع الحُسْن والفتنة أولى.
فهذا من باب "التنبيه بالأدنى على ما فوقه، وما هو أولى منه بالحكم"،
وحكمة الشرع تأبى أن يجب ستر ما هو أقل فتنة، ويرخص كشف ما هو أعظم منه فتنة، فإن هذا من التناقض المستحيل على حكمة الله وشرعه.
وأخيرًا: فإن هذا الحديث لو سلمنا صلاحيته للاحتجاج فهو حجة على
أهل السفور، وذلك لأن هذا نص يقضي بأن المرأة إذا بلغت المحيض لا
يجوز لها أن تكشف غير الوجه والكفين أمام أحدٍ كائنًا من كان، أبا أو
(1)"يا فتاة الإسلام" ص (258) .
(2)
رواه مالك في "الموطأ" كتاب صلاة الجمعة (8) ، باب الرخصة في صلاة المرأة في
الدرع والخمار (10) ، رقم (37) ، موقوفا على أم سلمة رضي الله عنها.
(3)
"سنن أبي داود" - كتاب الصلاة (2) ، باب في كم تصلي المرأة (83) ، ورواه الحاكم في "المستدرك"(1/ 250) كتاب الصلاة، وقال: (هذا حديث صحيح
على شرط البخاري، ولم يخرجاه) اهـ، ووافقه الذهبي.
أخا أو ابنَا، أو عما، أو غيرهم، ومعلوم أن الله قد أذن للمرأة في إبداء
الزينة أمام المحارم، ومنع عنه أمام الأجانب، فما هي الزينة التي تبديها
أمام المحارم، ولا تبديها أمام الأجانب؟
وبتعبير آخر: لما جاز لها كشف وجهها وكفيها أمام الأجانب، ولم يجز لها كشف شيء من أعضائها سوى الوجه والكفين أمام المحارم فأي فرق
يبقى بين المحارم والأجانب؟ مع أن القرآن ينص على الفرق بينهما في
صراحة باتة، فتفكر!، ولو قيل: إن هذا نص يجري فيه التخصيص من
نصوص أخرى، قلنا: فما لناحية الحجاب والسفور لا يجري فيها التخصيص بالنصوص؟! " (1) .
الشبهة الثانية
* وهي ما رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(2)، قال رحمه الله تعالى:
حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج
قال:. . . قالت عائشة رضي الله عنها: دخلت عَلَيَّ ابنةُ أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض، فقالت عائشة: يا
رسول الله إنها ابنة أخي وجارية، فقال: "إذا عركت (3) المرأة لم يحل لها أن
تظهر إلا وجهها، وإلا ما دون هذا"، وقبض على ذراع نفسه، فترك بين قبضته وبين الكفِّ مثل قبضة أخرى.
والحسين هو سُنَيْد بن داود المِصيصي المحتسب، قال الحافظ في
"التقريب": ضعيف مع إمامته ومعرفته، لكونه كان يُلَقَّن حجاج بن محمد
(1)"مسالة السفور والحجاب" لأبي هشام الأنصاري - مجلة الجامعة السلفية، ص (77) ، عدد نوفمبر، ديسمبر 1978م.
(2)
"تفسير الطبري"(18/ 119)، وانظر:"الدر المنثور"(5/ 42) .
(3)
عركت: حاضت.
شيخَه" (1) اهـ.
وقال الذهبي في "الميزان": حافظ له تفسير، وله ما يُنكَر، وقال: صدقه
أبو حاتم، وقال أبو داود: لم يكن بذلك، وقال النسائي: الحسين بن داود ليس بثقة" (2) اهـ.
كما أن هذا الحديث معضل، لأن بين ابن جريج وعائشة رضي الله
عنها مفاوز، فقد توفي ابن جريج بعد المائة والخمسين، ولم يدرك عائشة
رضي الله عنها.
ونقل الذهبي في "الميزان" عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قوله:
"قال أبي: بعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذها، يعني قوله: أخبِرت، وحُدثت عن فلان"(3) !
وقال الحافظ في "التهذيب": "وقال الأثرم عن أحمد: إذا قال ابن
جريج: قال فلان، وقال فلان، وأخبرت، جاء بمناكير، وإذا قال: أخبرني، وسمعت فحسبك به،. . . وقال جعفر بن عبد الواحد عن يحيى بن سعيد: كان ابن جريج صدوقًا، فإذا قال: حدثني، فهو سماع، وإذا
قال: أخبرني، فهو قراءة، وإذا قال:"قال" فهو شبه الريح" (4) .
وقال الدارقطني: "تجنب تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس، لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح مثل إبراهيم بن أبي يحيى، وموسى بن
(1)"تقريب التهذيب"(1/ 335) .
(2)
"ميزان الاعتدال"(2/ 236) ، وانظر ترجمته أيضَا في "تهذيب التهذيب"(4/ 244) ، و"الجرح والتعديل"(4/ 326) ، و"تاريخ بغداد"(8/ 42-44) ، و"طبقات المفسرين"(1/209) ، و"سير أعلام النبلاء"(10/627) .
(3)
"ميزان الاعتدال"(2/ 659) رقم (5227) .
(4)
"تهذيب التهذيب"(6/ 404) .
عبيدة وغيرهما" (1) .
وقال الإمام صلاح الدين العلائي: "يكثر من التدليس"(2) .
واعلم؛ أن هذا الحديث لا يصلح أن يكون شاهدا لحديث عائشة السابق وذلك لتخالف متن الحديثين، ولإعضال هذا الحديث كما أشرنا (3) .
الشبهة الثالثة
* ما أخرجه البيهقي في "سننه" من طريق محمد بن رمح، ثنا ابن لَهِيعة،
عن عياض بن عبد الله أنه سمع إبراهيم بن عبيد بن رفاعة الأنصاري يخبر
عن أبيه أظنه عن أسماء ابنة عميس أنها قالت: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وعندها أختها أسماء بنت أبي بكر
رضي الله عنهم، وعليها ثياب شامية واسعة الأكمام، فلما نظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فخرج، فقالت عائشة رضي الله عنها: تَنَحَّي فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا كرهه، فتنحت، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عائشة
رضي الله عنها: لم قام؟ قال: "أو لم تَرَ إلى هيئتها؟! إنه ليس للمرأة
(1)"السابق"(6/ 405) .
(2)
"جامع التحصيل في أحكام المراسيل" ص (108) رقم (33) .
(3)
وقد تعقب العلامة الألباني الشيخ أبا الأعلى المودودي رحمه الله في تقويته هذا الحديث بمرسل قتادة، ثم احتجاجه بهما على أن المرأة عورة كلها إلا الوجه
واليدين على جميع الناس حتى على الأب والأخ وسائر المحارم!
غير أن مدار المساجلة كان حول لفظ لم أعثر عليه في مظانه من تفسير ابن جرير،
وكلا الشيخين لم يعزه إلى موضعه فيه، واللفظ المشار إليه: عن ابن جريج قال: "خرجت لابن أخي عبد الله بن الطفيل مزينة، فكرهه النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنه ابن أخي يا رسول الله، فقال: "إذا عركت المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها إلا ما دون هذا"، وقبض على ذراع نفسه"، وبين الألباني رحمه الله مخالفة لفظ الحديث لنص القرآن (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) الآية، وفيها: (أَوْ بَنِي =
المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا"، وأخذ بكميه فغطى بهما ظهر كفيه حتى لم يبد من كفيه إلا أصابعه، ثم نصب كفيه على صُدْغَيْهِ حتى لم يَبْدُ إلا
وجهه.
قال البيهقي: إسناده ضعيف (1) .
وعياض بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر هو الفهري (2) ، من رجال
مسلم، قال أبو حاتم:"ليس بالقوي"، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الساجي:"روى عنه ابن وهب أحاديث فيها نظر"، وقال يحيى بن
معين: "ضعيف الحديث"، وقال ابن شاهين:"في الثقات"، وقال أبو صالح:"ثبت له بالمدينة شأن كبير، في حديثه شيء"، وقال البخاري:"منكر الحديث"، وقال الحافظ في "التقريب":"فيه لين"(3) .
لكن علة هذا الحديث ابن لَهِيعة، واسمه عبد الله الحضرمي أبو
عبد الرحمن المصري القاضي وهو ثقة فاضل، لكنه كان يحدث من كتبه
فاحترقت، فحدث من حفظه فخلط (4) .
قال الهيثمي: "وفيه ابن لهِيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح"(5) .
وقال في موضع آخر: "ابن لَهِيعة حديثه حسن، وفيه ضعف"(6) .
= إِخْوَانِهِنَّ) ثم قال: (فهي - أي الآية - صريحة الدلالة على جواز إبداء المرأة
زينتها لابن أخيها، فكان الحديث منكرَا من هذه الجهة أيضًا) اهـ من "حجاب المرأة المسلمة" هامش ص (18) .
(1)
"السنن الكبرى"(7/ 86) .
(2)
"تهذيب التهذيب"(8/ 201) .
(3)
"تقريب التهذيب"(2/96) .
(4)
فمن حدث عنه قبل احتراق كتبه كالعبادلة وغيرهم فحديثه قوي، ومن روى عنه بعد احتراق كتبه فحديثه ضعيف، إلا أن يجبره وجه آخر.
(5)
"مجمع الزوائد"(5/ 137)، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، والأوسط) اهـ.
(6)
"السابق"(5/137) .
وقال الإمام أبو محمد عبد الرحمن الرازي ابن الإمام أبي حاتم الرازي
بعدما ساق سندين في كل منهما ابن لهيعة: "قلت لأبي: فأيهما أصح؟ قال: لا يضبط عندي، جميعا ضعيفين"(1) .
وقال الجوزجاني: "لا يوقف على حديثه، ولا ينبغي أن يحتج به، ولا يغتر بروايته، وقال ابن حبان: سبرت أخباره، فرأيته يدلس على أقوام ضعفاء على أقوام ثقات قد رآهم"(2) .
وقال الألباني: "ضعيف من قبل حفظه"(3) .
وقال أيضًا. "وبعض المتأخرين يحسن حديثه، وبعضهم يصححه" اهـ.
ثم قال: والذي لا شك فيه أن حديثه في المتابعات والشواهد لا ينزل
عن رتبة الحسن، وهذا منها" (4) اهـ.
(1)"علل الحديث" لابن أبي حاتم (1/ 482) .
(2)
"الضعفاء الصغير" ص (66) ، "الضعفاء والمتركون" ص (95) .
(3)
"سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" رقما (319) ، (461) .
(4)
"حجاب المرأة المسلمة" ص (25) .
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن فضيلة الشيخ الألباني يخالف كلا من ابن عباس رضي الله عنهما ومَنْ وافقه مِن الصحابة، ومن بعدهم كالبيهقي والقرطبي
ممن استدلوا بقوله تعالى (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) على أن المراد: الوجه والكفان،
انظر كتابه (ص 33) ، ورجح فضيلته أن الآية تستثني ما ظهر منها بدون قصد، فلا يسوغ أن تُجعل دليلَا شاملا لما ظهر منها بالقصد (ص 24) ، فحديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود هو الأصل الذي بنى عليه الشيخ مذهبه، وإذا كان هذا الأصل ضعيفَا في سنده ومعناه كما تقدم، ولا تقوم به حجة، فإن الفرع الذي ساقه لتقويته أولى بالطرح، ومن المعلوم أن من أباح السفور من العلماء إنما استدل مع حديث عائشة وأسماء بثلاثة أدلة:
أولها: أن الوجه والكفين ليسا من العورة في الصلاة والحج.
والثاني: تفسير قوله تعالى (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالوجه والكفين.
وكلاهما يبطل الشيخ الألباني الاستدلال به على إباحة السفور، انظر "حجاب
المرأة المسلمة" (ص 33) . =
وبعض من صحح أحاديث ابن لَهِيعة إنما صححها من رواية العبادلة (1)
عنه.
ومع تضعيف الإمام البيهقي رحمه الله هذا الحديثَ، فإنه- إلى جانب
ذلك - أعرض عن الاستشهاد به لتقوية حديث عائشة رضي الله عنها، مع
أنه- دون غيره من المحدثين - أخرجهما معًا في سننه، فكأنه رحمه الله لم
يَعُدَّهُ صالحا في المتابعات والشواهد (2) .
أما احتجاجه رحمه الله بما رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما، فقد تقدم الجواب عنه في تفسير قوله تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)(3) وبيان ضعفه سندا.
فعلى هذا يكون تفسير (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالوجه والكفين محتاجًا إلى
دليل صحيح، ودليلهم الذي بنوا عليه مذهبهم الحديث المرسل المروي عن عائشة رضي، الله عنها، فكيف يكون مجرد قولهم دليلا على صحة الحديث؟ وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه تفسير (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالثياب، وإذا صح ما رُوي عن ابن عباس (4) رضي الله عنهما يكون قول صَحابي
= والثالث: دعوى جريان عمل النساء به، وهذه فيها نظر، انظر ص (475) ، وكذا جواب الشبهات من الرابعة إلى الثامنة، وكذا العاشرة، والحادية عشرة.
(1)
والبعض يضيف إلى العبادلة آخرين حدثوا عنه قبل احتراق كتبه، ليس منهم محمد بن رمح راوي هذا الحديث عنه.
(2)
بل لما أراد رحمه الله تقوية حديث عائشة رضي الله عنها عدل عن هذا الحديث إلى تقويته بالآثار الواردة عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، فقال عقب روايته: "مع هذا المرسل قول من مضى من الصحابة رضي الله عنهم في بيان ما أباح الله
من الزينة الظاهرة، فصار القول بذلك قويًّا، والله الموفق" اهـ. من "السنن
الكبرى" (2/ 226) ، وانظر: "النقد البناء لحديث أسماء" فإنه بحث متين.
(3)
راجع (ص 284-289) .
(4)
وقد صحح الألباني تفسير ابن عباس رضي الله عنهما للآية، بأن المقصود: =
خالفه صاحبي آخر، فوجب أن نختار أقرب القولين إلى الكتاب والسنة.
واعلم؛ أن من حسَّن حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه عنها
خالد بن دريك، إنما حسنه - رغم انقطاعه - باعتبار حديث أسماء بنت
عميس - هذا رغم ضعفه - شاهدا موصولًا له.
ولو سلمنا بتحسين الحديثين، لكان الجواب عن حديث أسماء هذا
كالجواب عن حديث عائشة رضي الله عنها، تماما كما تقدم (1) ، والعلم
عند الله تعالى.
الشبهة الرابعة
حديث السفعاء الخدين
* ذهب بعض الفضلاء إلى تحسين حديث أسماء السابق، وبعد أن صلح
عنده الاحتجاج به قال: "وقد جرى العمل عليه عند النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث كن يكشفن عن وجوههن وأيديهن بحضرته صلى الله عليه وسلم وهو لا ينكر
ذلك، عليهن" اهـ.
وهذا السياق لا يصح جملة وتفصيلا، بل ذهب بعض العلماء إلى القول
بأن: "سياق هذا بأسلوب الجزم فيه افتئات في حق النبي صلى الله عليه وسلم وحق النساء
المؤمنات رضي الله عنهن، لأن الأدلة التي كانت هي السند في سياقه لا تحمل أمورا قطعية، وإنما تضمنت احتمالات ضعيفة لا تقوم بها حجة على ما قاله، لأن مثل ذلك يحتاج إلى أدلة قطعية ومتواترة، ولا شيء من هذا
= "الكف، ورقعة الوجه"، وهو في "المصنف" لابن أبي شيبة (4/ 283)، وقال الألباني:"وروى نحوه عن ابن عمر بسند صحيح أيضَا" اهـ، وانظر: "تمام المنة
في التعليق على فقه السنة" (ص 160 – 161)
(1)
راجع (ص 372-384) .
كله" (1) اهـ.
ومن هذه الأدلة التي استدل بها فضيلته على هذه الدعوى:
* ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم
قام متوكئا على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ
الناس، وذكَّرهم، ثم مضى حتى أتى النساء (2) فوعظهن، وذكَرهن، فقال:
"تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم"، فتكلمت امرأة من سطة النساء (3) سفعاء الخدين (4)، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: "لأنكن تكثرن الشكاية،
وتكفرن العشير"، قال: فجعلن يتصدقن من حُليّهن، يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن (5) .
قال: وقول جابر في هذا الحديث: سفعاء الخدين، يدل على أنها كانت كاشفة عن وجهها، إذ لو كانت محتجبة لما رأى خديها، ولما علم بأنها
سفعاء الخدين.
والجواب
*أولا:
أن الحديث ليس فيه حجة لإثبات ما أورده من أجله.
(1)"نظرات في حجاب المرأة المسلمة"(ص 67-68) .
(2)
وفي رواية النسائي: (ومضى إلى النساء ومعه بلال) قال القاري في "المرقاة": ولا
يلزم منه رؤيته لهن اهـ (2/255) .
(3)
أي جالسة وسطهن.
(4)
أي فيهما تغير وسواد.
(5)
أخرجه البخاري في خمسة عشر موضعًا، ومسلم في العيدين، والنسائي،
والدارمي، والبيهقي، والإمام أحمد في مسنده بإسنادٍ صححه السندي.
* قال العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
"وأجيب عن حديث جابر هذا بأنه ليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم
رآها كاشفة عن وجهها، وأقرها على ذلك، بل غاية ما يفيده الحديث أن
جابرا رأى وجهها، وذلك لا يستلزم كشفها عنه قصدًا، وكم من امرأة يسقط خمارها عن وجهها من غير قصد، فيراه بعض الناس في تلك الحال، كما قال نابغة ذبيان:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
…
فتناولته واتقتنا باليدِ
فعلى المحتج بحديث جابر المذكور أن يثبت أنه صلى الله عليه وسلم رآها سافرة، وأقرها
على ذلك، ولا سبيل له إلى إثبات ذلك" اهـ (1) .
