الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
أدلة القرآن الكريم
الدليل الأول
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)) [الأحزاب: 59] ،.
* قول الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) :
قال رحمه الله في تأويل هذه الآية:
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) : لا تتشبهن بالإماء في لباسهن، إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن، لئلا يعرض لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر بأذى من قول. ثم اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهن الله به.
فقال بعضهم: هو أن يغطين وجوههن ورؤوسهن، فلا يبدين منهن إلا
عينًا واحدة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح (1) قال: ثني معاوية، عن علي (2) ، عن
(1) أبو صالح المصري عبد الله بن صالح فيه ضعف "التقريب"(1/423) .
(2)
هو علي بن أبي طلحة، تكلم فيه بعض الأئمة، ولم يسمح من ابن عباس، بل =
ابن عباس، قوله:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينًا واحدة. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، عن عَبيدةَ (1) في قوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) فلبسها عندنا ابن عون، قال: ولبسها عندنا محمد، قال محمد: ولبسها عندي عبيدة، قال ابن عون: بردائه، فتقنع به، فغطى أنفه، وعينه اليسرى، وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبًا من حاجبه أو على الحاجب.
حدثني يعقوب، قال. ثنا هُشيم، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة عن قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ)
= لم يره، وقد قيل إن بينهما مجاهدا، انظر هامش ص (209) .
(1)
رجال هذا الإسناد جبال في الثقة والضبط، فابن جرير هو الحافظ الطائر الصيت، المفسر المشهور، ويعقوب هو ابن إبراهيم الدورقي ثقة، وابن عُلَيَّة هو إسماعيل بن علية إمام كبير ثقة، وابن عون هو عبد الله بن عون المزني أحد الأعلام ثقة ثبت، ومحمد هو ابن سيرين أحد الأعلام التابعين، وعَبيدة هو السلماني إمام ثقة زاهد، وهو من أعلام التابعين الكبار، ومخضرم ثقة ثبت، قال الحافظ في "التهذيب":(كان "شريح" القاضي إذا أشكل عليه شيء من أمر دينه سأله، ورجع إليه) اهـ (7/ 84)، قال الإمام الذهبي:(عبيدة بن عمرو السلماني المرادي الكوفي الفقيه العَلَمَ، كاد أن يكون صحابيّا، أسلم زمن الفتح باليمن، وأخذ العلم عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما، قال الشعبي: (كان يوازي شريحًا في القضاء)، وقال العجلي: عبيدة أحد أصحاب عبد الله بن مسعود الذين يقرءون، ويفتون الناس "، وقال ابن سيرين: (ما رأيت رجلا أشد توقيًا من عبيدة) ، وكان مكثرًا عنه) انظر: "تذكرة الحفاظ " (1/ 50) ، وإذا تقرر لديك أن عبيدة السلماني من كبار التابعين، وأنه آمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نزل المدينة
في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يزل بها حتى مات، لعلمت حينئذ أنه يفسر ما كان سائدًا في المجتمع الذي كان يمثله أجلة الصحابة رضي الله =
الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) قال: فقال بثوبه، فغطى رأسه ووجهه، وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه.
وقال آخرون: بل أمِرْنَ أن يشددن جلابيبهن على جباههن.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) إلى قوله: (وَكَانَ الله غَفورا رَحِيما) قال: كانت الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وإدناء الجلباب: أن تقنع (1) ، وتشدَّهُ على جبينها. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) أخذ الله عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) وقد كانت المملوكة إذا مرَّت تناولوها بالإيذاء، فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال. ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:(يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) يتجلببن فيُعلم أنهن حرائر، فلا يعرض لهنَّ فاسق بأذى من قول ولا ريبة. . .
= عنهم، وأكابر الأمة الذين عليهم مدار هذا الدين.
(1)
اعلم أن (التقنع يطلق على تغطية الوجه، وبهذا التفسير تتوافق هذه الرواية لما قبلها، ومعلوم أن التوفيق بين القولين في كلام العقلاء واجب مهما أمكن، وأن ضرب أحدهما بالآخر لا يجوز، ومن العجيب أن ابن جرير نقل قول ابن عباس هذا في سياق من لا يقول بستر الوجه، ولم يلتفت إلى الروايات التي توضح معنى التقنع في هذه الرواية) اهـ من كلام الشيخ أبي هشام الأنصاري - نقلا عن "مجلة الجامعة السلفية".
وقوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) يقول تعالى ذكره: إدناؤهن جلابيبهن إذا أدنينها عليهن أقرب وأحرى أن يعرفن ممن مررن به، ويعلموا أنهن لسن بإماء، فيتنكبوا عن أذاهنَّ بقول مكروه، أو تعرض بريبة (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) بهنَّ أن يعاقبهن بعد توبتهن بإدناء الجلابيب عليهن) اهـ (1) .
