الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
المذاهب الفقهية في حكم
كشف الوجه والكفين
من المناسب قبل أن نشرع في سرد نُقُول علماء المذاهب الأربعة المتبوعة- رحمهم الله أن ننبه إلى أن واجب المسلم أن يأخذ بالدليل مع وافر الحرمة والتقدير لأئمة الفقه والحديث، في القديم والحديث، ولا لوم في الانتساب المذهبي المجرد من العصبية، هذا هو المذهب الحق، والقول الصدق، وله مخالفة إمامه إلى إمام آخر، حجته في تلك المسألة أقوى، بل عليه اتباع الدليل فيما تبرهن له، لا كمن تمذهب لإمام، فإذا لاح له ما يوافق هواه عمل به من أي مذهب كان، محتجًّا بأن الخلاف في الفروع يتسامح فيه على الإطلاق، ومتجاهلًا أنه:
ليس كل خلاف جاء معتبرا
…
إلا خلاف له حظ من النظر
ونظرية "جواز التعبد بالخلاف" التي يتبناها في زماننا عوام فسدت فطرتهم بفعل التربية المعوجة ماِ هي إلا صدى لقول سلفهم: "من قلد عالمًا لقي الله سالما"، مع فارق وهو أن الأولين كانوا يلزمون مذهبًا واحدَا لا يحيدون عنه، أما هؤلاء فقد تركوا الحبل على الغارب، وأطلقوا لأهوائهم العِنان حتى تظفر بمرادها في زلة عالم، أو رخصة متكلفة، أو قول شاذ ملفق دون أي اعتبار لمخالفة العالم غير المعصوم لقول المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) .
لقد وصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دواءَ داءِ الفرقة والاختلاف في قوله:
"فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافَا كثيرَا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين المهديين". . . الحديث، فالسنة تجمع المتفرقين، وتُوحّدُ المختلفين.
ولقد جعل الله عز وجل الإجماع حجة معصومة من الضلال، فلا يصح أن نجعل ما يضاده وهو الاختلاف حجة أيضًا، بل علينا أن نردد مع ابن مسعود رضي الله عنه قوله "الخلاف شر".
وما أحسن قول حافظ المغرب الإمام أبي عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى:
"الاختلاف ليس بحجةِ عند أحدٍ علمتُه من فقهاء الأمة إلا مَنْ لا بصر له، ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله"(1) اهـ.
وشتان بين أن يقع اختلاف بين العلماء المخلصين في طلب الحق، المجتهدين في تحري الأدلة، الدائرين في حالتي الصواب والخطأ بين مضاعفة الأجر مع الشكر، وبين الأجر الواحد مع العذر، وبين من يتتبع الزلات، ويتحكم بالتشهي، ويرجح بالهوى، فيئول حاله إلى البطالة، ورقة الدين، ونقص العبودية.
ومع أن دائرة الخلاف في القضية التي نحن بصددها قد ضاقت جدًّا في زماننا كما سيتبين لك عما قليل إن شاء الله تعالى، إلا أنه لزم التحذير من "بدعة التعبد بالخلاف مطلقا" لشيوع استدلال "أنصار البدعة" بها في قضايا أشد خطورة مما نحن بصدده، والله المستعان.
* أولا: المذهب الحنفي:
الأصل في المذهب الحنفي أنه يجوز للمرأة كشف وجهها وكفيها (2) عند
(1)"جامع بيان العلم وفضله"(2/109) .
(2)
بل جاء في متون المذهب (وبدن المرأة الحرة عورة إلا وجهها وكفيها وقدميها) انظر: "اللباب في شرح الكتاب"(1/62)"تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزيلعي (1/96) ، واعلم أن القدمين عورة داخل الصلاة وخارجها =
أمن الفتنة (1) ، لكن المتأخرين منعوا ذلك لا لأنهما عورة، لكن لانتشار الفساد، وغلبة الظن بحصول الفتنة، فضلا عن تحققها، وهاك بعض نصوصهم:
* قال الكاساني رحمه الله:
"فلا يجوز النظر من الأجنبي إلى الأجنبية الحرة إلى سائر بدنها إلا الوجه والكفين، لقوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) إلا أن االنظر إلى مواضع الزينة الظاهرة، وهي الوجه والكفان، رخص بقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ، والمراد من الزينة مواضعها، ومواضع الزينة الظاهرة: الوجه والكفان، ولأنها تحتاج" إلى البيع والشراء، والأخذ والعطاء، ولا يمكنها ذلك – عادةً - إلا بكشف الوجه والكفين، فيحل لها الكشف، وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يحل النظر إلى مواضع الزينة منها من غير شهوة، وأما عن شهوة فلا، لقوله صلى الله عليه وسلم:"العينان تزنيان"، وليس زنى
= في الأصح لحديث أم سلمة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: "أتصلي في درع وخمار وعليها إزار؟ "، فقال صلى الله عليه وسلم:"إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها" أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي، وانظر:"الدين الخالص" للشيخ محمود خطاب السبكي (2/104) .