* وقال الشيخ حمود بن عبد الله التويجري حفظه الله تعالى:
"وأما حديث جابر رضي الله عنه فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى تلك المرأة سافرة
بوجهها، وأقرها على ذلك، حتى يكون فيه حجة لأهل السفور، وغاية ما
فيه أن جابرًا رأى وجه تلك المرأة، فلعل جلبابها انحسر عن وجهها
بغير قصد منها، فرآه جابر، وأخبر عن صفته، ومن ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآها كما رآها جابر، وأقرها فعليه الدليل" (2) اهـ.
* وقال الأستاذ درويش مصطفى حسن حفظه الله:
"إن هذه المرأة كانت مبدية وجهها وهي في وسط النساء، وفي مصلاهن
يوم العيد، ولا حرج عليها في ذلك، أما وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
أتاهن يخبرهن بأن أكثر النساء حطب جهنم، نسيت كل شيء، ولم تهتم إلا بأمر واحد دون ما عداه، وهو معرفة سبب هذا الأمر الخطير، فهمَّت
تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتغافلت حينا عن تغطية وجهها دون أن تقصد،
(1)"أضواء البيان"(6/597) .
(2)
"الصارم المشهور" ص (117 - 118) .
فوقع نظر جابر - راوي الحديث - على حالتها تلك، فأخبر بهذا الوصف
الذي رآه، لكي تعرف به هذه المرأة من غير أن يقصد النظر إليها" (1) اهـ.
* ثانيًا:
أنه قد روى هذه القصة المذكورة من الصحابة غير جابر رضي الله عنه،
ولم يذكروا كشف المرأة المذكورة عن وجهها، وقد ذكر مسلم "صحيحه"
ممن رواها - غير جابر - أبا سعيد الخدري، وابن عباس، وابن عمر رضي
الله عنهم، وذكره غيره عن غيرهم، ولم يقل أحد ممن روى القصة غير
جابر إنه رأى خدي تلك المرأة السفعاء الخدين (2) .
* قال الشيخ حمود التويجري حفظه الله:
"ومما يدل على أن جابرًا رضي الله عنه قد انفرد برؤية وجه المرأة التي خاطبت
النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبا هريرة وأبا سعيد
الخدري رضي الله عنهم رَوَوْا خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وموعظته للنساء، ولم يذكر
واحد منهم ما ذكره جابر رضي الله عنه من سفور تلك المرأة وصفة خديها.
فأما حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فرواه الإمام أحمد في "مسنده"،
والحاكم في "مستدركه"، وقال:"صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه
الذهبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر النساء تصدقن ولو من
حُلِيكُن فإنكن أكثر أهل جهنم"، فقالت امرأة ليست من عِليَةِ النساء: وبم يا رسول الله نحن أكثر أهل جهنم؟ قال: "إنكن يكثِرنَ اللعن وتكفرن العشير (3) ".
(1)"فصل الخطاب في مسألة الحجاب والنقاب"(ص 95) .
(2)
(فلعل هذا كان لقبَا للمرأة، أو أن الراوي كان يعرفها قبل الحجاب) اهـ. من
"حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة" لمكية نواب مرزا - رسالة ماجستير جامعة أم القرى (ص 54) .
(3)
أي الزوج، أي يجحدن إحسان أزواجهن.
فوصف ابن مسعود رضي الله عنه المرأة التي خاطبت النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ليست من علية النساء، أي ليست من أشرافهن، ولم يذكر عنها سفورًا ولا صفة الخدين.
وأما حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فرواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا معشر النساء تصدقن، وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار"، فقالت امرأة منهن جَزْلَة: وما لنا يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير"،
فوصف المرأة بأنها كانت جزلة، ولم يذكر ما رواه جابر من سَفْع خَدَّيها.
قال ابن الأثير: امرأة جزلة أي تامةُ الخَلْق، ويجوز أن تكون ذات كلام جزل أي: قوي شديد.
وقال النووي: جزلة بفتح الجيم وإسكان الزاي، أي ذات عقل ورأي، قال ابن درَيد: الجزالة العقلُ والوقار.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فرواه الإمام أحمد والشيخان وأهل السنن إلا الترمذي، وفيه: فقالت امرأة واحدة لم يُجِبْهُ غيرها منهن:
نعم يا نبي الله، لا يُدرى حينئذٍ من هي، قال: فتصدقن. . ." الحديث.
قال النووي رحمه الله في قوله "لا يدري حينئد من هي": معناه لكثرة النساء، واشتمالهن بثيابهن لا يدرى من هي؟ اهـ.
فهذا ابن عباس رضي الله عنهما لم يذكر عن تلك المرأة سفورًا، ولا عن غيرها من النسوة اللاتي شهدن صلاة العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شهودُ
ابن عباس رضي الله عنهما لصلاة العيد في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فرواه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي،
وقال: "حديث حسن صحيح"، وفيه. "فقالت امرأة منهن: ولم ذلك يا رسول الله؟ . . ." الحديث.
وأما حديث أبي سعيد رضي الله عنه، فأخرجاه في الصحيحين وفيه: "فقلن:
وبم يا رسول الله؟ . . ." الحديث.
فهؤلاء خمسة من الصحابة رضي الله عنهم، ذكروا نحو ما ذكره جابر
رضي الله عنه، من موعظة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء، وسؤالهن له عن السبب في كونهن أكثر
أهل النار، ولم يذكر واحد منهم سفورًا، لا عن تلك المرأة التي خاطبت النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن غيرها، وهذا يقوي القول بأن جابرا رضي الله عنه قد انفرد
برؤية وجه تلك المرأة، ورؤيته لوجهها لا حجة فيه لأهل التبرج والسفور،
لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآها سافرة بوجهها، وأقرها على ذلك" (1) .
* ثالثًا:
* قال الإمام النووي رحمه الله في شرح حديث جابر هذا عند مسلم:
وقوله: "فقامت امرأة من سطة النساء" هكذا هو في النسخ سِطة بكسر السين، وبفتح الطاء المخففة، وفي بعض النسخ: واسطة النساء، قال القاضي:"معناه: من خيارهن، والوسط: العدل والخيار"، قال: وزعم حذاق شيوخنا أن هذا الحرف مغيَّر في كتاب مسلم، وأن صوابه: من سفلة النساء، وكذا رواه ابن أبي شيبة في "مسنده"، والنسائي في "سننه"،
وفي رواية لابن أبي شيبة: (امرأة ليست من علية النساء) ، وهذا ضد التفسير الأول، ويعضده قوله بعده:"سفعاء الخدين " وهذا كلام القاضي، وهذا الذي ادَّعَوْه من تغيير الكلمة غير مقبول، بل هي صحيحة، وليس المراد بها من خيار النساء كما فسَّره به هو، بل المراد: امرأة من وسط النساء جالسة في وسطهن، قال الجوهري وغيره من أهل اللغة: يقال وسطت القوم أوسطهم وسطًا وسطة أي توسطتهم " (2) اهـ.
* قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي، رحمه الله:
وهذا التفسير الأخير هو الصحيح، فليس في حديث جابر ثناء: ألبتة على
(1)"الصارم المشهور"(ص 118-122) بتصرف،
(2)
"شرح النووي على صحيح مسلم"(6/175) .
سفعاء الخدين المذكورة، ويحتمل أن جابرا ذكر سُفْعَةَ خديها ليشير إلى أنها ليست ممن شأنها الافتتان بها (1) ، لأن سُفْعة الخدين قبح في النساء، قال النووي:"سفعاء الخدين: أي فيهما تغير وسواد"، وقال الجوهري في "صحاحه": والسُّفْعَة في الوجه سواد في خدي المرأة الشاحبة، ويقال للحمامة سفعاء، لما في عنقها من السُّفْعة، قال حميد بن ثور:
من الورق سفعاء العلاطين باكرت
…
فروع أشاء مطلع الشمس أسحما
قال مقيده عفا الله عنه، وغفر له:
السُّفْعَةَ في الخدين من المعاني المشهورة في كلام العرب أنها سوادٌ وتغير فى الوجه من مرض أو مصيبة أو سفر شديد، ومن ذلك قول متمم بن نُويرة التميمي يبكي أخاه مالكا:
تقول ابنةُ العمري مالَكَ بعد ما
…
أراك خضيبا ناعم البال أروعا
فقلت لها طولُ الأسى إذ سألتِني
…
ولَوْعَةُ وَجْد تترك الخدَّ أسفعا
ومعلوم أن من السُّفْعَة ما هو طبيعي كما في الصقور، فقد يكون في خَدَّيِ الصقر سواد طبيعي، ومنه قول زهير بن أبي سَلْمى:
أهوى لها أسفعُ الخدين مطرق
…
ريش القوادم لم تنصب له الشبك
والمقصود أن السفعة في الخدين إشارة إلى قبح الوجه، وبعض أهل العلم يقول: إن قبيحة الوجه التي لا يرغب فيها الرجال لقبحها، لها حكم القواعد اللاتي لا يرجون نكاحًا" (2) اهـ.
(1) وقيل إنه لم يرها، ولكنه تكلم عنها بوصفها السائد الذي لا يتوقف على رؤيتها كما مر ذلك قريبا، يؤيد ذلك أنه من المعاني الشهيرة في كلام العرب بصفته تغيرَا وسوادًا في الوجه من مرض أو مصيبة.
(2)
"أضواء البيان"(6/597 – 599) ، ومما يؤيده أن الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى أشار إلى استثناء القواعد، من النساء اللاتي لا يرجون نكاحًا من قوله تعالى:(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) الآية، فحكى رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (فنسخ، واستثنى من ذلك (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ =
* رابعا:
أن هذه المرأة ربما تكون من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحًا، فلا تثريب عليها في كشف وجهها على النحو المذكور، ولا يمنع ذلك من وجوب الحجاب على غيرها، قال تعالى:(وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)) [النور: 60] .
يؤيد ذلك أن الراوي وصفها بأنها سفعاء الخدين، أي فيهما تغير وسواد فهي من الجنس المعذور في السفور حيث لم يكن بها داع من دواعي الفتنه. ويؤيده أيضَا ما تعارف عليه النساء غالبا من أن المرأة التي تجرؤ على سؤال الرجال هي أكبرهن سنا، والعلم عند الله تعالى (1) .
* خامسا:
أن هذا الحديث ليس فيه ما يدل على أن هذه القصة كانت قبل الحجاب أو بعده، فيحتمل أنها كانت قبل أمر الله تعالى النساء أن يضربن يخمرهن على جيوبهن، وأن يدنين عليهن من جلابيبهن.
" قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
إما أن تكون هذه المرأة من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا فكشف وجهها مباح، ولا يمنع وجوب الحجاب على غيرها، أو يكون قبل نزول آية الحجاب، فإنها كانت في سورة الأحزاب سنة خمس أو ست من الهجرة، وصلاة العيد شرعت في السنة الثانية من الهجرة (2) .
= اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) الآية) ، ثم قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:"وفي معنى ذلك الشوهاء التي لا تشتهى) اهـ. من المغني "(6/ 560) .
(1)
انظر: "الصارم المشهور" ص 122، "نظرات" ص 68، "رسالة الحجاب"(ص 32) ، "فصل الخطاب" ص 96، "الحجاب" للسندي (ص 44 – 45)
(2)
"رسالة الحجاب" ص 32، ولا يمتنع أن تشرع في السنة الثانية وتخرج النساء =
وقال الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي رحمه الله:
"من المعروف والمتقرر أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتعارض، ولا تتضارب، ولا يرد بعضها بعضا، لأنها من عند الله كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أوتيت القرآن ومثله معه"، ولكن إذا حصل تعارض بين أحاديث الرسول فحينئذ لابد من سلوك طريق الجمع، فنقول: إذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى المرأة سفعاء الخدين وأقرها، وأنها لم تكن من القواعد (1) ، فالجمع هو أن حديث جابر كان قبل الأمر بالحجاب، فيكون منسوخًا بالأدلة التي ذكرناها، وهي أكثر من أربعين دليلًا، ومن ترك الدليل، ضل السبيل، وليس على قوله تعويل"(2) اهـ.
* وقال الشيخ عبد الله بن جار الله رحمه الله:
"هذا وإن أدلة وجوب الحجاب ناقلة عن الأصل، وأدلة جواز كشفه مبقية على الأصل، والناقل عن الأصل مقدم كما هو معروف عند الأصوليين، لأن مع الناقل زيادة علم، وهو إثبات تغيير الحكم الأصلي"(3) اهـ.
= إليها قبل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك لو قلنا إنه كان في السنة السادسة، أما استدلال محدث الشام رحمه الله بقوله صلى الله عليه وسلم "لتلبسها أختها من جلبابها" على أن المرأة السفعاء الخدين كانت مجلببة محجبة مما يؤيد أن الحادثة بعد نزول آية
الإدناء، فلا يمنع أن النساء كن يلبسن الجلباب أولا، ثم نزل الأمر بمجرد
الإدناء، بل هو ظاهر الآية كما يفهم من إضافة الجلباب إليهن في قوله (مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) أي الموجودة بالفعل (راجع ص 213) .
(1)
وأنها لم تكن أَمَة، وقد جاء في المسند:(أنها كانت من سفلة النساء) ، وأخرجه مسلم وأبو داود والدرامي.
(2)
"يا فتاة الإسلام"(ص 262-263) .
(3)
"مسئولية المرأة المسلمة" ص 58، وراجع ص (378) .
* وقال الشيخ عبد العزيز بن [راشد] النجدي رحمه الله:
"وأما حديث جابر فليس فيه أنه كان بعد نزول آيات الحجاب حتى يصلح دليلًا لما ذهب إليه مَن جوَّز كشف وجه المرأة، ولم يوجب حجبه عن الأجنبي منها باجتهاد وحسن نية، ولو علم ما جَرَّ على المسلمين وغيرهم من الإباحية والشر لما أفتى بذلك ولو ضرب بالسياط ما لم يشرف على
الهلاك، ولو طَلَب منه أو من مقلديه زائروه وأصدقاؤه أن يُحْضرَ إليهم
زوجته أو أخته أو إحدى محارمه فيْ مجلسهم عنده كاشفات الوَجوه أو محتجبات لَعَدَّ ذلك استخفافًا بحقه ودينه وسخرية منهم له، ولتسبب عن
ذلك هَجره إياهم، ومقاطعتهُ لهم مادام عنده حياءُ الإسلام، والإيمان بالكتاب.
يعلم ما ذكرنا قطعًا، ويجزم بحرمته وضرره على الرجال من لفت نظره
سفورُ النساء في الطرقات، والمجامع كالمواصلات والمحاكم والمستشفيات إذ أول ما يُطْمِعُه فيهن كشفُ وجوههن، وما إليها من عنق وشعر وصدر
تابعٌ للوجه في السفور والحجاب فعليك بالاحتياط لنفسك وعرضك لعلك تنجو من هذا الليل والفتن الجارفة، ولا تقولن: إذا أمِنَت الفتنه عند
الأجنبي منها جاز لها كشفُه ولو نظر إليها، فإن الفتن لا تؤمن على أحد مادامت الشهوة تجري في دمه، ويطمع في تفريغها ما لم يكن معصومًا من
قِبل الله بالنبوة أو تأييد إلهي، فإن لم يفتتن الناظر والمنظور بالوقوع في الفاحشة، فلن يُؤمَنَ عليها تعلقُ قلب أحدِهما بالثاني، والوقاية خير من
العلاج" (1) اهـ.
الشبهة الخامسة
* عن ابن عباس رضي الله عنهما قيل له: شهدت العيدَ مع النبي صلى الله عليه وسلم؟
(1)"أصول السيرة المحمدية"(ص 167) .
قال: نعم، ولولا مكاني من الصغَر ما شهدته، حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت، فصلىَّ، فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يُجَلِّس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم، ثم أتى النساء ومعه بلال، فقال:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) فتلا هذه الآية
حتى فرغ منها، ثم قال حين فرغ منها:"أأنتن على ذلك؟ " فقالت امرأة
واحدة لم يجبه غيرها منهن: نعم يا نبي الله، ثم قال:"هلم لكنَّ فداكن أبي وأمي"، فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه، وفي رواية: فجعلن يلقين الفتخ والخواتم في ثوب بلال، ثم انطلق هو وبلال إلى بيته" (1) .
قال ابن حزم: "فهذا ابن عباس بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أيديهن
فصحَّ أن اليَدَ من المرأة والوجه ليسا بعورة، وما عداهما ففرض ستره" (2) اهـ.
والجواب:
أنه ليس في الحديث ذكر الوجه بحال، فأين فيه ما يدل على أن وجه المرأة ليس بعورة؟
وفي الحديث ذكر الأيدي ولكن ليس فيه تمرير بأنها كانت مكشوفة
حتى يتم الاستدلال به على أن يد المرأة ليست بعورة.
غاية ما فيه أن ابن عباس رضي الله عنهما رآهن يهوين بأيديهن (3) ، ولم
يذكر حسرهن عن أيديهن، وإذا كان الحديث محتملًا لكل من الأمرين لم يصح الاستدلال به على أن يد المرأة ليست بعورة، فإن الدليل إذا طرقه
الاحتمال سقط به الاستدلال، والله تعالى أعلم.
(1) رواه البخاري (2/ 539 - 541) ، وأبو داود (1/174) ، والبيهقي في "سننه"
(3/ 307) ، والنسائي (1/ 227) ، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 331) .
(2)
"المحلى"(3/217) .