* قول الإمام أبي بكر أحمد بن علِى الرازي الجصاص الحنفي (ت 370 هـ) :
قال رحمه الله تعالى:
(حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبي خيثم، عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) خرج نساء من الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها.
قال أبو بكر: في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن.
وفيها دلالة على أن الأمة ليس عليها ستر وجهها وشعرها لأن قوله تعالى: (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) ظاهره أنه أراد الحرائر، وكذا روي في التفسير لئلا يكن مثل الإماء اللاتي هن غير مأمورات بستر الرأس (2) والوجه، فجعل الستر فرقا يعرف به الحرائر من الإماء، وقد روي عن عمر أنه كان يضرب الإماء، ويقول:"اكشفن رؤوسكن، ولا تشبهن بالحرائر" اهـ (3) .
(1)"جامع البيان عن تاويل آي القرآن"(22/ 45- 47) .
(2)
رُوي من حديث عائشة رضى الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها، فاختبأت مولاة لهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"حاضت"؟، فقالوا: نعم، فشق لها من عمامته، فقال:"اختمري بهذا" رواه ابن ماجه وابن أبي شيبة.
(3)
"أحكام القرآن"(3/371- 372) .
* قول الإمام الفقيه عماد الدين بن محمد الطبري المعروف بـ "إلكيا الهراس"(1)(ت 504 هـ)
قال رحمه الله في تفسيره:
(قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الآية- الجلباب: هو الرداء، فأمرهن بتغطية وجوههن ورؤوسهن، ولم يوجب على الإماء ذلك) اهـ (2) .
* قول الإمام محيي السنة أبو الحسين البغوي (ت 516 هـ) في "معالم التنزيل":
اكتفى رحمه الله في تفسير الإدناء بقول ابن عباس وعبيدة السلماني ولم يلتفت إلى قول آخر، كأنه لم يره شيئًا مذكورًا، وكذا فعل "الخازن" رحمه الله (3) .
* قول أبي القاسم محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري الملقب بـ "جار الله"(4)(ت 538 هـ) :
(1) إلكيا: كلمة فارسية بمعنى الكبير القدر المقدم بين الناس و"إلكيا الهراس، هو علي بن محمد بن علي، وكنيته أبو الحسن الملقب بعماد الدين، ولد في سنة
(450 هـ) ، وتفقه على إمام الحرمين، وهو من أجل تلاميذه بعد الغزالي، ومن مصنفاته:"شفاء المسترشدين في مباحث المجتهدين"، وهو من أجود كتب الخلافيات، وكتاب في أصول الفقه.
انظر ترجمته في (طبقات الشافعية)(7/ 231- 234) ، والبداية والنهاية" (12/
172) ، و"شذرات الذهب"(8/4) ، و"فيات الأعيان"(2/ 488) ، و "النجوم
الزاهرة" (5/ 201) .
(2)
"تفسير إلكيا الهراس الطبري"(4/ 354) .
(3)
"لباب التأويل في معاني التَنزيل"(5/ 227)
(4)
لقب بهذا لأنه جاور في مكة مدة من الزمان، كان من أكبر رؤوس الاعتزال في عصره، وكان حنفي المذهب، وقد كشف الزمخشري في تفسيره "الكشاف" =
قال- عفا الله عنه- في تفسيره:
ومعنى (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة أدني ثوبك على وجهك، وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجّيراهن في الجاهلية متبذلات تبرز المرأة في درع وخمار، لا فصل بين الحرة والأمة، وكان الفتيان وأهل الشطارة (1) يتعرضون إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة، يقولون: حسبناها أمة، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليُحتَشَمن ويُهَبن، فلا يطمع فيهن طامع، وذلك في قوله:(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) أي: أولى وأجدر بأن يعرفن فلا يُتعرض لهن، ولا يَلْقَين ما يكرهن.
فإن قلت: ما معنى (مِن) في (مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) ؟
قلت: هو للتبعيض، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين:
أحدهما: أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب، والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار كالأمة والماهنة، ولها جلبابان فصاعدًا في بيتها.
والثاني: أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله كل وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة.
= النقاب عن وجوه إعجاز القرآن الكريم، وأبدع في بيان نكتها ما شاء الله أن يبدع، حتى عُدَّ كل من كتب في التفسير بعده - من الناحية البلاغية - عالة عليه، غير أنه انتُقدَ عليه أشياء، أشدها محاولته تطبيق آيات القرآن على مذهبه الاعتزالي، ووقوعه في أهل السنة والجماعة بعبارات فاحشة، وقد انتصر لأهل السنة الشيخ أحمد بن محمد بن منصور المنير الإسكندري المالكي (ت 680 هـ) وتعقب اعتزاليات الزمخشري تعقبا حثيثا في كتابه "الانتصاف"
(1)
الشاطر: من أعيى أهله ومؤدبه خبثا ومكرًا - مولدة، كما في القاموس وشرحه.