وما يؤديه أيضَا قول أم سلمة رضي "الله عنها: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال صلى الله عليه وسلم: "يرخين شبرا"، فقالت: إذن تنكشف أقدامهن، قال: "فيرخينه ذراعَا لا يزدن عليه "أخرجه الترمذي، وقال: "حسن صحيح"، قال البيهقي: (وفي هذا دليل على وجوب ستر قدميها) ، واستنبط بعض العلماء من قوله تعالى (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) وجوب ستر القدمين، قال الإمام ابن حزم رحمه الله: (هذا نص على أن الرجلين والساقين مما يخفى ولا يحل إبداؤه) اهـ من المحلى"(3/216) .
انظر "الفتاوى الهندية في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان"(1/58) .
العين إلا النظر عن شهوة،. . والأفضل للشاب غض البصر عن وجه الأجنبية، وكذا الشابة؛ لما فيه من خوف حدوث الشهوة، والوقوع في الفتنة، ويؤيده المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أنه الرداء والثياب، فكان غض البصر، وترك النظر أزكى وأطهر" (1) اهـ.
* وقال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى في كلام له حول النظر إلى الأجنبيات:
". . فدل أنه لا يباح النظر إلى شيء من بدنها، ولأن حرمة النظر لخوف الفتنة، وعامة محاسنها في وجهها، فخوف الفتنة في النظر إلى وجهها أكثر منه إلى سائر الأعضاء".
إلى أن قال رحمه الله: "ولكنا نأخذ بقول علي وابن عباس (2) رضي الله عنهم فقد جاءت الأخبار في الرخصه بالنظر إلى وجهها وكفها (3) . . " إلى أن قال: "وهذا كله إذا لم يكن النظر عن شهوة، فإن كان يعلم أنه إن نظر اشتهى لم يحل له النظر إلى شيء منها"(3) اهـ.
(1)"بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع"(5/ 123) ، وانظر "تبيين الحقائق" للزيلعي (6/17) .
(2)
يشير هنا إلى ما روى عنهما رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بأنها الكحل والخاتم، وقد تقدم بيان الراجح في تفسيرها (ص 263)، وقد بين الإمام أكمل الدين محمد البابرتي الحنفي في "شرح العناية على الهداية" أن دلالة قولهما على الوجه والكفين غير واضح قال: (إذ الظاهر أن موضع الكحل
هو العين، لا الوجه كله، وكذا موضع الخاتم هو الإصبع، لا الكف كله، والمدّعى جواز النظر إلى وجه الأجنبية كله، وإلى كفيها بالكلية) اهـ (10/ 24) .
(3)
"المبسوط"(10/ 152 - 153) .
* وقال الإمام أبو بكر الجصاص في تفسير قوله تعالى (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) :
"في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها من الأجنبي، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج، لئلا يطمع أهل الريب فيهن"(1) اهـ.
* وجاء في "الدر المختار":
"يعزر المولى عبده، والزوج زوجته على تركها الزينة، أو كلمه ليسمعها أجنبي، أو كشفت وجهها لغير محرم"(2) اهـ.
وجاء فيه كذلك قول الطحطاوي:
"وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين رجال، لا لأنه عورة، بل لخوف الفتنة كمسه وإن أمن الشهوة لأنه أغلظ"(3) .
* وقال ابن عابدين في شرحه:
"المعنى: تمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع الفتنة،
لأنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة" (3) اهـ.
* ونقل ابن عابدين عن صاحب "المحيط" قوله:
". . . ودلت المسألة على أن المرأة منهية عن إظهار وجهها للأجانب بلا ضرورة، لأنها منهية عن تغطيته لحق النسك لولا ذلك، وإلا لم يكن لهذا الإرخاء فائدة"(4) اهـ.