(3)
ولعل صغر سنه المنوه به في صدر الحديث يقضي بأن يغتفر له حضور موعظة النساء.
الشبهة السادسة
* عن عائشة رضي الله عنها قالت: أومت – وفي لفظ: أومأت - امرأة
من وراء ستر، بيدها كتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم
يده، فقال:"ما أدري أيد رجل أم يد امرأة؟ " قالت: بل امرأة - وفي لفظ: بل يد امرأة -، قال:"لو كنتِ امرأة لغيرت أظفارك" - يعني بالحناء" (1) .
* والجواب عنه من وجهين:
أولَا: أن في إسناده مطيعَ بن ميمون العنبري، قال في "التقريب": لين الحديث (2)، وقال في "التهذيب": روى عن صفية بنت عصمة. . . قال ابن عدي: له حديثان غير محفوظين، قلت: أحدهما في اختضاب النساء بالحناء" والآخر في الترجل والزينة، قال: وذكر له ثالثًا، وقال: وهما جميعا غير محفوظ "(3) اهـ.
وفيه أيضا: صفية بنت عصمة، قال س الحافظ في "التقريب": لا تعرف (4)، وقال المناوي:"رمز المصنف - أي السيوطي - لحسنه، ظاهر سكوته عليه أن مخرجه أحمد أخرجه وأقره، والأمر بخلافه فقد قال في "العلل": حديث منكر، وفي "الميزان": وعن ابن عدي أنه غير محفوظ، وقال في المعارضة: أحاديث الحناء كلها ضعيفة أو مجهولة"(5) اهـ.
وقد ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير"(6) .
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/ 262) ، وأبو داود في الترجل رقم (4148) باب في
الخضاب للنساء، والنسائي (8/ 142) في الزينة باب الخضاب للنساء.
(2)
"تقريب التهذيب"(2/ 255) .
(3)
"تهذيب التهذيب"(10/ 183) .
(4)
"التقريب "(2/603) .
(5)
"فيض القدير"(5/ 330) .
(6)
"ضعيف الجامع الصغير"(5/ 49) رقم (4846)
ثانيا: وعلى فرض! صحته، ليس فيه دليل على إباحة السفور بل هو مختص بذكر اليد.
*وعن عائشة رضي الله عنها أن هند ابنة عتبة قالت: يا نبي الله بايعني، قال:"لا أبايعك حتى تغيري كفيك، كأنهما كفا سَبُع"(1) .
* والجواب عنه كسابقه، مع أن هذا ليس فيه ما يفيد أن كفيها كانتا مكشوفتين، وفي سنده غبطة بنت عمرو المجاشعية البصرية، وعمتها، وجدتها، ثلاثتهن مجهولات.
أما غبطة: فقد ذكرها الحافظ في "لسان الميزان"(2) في (فصل في النساء المجهولات) وقال في "التقريب": "مقبولة"(3) ، يعني إذا توبعت، وإلا فلَيّنة.
وأما عمتها أم الحسن: فقال في "التقريب": "لا يعرف حالها"(4) ،
وأما جدتها: فقال الذهبي في "الميزان": أم الحسن عن جدتها عن عائشة، لا يدرى من هاتان (5) .
الشبهة السابعة
* عن سهل بن سعد (6) رضي الله عنه "أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت:
يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعَّد النظر إليها وصوَّبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقصد منها شيئًا
(1) أخرجه أبو داود في سننه رقم (4147) في الترجل، باب في الخضاب للنساء،
والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(6/ 57) ، رقم (6182) وذكر أنه ضمنه "السلسلة الضعيفة" رقم (4466) .
(2)
"لسان الميزان"(7/ 528) .
(3)
"التقريب"(2/ 608) .
(4)
"السابق"(2/ 620) .
(5)
"ميزان الاعتدال"(4/612) .
(6)
كان عمره حينئذ خمسة عشر عاما.
جلست. . ." الحديث (1) .
* والجواب من وجوه:
أحدها: ليس في الحديث أنها كانت سافرة الوجه، ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إليها
لا يدل على سفورها، لأن تصويب النظر لا يفيد رؤية الوجه، فيمكن أن
يكون نظرة إليها لمعرفة نبلها وشرفها وكرامتها، فإن هيئة الإنسان قد تدل على ذلك،
الثاني: ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي من أنه "يحتمل أن ذلك قبل الحجاب، أو بعده لكنها كانت متلفعة (2) .
وسياق الحديث يبعد ما قال سيما الأخير، بل إنه يشير إلى وقوع ذلك
في أوائل الهجرة، لأن الفقر كان قد تخفف كثيرًا بعد بني قينقاع والنضير
وقريظة، ومعلوم أن نزول الحجاب كان عقب قريظة، وفي الحديث إشارة
إلى شدة فقر الرجل الذي تزوجها حتى أنه لم يكن يملك خاتما من حديد.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم، ولا يقاس عليه غيره من البشر (3) .
الرابع: أنه ثبت في صحيح السنة أنه يباح للرجل أن ينظر إلى وجه المرأة
لقصد الخطبة، ويباح لها النظر إليه وكشف وجهها له، وعليه فلا حجة في
الحديث على إباحة كشف الوجه لأجنبي غير خاطِب، ومن استدل به على ذلك فقد حمل الحديث على غير مَحْمله، والله أعلم.
(1) رواه البخاري (9/ 34) ، ومسلم (4/ 143) ، والنسائي (2/ 86) ، والبيهقي
(7/ 84) - وترجم له: (باب نظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها) .
(2)
"فتح الباري"(9/118) .
(3)
قال الحافظ ابن حجر: والذي تحرر عندنا أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحرم عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيات بخلاف غيره اهـ "الفتح"(9/210) .
وانظر "مجلة الجامعة السلفية" عدد نوفمبر، وديسمبر 1978م ص 74، 76.
الشبهة الثامنة
حديث سبيعة بنت الحارث رضي الله عنها
* عن سُبيعة بنت الحارث أنها كانت تحت سعد بن خولة، فتوفي عنها
في حجة الوداع، وكان بدريًّا، فوضعت حملها قبل أن ينقضي أربعة أشهر وعشر من وفاته، فلقيها أبو السنابل بن بعكك حين تعلَّت (1) من نفاسها، وقد اكتحلت واختضبت وتهيأت، فقال لها: أربَعي (1) على نفسك - أو نحو
هذا - لعلك تريدين النكاح؟ إنها أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجك.
قالت: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ما قال أبو السنابل بن بعكك،
فقال: "قد حللتِ حين وضعت"(3) .
قال الألباني: "أخرجه الإمام أحمد من طريقين عنها، أحدهما صحيح،
والآخر حسن، وأصله في "الصحيحين" وغيرهما، وفي روايتهما: "تجملت
للخطاب"، وفيها أن أبا السنابل كان خطبها فأبت أن تنكحه.
والحديث صريح الدلالة على أن الكفين ليسا من العورة في عرف نساء الصحابة، وكذا الوجه أو العينان على الأقل، وإلا لما جاز لسبيعة رضي الله عنها أن تظهر ذلك أمام أبي السنابل لاسيما وكان قد خطبها فلم
ترضه" (4) اهـ.
(1) أي خرجت من نفاسها، وسلمت.
(2)
أي: ارفقي.
(3)
أخرجه الإمام أحمد (6/ 432) ، والبخاري في (9/414) ، ومسلم رقم
(1485)
، والترمذي رقم (1193) ، والنسائي (6/190) كلهم في كتاب
الطلاق.
(4)
"حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص 32) .
* والجواب بمعونة الملك الوهاب:
أولا: ليس في الحديث دليل على أنها كانت سافرة الوجه حين رآها
أبو السنابل بل غاية ما فيه أنه رأى خضاب يديها وكحل عينيها، ورؤية ذلك لا يستلزم رؤية الوجه.
* قال الشيخ عبد العزيز بن خلف:
"والمستمسك من الحديث هو أنه عرف منها أنها كانت مكتحلة
ومخضبة، وله أن يعرف أنها كانت مكتحلة حين تكون قد لوت الجلباب
على وجهها، وأخرجت عينا كما وصف ابن عباس رضي الله عنهما فعل
المؤمنات بعد نزول آية إدناء الجلابيب" (1) اهـ.
وقد أشار الألباني في الحاشية إلى هذا الاحتمال بقوله: "والحديث صريح الدلالة على أن الكفين ليسا من العورة في عرف نساء الصحابة،
وكذلك الوجه أو العينان على الأقل" اهـ.
ثانيًا: قال الحافظ ابن حجر في الفوائد المستنبطة من قصة سبيعة: وفيه
جواز تجمل المرأة بعد انقضاء عدتها لمن يخطبها، لأن في رواية الزهري التي فى المغازي:"فقال: ما لي أراك تجملت للخُطَّاب؟ "، وفي رواية ابن
إسْحاق: "فتهيأت للنكاح، واختَضبت"، وفي رواية معمر عن الزهري
عند أحمد: "فلقيها أبو السنابل وقد اكتحلت"، وفي رواية الأسود:"فتطيبت وتعطرت"(2) اهـ.
ويتضح من هذا أن إظهار زينتها إنما كان للخُطَّاب، وعليه ينبغي حمل
هذه الروايات، وقد سبق ذكر جملة من النصوص في الترخيص في نظر
الخاطب إلى المخطوبة بإذنها، أو بغير إذنها، فعلم أبو السنابل بخضابها
واكتحالها، وقال لها:"ما لي أراك تجملت للخطاب"، وكان قد نظر إليها
(1)"نظرات في حجاب المرأة المسلمة"(ص 75) ، وانظر (ص 181) .
(2)
"فتح الباري"(9/379) .
مريدا خطبتها لكنها أبت أن تنكحه.
جاء في رواية البخاري أنه كان ممن خطبها، فأبت أن تنكحه، فقال لها
ما قال، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"كذب (1) أبو السنابل" رواه أحمد، وفي رواية
الموطأ: فخطبها رجلان أحدهما شاب، وكهل، فحطت إلى الشاب، فقال الكهل:"لم تحلي"، وكان أهلها غَيَبًا فرجا أن يؤثروه بها" (2) اهـ.
فأين في الحديث جواز كشف الوجه والكفين لغير الخاطب؟
ثالثا: أما استدلال محدث الشام بقصة سبيعة على أن الكفين لم يكونا عورة في عرف نساء الصحابة: فيرده ما سبق ذكره (3) مرارًا امن أدلة الكتاب والسنة وأقوال العلماء على أن عرفهن الغالب كان الاستتار
الكامل عن الرجال، ويرده كذلك قول سبيعة نفسها في رواية أخرى:"فلما قال لي ذلك - أي أبو السنابل - جمعتُ عَلَيَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك. . . الحديث".
فقولها: "جمعت علي ثيابي" يوحى بأنها خرجت عن حال التزين المذكورة، وإذا ضممنا إليها قولها:"حين أمسيت" فهمنا عن سلوكها رضي الله عنها حرصها الشديد على الاستتار عن الأجانب ليس فقط بالحجاب بل أيضا بظلام الليل.
(1) وقد يراد بالكذب الخطأ في الفتوى، وهو في كلام أهل الحجاز كثير، أو يراد به ظاهره من جهة أنه كان عالمَا بالقصة وأفتى بخلافه، وهذا بعيد، قال الحافظ: "وفيه أن المفتي إذا كان له ميل إلى الشيء لا ينبغي له أن يفتي فيه لئلا يحمله الميلُ
إليه على ترجيح ما هو مرجوح كما وقع لأبي السنابل حيث أفتى سبيعة أنها لا
تحل بالوضع لكونه كان خطبها فمنعته، ورجا إذا قبلت ذلك منه وانتظرت مُضي المدة حضر أهلها فرغبوها في زواجه دون غيره " اهـ (9/ 475) .
(2)
"الموطأ"(2/ 589- 590) في الطلاق، باب عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملًا، ومعنى (حطّت إلى الشاب) : مالت إليه، ونزلت بقلبها نحوه. و (غَيَبًا) بفتح الياء جمع غائب "جامع الأصول"(8/108) .
(3)
انظر ص (450) ، (474)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
"وفيه مباشرة المرأة السؤال عما ينزل بها، ولو كان مما يستحي النساء
من مثله، لكنْ خروجُها من منزلها ليلا، ليكون أستر لها كما فعلت سبيعة" (1) اهـ.
الشبهة التاسعة
* احتج المبيحون للسفور بنصوص وردت في الأمر بغض البصر على أن هذا يلزم منه أن تكون وجوه النساء مكشوفة، وإلا فعن ماذا يُغَض البصر إذا كانت النساء مستورات الوجوه؟
وذلك مثل قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)) [النور: 30] . وقوله صلى الله عليه وسلم: "يا علي لا تُتْبع النظرةَ النظرةَ، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة"(2) .
وفي حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري"(3) .
فاستنبطوا من الآية القرآنية الآمرة بغض البصر أن في المرأة شيئا مكشوفًا، ثم أثبتوا- باجتهادهم- أن هذا الشيء المكشوف هو الوجه والكفان، ثم استشهدوا لذلك بالأحاديث التي فيها أيضًا أمر بغض البصر.
* والجواب بمعونة الملك الوهاب:
أن هذا الأمر بغض البصر أمر من الله سبحانه وتعالى، وأمر من
(1) فتح الباري" (9/ 379) .
(2)
تقدم تخريجه (ص 47) .
(3)
تقدم تخريجه (ص 47) .
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بوجوب التزامه طاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أما كونه يقضي بأن هناك شيئًا مكشوفا للأجانب من المرأة المسلمة هو الوجه والكفان، فهذا قول غير صحيح يرده النقل والعقل، ويأباه الواقع، وبيان ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن المدينة المنورة في زمن التنزيل كان فيها نساء اليهود والسبايا والإماء، ونحوهن، وربما بقي النساء غير المسلمات في المجتمع الإسلامي سافراتٍ كاشفات الوجوه، فأُمِروا بغض البصر عنهن.
وغاية ما في الأمر بغض البصر إمكان وقوع النظر على الأجنبيات، وهذا لا يستلزم جواز كشف الوجوه والأيدي أمام الأجانب.
قال البخاري رحمه الله تعالى: قال سعيد بن أبي الحسن للحسن: إن
نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن؟ قال: اصرف بصرك عنهن،
يقول الله عز وجل: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) قال قتادة: عما لا يحل لهم (1) .
والأمر بالحجاب منذ اللحظة الأولى لم يتوجه لغير المؤمنات، لأنهن مظنة الاستجابة لأمر الله عز وجل، قال تعالى:(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)، [سورة الأحزاب: 36] الآية، وقال جل وعلا:(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)) [النور: 51] .
وقال سبحانه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الآية [سورة الأحزاب: 59] ، ولم يقل (ونساء أهل المدينة) .
وقال تبارك وتعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) الآية، وقال
(1) صحيح البخاري - كتاب الاستئذان رقم 79 – "فتح الباري"(11/9) .
سبحانه: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) الآية، ولم يقل (وقل لنساء المدينة) ، لكن الأمر توجه لمن شرفهن الله تعالى بالإيمان مطلقا.
والقرآن اليوم يخاطبنا كما خاطب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من قبل، فنحن اليوم أيضا لا نخاطب الكوافر والفواسق بستر الوجه وإنما نخاطب المؤمنين والمؤمنات، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،
وإذا كانت المرأة غير مسلمة، أو مسلمة اجترأت على هتك أوامر الله، وتعمدت كشف زينتها - وهذا ما عمت به البلوى في زماننا - فالواجب هنا - على الأقل – أن يؤمر الرجل بغض البصر، مع العلم بأن هذا لا
يقتضي أن ما فعلته هذه المرأة من كشف الوجه وغيره تجيزه الشريعة بغير عذر أو مصلحة.
الثاني: أن الله تبارك وتعالى أمر بغض البصر، لأن المرأة - وإن تحفظت غاية التحفظ، وبالغت في الاستتار عن الناس - فلابد أن يبدو بعض أطرافها في بعض الأحيان كما هو معلوم بالمشاهدة من اللاتي يبالغن في التحجب والتستر، فلهذا أمر الرجال بغض البصر عما يبدو منهن في بعض الأحوال.
وهذا الأمر بالغض لا يستلزم أنها تكشف ذلك عمدا وقصدا، فكم من
امرأة تحرك الريح ثيابها، أو تقع فيسقط الخمار عن وجهها من غير قصد
منها فيراها بعض الناس على تلك الحال، كما قال النابغة الذبياني:
سَقَط النصِيف ولم تُرِدْ إِسقاطه
…
فَتَنَاوَلَتْهُ، وأتَّقَتْنا بالْيَدِ
أي تناولته بيدٍ، واتقتنا فسترت وجهها باليد الأخرى.
ومن هنا قال تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ولم يقل (إلا ما أظهرنه) لأن "أظهر" في معنى التعمد، بخلاف "ظهر" أي من غير قصد منها فهذا مَعفُوٌّ عنه، لا ما تظهره هي بقصد، فعليها حرج في تعمد
ذلك، وكثيرا ما يصادف الرجل المرأة وهي غافلة، فيرى وجهها أو غيره
من أطرافها، فأمره الشارع حينئدِ بصرف بصره عنها كما في حديث جرير
ابن عبد الله رضي الله عنه، قال:(سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري)(1) فهذا هو موقع نظر الفجأة.
وفي سؤال جرير عن نظر الفجأة دليل على مشروعية استتار النساء عن
الرجال الأجانب وتغطية وجوههن عنهم، وإلا لكان سؤاله عن نظر الفجأة لغوًا لا معنى له، ولا فائدة من ذكره.