وعن ابن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن ذلك، فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتى تضعه على أنفها، وعن السدي: أن تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين، وعن الكسائي: يتقنغن بملاحفهن منضمة عليهن، أراد بالانضمام معنى الإدناء اهـ (1) .
* قول القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المالكي (ت 543 هـ) :
قال رحمه الله تعالى في تفسيره:
المسألة الثانية: اختلف الناس في الجلباب على ألفاظ متقاربة، عمادها أنه الثوب الذي يُستر به البدن، لكنهم نوَّعوه ههنا، فقد قيل: إنه الرداء، وقيل: إنه القناع.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ) قيل: معناه تغطي به رأسها فوق خمارها، وقيل: تغطي به وجهها حتى لا يظهر منها إلا عينها اليسرى.
المسألة الرابعة: والذي أوقعهم في تنويعه أنهم رأوا الستر والحجاب مما تقدم بيانه واستقرت معرفته، جاءت هذه الزيادة عليه، واقترنت به القرينة التي بعده وهي مما تبينه، وهو قوله تعالى:(ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ) ،
والظاهر أن ذلك يسلب المعرفة عند كثرة الاستتار، فدلَّ، وهي:
المسألة الخامسة: على أنه أراد تمييزهن عن الإماء اللاتي يمشين حاسرات، أو بقناع مفرد، يعترضهن الرجال فيتكشفن، ويكلمونهن؛ فإذا تجلببت، وتسترت، كان ذلك حجابًا بينها وبين المتعرض بالكلام، والاعتماد بالإذاية، وقد قيل- وهي:
المسألة السادسة: إن المراد بذلك المنافقون.
(1)"الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل"(3/ 274) .
قال قتادة: كانت الأمة إذا مرت تناولها المنافقون بالإذاية، فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء؛ لئلا يلحقهن مثل تلك الإذاية.
وقد روي أن عمر بن الخطاب كان يضرب الإماء على التستر وكثرة
التحجب، ويقول:"أتتشبهْن بالحرائر"؟ وذلك من ترتيب أوضاع الشريعة بين اهـ (1) .
* قول الإمام أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي الحنبلي (ت 597 هـ) :
قال رحمه الله تعالى في "تفسيره":
سبب نزولها أن الفساق كانوا يؤذون النساء إذا خرجن بالليل، فإذا رأوْا المرأة عليها قناع تركوها، وقالوا: هذه حرة، وإذا رأوها بغير قناع، قالوا: أمة، فآذَوْها، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
قوله تعالى: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) قال ابن قتيبة: يلبس
الأردية، وقال غيره: يغطين رؤوسهن ووجوههن ليُعْلَمَ أنهن حرائر (ذَلِكَ أَدْنَى) أي: أحرى وأقرب (أَن يُعْرَفْنَ) أنهن حرائر (فَلَا يُؤْذَيْنَ) اهـ (2) . قول الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن الرازي (ت 606 هـ)(3)
قال في "تفسيره الكبير":
وكان في الجاهلية تخرج الحرة والأمة مكشوفات يتبعهن الزناة، وتقِع التهم، فأمر الله الحرائر بالتجلبب، وقوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا
(1)"أحكام القرآن"(3/ 1585- 1587) .
(2)
"زاد المسير في علم التفسير"(6/422) .
(3)
انظر ترجمته في "البداية والنهاية"(13/ 55 – 56) ، "سير أعلام النبلاء"(21/ 500) ، "لسان الميزان"(4/ 426 - 429) .
يُؤْذَيْنَ) قيل: يعرفن أنهن حرائر فلا يتبعن، ويمكن أن يقال: المراد أنهن لا يزنين، لأن من تستر وجهها - مع أنه ليس بعورة (1) لا يُطْمَعُ فيها أنها تكشف عورتها، فُيعرفن أنهن مستورات، لا يمكن طلب الزنا منهن اهـ (2) .
* قول الإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المالكي (ت 671 هـ) :
قال رحمه الله تعالى في "تفسيره":
لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن اهـ.
وقال أيضا: قوله تعالى: (مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الجلابيب: جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء؟ وقد قيل: إنه القناع، والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن، وفي صحيح مسلم عن أم عطية قالت: قلت: يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب؟، قال:"لتلبسها أختها من جلبابها" اهـ.
وحكى رحمه الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:
"ما يمنع المرأة المسلمة إذا كانت لها حاجة أن تخرج في أطمارها (3) ، أو أطمار جارتها مستخفية، لا يعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها"؟.