(1)"أحكام القرآن"(3/ 458) .
(2)
"هامش رد المحتار"(3/ 261) .
(3)
"رد المحتار على الدر المختار"(1/ 272) .
(4)
السابق (2/ 189) .
* وقال الإمام محمد أنور الكشميري ثم الديوبندي رحمه الله:
"ومنها - أي من آيات الحجاب -: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) قيل: الزينة
هي الوجه والكفان، فيجوز الكشف عند الأمن عن الفتنة على المذهب، وأفتى المتأخرون بسترها لسوء حال الناس. .
إلى أن قال: "ومنها: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) إلخ، والخطاب فيها وإن كان خاصًا إلا أن الحكم عام"(1) اهـ.
* وقال العلامة ابن نجيم - المتوفى سنة سبعين وتسعمائة رحمه الله:
وفي فتاوى قاضيخان (2) :
"ودلت المسألة على أنها لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة"، وهو يدل على أن هذا الإرخاء عند الإمكان، ووجودِ الأجانب واجب عليها" (3) اهـ.
وقال أيضًا:
"قال مشايخنا: تمنع المرأة الشابة من كشف وجهها بين الرجال في زماننا للفتنة"(4) اهـ.
* وفي الهدية العلائية":
"وينظر من الأجنبية ولو كافرة إلى وجهها وكفيها فقط للضرورة، قيل: والقدم والذراع والمرفق إذا آجرت نفسها للخبز ونحوه من الطبخ وغسل
الثياب، لأنه يبدو منها عادة، وتمنع الشابة من كشف وجهها خوف
(1)"فيض الباري على صحيح البخاري"(1/ 254) .
(2)
وهو الشيخ العلامة محمود الأوزجندي رحمه الله.
(3)
"البحر الرائق شرح كنز الدقائق"(2/381) .
(4)
"السابق"(1/284) .
الفتنة" (1) اهـ.
* وفي "الهدية العلائية" أيضًا:
"والنظر إلى ملاءة الأجنبية بشهوة حرام، أما بدونها فلا بأس، ولو إلى جسدها المستور بثياب لا تصف، ولا يظهر حجمها"(2) اهـ.
* وفي "المنتقى":
"تمنع الشابة من كشف" وجهها لئلا يؤدي إلى الفتنة، وفي زماننا المنع واجب، بل فرض لغلبة الفساد" (3) اهـ.
* ونقل البيانوني في "الفتن" عن الجرداني رحمه الله قوله:
"وعورة المرأة بالنسبة لنظر الأجنبي إليها جميع بدنها" يدون استثناء شيء منه أصلا، ولو كانت عجوزًا شوهاء، فيحرم على الرجل أن ينظر إلى شيء منها، ولو بغير شهوة. . ويجب أن تستتر عنه، وهذا هو المعتمد (4) اهـ.
* ونقل الأستاذ درويش مصطفى حسن عن بعض علماء الأحناف قولهم:
"فحل النظر مقيد بعدم الشهوة، وإلا فحرام، وهذا زمانهم، أما في زماننا فمنع من الشابة أي فمنع نظر الوجه من الشابة، ولو من غير شهوة"(5) .
* وقال الشيخ أحمد عز الدين البيانوني رحمه الله:
(1) نقلا عن: "فقه النظر في الإسلام" للشيخ محمد أديب كلكل (ص 36) .
(2)
نقلأ عن: "السابق"(ص 63) .
(3)
نقلًا عن "اللباس والزينة في الشريعة الإسلامية"(ص 141) .
(4)
"الفتن" ص 196 - 197.
(5)
"فصل الخطاب"(ص 55) .
"قول الأئمة "عند خوف الفتنة" (1) إنما يُعلم في ناظر خاص، وأما بالنظر
إلى جماهير الناس الذين تبرز المرأة سافرة أمامهم؛ فلا يتصور عدم خوف الفتنة منهم جميعَا، فيتحتم المنع من السفور أمامهم على هذا التعليل، وبهذا يظهر مذهب اْبي حنيفة وأصحابه في المسألة" (2) اهـ.