الثالث: عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الحج في آخر حجة حجها، وبعث معهن
عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه،
قال: فكان عثمان ينادي: ألا لا يدنوا إليهن أحد، ولا ينظر إليهن أحد، وهن في الهوادجِ على الإبل، فإذا نزلن أنزلهن بصدر الشِّعب، وكان عثمان وعبد الرحمن بذنَب الشعب، فلم يصعد إليهن أحد (2) .
ومن المقطوع به أن أمهات المؤمنين كن يحتجبن حجابًا شاملا جميع
البدن بغير استثناء، ومع هذا قال عثمان رضي الله عنه:"ولا ينظر إليهن أحد"
يعني إلى شخوصهن لا إلى وجوههن لأنها مستورة بالإجماع، ومع ذلك نهى
عن النظر إلى شخوصهن تعظيمًا لحرمتهن، وإكبارًا وإجلالًا لهن، وذلك
لشدة احترام الصحابة رضوان الله عليهم أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. ويستفاد من هذا أن مِنْ حِفظ حرمة المؤمنة المحجبة غضَّ البصر عنها -
وإن تنقبت -، خاصة وأن جمالها قد يعرف، وينظر إليها -لجمالها وهي
مختمرة، وذلك لمعرفة قوامها أو نحوه، وقد يعرف وضاءتها وحسنها من مجرد رؤية بنانها كما هو معلوم، ولذلك فسَّر ابن مسعود رضي الله عنه قوله تعالى:
(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بأن الزينة هى الملاءة فوق
(1) تقدم تخريجه (ص 47)
(2)
أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(8/152)
الثياب، ومما يوضح أن الحسن قد يعرف مع الاحتجاب الكامل قول الشاعر:
طافَتْ أُمامَةُ بالركبانِ آونَةً
…
يا حُسْنَها مِن قوام ما وَمنْتَقِبا
فقد بالغ في وصف حسن قوامها مع أن العادة كونه مستورًا بالثياب لا منكشفا، وهو يصفها بهذا الحسن أيضا مع كونها منتقبة.
ومن ثم قال العلماء: إنه لا يجوز للرجل أن ينظر إلى بدن المرأة نظر شهوة ولو كانت مستورة، لأن ذلك مدعاة إلى الافتتان بها كما لا يخفى،
ووقوعه فيما سماه النبي صلى الله عليه وسلم: "زنا العين"، قال صلى الله عليه وسلم:"والعينان تزنيان، وزناهما النظر"(1) .
ولا مخرج من ذلك إلا غض البصر عنها ولو كانت محجبة، لأنه إذا نظر إليها نظر شهوة - ولو كانت محجبة - لكان حرامًا عليه كما تقدم.
الرابع: أنه قد تعرض للمرأة المحجبة ضرورات بل حاجات تدعوها إلى
كشف وجهها، ويرخص لها في ذلك مثل نظر القاضي إلى المرأة عند الشهادة، والنظر إلى المرأة المشتبه فيها عند تحقيق الجرائم، ونظر الطبيب
المعالج إلى المرأة بشروطه، والنظر إلى المراد خطبتها، وهذا كله يكون بقدر
الحاجة فقط لا يجوز له أن يتعداها، فإن دعته نفسه إلى الزيادة عن قدر
الحاجة فهو مأمور بغض البصر عنها، والله أعلم.
الخامس: أن اعتبار أمر الله تعالى المؤمنين بغض الأبصار دليلا على أن
وجوه المسلمات كانت مكشوفة للأجانب مجرد وهم وظن، بدليل ترتيب
آيات الحجاب حسب نزولها، وذلك لأن الأمر بالحجاب الكامل الذي جاء في قوله عز وجل:(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) الآية [الأحزاب: 33] .
وقوله سبحانه وتعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ
(1) رواه مسلم في صحيحه، انظر "شرح النووي"(6/ 206)
ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) [الأحزاب: 53] .
وقوله جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)) [الأحزاب: 59] ، كل هذه الأوامر بالحجاب إنما نزلت في
سورة الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة النبوية، وشاع الحجاب بعدها في المجتمع المسلم بعد نزولها، وقبل الأمر بغض البصر، الذي نزل في سورة النور التي نزلت في السنة السادسة من الهجرة (1) .
ومما يدل على ذلك أيضا قول أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها فى قصة الإفك:
"بينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني، فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمَّرت - وفي رواية: فسترت - وجهي بجلبابي"(2) .
فهذا الحديث يؤكد أن الأمر بغض البصر الوارد في سورة النور متأخر
عن الأمر بالحجاب الذي ورد في سورة الأحزاب التي نزلت في السنة
الخامسة، ثم جاء الأمر بغض البصر في السنة السادسة بعد عام من شيوع الحجاب وامتثال المجتمع الإسلامي للأمر بالحجاب حتى صار هو
القاعدة.
ومن هنا يتضح أن استنباط البعض من الأمر بغض البصر أن وجوه النساء كانت سافرة غير صحيح، بدليل أن الأمر بالحجاب نزل أولَا،
وامتثله نساء المؤمنين، ثم نزل في السنة التي تليها الأمر بغض البصر،
(1) أنظر "عمدة القاري" للعيني (20/ 223) .
(2)
تقدم تخريجه.
ولعّل الحكمة في ذلك أن الأمر بغض البصر مع بقاء الوجوه سافرة قد يشق على بعض النفوس، ولكنه مع الحجاب أيسر، ومن ثم فإن الأمر بغض البصر نزل تأكيدًا للحجاب القائم فعلًا، أي أنه - أي إطلاق البصر - لا يجوز للمرأة الأجنبية، وإن كانت محجبة سدّا للذرائع، ودرءًا
للفتنة، فتناولت الشريعة الحكيمة إخماد الفتنة وسد ذريعتها من الجانبين:
من جانب المرأة حيث كلفتها بالحجاب، ثم من جانب الرجل حيث كلفته بغض البصر.
ولقد صار الحجاب بعد نزول الأمر بغض البصر في سورة النور أصلا
من أصول النظام الاجتماعي في الدولة المسلمة، واستمر عليه المسلمون
قرونا مديدة، ولم يستطع أحد أن يشكك في وجوب التزامه، ولم يطالب
أحد ببتر جزء من هذا الحجاب خوفًا من تفريغ آية غض البصر من
مضمونها، أو تعطيلها عن مجال عملها، تالله إنها لشبهة أوْهَى من بيت العنكبوت يغني فسادها عن إفسادها.
السادس: سلمنا جدلا أن الأمر بغض البصر يُشِعر بأن هناك شيئًا مكشوفًا من المرأة هو الوجه، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الأمر بغض البصر يفيد تحريم النظر إلي وجه الأجنبية، ينتج أن النظر إلى الوجه المكشوف حرام.
فلننتقل إلى السؤال التالي:
كيف يكون الحكم لو شاع الفسق، وعاشت المرأة في مجتمع لا يتورع رجاله عن النظر إلى وجهها بشهوة، وأرادت هي أن لا تتسبب في حدوث هذا المنكر؟
والجواب لا يخرج عن أحد احتمالات:
الأول: أن تلزم المرأة بيتها، ولا تغادره أبدًا، ولا يخفى ما فيه من مشقة
لبعض النساء.
والثاني: أنها إذا خرجت لحاجتها تكلف كل من تمر عليه من الرجال
بأن يغمض عينيه، حتى لا تتسبب بسفورها في معصية النظر المحرمة، ولا يخفى ما فيه.
والثالث: أنها إذا خرجت لحاجتها تغطي هي وجهها منعا لحدوث هذا المنكر الغالب على الظن وقوعه، ولا يخفى أن هذا أيسرها، والله أعلم.
ومن هنا قال بعض العلماء:
نعم، من تحققت من نظر أجنبي لها يلزم ستر وجهها عنه، وإلا كانت معينة له على حرام، فتأثم (1) .
السابع: أن الأمر بغض البصر مطلق، فيشمل كل ما ينبغي أن يُغَضَّ
البصر عنه، قال تعالى:(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) ولم يبين
الشيء الذي يُغَض عنه البصر، فدل على أن هذا الأمر مطلق فيشمل كل ما
ينبغي غض البصر عنه، سواء أكان ذلك عن المسلمة المحجبة حتى في حالة
احتجابها لشدة حرمتها، ودرءًا للفتنة، أو حينما يظهر شيء من بدنها عفوا
من غير قصد، أو يقصد عند الضرورة أو الحاجة الشرعية، وسواء كان
غض البصر عن الإماء المسلمات السافرات، أو عن نساء أهل الكتاب والسبايا اللائي لا يتحجبن، درءًا للفتنة بهن كذلك.
ومما ينبغي أن نلتفت إليه أن من مقاصد الأمر بغض البصر: أن لا
ينظر الرجل إلى عورة الرجل، وكذلك ألا تنظر المرأة إلى عورة المرأة.
جاء في تفسير قوله تعالى (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) أن حفظ الفروج قسمان:
أحدهما: حفظها عن أي شيء محرم سواء المباشرة كالزنا واللواط وإتيان
الزوجة في الدبر أو المحيض وما إلى ذلك، فيكون موافقا لقوله تعالى:(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7))
(1)"حواشي الشرواني والعبادي"(6/ 193) .
[المؤمنون: 5 - 7]، وقال صلى الله عليه وسلم:"إنا نُهينا أن تُرى عوراتنا"(1) .
وأما الثاني: فأن يحفظوها عن أن تنكشف للناس، وقد بين رسول الله
صلى الله عليه وسلم ذلك حينما سأله معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك"، قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: "إن
استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها"، قلت: فإذا كان أحدنا خاليًا؟
قال: "فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه من الناس"(2) .
وعن أبي سعيد الخدري مرفوعا. "لا ينظر الرجل الى عورة الرجل، ولا
المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفْضِي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد، ولا
تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد" (3) .
وبين صلى الله عليه وسلم عورة الرجل الى ينبغي غض البصر عنها في قوله صلى الله عليه وسلم: "الفخذ عورة"(4) .
وقوله لجرهد الأسلمي رضي الله عنه: "غط فخذك، فإن الفخذ عورة"(5) .
(1) أخرجه الحاكم (3/222 - 223) ، وعنه البيهقي في الشعب، وابن أبي حاتم في "العلل"(2/276) منْ حديث جبار بن صخر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أصحاب السنن الأربعة، والبيهقي وغيرهما، وصححه الحاكم والذهبي.
(3)
أخرجه مسلم (1/ 183) ، والإمام أحمد (3/ 63)، والترمذي (2/130) وقال:
"حسن غريب صحيح"، والبيهقي (7/98) ، ولابن ماجة النصف الأول منه (661) .
(4)
رواه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الترمذي رقم (2796) في الأدب:
باب ما جاء أن الفخذ عورة، وفيه أبو يحيى القتات، وهو ضعيف.
(5)
رواه البخاري في "صحيحه" تعليقَا (1/570) ، وضعفه في تاريخه للاضطراب في سنده، ورواه أبو داود رقم (1014) في الحمام: باب النهي عن التعري، والترمذي رقم (2799) في الأدب: باب ما جاء أن الفخذ عورة، وحسنه،
وابن حبان، وصححه، والإمام أحمد في "المسند"(3/478)، وقال البخاري: =
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما بين السرة والركبة عورة"(1) .
فإذا تبين لك أن هذه المقاصد كلها تندرج تحت الأمر بغض البصر تبين لك فساد قول السفوريين، وجواب تساؤلهم:
ما معنى الأمر بغض البصر إذا لم تكن وجوه النساء مكشوفة؟
والعلم عند الله سبحانه وتعالى.
الشبهة العاشرة
* وهي ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس رضي الله عنهما يوم النحر خلْفه على
عَجُزِ راحلته، وكان الفضل رجلًا وضيئَا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس
يُفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنُها، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها،
فأخلف (2) بيده فأخذ بذقن الفضل، فعدَّل وجهه عن النظر إليها، فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدْرَكَت أبي شيخا كبيرَا لا
يستطيع أن يستوي على الراحلة فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال:
"نعم"(3) .
وفي رواية لعلي بن أبي طالب قال: ولوى عنق الفضل، فقال له
= "حديث أنس أسند، وحديث جَرْهَد أحوط، حتى نخرج من اختلافهم" اهـ.
وانظر "إرواء الغليل"(1/ 298) .
(1)
أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود في سننه، والدارقطني في "سننه"، من
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا.
(2)
أي أدار وجه الفضل عنها بيده الشريفة من خلف الفضل.
(3)
أخرجه البخاري (3/ 422) ، (4/ 80) ، (11/10) واللفظ له، ومسلم (4/101) ، وأبو داود (1/286) ، والنسائي (2/ 5) ، وابن ماجه (2/314) ،
ومالك (1/309) .
العباس: يا رسول الله لمَ لويت عنق ابن عمك؟ قال: "رأيت شابًّا وشابة
فلم آمن الشيطان عليهمَا" (1) .
* تنوعت أجوبة العلماء عن هذا الحديث نذكر بعضها فيما يلي إن شاء الله:
* قال الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي:
قلت: لا حجة في الحديث للذين يقولون بجواز كشف الوجه والكفين
لأنه صلى الله عليه وسلم أنكر على الفضل بن عباس إنكارًا باتا بأن لوى عنقه وصرفه إلى
جهة أخرى، وكان في هذا الصنيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكار واضح لأنه
أنكر باليد (2) .
وقال الحافظ في "الفتح" مشيرًا إلى هذا الحديث:
"ويقرب ذلك ما رواه الحافظ أبو يعلى بإسناد قوي من طريق سعيد بن
جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم وأعرابي معه بنت له حسناء، فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها، وجعلت ألتفت إليها، ويأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأسي فيلويه، فكان
يلبي حتى رمى جمرة العقبة" ثم قال الحافظ: فعلى قول الشابة: إن أبي،
لعلها أرادت جدها لأن أباها كان معها، وكأنه أمرها أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع كلامها، ويراها رجاء أن يتزوجها (3) .
ثم قال الحافظ وفي الحديث: منع النظر إلى الأجنبيات وغض البصر،
(1) رواه الترمذي رقم (885) في الحج، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف وقال:
(حسن صحيح)، وأبو داود رقم (1735) في المناسك: باب الصلاة بجمع، والإمام أحمد (1/ 76) .
(2)
"رسالة الحجاب"(ص 35) .
(3)
"فتح الباري"(4/ 82) .
وقال عياض: "وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة، قال:
وعندي أن فعله صلى الله عليه وسلم غطى وجه الفضل أبلغ من القول، ثم قال: لعل
الفضل لم ينظر نظرا ينكر، بل خشي عليه أن يئول إلى ذلك، أو كان قبل نزول الأمر بإدناء الجلابيب" اهـ.
ثم قال الحافظ: روى أحمد وابن خزيمة من وجه آخر عن ابن عباس أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال للفضل حين غطى وجهه: "هذا يوم مَن ملك فيه سمعه
وبصره، ولسانه غفر له" (1) اهـ.
* وقال الشيخ صالح بن فوزان أثناء رده على الدكتور يوسف القرضاوي:
وأما استدلال المؤلف على جواز نظر الرجل الأجنبي إلى وجه المرأة
بحديث الفضل بن العباس ونظره إلى الخثعمية وصرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها، فهذا من غرائب الاستدلال لأن الحديث يدل على خلاف
ما يقول لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر الفضل على ذلك، بل صرف وجهه، وكيف يمنعه من شيء مباح! (2)
قال النووي رحمه الله عند ذكره لفوائد هذا الحديث: "منها تحريم النظر
إلى الأجنبية، ومنها إزالة المنكر باليد لمن أمكنه" (3) .
وقال العلامة ابن القيم: "وهذا منع وإنكار بالفعل، فلو كان النظر جائزًا لأقره عليه"(4) اهـ.
وقال الدكتور البوطي معلقًا على نفس الحديث: "قالوا: فلولا أن وجهها عورة لا يجوز نظر الرجل الأجنبي إليه لما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك
(1)"السابق"(4/ 70) .
(2)
"الإعلام" ص (69) .
(3)
"شرح النووي لصحيح مسلم"(9/98) .
(4)
"روضة المحبين"(ص 102) .
بالفضل، أما المرأة ذاتها فقد كان عذرها في كشفه أنها كانت محرمة بالحج" (1) اهـ.
* وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الحديث:
قالوا: فالإخبار عن الخثعمية بأنها وضيئة يفهم منه أنها كانت كاشفة
عن وجهها.
وأجيب عن ذلك أيضَا من وجهين:
الأول: الجواب بأنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عنه، وأقرها على ذلك، بل غاية ما في الحديث أنها كانت وضيئة، وفي بعض روايات الحديث: أنها حسناء، ومعرفة كونها وضيئة أو حسناء لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها وأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد، فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها.
إلى أن قال رحمه الله: ويحتمل أن يكون يعرف حسنها قبل ذلك الوقت
لجواز أن يكون قد رآها قبل ذلك وعرفها، ومما يوضح هذا أن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما الذي روى عنه هذا الحديث لم يكن حاضرا وقت نظر أخيه إلى المرأة، ونظرها إليه لما قدمنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم قَدَّمه بالليل من مزدلفة إلى منى في ضعفة أهله (2) ، ومعلوم أنه إنما روى الحديث المذكور من طريق أخيه الفضل، وهو لم يقل له: إنها كانت كاشفة عن وجهها، واطلاع الفضل على أنها وضيئة حسناء لا يستلزم السفور قصدا لاحتمال أن يكون رأى وجهها وعرف حسنه من أجل انكشاف خمارها
من غير قصد منها، واحتمال أنه رآها قبل ذلك وعرف حسنها.
(1)"إلى كل فتاة تؤمن بالله"(ص 40) .
(2)
ثبت في "الصحيحين" و "المسند" و "السنن".