(1) يأتي إن شاء الله بيان أنه ليس بعورة أي: في الصلاة، لا مطلقا، بل الأمر بحجاب الوجه في هذه الآية دليل على أن الوجه عورة في باب النظر، والله أعلم،
وانظر ص (244- 250) .
(2)
"مفاتيح الغيب"(6/ 591) .
(3)
الأطمار جمع طِمر - بكسر الطاء، وسكون الميم- وهو الثوب الخلق.
وقال القرطبي رحمه الله أيضَا:
قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) أي الحرائر، حتى لا يختلطن بالإماء، فإذا عُرِفن لم يقابَلْن بأدنى من المعارضة مراقبةً لرتبة الحرية، فتنقطع الأطماع عنهن، وليس المعنى أن تُعرف المرأة حتى تُعْلَمَ من هي (1) ، وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمة قد تقنعت ضربها بالدرة، محافظة على زي الحرائر.
وقد قيل: إنه يجب الستر والتقنع الآن في حق الجميع من الحرائر والإماء، وهذا كما أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا النساءَ المساجدَ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله:"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، حتى قالت عائشة رضي الله عنها:"لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لمنعهن من الخروج كما مُنِعَتْ نساء بني إسرائيل"، (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع. اهـ (2) .
* قول الإمام القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي الشافعي (ت 691 هـ) :
قال رحمه الله في "تفسيره":
(يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن إذا
برزن لحاجة، و (مِن) للتبعيض، فإن المرأة ترخي بعض جلبابها، وتتلفع ببعض (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) يُمَيَّزنَ عن الإماء والقينات (فَلَا يُؤْذَيْنَ) فلا يؤذيهن أهل الريبة بالتعرض لهن (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) لما سلف (رَحِيمًا) بعباده حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها. اهـ (3) .
(1) وانظر أيضا تفسير الثعالبي المالكيّ (ت 875 هـ) ، الموسوم بـ "الجواهر الحسان في تفسير القرآن"(3/237) .
(2)
"الجامع لأحكام القرآن"(14/ 243 - 244) .
(3)
"أنوار التنزيل، وأسرار التأويل"(2/ 280) .
قول العلامة أحمد بن محمد شهاب الدين الخفاجي (ت 1069 هـ) : قال رحمه الله في "حاشيته على تفسير البيضاوي" شارحا الفقرة السابقة
منه
قوله: (مِن) للتبعيض
…
إلخ - وقد قال في "الكشاف": إنه يحتمل وجهين:
أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب، فيكون البعض واحدَا منها،
أو يكون المراد ببعض جزءًا منه بأن ترْخِيَ بعض الجلباب، وفضلَه على وجهها فتتقنَّع به، والتجلبب على الأول لبس الحجاب على البدن كله، وعلى هذا التقنع بستر الرأس والوجه، مع إرخاء الباقي على بقية البدن، وقوله (يُدْنِينَ) يحتمل أن يكون مقول القول، وهو خبر بمعنى الأمر (1)، أو جواب الأمر على حَدِّ:(قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ) الآية [إبراهيم: 31] .
والجلباب إزار واسع يُلْتَحَفُ به، فما قيل: إن النظم (عَلَيْهِنَّ) دون "على وجوههن"، وقد فسره بستر وجوههن وأبدانهن به، فكيف يصح الحمل على التبعيض حينئذ، إذ لا يصح لفظ "البعض" في موضع "مِنْ" إلا أن يبقى بعض من الجلباب غير مستعمل في الوجه والبدن، ليس بشيء، لأن قوله:(عَلَيْهِنَّ) إما على تقدير مضاف أي على رؤوسهن، أو وجوههن، أو على أنه مفهوم منه - وإن لم يقّدَّر-، وأما قوله:"وأبدانهن" فبيان للواقع؛ لأنها إذا أرخت على الوجه بعضَه بقي باقيه على البدن، لكن المأمور به ضم بعض منه لأن به الصيانة، قوله:"عن الإماء والقينات " إما من عطف أحد المترادفين أو المراد بالقينات البغايا، وأما إرادة المغنية فلا وجه له، وقوله:"يميزن" فالمراد بالمعرفة التمييز مجازا لأنه المقصود، ولو
(1) وعليه تكون صيغة المضارع هنا للأمر، وظاهر الأمر الوجوب، بل إن الأمر إذا ورد بصيغة المضارع فإنه يكون آكد في الدلالهَ على الوجوب.
أبقى على معناه صح.
قال السبكي في "طبقاته": واستنبط أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن، وإن لم يفعله السلف، لأن فيه تمييزًا لهم حتى يعرفوا فيُعمل بأقوالهم (1) .