* ثانيَا: المذهب المالكي:
* قال العلامة صالح عبد السميع الآبى الأزهري المالكي:
"وعورة الحرة مع رجل أجني مسلم جميع جسدها عدا الوجه والكفين ظهرًا وبطنا، فالوجه والكفان ليسا عورة، فيجوز لها كشفهما للأجنبي، وله نظرهما إن لم تخش الفتنة، فإن خيفت الفتنة: فقال ابن مرزوق: مشهور المذهب وجوب سترهما، وقال عياض: لا يجب سترهما، ويجب غض البصر عن الرؤية، وأما الأجنبي الكافر فجميع جسدها حتى وجهها وكفيها عورة بالنسبة له"(3) اهـ.
* ويقول الشيخ أحمد الدردير في "أقرب المسالك إلى مذهب مالك":
"وعورة المرأة مع رجل أجنبي عنها جميع البدن غير الوجه والكفين، وأما هما فليس بعورة، وإن وجب عليها سترهما لخوف الفتنة"(4) .
(1) يعني قول السرخسي: (حرمة النظر لخوف الفتنة - يعني: لا لكونه عورة -، وخوف الفتنة في النظر إلى وجهها - وعامة محاسنها في وجهها - أكثر منه إلى سائر الأعضاء) اهـ من "المبسوط "(10/ 152) .
(2)
"الفتن" ص (197) .
(3)
"جواهر الإكليل في شرح مختصر العلامة الشيخ خليل في مذهب الإمام مالك إمام دار التنزيل"(1/41)، وانظر:"شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل" للشيخ محمد عليش (1/33) ، و"إكمال إكمال المعلم" للآبي (5/430) .
(4)
نقلًا عن "مجلة الجامعة السلفية" مقالة الشيخ الأنصاري.
وحكى الشيخ أحمد الصاوي قولين في وجوب ستر الوجه في تلك الصورة:
الأول: الوجوب، وهو مشهور المذهب.
والثاني: وجوب غض البصر على الرجل، وهو قول عياض (1) .
* وقال القاضي عياض رحمه الله:
"فرض الحجاب مما اختصصن به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن، وأن يكن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة من براز. . . " إلخ (2) اهـ.
* قال ابن بطال:
"وفيه - أي حديث المرأة الحثعمية - دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضَا لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة، ولو رآه الغرباء، وأن قوله (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) على الوجوب في غير الوجه"(3) اهـ.
* قال ابن رسلان رحمه الله:
"وهذا - أي جواز نظر الأجنبية - عند أمن الفتنة مما تدعو الشهوة إليه من جماع أو ما دونه، أما عند خوف الفتنة فظاهر إطلاق الآية والحديث عدم اشتراط الحاجة، ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع
(1) نقلا عن "مجلة الجامعة السلفية" مقالة الشيخ الأنصاري.
(2)
نقله عنه في "الفتح، وتعقبه الحافظ بقوله: (وليس فيما ذكره دليل على ما ادَّعاه) اهـ انظر: "فتح الباري"، (8/391) .
(3)
نقله عنه الحافظ في "الفتح"(11/12) .
النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لاسيما عند كثرة الفساق" (1) اهـ.
* وقال الشيخ محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي المالكي:
"وإن كانت أجنبية جاز أن يرى الرجل من المتجالة الوجه والكفين، ولا يجوز أن يرى ذلك من الشابة إلا لعذر من شهادة، أو معالجة، أو خِطبة"(2) اهـ.
* قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى:
"والمرأة كلها عورة بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة، أو لحاجة كالشهادة، أو داء يكون ببدنها"(3) اهـ.
وقال أيضا:
"قوله في حديث ابن عمر: "ولا تنتقب المرأة" وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئَا من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتُعْرِضُ عن الرجال، ويُعْرِضون عنها"(4) اهـ.
* وذكر القرطبي في تفسيره:
"أن ابن خويز منداد من علماء المالكية قال: إن المرأة إذا كانت جميلة، وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك، وإن كاتَ عجوزا أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها"(5) اهـ.
(1) نقله عنه الشوكاني في "نيل الأوطار"(6/ 130) .
(2)
"قوانين الأحكام الشرعية، ومسائل الفروع الفقهية" ص 484 الباب التاسع عشر، وانظر:"أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك" للشيخ شهاب الدين عبد الرحمن بن عسكر البغدادي (1/ 184) .