فإن قيل: قوله إنها وضيئة، وترتيِبه على ذلك بالفاء قوله:"فطفق الفضل ينظر إليها"، وقوله:"وأعجبه حسنها" فيه الدلالة الظاهرة على أنه كان يرى وجهها وينظر إليه لإعجابه بحسنه.
فالجواب: أن تلك القرائن لا تستلزم استلزاما لا ينفك أنها كانت كاشفة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها وأقرها لما ذكرنا من أنواع الاحتمال، مع أن
جمال المرأة قد يعرف وينظر إليها لجمالها وهي مختمرة وذلك لحسن قدِّها وقوامها، وقد تعرف وضاءتها وحسنها من رؤية بنانها فقط كما هو معلوم، ولذلك فسر ابن مسعود، (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالملاءة فوق الثياب كما تقدم.
ومما يوضح أن الحسن يعرف من تحت الثياب قول الشاعر:
طافت أمامة بالركبان آونة
…
يا حسنها من قوام ما ومنتقبا
فقد بالغ في حسن قوامها مع أن العادة كونه مستورًا بالثياب لا منكشفَا.
الوجه الثاني: أن المرأة محرمة، وإحرام المرأة في وجهها وكفيها، فعليها
كشف وجهها إن لم يكن هناك رجال أجانب ينظرون إليها (1) ، وعليها ستره عن الرجال في الإحرام كما هو معروف عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
وغيرهن، ولم يقل أحد إن هذه المرأة الخثعمية نظر إليها أحد غير الفضل
ابن عباس رضي الله عنهما (2) ، والفضل منعه النبي صلى الله عليه وسلم من النظر إليها،
(1) انظر: "عارضة الأحوذي"(4/ 56) المسألتان الرابعة عشرة، والخامسة عشرة.
(2)
الذين شاهدوا قصة الفضل والخثعمية لم يذكروا حسن المرأة ووضاءتها ولم يذكروا أنها كانت كاشفة عن وجهها - كما في حديث علي بن أبي طالب، وفيه قول العباس (يا رسول الله لمَ لويت عنق ابن عمك؟) وكذا حديث جابر في صحيح مسلم في الحج وفيه (فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظُعُن يَجرين فطفق
الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على =
وبذلك يعْلم أنها محرمة لم ينظر إليها فكشفها عن وجهها إذًا لإحرامها لا
لجواز السفور (1) .
فإن قيل: كونها مع الحجاج مظنة أن يرى الرجال وجهها إن كانت سافرة لأن الغالب أن المرأة السافرة وسط الحجيج، لا تخلو ممن ينظر إلى
وجهها من الرجال.
فالجواب: أن الغالب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الورع وعدم النظر إلى
النساء، فلا مانع عقلًا ولا شرعًا ولا عادة من كونها لم ينظر إليها أحد
منهم، ولو نظر إليها لحكى كما حكى نظر الفضل إليها، ويفهم من صرف
النبي صلى الله عليه وسلم بصر الفضل عنها أنه لا سبيل إلى ترك الأجانب ينظرون إلى الشابة وهي سافرة كما ترى، وقد دلت الأدلة المتقدمة على أنها يلزمها حجب جميع بدنها عنهم.
وبالجملة فإن النصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب مع أن الوجه هو أصل الجمال،
والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغرائز البشرية وداعٍ إلى الفتنة والوقوع فيما لا ينبغي، ألم تسمع بعضهم يقول:
قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة
…
ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم
أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك؟ ولقد صدق من قال:
وما عجب أن النساء ترجلت
…
ولكن تأنيث الرجال عجيب (2)
= وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر) .
(1)
وقد استدل ابن بطال بحديث الخثعمية على أن ستر وجه المرأة ليس بفرض، ثم
قال: (لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة، ولو رآه الغرباء)، غير أن الحافظ تعقبه بقوله: (وفي استدلاله بقصة الخثعمية لِما ادعاه نظر، لأنها
كانت محرمة) اهـ من "الفتح"(11/ 12) .
(2)
"أضواء البيان"(6/599 - 602) .
* وقد قال الألباني في هذا الحديث:
والحديث يدل على ما دل عليه الذيَ قبله من أن الوجه ليس بعورة،
لأنه كما قال ابن حزم: لو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرَّها على كشفه
بحضرة الناس ولأمرها أن تسبل عليه من فوق؛ ولو كان وجهها مغطى ما
عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء (1) .
* قال الشيخ حمود التويجري:
وأما قول ابن حزم: "لو كان وجهها مغطى ما عرف ابنُ عباس أحسناءُ
هي أم شوهاء" فجوابه: أن يقال: إن عبد الله بن عباس لم يشهد قصة
الخثعمية (2) ولم يَرَ وجهها، وإنما حدثه بحديثها أخوه الفضل بن عباس رضي الله عنهما.
ثم قال: وإن كان الفضل قد رأى وجهها فرؤيته له لا تدل على أنها كانت مستديمة لكشفه، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآها سافرة بوجهها وأقرها
على ذلك، وكثيرًا ما ينكشف وجه التحجبة بغير قصد منها، إما بسبب اشتغال بشيء أو بسبب ريح شديدة أو لغير ذلك من الأسباب فيرى
وجهها من كان حاضرَا عندها، وهذا أولى ما حُملت عليه قصة الخثعمية،
والله أعلم (3) اهـ.
* وقريب من هذه الأجوبة ما أجاب به فضيلة الشيخ عبد العزيز بن
راشد النجدي حيث قال رحمه الله:
(1)"حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص 27) .
(2)
وقد أشار الحافظ في "الفتح" إلى احتمال شهود ابن عباس القصة، فقال:
(ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة، فحضره ابن
عباس، فنقله تارة عن أخيه لكونه صاحب القصة، وتارة عما شاهده) إلخ، (4/80) .
(3)
"الصارم المشهور"(ص 139- 140) .
قلت: أما حديث ابن عباس فليس فيه أن الخثعمية كانت كاشفة وجهها نصا، ومن زعم ذلك فقد أقحم فيه ما ليس في لفظه، وإنما فيه أنها وضيئة وحسناء، والوضاءة والحسن: البياض والجمال مطلقا وهو لا يختص
بعضو دون آخر، كما يصدق هذا النعت والوصف على كل عضو على
انفراده من أعضائها، ومن الجائز أن الفضل لما رأى بياض وجمال بعض
ما بدا منها، بغلبته لها واضطرارها لإظهاره، كسائر النساء إذا ركبن
الدواب أعجبه لشدة بياضه وحسنه.
وقال رحمه الله: ويحتمل أنها كانت كاشفة وجهها أمام الناس، فسكت عنها النبي كسكوته عن الكلام مع الفضل، مكتفيًا بتحويل وجهه عن
النظر إليها لقربه منه، ولم ينكر عليها لحداثة عهدها بالإسلام، كما سكت
عن المرأة التي بايعت على الإسلام وشرط عليها ألا تنوح على ميت،
فقالت: فلانة أسعدتني، وأنا أريد أن أجزيها، فما قال لها شيئَا، ولا أنكر عليها ولا أبى عن مبايعتها لعلمه أنها إذا تمكن الإيمان من قلبها لابد أن
تنقاد لأوامره، وتنتهي عن نواهيه، وتُحرم النياحة.
وقال: "واحتمال آخر قريب هو أن البدويات ومن لم يتعودن ركوب الدواب ولا الأسفار إلا قليلا، يعرض لهن ما يضطرهن إلى كشف بعض ما وجب ستره عليهن، وما اعتدن أن يحجبنه عن الأجنبي"(1) اهـ.
* وقال الشيخ أبو هشام الأنصاري حفظه الله:
"هذا هو النص الذي كثيرًا ما يتوكأ عليه من يتصدى لشق ستور النساء
من علماء هذا الزمان، يتوكأ عليه لإقامة الحجة على جواز السفور، مع أن
هذا الاستدلال لا يتمشى على طريقة الفقهاء المحدثين، فهي واقعة حال لا
عموم لها، يتطرق إليها من الاحتمالات ما لا يتركها كمصدر للدليل،
(1)"أصول السيرة المحمدية"(ص 165 -166)
فمعلوم أن كشفها عن وجهها كان لأجل الإحرام (1) لا لجواز السفور، ثم
يحتمل أن تلك المرأة كانت راكبة فكانت تحتاج إلى كشف وجهها للتثبت
على راحلتها والتمكن عن ظهرها وزمامها، أو التجأت إلى ذلك لازدحام الحجيج وإيابهم وذهابهم فكان ما انكشف منها من قبيل (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ، أو تعمدت من كشف وجهها أن يراها النبي صلى الله عليه وسلم شابة وضيئة حسناء فلعله يميل إلى التزوج بها، أو كشفت وجهها لأنها علمت أنها بمأمن من نظر الرجال.
ويستأنس لذلك أن الراوي ذكر نظر الفضل إليها ولم يذكر نظر أحد
غيره إليها، فلو نظر إليها أحد غيره، لحكى ذلك كما حكى نظر الفضل
إليها، ولما صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها لم يبق أحد ينظر إليها حتى
تحتاج إلى ستر الوجه وتؤمر به.
ويفهم من صرف نظر الفضل عنها أنه لا سبيل إلى ترك الأجانب ينظرون إلى الشابة وهي سافرة، وأن وجه المرأة هو مصدر الفتن ومزلة
الأقدام، فمن شاء فليفتح بابها، ومن شاء فليغلق.
(1) والدفع بأن المرأة كانت محرمة فيه نظر، وذلك بالنظر إلى ما تقدم تحقيقه (ص
303 -
306) من أن المرأة لا تمنع من تغطية الوجه والكفين، وأن الذي تمنع منه
هو النقاب والقفازان، واختلف في المكان الذي وقعت فيه الحادثة، ففي رواية
ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري: (ثم أردف الفضل من مزدلفة إلى منى) ، فأفاد أنها كانت محرمة، لكن يرد عليه ما أشرنا إليه آنفَا، وفي قصة أخرى
رواها علي رضي الله عنه التصريح بأنها وقعت في منى عند المنحر، وبعد رمي جمرة العقبة
كما في "المسند"(1/75 - 76) ، ومع ذلك يجيب عنها من يرى كشف الوجه
والكفين حال الإحرام بقولهم: لو صح أنه وقع عند المنحر، فلا يلزم منه أنها
تحللت، حتى لو كانت قد رمت جمرة العقبة، وحتى لو كانت قد نحرت، فقد رفع
رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرج عمَن قدم أو أخر شيئَا من أعمال يوم النحر، والله أعلم.
وانظر "فتح الباري"(4/ 80-84) .
والحاصل أن كل ما قدمنا من النصوص الدالة على وجوب الحجاب من الكتاب والسنة هي أصول وقوانين كلية، وهذه واقعة عين، وقد علمت ما فيها من الاحتمالات، فهي لا تصلح لمقاومة تلك النصوص، ولا يترك القانون الكلي في مقابلة واقعة عين مثل هذه" (1) اهـ.
الشبهة الحادية عشرة
* عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر مُتَلَفِّعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين
يقضين الصلاة، لا يعرفُهن أحد عن الغَلَس".
وفي رواية: ثم ينقلبن إلى بيوتهن، وما يُعْرَفن من تغليس رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالصلاة، وفي رواية للبخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح
بِغَلَسٍ، فينصرفن نساء المؤمنين، لا يُعْرَفْنَ من الغلس، ولا يعرف بعضهن بعضا (2) .
قال الأصمعي: التلفع: أن تشتمل بالثوب حتى تجلل به جسدك، وقال
الجوهري: تلفعت المرأة بمرطها أي تلحفت به، وكذا قال ابن الأثير،
وزاد: وتغطت، قال: واللفاعُ: الثوب يُتغطى به، قال الجوهري: وتلفع
الرجل بالثوب والشجرُ بالورق إذا اشتمل به وتغطى.
(1)"مجلة الجامعة السلفية"، وانظر هامش (ص 409- 410) .
(2)
رواه البخاري (2/65) في مواقيت الصلاة: باب وقت الفجر، وفي الصلاة في
الثياب: باب في كم تصلي المرأة من الثياب، وفي صفة الصلاة: باب خروج
النساء إلى المساجد بالليل والغلس، وباب سرعة انصراف النساء من الصبح،
وقلة مقامهن في المسجد، ومسلم رقم (645) في المساجد: باب استحباب
التكبير بالصبح في أول وقتها، والموطأ (1/ 5) في وقوت الصلاة: باب وقوت
الصلاة، وأبو داود رقم (423) في الصلاة: باب وقت الصبح، والترمذي رقم
(153)
في الصلاة: باب في التغليس في الفجر، والنسائي (1/271)
المواقيت: باب التغليس في الحضر
* قال التويجري:
"وهذا الحديث يدل على أن نساء الصحابة كن يغطين وجوههن، ويستترن عن نظر الرجال الأجانب، حتى إنهن من شدة مبالغتهن في التستر
وتغطية الوجوه لا يَعْرِفُ بعضهُن بعضَا، ولو كُنَ يكشفن وجوههن لعرف
بعضهُن بعضا كما كان الرجال يعرفُ بَعضهم بعضَا، قال أبو بَرْزَة رضي الله عنه:"وكان - يعني النبي صلى الله عليه وسلم ينفتل من صلاة الغداة حين يعرفُ الرجل جليسه"(1) .
قال الداودي في قوله "ما يعرفن من الغَلَس" معناه: لا يعرفْن أنساء أم
رجال؟ أي لا يظهر للرائي إلا الأشباح خاصَّة.
وقيل: لا يُعْرَفُ أعيانهن، فلا يُفَرَّقُ بين خديجة وزينب - قال النووي: وهذا ضعيف لأن المتلفعة في النهار لا يُعْرف عينُها فلا يبقى في الكلام فائدة (2)
(1) رواه البخاري (2/ 33) في مواقيت الصلاة: باب وقت العصر، وباب القراءة
في الفجر، ومسلم رقم (647) في المساجد: باب استحباب التبكير بالصبح في
أول وقتها، وأبو داود رقم (398) في الصلاة: باب وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم
والنسائي (1/ 246) في المواقيت: باب أول وقت الظهر، وباب ما يستحب من
تأخير العشاء.
(2)
قال العيني رحمه الله بعد حكاية كلام النووي: (ورُدَّ بأن المعرفة إنما تتعلق
بالأعيان، فلو كان المراد غيرها لنفى الرؤية بالعلم، وقال بعضهم: "وما ذكره
من أن المتلفعة بالنهار لا يعرف عينها فيه نظر، لأن لكل امرأة هيئة غير هيئة
الأخرى في الغالب، ولو كان بدنها مغطى" انتهى، قلت: هذا غير موجه، لأن
الرائي من أين يعرف هيئة كل امرأة حين كن مغطيات، والرجل لا يعرف هيئة
امرأته إذا كانت بين المغطيات إلا بدليل من الخارج، وقال الباجي: "وهذا يدل
على أنهن كن سافرات إذ لو كن منقبات لمنع تغطية الوجه من معرفتهن لا
الغلس" قوله "من الغلس " كلمة "من" ابتدائية، ويجوز أن تكون تعليلية،
والغَلس بفتحتين: آخر الليل، ولا مخالفة بين هذا الحديث وبين حديث أبي =
وقول النووي هذا مع ما تقدم عن أئمة اللغة في تفسير التلفع يؤيد ما ذكرتُه من مبالغة نساء الصحابة رضي الله عنهم في التستر وتغطية وجوههن عن الرجال الأجانب، ويؤيد هذا ما تقدم (1) عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت نساء الأنصار وفضلهن، وأنهن لما أنزلت سورة النور (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) قامت كل امرأة منهن إلى مِرْطها فاعتجرت به،
فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجراتِ كان على رؤوسهن الغربان، رواه
ابن أبي حاتم - وقد تقدم تفسير الاعتجار وأنه لف الخمار على الرأس مع تغطية الوجه" (2) اهـ.
* قال بدر الدين العيني رحمه الله:
ثم عدم معرفتهن يحتمل أن يكون لبقاء ظلمة من الليل، أو لتغطيتهن بالمروط غاية التغطي، وقيل: معنى "ما يعرفهن أحد" يعني ما يعرف أعيانهن، وهذا بعيد، والأوجه فيه أن يقال:"ما يعرفهن أحد" أي: نساء هم أم رجال، وإنما يظهر للرائي الأشباح خاصة" (3) اهـ.
وقال في موضع آخر: "قوله "متلفعات" حال، أي متلحفات من التلفع، وهو شد اللفاع، وهو ما يغطي الوجه، ويتلحف به"(4) اهـ.
* وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف:
"وهذا الحديث أيضَا ليس فيه دلالة على كشف الوجه مطلقًا، وحينما
= برزة الذي مضى من أنه كان ينصرف حين يعرف الرجل جليسه، لأنه إخبار
عن رؤية جليسه، وهذا إخبار عن رؤية النساء من البعد) اهـ. من "عمدة القاري
شرح صحيح البخاري" (6/ 74- 75) .
(1)
انظر ص (314) .
(2)
"الصارم المشهور" ص (85-87) .
(3)
"عمدة القاري"(4/ 90) .
(4)
"السابق"(6/ 74) .
تكون المرأة في ظلمة لا تعرف فيها، فلا جناح عليها في كشف وجهها،
لأن المقصود من لزوم التخمير هو عدم تمييز محاسن الوجه، وهذا
ظاهر" (1) اهـ.
الشبهة الثانية عشرة
* قول بعضهم: "إن الدين يسر" وإباحة السفور مصلحة تقتضيها مشقة
التزام الحجاب في عصرنا.
والجواب من وجوه:
أولا:
تقرير خاصة اليسير ورفع الحرج في الدين عن المسلمين بأدلة القرآن والسنة:
قال الله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج: 78] .