قوله: "لما سلف": ليس المراد به أمر التجلبب قبل نزول هذه الآية حتى يقال إنه لا ذنب قبل الورود في الشرع، فهو مبني علي الاعتزال والقبح العقلي، بل المراد: ما سلف من ذنوبكم المنهيِّ عنها مطلقا، فيغفرها إن شاء، ولو سلم إرادته فالنهي عنه معلوم من آية الحجاب التزامَا، وقيل: المراد لما عسى يصدر من الإخلال في التستر) اهـ (2) .
* قول الإمام عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي الحنفي (ت 701 هـ) :
قال رحمه الله في تفسيره":
(يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زال الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك (3) ، و (مِن) للتبعيض، أي: ترخي بعض جلبابها وفضله على
(1) وقد أنكر هذا الاستنباط العلامة صديق حسن خان رحمه الله، ونقل عن علماء السلف المنع منه – انظر "فتح البيان في مقاصد القرآن" له (7/413 - 414) ، وانظر ص (163) من هذا القسم.
(2)
"عناية القاضي، وكفاية الراضي على تفسير البيضاوي".
(3)
(وهذا الذي نقله النسفي في تفسيره يدل دلالة ظاهرة على أن المرأة المسلمة في المجتمعات الإسلامية تستر وجهها، وكان الإدناء للثوب عندما ينقشع عن وجه المرأة متعارفًا عليه بين المسلمين حتى مضت هذه الصورة مثالَا يحتذى) اهـ من تعليق الشيخ عبد العزيز بن خلف "نظرات في كتاب حجاب المرأة المسلمة للألباني" هامش ص (51) .
وجهها اهـ (1) .
تنبيه: تحتجب الأمة إذا خيف بها الفتنة:
قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية (ت 728 هـ) رحمه الله رحمة واسعة:
وكذلك الأمة إذا كان يخاف بها الفتنة كان عليها أن ترخي من جلبابها، وتحتجب، ووجب غض البصر عنها ومنها، وليس في الكتاب والسنة إباحة النظر إلى عامة الإماء، ولا ترك احتجابهن وإبداء زينتهن، ولكن القرآن لم يأمرهن بها أمر الحرائر، والسنة فرقت بالفعل بينهن وبين الحرائر، ولم يفرق بينهن وبين الحرائر بلفظ عام، بل كانت عادة المؤمنين أن تحتجب منهم الحرائر دون الإماء، واستثنى القرآن من النساء الحرائر القواعد، فلم يُجْعَلْ عليهن احتجاب، واستثنى بعض الرجال وهم غير أولي الإربة، فلم يمنع من إبداء الزينة الخفية لهم لعدم الشهوة في هؤلاء وهؤلاء، فأنْ يستثنى بعض الإماء أولى وأحرى، وهن من كانت الشهوة والفتنة حاصلة بترك احتجابها وإبداء زينتها، وكما أن المحارم أبناء أزواجهن ونحوه ممن فيه شهوة وشغف لم يجز إبداء الزينة الخفية له، فالخطاب خرج عامُّا على العادة، فما خرج عن العادة خرج به عن نظائره، فإذا كان في ظهور الأمة والنظر إليها فتنة، وجب المنع من ذلك كما لو كانت في غير ذلك. اهـ (2) .
وزعم نفاة الحكمة والتعليل والقياس أن الشريعة قد فرقت بين المتماثلين، وجمعت بين المختلفين، وأيدوا ذلك بأمور: منها أن الشارع حرم النظر إلى العجوز الشوهاء القبيحة المنظر إذا كانت حرة، وجوزه إلى الأمة الشابة البارعة الجمال، وقد انبرى الإمام المحقق شمس الدين محمد
(1)"مدارك التنزيل، وحقائق التأويل"(3/79) .
(2)
"تفسير سورة النور" ص (86) .
ابن أبي بكر ابن قيم الجوزية تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، للرد عليهم وتتبع ما استدلوا به، وكان مما قال رحمه الله في الرد على الشبهة السابقة: وأما تحريم النظر إلى العجوز الحرة الشوهاء القبيحة، وإباحته إلى الأمة البارعة الجمال فكذب على الشارع، فأين حرَّم الله هذا، وأباح هذا؟ والله سبحانه وتعالى إنما قال:(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)[النور: 30] ، ولم يطلق الله ورسوله للأعين النظر إلى الإماء البارعات الجمال، وإذا خشي الفتنة بالنظر إلى الأمة حرم عليه بلا ريب.