(3)
"أحكام القرآن"(3/ 1578) .
(4)
"عارضة الأحوذي"(4/56) المسألة الرابعة عشرة.
(5)
"الجامع لأحكام القرآن"(12/228) .
* قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المعروف بالحطاب المالكي:
"واعلم أنه إن خشي من المرأة الفتنة يجب عليها ستر الوجه والكفين، قاله القاضي عبد الوهاب ونقله عنه الشيخ أحمد زروق في "شرح الرسالة" وهو ظاهر التوضيح هذا ما يجب عليها"(1) اهـ.
* وقال الشيخ محمد عرفة الدسوقي رحمه الله:
"قوله: "كستر وجه الحرة ويديها" فإنه يجب إذا خيفت الفتنة بكشفها"(2) اهـ.
وقال أيضَا:
"متى أرادت - يعني المحرمة - الستر عن أعين الرجال جاز لها ذلك مطلقًا، عَلِمَت أو ظنت الفتنة بها أم لا، نعم إذا علمت أو ظنت الفتنة بها كان سترها واجبًا"(3) اهـ.
* ثالثًا: المذهب الشافعي:
في كشف وجه المرأة وكفيها والنظر إلى ذلك - عند الشافعية - ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يخاف الفتنة، أو ما يدعو إلى الاختلاء بها لجماع أو مقدماته، فالنظر والكشف في هذه الحالة حرام بالإجماع كما قاله الإمام. الحالة الثانية: أن ينظر إليهما بشهوة، وهي قصد التلذذ بالنظر المجرد،
(1)"مواهب الجليل لشرح مختصر خليل"(1/499) .
(2)
"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(1/214)، والمقصود: وإن لم يكن الوجه والكفان عورة في أصل المذهب كما يقتضيه السياق.
(3)
"السابق"(4/54-55) .
وأمن الفتنة، فيحرم مطلقا، وعلى المرأة ستر وجهها وكفيها من رؤوس الأصابع إلى المعصم ظهرَا وبطنَا.
الحالة الثالثة: أن تنتفي الفتنة، وتؤمن الشهوة؛ ففي هذه الحالة قولان: الأول: لا يجوز، ولو من غير مشتهاة، أو خوف فتنة على الصحيح،
وهو قول النووي رحمه الله في "المنهاج"، والإصطخري، وأبي علي الطبري، واختاره الشيخ أبو محمد، وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والروياني، وغيرهم، ووجهه الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه، وبأن النظر محرك للشهوة، ومظنة للفتنة، وقد قال تعالى:(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) ، واللائق بمحاسن الشريعة سد باب الذرائع إلى المحرم، والإعراض عن تفاصيل الأحوال، أي بشهوة أو بغير شهوة، كما قالوه في الخلوة مع الأجنبية (1) .
* قال العلامة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى:
"إن الأقرب إلى صنع الأصحاب أن وجهها وكفيها عورة في النظر، لا
في الصلاة" اهـ.
الثاني: لا يحرم عند أمن الفتنة وعدم الشهوة، لقوله تعالى:(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) وهو مفسَّر بالوجه والكفين، ونسبه
الإمام للجمهور، والشيخان النووي، والرافعي للأكثرين.
قال في "المهمات":
"إنه الصواب لكون الأكثرين عليه، وهو قول الرافعى".
* قال البلقيني:
"الترجيح بقوة المدرك والدليل فإن نظرت لقوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
(1) قال العلامة شمس الدين الرملي الشهير بالشافعي الصغير في "نهاية المجتاج إلى شرح المنهاج" معلقا: (وبه اندفع القول بأنه غير عورة) اهـ. (6/187)
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) ، ولقاعدة سد الذرائع إلى المحرم رجحت الحرمة وإذا نظرت لقوله تعالى:(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) رجحت جواز النظر، والفتوى والمذهب على ما جاء في المنهاج من الحرمة مطلقًا، وهو القول الأول، وهو الراجح" (1) اهـ.
* وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى:
"فإذا خرجت - أي المرأة - فينبغي أن تغض بصرها عن الرجال، ولسنا نقول إن وجه الرجل في حقها عورة، كوجه المرأة في حقه، بل هو كوجه الصبي الأمرد في حق الرجل، فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط، فإن لم تكن فتنة فلا، إذ لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات، ولو كان وجوه الرجال عورة في حق النساء، لأمروا بالتنقب، أو منعن من الخروج إلا لضرورة"(2) اهـ.