وقال سبحانه: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)) [النساء: 27، 28] .
وقال عز وجل: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة: 185] .
وقال جل وعلا: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة: 286] .
وقال تبارك وتعالى في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ (2) حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
(1)"نظرات في حجاب المرأة المسلمة"(ص 72) .
(2)
أي يشق عليه، ويعنته، ويحرجه كل أمر يشق على أمته، ويعنتها، أو يحرجها، وهو حريص على أمته، حريص على جلب المصالح لها، ودفع المفاسد والمساوئ
عنها، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرًا.
رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)) [التوبة: 128]
وقال في صفته في التوراة والإنجيل: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)[الأعراف: 157] .
فهذه الآيات صريحة في التزام مبدأ التخفيف والتيسير على الناس في
أحكام الشرع، قال الشاطبي رحمه الله تعالى: إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع (1) .
* أما السنة القولية:
فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة"(2) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدينَ أحد إلا غلبه،
فسددوا وقاربوا، وأبشروا" (3) .
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذًا إلى
اليمن، فقال:"ادعُوا الناسَ، وبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا"(4) .
(1) الموافقات (1/340) .
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/266) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله
عنهما، ومن حديث أبي أمامة رضي الله عنه، والديلمي في "مسند الفردوس" من حديث
عائشة رضي الله عنها انظر "كشف الخفا" ص (251) .
(3)
رواه البخاري (1/ 116) في الإيمان: باب الدين يسر، وفي الرقاق (11/
300) ، باب القصد في المداومة على العمل، والنسائي (8/121 - 122) في
الإيمان، باب الدين يسر.
(4)
رواه البخاري (7/657 – 658) في المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى
اليمن، وفي الجهاد، وفي الأدب، والأحكام، والأحكام، ومسلم رقم (1733) في الجهاد،
باب الأمر بالتيسير وترك التنفير، وفي الأشربة، وأبو داود رقم (3684) في
الأشربة باب النهي عن المسكر، والنسائي (8/298، 299، 300) في
الأشربة، باب تحريك كل شراب أسكر.
وقال للصحابة في حادثة الأعرابي الذي بال في المسجد: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين"(1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "بشروا، ولا تنفروا، ويسروا، ولا تعسروا"(2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "خير دينكم أيسره"(3) .
* وأما سنته الفعلية صلى الله عليه وسلم:
فـ "ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن
إثما، فإن كان إثما، كان أبعدَ الناس منه" (4) الحديث.
أضف إلى ذلك ما ثبت من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، ثم إجماع علماء الأمة على عدم وقوع المشقة غير المألوفة في التكاليف
الشرعية.
والحاصل: أن الشارع لا يقصد أبدًا إعنات المكلفين أو تكليفهم ما لا
(1) البخاري (1/386) في الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد، وأبو داود رقم (380) في الطهارة، باب الأرض يصيبها البول، والترمذي رقم
(147)
في الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض، والنسائي (1/48،
49) في الطهارة، باب ترك التوقيت في الماء.
(2)
رواه البخاري (1/196) في العلم من حديث أنس رضي الله عنه، ومسلم رقم (1732) في الجهاد، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير، وأبو داود رقم (4835) في الأدب، باب في كراهية المراء.
(3)
رواه الإمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد" والطبراني في "الكبير" عن محجن
ابن الأدرع، والطبراني في "الكبير" أيضا عن عمران بن حصين، وفي
"الأوسط"، وابن عدي، والضياء عن أنس، قال الزين العراقي:"سنده جيد"، ورمز له السيوطي بالصحة - انظر "فيض القدير"(3/ 486) .
(4)
رواه البخاري (10/541) في الأنبياء، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الأدب،
والحدود، والمحاربين، ومسلم (رقم 2327) في الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم
للآثام، والموطأ (2/903) في حسن الخلق، باب ما جاء في حسن الخلق،
وأبو داود رقم (4785) في الأدب، باب في التجاوز في الأمر.
تطيقه أنفسهم، فكل ما ثبت أنه تكليف من الله للعباد فهو داخل في مقدورهم وطاقتهم.
ثانيا:
أما دعوى أن إباحة السفور مصلحة معتبرة نظرَا لمشقة التزام الحجاب
خصوصا في البلاد التي شاع فيها التبرج والانحلال، وحتى لا يرمى
الإسلام بالتشدد، والمسلمون بالتطرف.
فنبين فيما يلي - إن شاء الله - ضوابط المصلحة الشرعية، وعلاقة
التكليف بالمشقة.
يقول الوضعيون: (حيثما وجدت المصلحة فثم وجه الله) ، إما الأصوليون فيصدق على منهجهم أنه (حيثما وجد الشرع فثمة مصلحة العباد) .
وحتى نفرق بين المنهجين، ونميز بين من أسلم وجهه لله، ومن أسلم
نفسه للهوى نحدد ما هي:
ضوابط المصلحة الشرعية
الأول: اندراجها في مقاصد الشرع - وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال -، فكل ما يحفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول أو بعضها فهو مفسدة.
الثاني: عدم معارضتها للقرآن الكريم، وذلك لأن معرفة مقاصد
الشريعة إنما تم استنادًا إلى الأحكام الشرعية المنبثقة من أدلتها التفصيلية،
والأدلة كلها راجعة إلى الكتاب، فلو عارضت المصلحة كتاب الله لاستلزم
ذلك أن يعارض المدلول دليله، وهو باطل.
قال تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)[المائدة: 49]، وقال جل وعلا: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النساء: 59] الآية.
الثالث: عدم معارضتها للسنة، وإلا اعتبرت رأيا مذموما، وقد تواتر عن الصحابة رضي الله عنهم تواصيهم باجتناب الرأي في الدين.
قال عمر رضي الله عنه: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن:
أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واسْتَحْيَوْا حين سُئِلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم.
الرابع: عدم معارضتها القياسَ الصحيح".
الخامس: عدم تفويتها مصلحة أهم منها، أو مساوية لها.
وإذا أحسنا تطبيق هذه الضوابط لى مسألتنا فلن نشك أن هذه
"المصلحة" الموهومة غير معتبرة لمنافاتها هذه الضوابط.
ثالثًا:
فإذا كان لابد للمصلحة من أن تنضبط بكل ما ذكرنا، فما معنى قولهم
إذن: المشقة تجلب التيسير؟
وقولهم: تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان؟ (1)
والجواب: أنه ليس بين هاتين القاعدتين وبين الضوابط آنفة الذكر أي
تعارض، بل هما منسجمتان معها موافقتان لها.
أما الأولى وهي أن:
"المشقة تجلب التيسير"
فمعناها أن المشقة التي قد يجدها المكلف في تنفيذ الحكم الشرعي سبب
شرعي صحيح للتخفيف فيه بوجهٍ ما.
لكن ينبغي أن لا تفهم هذه القاعدة على وجه يتناقض مع الضوابط السابقة للمصلحة، فلابد للتخفيف أن لا يكون مخالفًا لكتاب ولا سنة ولا
(1) ويأتي - بإذن الله - توضيح هذه القاعدة ص (442) .
قياس صحيح ولا مصلحة راجحة.
ومن المصالح ما نص على حكمه الكتاب والسنة، كالعبادات والعقود
والمعاملات، وهذا القسم لم يقتصر نص الشارع فيه على العزائم فقط، بل ما من حكم أحكام العبادات والمعاملات إلا وقد شرع إلى جانبه سبل التيسير فيه:
كالصلاة شرعت أركانها وأحكامها الأساسية، وشرع إلى جانبها أحكام ميسرة لأدائها عند لحوق المشقة كالجمع والقصر والصلاة من جلوس، وكالصوم شرع إلى جانب أحكامه الأساسية رخصة الفطر بالسفر
والمرض، وكالطهارة من النجاسات في الصلاة شرع معها رخصة العفو
عما يشق الاحتراز منه، وحرم الله عز وجل أخذ مال الغير، وأرخص
للمضطر أن يأخذ قدر ضرورته منه.
وأوجب الله سبحانه وتعالى الحجاب على المرأة، ثم نهى عن النظر إلى
الأجنبية، وأرخص في كشف الوجه والنظر إليه عند الخطبة، والعلاج،
والتقاضي، والتعليم، والمعاملة، والإشهاد.
إذن فليس في التيسير الذي شرعه الله سبحانه وتعالى في مقابلة عزائم أحكامه ما يخل بالوفاق مع ضوابط المصلحة، ومعلوم أنه لا يجوز
الاستزادة في التخفيف على ما ورد به النص، كأن يقال: إن مشقة الحرب بالنسبة للجنود تقتضي وضع الصلاة عنهم أو تأخيرها إلى القضاء فيما
بعد أو كأن يقال: إن مشقة التحرز عن الربا في هذا العصر تقتضي جواز التعامل به أو كأن يقال: إن مشقة التزام الحجاب في بعض المجتمعات
تقتضي أن يباح للمرأة التبرج مثلا بدعوى عموم البلوى به
قال ابن نجيم: المشقة والحرج إنما يعتبران في موضع لا نص فيه، وأما
مع النص بخلافه، فلا يجوز التخفيف بالمشقة (1) .
(1)"الأشباه والنظائر"(1/117) ، "رسائل ابن عابدين"(2/120) .
ومما ينبغي توضيحه أن المشقة نوعان:
الأول: مشقة معتادة مألوفة: وهي التي يستطيع الإنسان تحملها دون
إلحاق ضرر به، فهذه المشقة غير مرفوعة عنا، ولا تنفك عنها العبادة
غالبا، لأن كل عمل في الحياة لا يخلو عن مشقة، بل إن معنى التكليف -
وهو (طلب ما فيه كلفة ومشقة) - لا يتحقق إلا بها، غير أنها محتملة تتلاءم
مع طاقة الإنسان العادية، قال تعالى:(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة: 286] .
* قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"إن كانت المشقة مشقة تعب، فمصالح الدنيا والآخرة منوطة بالتعب،
ولا راحة لمن لا تعب له، بل على قدر التعب تكون الراحة (1) .
ورُبَّ حكم شرعي جُلُّ مصلحته مرتبط بما فيه من المشقة والجهد
كالقصاص والحدود، فمثل هذه المشقة لا أثر لها في التيسير والتخفيف،
وإنما المشقة التي أنيط بها ذلك هو ما كان فوق الحد المعتاد بسبب طارئ".
* قال العز بن عبد السلام رحمه الله:
المشاق ضربان: أحدهما مشقة لا تنفك العبادة عنها، كمشقة الوضوء والغسل في شدة السبرات (2) ، وكمشقة إقامة الصلاة في الحر والبرد،
ولاسيما صلاة الفجر، وكمشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار،
وكمشقة الحج التي لا انفكاك عنها غالبًا، وكمشقة الاجتهاد في طلب
العلم والرحلة فيه، وكذلك المشقة في رجم الزناة، وإقامة الحدود على
الجناة، ولاسيما في حق الآباء والأمهات والبنين والبنات، فإن في ذلك
مشقة عظيمة على مقيم هذه العقوبات بما يجده من الرقة والمرحمة بها
(1)"إعلام الموقعين"(2/ 112)
(2)
السبرات: جمع سبرة وهي شدة البرد.
للسراق والزناة والجناة من الأجانب والأقارب والبنين والبنات.
ثم قال رحمه الله:
"فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات، ولا في
تخفيفها، لأنها لو أثرت لفاتت مصالح العبادات والطاعات، في جميع
الأوقات، أو في غالب الأوقات، ولفات ما رتب عليها من المثوبات
الباقيات، مادامت السماوات والأرض (1) .
وهذه المشقة - وإن كانت سببَا للثواب والأجر - إلا أنها ليست هي المقصودة أصلا للشارع من الأفعال التي كلفنا بها (2) ، وأنما المقصود هو المصالح المترتبة عليها.
الشبهة الثالثة عشرة
هل يلحق إظهار الوجه بما يكشف بدعوى
عموم البلوى بكشفه؟
* أجاب عن هذا الشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي رحمه الله فقال:
(1)"قواعد الأحكام في مصالح الأنام"(2/7) .
(2)
وعليه فلا ينبغي أن نقصد في أعمالنا المشقات ونتحرى الاستزادة منها، ظانين أن وراء ذلك الأجر العظيم، وأن الثواب على قدر المشقة، فهذا يخالف قصد الشارع، فمن ترك طريقًا معبدَا إلى المسجد، وسلك طريقا آخر فيه عقبات يبتغي بذلك زيادة الأجر، فقد أخطأ القصد، ولا ثواب له، قال صلى الله عليه وسلم:"هلك المتنطعون" قالها ثلاثًا، أخرجه مسلم رقم (2670) في العلم، باب "هلك المتنطعون"، وأبو داود رقم (4608) في السنة، باب في لزوم السنة.
وقال صلى الله عليه وسلم: "اكفلوا من الأعمال ما تطيقون" رواه البخاري في الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، ومسلم في الصلاة رقم (782) ، والنسائي (3/
218) في صلاة الليل، باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل.
"لا يصح هذا لأمور:
أولاً: أنه لا حاجة تدفع إلى كشفه كالمذكورات، ويمكنها أن تحجب ما
سوى العينين في طريقها دائمًا كما تشهد التجارب عند كل من أوجب ستره، كما أنها مستغنية عن إبدائه.
ثانيا: أنه أزين شيء في المرأة، وأجمل ما يدعو إليها، ويغري بها، وهذا معترف به عند جميع الناس ممن يدين بالحجاب، ومن لا يدين به.
ثالثا: أن كشفه أكبر مثير لشهوة الناظرين إليه من الرجال ما لم يكونوا من محارمها، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظر إليه منها، لأن حسنه يحمل على الرغبة فيها، كما يمنع قبحه عنها، وإن إدامة النظر إليه هي بريد الزنا،
وانتهاك الأعراض، ووسيلة إلى اختلاط الأنساب وفشو الفواحش، وما
ينتج عنه من أمراض وسفك دماء عند ذوي الغيرة.
رابعا: أن من حكمة التشريع الإلهي وكذلك البشري العمل على تقليل
الشر بمنع وسائله، وتكثير الخير بتقريب أسبابه وتسهيلها على طالبيه.
خامسا: أنه قد لُمِس وشوهد عيانا أن الفجور المتفشي في الأمم اليوم، وقبل الأيام الحاضرة، أول أساس له كشف وجوه النساء عند غير
محارمهن، وذلك أنه إذا كشفته زال عنها الحياء، الذى هو أكبر حصن
عليها لعفتها، وسياج عن الرجال إليها، وحينئذ تجترئ على مخاطبة
الرجال، وتأنس من الدنو من فلان وعلان، ويطمع فيها كل فاجر يتمكن
من الاتصال بها للين حديثها، وارتفاع الخفر عنها كما تيقن هذا من لم
يغلب هواه على عقله ودينه وفطرته، ويصدقه التجارب عند جميع أجناس
البشر في كل زمان" (1) اهـ.
* وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف:
(1)"أصول السيرة المحمدية"(ص 163-164) .
"وعلى هذا فلم يكن هذا التقليد (1) الذي يخالف السنة مبيحًا لما ثبت من
المنهيات الشرعية، وأخذت به الأمة الإسلامية، فالبلوى لها حكمها،
والمجتمعات لها أحكامها، لأن البلوى لا تبيح محرما في نفس الأمر، كما
لا تبيحه عادات المجتمعات، ولا ينقلب الحرام مباحًا بتغير الزمان
والمكان.
إن الفتنة هي قاعدة من قواعد التحريم، فلو قلنا بانتفاء الفتنة عمن
كانت في "لندن" مثلا، بحيث إن السفور هو العادة المتبعة، وربما تنتفي
الفتنة غالبًا، فهل يقال: إن هذا السفور مباح للمرأة المسلمة؟
نقول: لا يكون السفور مباحًا، لأنه لا يجوز لها أن تكشف وجهها للرجال الأجانب لعموم النص، ولو انتفت الفتنة غالبا رغم أنه قد
يكون من الصعب عليها أن تكون غير سافرة هناك، وربما كان التستر شهرة تلفت أنظار المجتمع بأسره، وكل ذلك لا يكون عذرا لإبداء وجهها" (2) اهـ.
الشبهة الرابعة عشرة
هل إباحة السفور من الرفق بالنساء؟
* استدل بعضهم - إلى جانب الأحاديث المشيرة إلى يسر الإسلام وسماحته – بقوله صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيرا"(3)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "رفقًا
(1) يقصد هنا - كما يعلم من السياق - ما عمت به البلوى من حلق الرجال لحاهم تقليدا للإفرنج،
(2)
"نظرات في كتاب حجاب المرأة المسلمة" للألباني (ص 35 - 36) .
(3)
رواه البخاري (9/ 160- 161) في النكاح، باب المداراة مع النساء، وفي
الأنبياء، وفي الأدب، والرقاق، ومسلم رقم (1468) في الرضاع، باب الوصية
بالنساء، والترمذي رقم (1188) في الطلاق، باب ما جاء في مداراة النساء.
بالقوارير" (1) ، على أن هذه النصوص تقتضي إباحة السفور لهن.
* وجواب ذلك أن وصيته صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرًا حق لا ريب فيه، ولكن
السؤال: هل السفور من الخير الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم؟
إن النصوص الواردة في الوصية بالنساء خيرًا في جملتها تأتي بحسن العشرة، وإلزامهن بالخير لهن في أمري الدين والدنيا بأسلوب الرفق
وحسن الخلق وما إلى ذلك.