وإنما نشأت الشبهة أن الشارع شرع للحرائر أن يسترن وجوههن عن الأجانب، وأما الإماء فلم يوجب عليهن ذلك، لكن هذا في إماء الاستخدام والابتذال، وأما إماء التسري اللاتي جرت العادة بصونهن وحجبهن، فأين أباح الله ورسوله لهن أن يكشفن وجوههن في الأسواق والطرقات ومجامع الناس، وأذن للرجال في التمتع بالنظر إليهن؟
فهذا غلط محض على الشريعة، وأكَّد هذا الغلطَ أن بعض الفقهاء سمع قولهم:"إن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وعورة الأمة ما لا يظهر غالبًا كالبطن والظهر والساق"، فظن أن ما يظهر غالبًا حكمه حكم وجه الرجل، وهذا إنما هو في الصلاة، لا النظر، فإن العورة عورتان: عورة في الصلاة، وعورة النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك، والله أعلم (1) اهـ.
وما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام المحقق ابن القيم عليهما الرحمة من احتجاب الحسان من الإماء، وبروز غير الحسان، قد نص عليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فنقل ابن منصور عنه أنه قال:"لا تنتقب الأمة"، ونقل ابن منصور عنه أيضًا، وأبو حامد الخَفَّاف أنه قال: "تنتقب
(1)"القياس في الشرع الإسلامي" ص (69) .
الجميلة" (1) اهـ.
* قول العلامة محمد بن أحمد بن جَزي الكلبي المالكي (ت 741) : قال رحمه الله في "تفسيره":
كان نساء العرب يكشفن وجوههن كما تفعل الإماء، وكان ذلك داعيا إلى نظر الرجال لهن، فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليسترن بذلك وجوههن، ويُفَهمَ الفرقُ بين الحرائر والإماء.
والجلابيب جمع جلباب وهو ثوب أكبر من الخمار، وقيل: هو الرداء، وصورة إدنائه عند ابن عباس أن تلويه على وجهها حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها، وقيل: أن تلويه حتى لا يظهر إلا عيناها، وقيل: أن تغطي نصف وجهها (2) .
(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) أي ذلك أقرب إلى أن يعرف الحرائر من الإماء، فإذا عرف أن المرأة حرة لم تعارض بما تعارض به الأمة، وليس المعنى أن تعرف المرأة من هي، إنما المراد أن يفرق بينهما وبين الأمة لأنه كان بالمدينة إماء يعرفن بالسوء، وربما تعرض لهن السفهاء (3) أهـ.
* قول الإمام النحوي المفسر أثير الدين أبي عبد الله محمد بن يوسف ابن علي أبن حيان الأندلسي الشهير بأبي حيان (ت 745 ص) :
قال رحمه الله في "تفسيره":
…
وقال السدي: (تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين "، وكذا عادة بلاد الأندلس لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة)(4) . وقال أيضا رحمه الله: والظاهر أن قوله: (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) يشمل
(1)"الصارم المشهور" ص (74) .
(2)
ونسبه القرطبي إلى الحسن "الجامع لأحكام القرآن"(14/ 243) . (3)"التسهيل لعلوم التنزيل"(3/ 144) .
(4)
"البحر المحيط "(7/ 250) .
الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح (1) ، و (مِن) في (جَلَابِيبِهِنَّ) للتبعيض، و (عَلَيْهِنَّ) شامل لجميع أجسادهن، أو:(عَلَيْهِنَّ) على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه، (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) لتسترهن بالعفة، فلا يتعرض لهن، ولا
يلقين ما يكرهن، لأن المرأة إذا كانت غاية في التستر والانضمام لم يُقْدَمْ عليها بخلاف المتبرجة، فإنها مطموع فيها. اهـ.
فصل
في بيان الدليل على صحة التفريق بين الحرائر
والإماء في الحجاب
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
والحجاب مختص بالحرائر دون الإماء كما كانِت سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه: أن الحرة تحتجب، والأمة تبرز" (2) أهـ، وقال رحمه الله
تعالى: قولة: (قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ
(1) يتضح من هذا أن الإمام أبا حيان رحمه الله يذهب إلى التسوية بين الحرائر والإماء في حكم الجلباب الشامل للوجه والكفين، بناء على عدم وجود دليل
. يفرق بينهما في الحكم، ومنه يتبين مرجوحية ما ذهب إليه فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله من الاستدلال بقول أبي حيان: "فيحتاج إخراجهن
من عموم النساء إلى دليل واضح" على صحة مذهبه في التسوية يبن الحرائر والإماء - لا في وجوب الحجاب الكامل كما هو مذهب أبي حيان صاحب هذا النص بل في التسوية بينهما في السفور.