ورجح الغزالي أيضًا في "الإحياء" أن كشف وجه المرأة للأجنبي حرام، وأن نهي الأجنبية عنه واجب.
* قال الزبيدي رحمه الله:
"قوله لها في تلك الحالة: لا تكشفي وجهك أي استري وجهك واجب
أو مباح أو حرام لا يخلو من أحد الثلاثة فإن قلتم: إنه واجب، فهو الغرض المطلوب لأن الكشف معصية، والنهي عن المعصية حق" (3) اهـ.
(1)"فقه النظر في الإسلام ص 34 -36 وانظر: "روضة الطالبين" (7/21) ، و"مغني المحتاج إلى معرفة معاني المنهاج" (3/ 128) ، "نهاية المحتاج" (2/8) ، (6/187) ، "السراج الوهاج" (ص 52) ، "إعانة الطالبين" (1/113) ، "فتح
الوهاب" (1/ 48) .
(2)
"إحياء علوم الدين" المجلد الأول (ص 728 - 729) .
(3)
"إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين"(7/ 17) للعلامة السيد محمد بن محمد الحسيني الزبيدي الشهير بمرتضى.
* قال العلامة محمد الشربيني الخطيب الشافعي رحمه الله:
(وما نقله الإمام من الاتفاق على منع النساء: أي منع الولاة لهن معارَض بما حكاه القاضي عياض عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها، وإنما ذلك سنة، وعلى الرجال غض البصر عنهن للآية، وحكاه المصنف عنه في شرح مسلم، وأقره عليه.
وقال بعض المتأخرين: "إنه لا تعارض في ذلك، بل منعهن من ذلك،
لا لأن الستر واجب عليهن في ذاته، بل لأن فيه مصلحة عامة، وفي تركه إخلال بالمروءة".
وظاهر كلام الشيخين أن الستر واجب لذاته، فلا يتأتى هذا الجمع، وكلام القاضي ضعيف، وحيث قيل بالجواز كره، وقيل: خلاف الأولى، وحيث قيل بالتحريم - وهو الراجح - هل يحرم النظر إلى المنتقبة التي لا يتبين منها غير عينيها ومحاجرها أم لا؟
* قال الأذرعي:
"لم أر فيه نصّا، والظاهر أنه لا فرق، لاسيما إذا كانت جميلة، فكم من المحاجر من خناجر" اهـ، وهو ظاهر) (1) اهـ.
* وقال الخطيب الشربيني أيضا:
"ويكره أن يصلي في ثوب فيه صورة، وأن يصلي الرجل ملثما، والمرأة منتقبة، إلا أن تكون في مكان وهناك أجانب لا يحترزون عن النظر إليها، فلا يجوز لها رفع النقاب"(2) .
* وفي حواشي الشرواني والعبادي:
"من تحققت من نظر أجنبي لها يلزمها ستر وجهها عنه، وإلا كانت
(1)"مغني المحتاج"(3/129) .
(2)
"الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع" ص 185.
معينه له على حرام، فتأثم" (1) اهـ،
* رابعا: المذهب الحنبلي:
نقل العلامة ابن مفلح عن شيخ الإسلام قوله:
"وكشف النساء وجوههن بحيث يراهن الأجانب غير جائز"(2) اهـ. وتقدم مثله عن تلميذه الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله (3) .
* وقال العلامة ابن مفلح رحمه الله:
"قال أحمد: ولا تبدي زينتها إلا لمن في الآية، ونقل أبو طالب: "ظفرها عورة، فإذا خرجت فلا تبين شيئًا، ولا خفها، فإنه يصف القدم، وأحب إليَّ أن تجعل لكمها زرُّا عند يدها"، اختار القاضي قول من قال: المراد بـ "ما ظهر" من الزينة: الثياب، لقول ابن مسعود وغيره، لا قول من فسرها ببعض الحلي، أو ببعضها، فإنها الخفية، قال: وقد نص عليه أحمد فقال: الزينة الظاهرة الثياب، وكل شيء منها عورة حتى الظفر"(4) اهـ.