فالحق الذي يصح به اتباع وصيته صلى الله عليه وسلم هو اتباع هديه القائم بنفسه، وفي
أهله وبناته ونساء المؤمنين من الأقوال والأفعال، ومن خالف ذلك فإنه لم يعمل بوصيته صلى الله عليه وسلم.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: "رفقا بالقوارير"(2) فهو يعني أمهات المؤمنين ومن خالطهن من نساء الصحابة رضي الله عنهم وعنهن، وأما قياس السافرات عليهن في هذا الخطاب فهو خطأ، وليس من الحق في شيء.
ويؤخذ من وصفه صلى الله عليه وسلم النساء بالقوارير أن ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها"(3) .
(1) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، رقم (6149)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض
نسائه - ومعهن أم سُليم فقال: "ويحك يا أنجشة، رويدك سوقَا بالقوارير". وسبب ورود الحديث أن أنجشة كان يحدو بالنساء يسوق بهن في سفر، وكان
حسن الصوت، فاشتد بهن في السياق، فخاف عليهن النبي صلى الله عليه وسلم من حث السير
بسرعة السقوط أو التألم من كثرة الحركة والاضطراب الناشئ عن السرعة، أو
خاف عليهن الفتنة من سماع النشيد، فلهذا قال له:"رويدك ارفق بالقوارير" يعني
النساء، شبههن بالقوارير لرقتهن وضعفهن عن الحركة، انظر "فتح الباري"(10/ 562) .
(3)
تتمة الحديث الذي سبق تخريجه آنفا برقم (1) ، وهذه رواية مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، انظر "شرح النووي"(10/ 57) .
وفي رواية هشام عن قتادة: "رويدك سوقك، ولا تكسر القوارير" قال
أبو قلابة: يعني ضعفة النساء، قيل في تفسيره: شبههن بالقوارير لسرعة
انقلابهن عن الرضا، وقلة دوامهن على الوفاء، كالقوارير يسرع إليها
الكسر، ولا تقبل الجبر، وقد استعملت الشعراء ذلك، قال بشار:
ارفق بعمرو إذا حركت نسبته
…
فإنه عربي من قوارير (1)
والمقصود أن من أراد تقويم الزجاجة كسرها، ومن هذا الوجه جاءت وصيته صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرَا، وباستعمال الرفق بهن في كل أمر يُطلب منهن الاستقامة عليه، وهذا من أهداف حسن العشرة.
ومعلوم أن غالب النساء ضعيفات بالخير، قويات بالشر والفتنة،
فالرجل قائم على المرأة مسؤول عنها بالمعنى الكامل في جميع أوجه الخير،
وإلزامها بلوازم الإسلام، وما يجب لها، وعليها، من إيصال النفع، ودفع الشر.
وهذا كله داخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "لتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا" أو "لتقصرنه على الحق قصرًا"(2) .
والأطر معناه العطف، أي: تعطفونه، وتردونه، والقصر: معناه الحبس أي يحبس عن فعل الشر، هكذا قال العلماء.
فكل من لا يمتثل الحق، ويأخذ الواجبات الشرعية فإنه ظالم يجب
(1)"فتح الباري"(10/ 561) .
(2)
جزء من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أخرجه أبو داود رقم (4336) في
الملاحم، باب الأمر والنهي، والترمذي رقم (3050) في أبواب تفسير القرآن باب (48) من تفسير سورة المائدة وحسنه، ورواه ابن ماجة رقم (4006) في
الفتن، باب الأمر بالمعروف، والطبري (10/ 491) ، وفي سنده عند الجميع
انقطاع لأن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه كما نص عليه غير
واحد، وفي الباب عن أبي موسى عند الطبراني، قال الهيثمي في "المجمع" (7/
269) : "ورجاله رجال الصحيح" اهـ،
وجوبًا شرعيا على من خاطبهم الخبر الأخذ على أيديهم ما أمكن، لا
يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
إذا تبين هذا، فإننا نقول:
إن استجابة المرأهٌ للحق، أو عدم استجابتها ليس شرطًا في تحريم السفور أو إباحته، وإنما ذلك يبنى على أمرين:
الأول: أن السفور شر عام للمرأة والرجل، سواء في ذلك من رضي أو
من كره، ولا يمكن لفرد مسلم أن يقول:"إنه من الخير"، وإذا كان الأمر
كذلك، فإنه يجب علينا وجوبا شرعيا محاربة الشر أيًّا كان مصدره، سواء
تغلبنا عليه بمحاربتنا إياه أو لا، وعلى قدر المراتب التي أقامها صلى الله عليه وسلم
كأساس لمن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر في قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى
منكم منكرَا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الأيمان" (1) .
الثاني: أن النزاع في إثبات الواجب إنما يكون في الدعوة إلى ما هو الحق
الذي شرعه الله تبارك وتعالى وشرعه نبينا صلى الله عليه وسلم، وعليه السلف الصالح، وامتثلته المرأة المؤمنة في عهده صلى الله عليه وسلم، وهم القدوة الحسنة في الاتباع.
***
(1) رواه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مسلم رقم (49) في الإيمان باب كون
النهي عن المنكر من الإيمان، والترمذي رقم (2173) في الفتن، باب ما جاء في تغيير المنكر باليد، وأبو داود رقم (1140) في صلاة العيدين، باب الخطبة يوم العيد، ورقم (4340) في الملاحم، باب الأمر والنهي، والنسائي (8/111) في الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان، وأخرجه ابن ماجه رقم (4013) في الفتن، باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
الشبهة الخامسة عشرة
الفهم المغلوط لقاعدة:
"تبدل الأحكام بتبدل الأزمان"
أولا: تقرر عند أهل العلم أن "الحكم الشرعي" لا يتبدل مهما تبدلت
الأزمان، وتغيرت الأعراف اللهم إلا عن طريق النسخ، وقد أُغْلِق بابُه بعد تكامل هذا الشرع الحنيف بانتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. وقاعدة "تبدل الأحكام بتبدل الأزمان" مبنية على قاعدة فقهية أخرى وهي أن "العادة مُحَكَّمة" أي أن عرف الناس مُحَكَّم في الأحكام الشرعية، وقد فهم القوم من ذلك أنه مادامت أعرافهم متطورة بتطور الأزمان؛ فلابد أن تكون الأحكام الشرعية كذلك.
ولا ريب أن هذا الكلام إذا كان مقبولا على ظاهره، لاقتضى أن يكون مصير شرعية الأحكام كلها رهنًا بيد عادات الناس وأعرافهم، وهذا لا يمكن أن يقول به مسلم، لكن تحقيق المراد من هذه القاعدة:
أن ما تعارف عليه الناس، وأصبح عرفًا لهم:
(1)
إما أن يكون هو بعينه حكما شرعيّا أيضا، بأن أوجده الشرع، أو كان موجودًا فيهم فدعا إليه وأكَّده، مثال ذلك: الطهارة عند النجس والحدث عند القيام إلى الصلاة، وستر العورة فيها، وحجب المرأة زينتها عن الأجانب، والقصاص في الجنايات، والحدود في الزنا والسرقة والخمر وما شابه ذلك، فهذه كلها أمور تعَدُّ من أعراف المسلمين وعاداتهم، وهي في نفس الوقت أحكام شرعية يستوجب فعلها الثواب، وتركها العقابَ؛ سواء منها ما كان متعارفًا قبل الإسلام ثم جاء الحكم الشرعي مؤيدا ومحسِّنًا له، كحكم القسامة والدية والطواف بالبيت، وما كان غير معروف قبل ذلك وإنما أوجده الإسلام نفسه كأحكام الطهارة
والصلاة والزكاة وغيرها
فهذه الصورة من الأعراف لا يجوز أن يدخلها التبديل والتغيير مهما تبدلت الأزمنة، وتطورت العادات والأحوال، لأنها بحد ذاتها أحكام شرعية ثبتت بأدلة باقية ما بقيت الدنيا، وليست هذه الصورة هي المعنية بقول الفقهاء:"العادة محَكمة".
(2)
وإما أن لا يكون حكما شرعيًا، ولكن تعلق به الحكم الشرعي بأن كان مناطًا له، مثال ذلك: ما يتعارفه الناس من وسائل التعبير وأساليب الخطاب والكلام، وما يتواضعون عليه من الأعمال المخلة بالمروءة، والآداب، وما تفرضه سنة الخلق والحياة في الإنسان مما لا دخل للإرادة والتكليف فيه كاختلاف عادات الأقطار في سن البلوغ، وفترة الحيض والنفاس.
فهذه الأمثلة أمور ليست بحد ذاتها أحكامًا شرعية كالأمثلة السابقة في النوع الأول، ولكنها متعلق ومناط لها، وهذه الصورة من العرف هي المقصودة من قول الفقهاء (العادة مُحَكَمة) ، فالأحكام المبنية على العرف والعادة هي التي تتغير بتغير العادة، وهنا فقط يصح أن يقال:(لا يُنكَر تبدلُ الأحكام بتبدل الأزمان) ، وهذا لا يعد نسخا للشريعة، لأن الحكم باق، وإنما لم تتوافر له شروط التطبيق، فطُبِّق غيره، يوضحه أن العادة إذا تغيرت فمعنى ذلك أن حالة جديدة قد طرأت تستلزم تطبيق حكم آخر، أو: أن الحكم الأصلي باقٍ، ولكن تغير العادة استلزم توافر شروط معينة لتطبيقه.
مثال ذلك: "ما ذهب إليه أبو حنيفة من الاكتفاء بالعدالة الظاهرة، فلم يشترط تزكية الشهود فيما عدا الحدود والقصاص لغلبة الصلاح على الناس وتعاملهم بالصدق، ولكن لما كثر الكذب في زمان أبي يوسف ومحمد صار في الأخذ بظاهر العدالة مفسدة وضياع للحقوق، فقالا بلزوم تزكية الشهود، وقال الفقهاء عن هذا الاختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه:
"إنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان"، ومثله أيضا سقوط خيار الرؤية برؤية ظاهر البيت وبعض حُجَرِه، وهذا ما أفتى به أئمة الحنفية لأن الحُجَر كانت تبنى على نمط واحد، ولكن لما تغيرت عادة الناس في البناء أفتى متأخروهم بعدم سقوط خيار الرؤية إلا برؤية جميع حجر البيت" (1) اهـ.
وإذا تحرر المعنى المراد من قولهم: "العادة محكمة"، علمت أنها لا تستلزم تغيير الأحكام بتغير الأزمان، وعندئذ يصبح قول من قال:(تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان) إما كلامًا باطلًا لا صحة له إن حمل على ظاهره كما قد يفهمه كثير من الناس، وإما كلامَا متجوزا فيه محمولا على غير ظاهره، وذلك بأن يقصد به الأحكام المرتبطة من أصلها بما قد يتبدل ويتغير من أعراف الناس ومصالحهم التي لم يُقْضَ فيها بحكم مبرم، كتلك الأمثلة التي مر ذكرها، ولكن ينبغي أن يعلم أن دوران تلك الأحكام مع مناطاتها لا يمكن أن يعتبر تبدلًا أو تغييرًا حقيقيًّا لها، بل هذا الذي يظهر في مظهر التغيير منه إنما هو ممارسة حقيقية له كما مر بيانه (2) .
بيان علاقة هذه القاعدة بأحكام الحجاب
مما تقدم يتضح أنه لا يصح احتجاج أعداء الحجاب بهذه القاعدة على استباحة التبرج الذي حَرمه الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذه القاعدة ونظائرها هي كل ما يحفظه أولئك المفتونون بالحياة الغربية من قواعد الشريعة الإسلامية وأصولها، وإنما يتعلقون بها في مجال التخفيف والتسهيل والسير مع مقتضيات التحلل من الواجبات فقط، ولكنهم يتناسون هذه القاعدة تماما عندما يقتضيهم الأمر عكس ذلك.
(1)"الوجيز في أصول الفقه" ص258 - 259، وانظر:"الموافقات"(2/ 283 - 284، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص 83 - 84) .
(2)
"ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية"(ص291) .
بل نستطيع أن نقول أيضا إنه لا يصح احتجاج من يبيح السفور اعتمادا على نفس القاعدة، لأنه لا يستطيع منصف ناصح للأمة - ممن يرى إباحة كشف وجه المرأة - أن يعثر على مثالٍ تتجلى فيه ضرورة تبدل الأحكام بتبدل الأزمان؛ مثل ضرورة القول بوجوب ستر المرأة وجهها عن الأجانب عنها، نظرًا لمقتضيات الزمان الذي نعيشه، ونظرا لما تكاثر فيه من المنزلقات التي تستوجب مزيدَا من الحذر في السير، والتبصر بمواقع الأقدام، ريثما يهيئ الله عز وجل للمسلمين مجتمعهم الإسلامي المنشود. وهذا نفس ما قرره العلماء اعتمادَا على التطبيق الصحيح لهذه القاعدة:
قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى، وعفا عنه:
"وكان قد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء في حضور المسجد، والصواب الآن المنع، إلا العجائز، بل استُصْوِبَ ذلك في زمان الصحابة، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: "لو علم النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدثت النساء بعده لمنعهن عن الخروج"، ولما قال ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، فقال بعض ولده: "بلى والله لنمنعهن" فضربه، وغضب عليه، وقال: تسمعني أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا" فتقول: بلى، وإنما استجرأ على المخالفة لعلمه بتغير الزمان، وإنما غضب عليه لإطلاقه اللفظ بالمخالفة ظاهرا من غير إظهار العذر"(1) .
وجاء في "المنتقى": "تمنع الشابة عن كشف وجهها لئلا يؤدي إلى الفتنة،
وفي زماننا المنع واجب، بل فرضٌ لغلبة الفساد" (2) اهـ.
وقد شرط المالكية، والحنفية، وبعض الشافعية (3) لجواز كشف المرأة
(1)"إحياء علوم الدين"(1/728) .
(2)
نقله في "اللباس والزينة في الشريعة الإسلامية" ص (141) .
(3)
انظر: "أحكام القرآن" لأبي بكر بن العربي (3/ 1357) ، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/289) و "الدر المختار) في باب الحظر والإباحة من "حاشية ابن
عابدين" (5/244) .
وجهها: أن لا يكون ذلك في حالة تثير الفتنة بأن تكون مزينة أو بارزة الجمال، وأن لا تظهر أمام فساق يغلب على الظن أنهم لا يغضون من أبصارهم، كما أمر الله تعالى، بل ينقادون لدوافع أهوائهم وشهواتهم، فإن فُقِدَ أحد الشرطين كان عليها أن تستر وجهها درءًا للفتنة بالنسبة للحالة الأولى، وإزالة للمنكر الذي تسببت به في الحالة الثانية، وإنما يكون إزالة المنكر في مثل هذه الحال بأن تمنع الفساق من النظر إليها، أو بأن لا تخرج من بيتها إلى هؤلاء الناس، أو بأن تحجب وجهها عنهم، وهو أيسر الأسباب الثلاثة
إذًا إذا تغير حال الناس، وعم الفسق وطم، بحيث تعلم المرأة أن حولها مَن قد ينظر إليها النظر المحرم الذي نهى الله تعالى عنه، باْن يتْبعَ النظرةَ النظرةَ، ولا تستطيع أن تزيل هذا المنكر إلا بحجب وجهها عنه، وعلى هذه الحالة يحمل ما نَقله الخطيب الشربيني عن إمام الحرمين من اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه (1) .
وقد صرح بهذا القيد القرطبي فيما نقله عن ابن خويز منداد من أئمة المالكية: "أن المرأة إذا كانت جميلة، وخيف من وجهها وكفيها الفتنة، فعليها ستر ذلك"(2) ، وكذا في "قوانين الأحكام الشرعية" لابن جزي.
وقال صاحب "الدر المختار" من الحنفية: "وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال، لا لأنه عورة، بل لخوف الفتنة، ولا يجوز النظر إليه بشهوة (3) ، وكذا في "الهدية العلائية".
* قال الشيخ أحمد عز الدين البيانوني رحمه الله في كتابه "الفتن": "قول الأئمة: "عند خوف الفتنة" إنما يعلم في ناظر خاص، وأما بالنظر
(1)"مغني المحتاج"(3/ 129) .
(2)
"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (12/ 228)
(3)
"الدر المختار" على هامش ابن عابدين (1/284)
إلى جماهير الناس الذين تبرز المرأة سافرة أمامهم، فلا يتصور عدم خوف الفتنة منهم جميعا، فيتحتم المنع من السفور أمامهم على هذا التعليل، وبهذا يظهر مذهب أبي حنيفة وأصحابه في المسألة" (1) اهـ.
* قال الأستاذ محمد أديب كلكل في كتابه "فقه النظر في الإسلام":
وإذا علمت المرأة بأن أحدًا من الرجال ينظر إليها، وجب عليها ستر وجهها لئلا توقع غيرها في الإثم، وتعرضه للفتنة وإثارة الشهوة، وفي عصرنا هدا لا يقول بجواز كشف الوجه والكفين إلا مكابر ومُنْكِر للحقائق والوقائع، وعليه اتفاق الأئمة رضوان الله عليهم أجمعين، لأن الفتنة أمرها محقق لا تحتاج إلى إيراد حجة، أو إقامة برهان، أو تقديم دليل، أو يجادل
في أن القطبين السالب والموجب إذا تقاربا لا يلتقيان أو لا يتجاذبان. وحتى يوجد المجتمع المسلم الكامل الذي قد تربى تربية إسلامية صحيحة، وسرت حقائق الإيمان في دمه وعروقه، واستنار فؤاده بنور اليقين، فأشرق على جوارحه سلوكا طيبًا، ونفعًا عامًا؛ حينئذٍ نبحث في خلاف الفقهاء رحمهم الله تعالى في جواز كشف الوجه واليدين، وإلى أن يتم ذلك، ويتحقق نقول:
"إن ستر الوجه واليدين من المرأة في عصرنا هذا واجب اتفاقا لأن
الفتنة قائمة لا محالة، وسدا لذرائع الفتنة المحققة".