(2)
"تفسير سورة النور" ص (56)
جَلَابِيبِهِنَّ) الآية:
دليل على أن الحجاب إنما أُمِر به الحرائر دون الإماء؟ لأنه خص أزواجه وبناته، ولم يقل: وما ملكت يمينك وإمائك وإماء أزواجك وبناتك؟ ثم قال (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) والإماء لم يدخلن في نساء المؤمنين كما لم يدخل في قوله (نِسَائِهِنَّ) ما ملكت أيمانهن حتى عُطف عليه في آيتي النور والأحزاب (1) ، وهذا قد يقال إنما ينبني على قول من يخص ما ملكت اليمين بالإناث، وإلا فمن قال: هي فيهما أو في الذكور ففيه نظر. وأيضَا فقوله: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) وقوله: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ
نِسَائِهِمْ) [المجادلة: 2] إنما أريد به الممهورات دون المملوكات، فكذلك هذا، فآية الجلابيب في الأردية عند البروز من المساكن، وآية الحجاب عند المخاطبة في المساكن؛ فهذا مع ما في الصحيح من أنه لما اصطفى صفية بنت حيي، وقالوا إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه، دل على أن الحجاب كان مختصُّا بالحرائر.
وفي الحديث دليل على أن أمومة المؤمنين لأزواجه دون سراريه، والقرآن ما يدل إلا على ذلك، لأنه قال:(وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)، وقال: (وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا
أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) ، وهذا أيضًا دليل ثالث من الآية؛ لأن الضمير في قوله:(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ) عائد إلى أزواجه فليس للمملوكات ذكر في الخطاب،
لكن إباحة سراريه من بعده فيه نظر (2) 0 اهـ.
(1) وهما قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) إلى قوله تعالى: (أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ)[النور: 31]، وكذا قوله تعالى:(لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ) إلى قوله عز وجل: (وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ)
(الأحزاب: 55)
(2)
"مجموع الفتاوى"(15/448 -449)، وفيما ذكره رد على استبعاد العلامة الألباني تخصيص قوله تعالى:(وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) بالحرائر دون الإماء، كما جاء
في "حجاب المرأة المسلمة" ص (44-47) ، مع تصحيحه لما ورد عن عمر رضي الله عنه
من التفريق كما يأتي إن شاء الله.
فصل
* ذكر الآثار الواردة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التفريق بين الحرائر والإماء في التقنع بالجلباب (1) :
روى عبد الرزاق في "مصنفه" أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس أن عمر رضي الله عنه ضرب أمة لآل أنس رآها متقنعة، فقال:"اكشفي رأسك (2) ، لا تشبهي بالحرائر".
وروى ابن جّريج عن عطاء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهى الإماء
عن الجلابيب أن يتشبهن بالحرائر، قال ابن جريج عن نافع: إن صفية بنت أبي عبيد حدثته، قالت: خرجت امرأة مختمرة متجلببة، فقال عمر: من هذه المرأة؟ فقيل له: جارية لفلان، رجل من بيته، فأرسل إلى حفصة، فقال: ما حملك على أن تخمري هذه الأمة، وتجلببيها، حتى هممت أن أقع بها، ولا أحسبها إلا من المحصنات؟! لا تشبهوا الإماء بالمحصنات. انتهى. ورواه البيهقي، وقال؟ "الَاثار بذلك عن عمر صحيحه" انتهى.
روى ابن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا علي بن مسهر، عن المختار بن فلفل، عن أنس بن مالك، قال: دَخَلت على عمر بن الخطاب أمَة قد كان يعرفها لبعض المهاجرين، أو الأنصار، وعليها جلباب متقنعة به فسألها: عتِقْتِ؟ قالت: لا، قال: فما بال الجلباب؟! ضعيه على رأسك، إنما الجلباب على الحرائر من نساء المؤمنين، فتلكأت فقام إليها بذلك بالدرة،
(1) انظر: "نصب الراية" للزيلعي (1/ 300 - 301) ، "المحلى" لابن حزم (3/ 218) ، "إرواء الغليل" للألباني (6/ 203 – 204) حيث صححوا هذه الآثار في التفريق بين حجاب الحرائر والإماء.
(2)
الظاهر- بضميمة الآثار الآتية عن الفاروق رضي الله عنه أنه عبر هنا عن الجزء بالكل، وأن مقصوده:"اكشفي وجهك"، والله أعلم
فضرب بها رأسها حتى ألقته.
وروى محمد بن الحسن في كتاب "الآثار": أخبرنا أبو حنيفة، عن حماد ابن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب كان يضرب الإماء أن يتقنعن، ويقول: لا تتشبهن بالحرائر. انتهى.
* قول الإمام الحافظ أبي الفداء إسماعيل عماد الدين ابن عمر بن كثير القرشي الشافعي (ت 774 هـ) :
قال في "تفسيره الجليل":
يقول الله تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم تسليما أن يأمر النساء المؤمنات - خاصة أزواجه وبناته لشرفهن - بان يدنين عليهن من جلابيبهن، ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء.
والجلباب: هو الرداء فوق الخمار، قاله ابن مسعود، وعبيدة، وقتادة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وعطاء الخراساني، وغير واحد، وهو بمنزلة الإزار اليوم.