وقال العلامة ابن مفلح أيضَا:
"نقل أبو طالب: ظفر المرأة عورة، فإذا خرجت فلا يبين منها شيء، ولا خفها، فإن الخف يصف القدم، وَأحَبُّ إليَّ أن تجعل لكمها زرَّا عند يدها لا يبين منها شيء"(5) اهـ.
* قال الإمام ابن قدامة رحمه الله:
"لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة، وأنه
(1)"حواشي الشرواني والعبادي"(6/ 193) "
(2)
الآداب الشرعية والمنح المرعية" (1/ 316) .
(3)
انظر (ص 193) .
(4)
"الفروع"(1/601) .
(5)
"السابق"(5/154) .
ليس لها كشف ما عدا وجهها وكفيها، وفي الكفين روايتان".
إلى أن قال: "وقال بعض أصحابنا: المرأة كلها عورة، لأنه قد روى في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة" رواه الترمذي، وقال. "حديث حسن صحيح"، لكن رخص لها في كشف وجهها وكفيها لما في تغطيته من المشقة، وأبيح النظر إليه لأجل الخطبة لأنه مجمع المحاسن، وهذا قول أبي بكر الحارث بن هشام (1) ، قال: المرأة كلها عورة حتى ظفرها".
وقال: "فأما الكفان فقد ذكرنا فيهما روايتين: إحداهما: لا يجب سترهما لما ذكرنا (2) ، والثانية: يجب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة"، وهذا عام إلا ما خصه الدليل، وقولُ ابن عباس: "الوجه والكفان" قد روى أبو حفص عن عبد الله بن مسعود خلافه قال: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الثياب، ولا يجب كشف الكفين في الإحرام، إنما يحرم أن تلبس فيهما شيئَا مصنوعا على قدرهما، كما يحرم على الرجل لبس السراويل، والذي يستر به عورته"(3) اهـ.
(1) وظاهره وجوب تغطية كل بدنها حتى في الصلاة بما في ذلك الوجه والكفان، ولهذا علق حافظ المغرب الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله عليه قائلاً: (قول أبي بكر هذا خارج عن أقاويل أهل العلم، لإجماع العلماء على أن للمرأة أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله منها، وتباشر الأرض به، وأجمعوا على أنها لا تصلي منتقبة، ولا عليها أن تلبس قفازين في الصلاة، وفي هذا أوضح الدلائل على أن ذلك منها غير عورة، وجائز أن ينظر إلى ذلك منها كل من نظر إليها بغير ريبة ولا مكروه.
وأما النظر للشهوة، فحرام تأملها من فوق ثيابها لشهوة، فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة، وقد روى نحو قول أبي بكر بن عبد الرحمن عن أحمد بن حنبل) اهـ من "التمهيد"(6/ 365) .
يشير إلى استدلال من لم يوجب سترهما بقول ابن عباس رضي الله عنهما في (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) الوجه والكفان، وبنهي المحرمة عن لبس القفازين والنقاب، ولأن الحاجة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء والكفين للأخذ والاعطاء.
(3)
"المغني"(1/601- 602)
* وقال العلامة علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي رحمه الله:
(قوله: "والحرة كلها عورة، حتى ظفرها وشعرها إلا الوجه" والصحيح
من المذهب: أن الوجه ليس بعورة، وعليه الأصحاب، وحكاه القاضي إجماعا، وعنه: الوجه عورة أيضًا، قال الزركشي:"أطلق الإمام أحمد القول بأن جميعها عورة، وهو محمول على ما عدا الوجه، أو على غير الصلاة" اهـ، وقال بعضهم: الوجه عورة، وإنما كشف في الصلاة للحاجة.
قال الشيخ تقي الدين: "والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز النظر إليه") (1) اهـ.
* وقال المحقق أبو النجا شرف الدين موسى الحجاوي المقدسي رحمه الله:
"والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها،
قال جمع: وكفيها، وهما والوجه عورة خارجها باعتبار النظر كبقية بدنها" (2) اهـ.
* وقال العلامة منصور بن إدريس البهوتي رحمه الله:
"ولا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة، ذكره في المغني وغيره، "قال جمع: وكفيها" واختاره المجد، وجزم به في العمدة، والوجيز، لقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال ابن عباس وعائشة: "وجهها وكفيها" رواه البيهقي، وفيه ضعف،
(1)"الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل"(1/452) .
(2)
"الإقناع"(1/88) .