* قال القرطبي في تفسيره:
"وقد قيل: إنه يجب الستر والتقنع الآن في حق الجميع من الحرائر والإماء، وهذا كما أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا النساء المساجد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: "لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لمنعهن من
(1)"الفتن"(ص 210) .
الخروج إلى المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل" (1) اهـ.
فما الذي أحدثته النساء في زمن عائشة رضي الله عنها بالنسبة لما عليه المرأة اليوم من تهتك وانحلال، وسفور وفجور، وتكشف فاضح، وإغراء لعين حتى منعت من المسجد؟؟ أفلا يكون هذا دليلًا كافيَا بمفرده على وجوب الستر الكامل في عصرنا هذا؟ وأن لا يكون هناك تحدث وكتابة عن غيره حتى تشرق الأرض بنور ربها، ويعمها الهدى والرشاد، ويسود فيها حكم الله؟ " (2) اهـ.
* وقال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي:
"وهكذا، فقد ثبت الإجماع عند جميع الأئمة - سواء من يرى منهم أن وجه المرأة عورة كالحنابلة، ومن يرى منهم أنه غير عورة كالحنفية والمالكية - أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها عند خوف الفتنة بأن كان مِن حولها مَن ينظر إليها بشهوة، ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم بأن الفتنة مأمونة اليوم، وأنه لا يوجد في الشوارع من ينظر إلى وجوه النساء بشهوة؟ "(3) اهـ.
الشبهة السادسة عشرة
نساء خيرات كن سافرات
* احتج دعاة السفور بأن في شهيرات النساء المسلمات على اختلاف طبقاتهن كثيرًا ممن لم يضربن على وجوههن الحجاب، رغم ما عرفن به من الاختلاط بالرجال.
(1)"الجامع لأحكام القرآن"(14/ 244) .
(2)
"فقه النظر في الإسلام"(ص 37-38) .
(3)
"إلى كل فتاة تؤمن بالله"(ص 45) .
ولقد عمد المروجون لهذه الشبهة إلى التاريخ وكتب التراجم، يفتشون في طولها وعرضها، وينقبون فيها بحثا عن مثل هؤلاء النساء، حتى ظفروا بضالتهم المنشودة، ودرتهم المفقودة، فالتقطوا أسماء عدد من النساء لم يكنَّ يبالين- فيما نقلته الأخبار عنهن- أن يظهرن سافرات أمام الرجال، واْن يلتقين معهم في ندوات أدبية وعلمية دونما تحرز أو تحرج.
* وجواب هذا من وجوه:
الأول: أن نسألهم: قد علمنا الأدلة الشرعية التي عليها تبنى الأحكام
من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، فضمن أي مصدر من مصادر التشريع تندرج مثل هذه الأخبار، خاصة وأن أغلبها وقع بعد زمن التشريع وانقطاع الوحي؟
الثاني: فإذا علم أن حكم الإسلام إنما يؤخذ من نص ثابت كتاب الله تعالى، أو حديث صحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قياس صحيح عليهما، أو إجماع التقى عليه أئمة المسلمين وعلماؤهم، لم يصح حينئذ الاستدلال بالتصرفات الفردية عن آحاد الناس، أو ما يسميه الأصوليون بـ "وقائع الأحوال"(1) .
فإذا كانت هذه الوقائع الفردية من آحاد الناس لا تعتبر دليلا شرعيًّا
(1) وقائع الأحوال، وقضايا الأعيان هي عبارة عن مواقف فردية وقعت في عصر التشريع، على خلاف مقتضى أدلة العموم، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة وقد أراد أن يضحي بعناق:"تجزئك، ولا تجزئ أحدًا بعدك" وكاعتباره شهادة خزيمة بمنزلة شاهدين، فهذه وأمثالها لا يقام عليها أحكام عامة، لأنها وردت متأثرة بأسباب استثنائية خاصة، فبقيت محصورة في نطاق الحال الذي ظهرت فيه، ولم يجز أن يمتد لها ذيل من التشريع العام المتجاوز لطبيعة تلك الحال، ومن أبرز قرائن وقائع الأحوال أنها تأتي معارضة لعموم حكم كلي لا شبهة فيه من أجل سبب استثنائي لو نقبت عنه لاكتشفته.
لأي حكم شرعي حتى لو كان أصحابها من الصحابة (1) رضوان الله عليهم أو التابعين من بعدهم، فكيف بمن دونهم؟
بل المقطوع به عند المسلمين جميعًا أن تصرفاتهم هي التي توزن - صحة وبطلانًا - بميزان الحكم الإسلامي، وليس الحكم الإسلامي هو الذي يوزن بتصرفاتهم، ووقائع أحوالهم، وصدق القائل:"لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله".
الثالث: ولو كان لتصرفات آحاد الصحابة أو التابعين مثلًا قوةُ الدليل الشرعي دون حاجة إلى الاعتماد على دليل آخر، لبطل أن يكونوا معرضين للخطأ والعصيان، ولوجب أن يكونوا معصومين مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا لأحد إلا للأنبياء عليهم وعلى خاتمهم الصلاة والسلام، أما من عداهم فحق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كل بني آدم خطاء"(2) ،
وإلا فما بالنا لا نقول – مثلًا - بحل شرب الخمر، وقد وجِد فيمن سلف في القرون الخيرية من شربها؟
الرابع: وما بال هؤلاء الدعاة إلى السفور قد عمدوا إلى كتب التاريخ والتراجم فجمعوا أسماء مثل هؤلاء النسوة من شتى الطبقات والعصور، وقد علموا أنه كان إلى جانب كل واحدة منهن سواد عظيم، وجمع غفير، من النساء المتحجبات الساترات لزينتهن عن الأجانب من الرجال؟ فلماذا لم يعتبر بهذه الجمهرة العظيمة، ولم يجعلها حجة بدلًا من حال أولئك القلة الشاذة المستثناة؟
أما علموا أن "الاستثناء" يؤيد القاعدة، ولا ينقضها؟ وأن ندرة هذه
(1) هناك فرق بين "قول الصحابي" وبين "واقعة حال له" فتنبه.
(2)
صدر حديث رواه الترمذي رقم (2501) في صفة القيامة، باب المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه، وأخرجه ابن ماجة رقم (4251) في الزهد، باب ذكر التوبة، والدرامي (2/303) في الرقاق، باب في التوبة، والإمام أحمد (3/198) ، كلهم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وتتمته:"وخير الخطائين التوابون".
الحفنة المبعثرة في هامش التاريخ الإسلامي، أقوى دليل على صحة قول:
الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله:
"لم تزل الرجال على مرّ الأزمان تكشف الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات، أو يمنعن من الخروج"(1) ،
* والإمام ابن رسلان رحمه الله:
"اتفق المسلمون على منع النساء من الخروج سافرات"(2) .
* وشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله:
"إن النساء كن يخرجن إلى المساجد والأسفار منتقبات لئلا يراهن
الرجال" (3) .
ولماذا لم يحتج بمواقف نساء السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان في تمسكهم بالحجاب الكامل (4) ، واعتباره أصلًا راسخًا من أصول البنية الاجتماعية؟!
الشبهة السابعة عشرة
(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ)
* يشيع أعداء الإسلام حول الحجاب أراجيف ينطق بها الشيطان على ألسنتهم، مثل قولهم: إن الحجاب يُسَهِّل عملية إخفاء الشخصية، وقد يتستر وراءه بعض النساء اللواتي يقترفن الفواحش، ويتعاطين المآثم،
(ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ
(1)"إحياء علوم الدين"(1/729) .
(2)
نقله عنه في "عون المعبود"(4/106) .
(3)
"فتح الباري"(9/248) .
(4)
وقد مر بك أمثلة من ذلك، فانظر ص (107) .
اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [التوبة: 30] .
* إنه قول بوار لا يصدر إلا ممن أكلهم الهوى، وأعجزهم البيان، فغفلوا عن حرمة أحق الذي أنزله علام الغيوب، ونسوا أن الله سبحانه وتعالى يحكم ولا معقب لحكمه، ويقضي ولا راد لقضائه (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23] .
فما حكم الله به عدل، وما أخبر به صدق (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) [الأنعام: 115] .
فقد حكم سبحانه بوجوب النقاب أو استحبابه على الأقل، وأخبر أنه أزكى وأطهر لقلوب المؤمنين والمؤمنات.
فحينما يأتي مرضى القلوب ويشغبون بهذه الأراجيف، فلا يمكن بأي حال أن يسوقنا هذا التخوف المحتمل من سوء استخدام النقاب إلى التخلي عن حكم الله عز وجل، وكل عاقل يفهم من سلوك المرأة التي تبالغ في ستر نفسها حتى أنها لا تبدي وجهًا ولا كفّا، فضلًا عن سائر بدنها أن هذا دليل الاستعفاف والصيانة، قال تعالى بعد الأمر بالحجاب:(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) قال أبو حيان: "لتسترهن بالعفة، فلا يُتعرض لهن، ولا يَلقين ما يكرهن، لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام لم يُقْدَمْ عليها بخلاف المتبرجة، فإنها مطموع فيها"(1) اهـ.
وكل عاقل أيضا يعلم أن تبرج المرأة وإظهارها زينتها، يشعر بوقاحتها، وقلة حيائها، وهوانها على نفسها، ومن ثم فهي الأوْلى أن يساء بها الظن بقرينة مسلكها الوخيم حيث تعرض زينتها كالسلعة، فتجر على نفسها وصمة خبث النية، وفساد الطوية، وطمع الذئاب البشرية، ومن أوقع نفسه مواقع التهمة، فلا يلومن مَن أساء به الظن.
إن هؤلاء المنافقين مرضى القلوب فساق هذا الزمان الذين يتشدقون بأن
(1)"البحر المحيط"(7/ 250) .
الحجاب يمكن أن يكون وسيلة لإخفاء هوية البغي يجب أن يؤدبوا ويعزروا أشد التأديب وأعنف التعزير، لأنه لهم نصيبَا وافرَا من قوله تعالى:(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)) [الأحزاب: 58] .
ولقد كان إخوانهم من منافقي المدينة أفقه منهم وأعقل حينما كانوا يتجرءون على السافرة، فإذا أخِذوا في ذلك قالوا - تخفيفًا لجريمتهم - حَسِبناها أمَةَ، لأنهم فهموا من المبالغة في التستر أن صاحبتها عفيفة محصنة.
واليوم انعكس الحال، وانقلبت المفاهيم رأسًا على عقب، بفضل أنصار المرأة ومحرريها، فصارت التي تحتجب مستعبدة، وصارت المتبرجة امرأة حرة متحررة، لقد شرع الله سبحانه وتعالى حكمه في مثل هؤلاء المنافقين فقال مباشرة بعد الأمر بإدناء الجلابيب:(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)) [الأحزاب: 60 - 62]
ثم إن من المتواتر لدى الكافة أن المسلمة التي تتحجب في هذا الزمان تذوق الويلات من الأجهزة الحكومية، والإدارات الجامعية، والحملات الإعلامية، والسفاهات من المنافقين في كل مكان، ثم هي تصبر على هذا كله ابتغاء وجه الله تعالى، ولا يفعل هذا إلا مؤمنة صادقة رباها القرآن والسنة، فإذا حاولت فاسقة مستهترة ساقطة أن تتجلبب بجلباب الحياء، وتواري عن الأعين زلتها بارتداء شعار العفاف ورمز الصيانة، وتستر عن الناس آفتها وفجورها بمظهر الحَصان الرزان فما ذنب الحجاب إذن؟
إن الاستثناء يؤيد القاعدة ولا ينقضها كما هو معلوم لكل ذي عقل،
مع أن نفس هذه المجتمعات التي يروج فيها هذه الأراجيف، قد بلغت من
الانحدار والتردي في مهاوي التبرج والفسوق والعصيان ما يغني الفاسقات عن التستر، ولا يحوجهن إلى التواري عن الأعين.
وإذا كان بعض المنافقين يتشدقون بأن في هذا خطرًا على ما يسمونه (الأمن) فليخبرونا بالله كيف يهتز الأمن ويتزلزل بسبب المنقبات مع أنه لم يتزلزل مرة واحدة بسبب السافرات والمتبرجات؟
هب أن رجلًا انتحل شخصية قائد عسكري كبير، وارتدى بَزَّته، وتحايل بذلك، واستغل هذا الثوب فيما لا يباح له كيف تكون عقوبته؟ وهل يصلح سلوكه - في نظركم - مبررًا للمطالبة بإلغاء الزي المميز للعسكريين مثلا خشية أن يسيءَ أحَد استعماله؟
وما يقال عن البزة العسكرَية، يقال عن "لباس الفتوة، وزي الرياضة،
فإذا وجد في المجتمع الجندي الذي يخون، والفتى الذي يسيء، والرياضي الذي يذنب، هل يقول عاقل إن على الأمة أن تحارب شعار العسكر، ولباس الفتوة، وزي الرياضة،. . . لخيانات ظهرت، وإساءات تكررت؟ فإذا كان الجواب:"لا" فلماذا يقف أعداء الإسلام من الحجاب هذا الموقف المعادي، ولماذا يثيرون حوله الشائعات الباطلة المغرضة؟ " (1) .
إن الهدف البعيد من وراء هذه الأراجيف الكاذبة هو تنفير المسلمات
من الحجاب الذي فرضه الله عز وجل، وترسيخ روح الاشمئزاز والكراهية من التجلبب به، والتحصن بعفافه، حتى إذا خلعن الحجاب ظهرن في المجتمع بأقبح ما تظهر به امرأة في تهتكها وانحلالها.
إن الإسلام كما يأمر المرأة بالحجاب، يأمرها أن تكون ذات خلق ودين، إنه يربي مَنْ تحت الحجاب قبل أن يسدل عليها الجلباب، ويقول لها:(وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ)[الأعراف: 26] ، حتى تصل إلى قمة الطهر والكمال، قبل أن تصل إلى قمة الستر والاحتجاب، فإذا اقتصرت امرأة
(1)"إلى كل أب غيور يؤمن بالله" د. عبد الله ناصح علوان (ص 44) .
على أحدهما دون الآخر، تكون كمن يمشي على رجل واحدة، أو يطير بجناح واحد.
إن التصدي لهؤلاء المستهترات - إن وجدن - أن تصدر قوانين صارمة بتشديد العقاب على كل من تسول له نفسه استغلال الحجاب لتسهيل الجرائم وإشباع الأهواء، فمثل هذا التشديد جائز شرعًا في شريعة الله الغراء التي حرصت على صيانة النفس، ووقاية العرض، وجعلتهما فوق كل اعتبار، وإذا كان التخوف من سوء استغلال الحجاب مخطرة محتملة، إلا أن المخطرة في التبرج والسفور بنشر الفاحشة وفتح ذرائعها مقطوع بها لدى كل عاقل.
ويدلي بعضهم بحجة مقلوبة فيقول: إن عفة الفتاة حقيقة كامنة في ذاتها، وليست غطاء، يلقى ويُسدل على جسمها، وكم من فتاة محتجبة عن الرجال في ظاهر، وهي فاجرة في سلوكها، وكم من فتاة حاسرة الرأس سافرة) الوجه لا يعرف السوء سبيلَا إلى نفسها أو سلوكها؟
* قال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في دفع هذه الشبهة:
"إن هذا صحيح، فما كان للثياب أن تنسج لصاحبها عفة مفقودة، ولا
أن تخلق له استقامة معدومة، وربَّ فاجرة سترت فجورها بمظهر سترها، ولكن من هذا الذي فى زعم أن الله سبحانه وتعالى إنما شرع الحجاب لجسم المرأة ليخلق الطهارة نفسها أو العفة في أخلاقها؟
ومن هذا الذي زعم أن الحجاب إنما شرعه الله ليكون إعلانا بأن كل
من لم تلتزمه فهي فاجرة تنحط في وادي الغواية؟
إن من حكمة الله عز وجل في تشريع الحجاب وفرضه على المرأة المحافظة على عفة الرجال الذين تقع أبصارهم عليها، وليس فقط حفاظا على عفتها من الأعين التي تراها، ولئن كانت تشترك معهم هي الأخرى في هذه الفائدة في كثير من الأحيان، فإن فائدتهم من ذلك أعظم وأخطر، وإلا
فهل يقول عاقل - تحت سلطان هذه الحجة المقلوبة - إن للفتاة أن تتجرد أمام الرجال مادامت ليست في شك من قوة أخلاقها وصدق استقامتها؟! إن بلاء الرجال بما تقع عليه أبصارهم من فتنة المتبرجات هو المشكلة التي أحوجت المجتمع إلى حل، فتكفل به شرع الله على أفضل وجه، وبلاء الرجال إذا لم يجد في سبيله هذا الحل الإلهي، ما من ريب سيتجاوز بالسوء إلى النساء أيضًا، ولا يغني عن الأمر شيئًا أن تعتصم المتبرجة عندئذ باستقامة في سلوكها أو عفة في نفسها، فإن في ضرام ذلك البلاء الهائج في نفوسهم ما قد يتغلب على كل استقامة، ويقضي على كل عفة قد تتصف بها المرأة المتبرجة التي تعرض فنون التبرج والفتنة أمامهم" (1) اهـ.
***
(1)"إلى كل فتاة تؤمن بالله"(ص 82-83) بتصرف، ومن الجدير بالذكر أن البوطي أشعري خَلَفي، وله مواقف من السلفية تناولها العلماء بالرد والإبطال، نسأل الله عز وجل أن يلهمه رشده، وأن يوفقه إلى اتباع منهج أهل السنة والجماعة.