قال الجوهري: الجلباب: الملحفة، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلًا لها:
تمشي النسور إليه وَهْيَ لاهية
…
مَشْيَ العَذَارى عليهن الجلابيبُ
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينًا واحدةً"(1) .
(1) رواية علي بن طلحة عن ابن عباس منقطعة، قال الحافظ ابن حجر:"روى عن ابن عباس ولم يسمع منه، بينهما مجاهد"، وقال دحيم:"لم يسمع التفسير من ابن عباس"، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: "روى عن ابن عباس، ولم يره) -
له عند مسلم حديث واحد في ذكر العزل، وروى له الباقون حديثا آخر في الفرائض، قال الحافظ ابن حجر: "قلت ونقل البخاري من تفسيره رواية =
وقال محمد بن سيرين: "سألت عبيدة السلماني عن قول الله تعالى: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) فغطى وجهه ورأسه، وأبرز عينه اليسرى (1) . اهـ (2) .
* وقد فسر الإمام جلال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد المحَلِّي رحمه الله (ت 864 هـ) الآية بقوله:
(مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) جمع جلباب، وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة، أي: يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا عينا واحدة (ذَلِكَ أَدْنَى) أقرب إلى (أَنْ يُعْرَفْنَ) بأنهن حرائر (فَلَا يُؤْذَيْنَ) بالتعرض لهن، بخلاف الإماء، فلا يغطين وجوههن، فكان المنافقون يتعرضون لهن، (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) لما سلف منهن لترك الستر (رَحِيمًا) بهن إذ سترهن. اهـ (3) .
وقال السيوطي رحمه الله:
هذه آية الحجاب في حق سائر النساء ففيها وجوب ستر الرأس والوجه
= معاوية بن صالح عنه عن ابن عباس شيئا في التراجم وغيرها، ولكنه لا يسميه، يقول: قال ابن عباس أو يذكر عن ابن عباس " اهـ، ويفهم من صيغة الجزم احتجاج الإمام البخاري بهذه الرواية - أعني رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في مواضع عديدة من كتاب التفسير حيث أوردها
معلقه، وإن كانت ليست على شرطه في الجامع الصحيح، ووصلها ابن حجر في
"الفتح"، فانظر:"فتح الباري"(8/ 54) ، (8/76) ، (8/ 114) ، و "تهذيب التهذيب"(7/ 339 -340) .
(1)
أورد هذا الأثر السيوطي في "الدرر المنثور"(5/ 221) وقال: أخرجه الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير الطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين. اهـ.
(2)
تفسير القرآن العظيم" (6/ 470) .
(3)
"قرة العينين على تفسير الجلالين" ص (560)
عليهن" (1) اهـ.
وقال الإمام الخطيب الشربيني رحمه الله في تفسيره:
" (يُدْنِينَ) يقربن (عَلَيْهِنَّ) أي على وجوههن وجميع أبدانهن، فلا يدعن شيئًا منها مكشوفًا"(2) ، أهـ.
وقال أيضَا:
قال ابن عادل: ويمكن أن يقال: المراد يعرفن أنهن لا يزنين، لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة أي في الصلاة لا يُطمع فيها أنها تكشف عورتها فبفرض أنهن مستورات لا يمكن طلب الزنا منهن " (3) 0 اهـ. * وقال الشيخ أبو السعود محمد بن محمد العمادي (ت 951 هـ) في "تفسيره":
أي يغطين بها وجوههن وأبدانهن إذا برزن لداعية من الدواعي (4) . أهـ.
* وقال الشيخ إسماعيل حقي البروسوي (ت 1137 هـ) رحمه الله في "تفسيره":
والمعنى يغطين بها وجوههن وأبدانهن وقت خروجهن من بيوتهن لحاجة، ولا يخرجن مكشوفات الوجوه والأبدان كالاماء حتى لا يتعرض لهن السفهاء ظنُّا بأنهن إماء.
ونقل عن أنس رضي الله عنه قال: "مرت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه جارية متقنعة
(1)"عون المعبود"(4/106) ، "الإكليل" على هامش "جامع البيان" ص (334) .
(2)
"السراج المنير"(3/271) .
(3)
السابق (3/ 372) .
(4)
"إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم"(7/ 115) .
فعلاها بالدرة، وقال: يالكاع (1) تتشبهين بالحرائر ألقي القناع" (2) . اهـ.
* قال العلامة الشوكاني (ت 1250 هـ) في "تفسيره":
قال الواحدي: قال المفسرون: يغطين وجوههن ورءوسهن إلا عينَا واحدة، فيعلم أنهن حرائر لا يعرض لهن بأذى.
إلى أن قال رحمه الله: "وليس المراد بقوله (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) أن تعرف الواحدة منهن من هي، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر (3) . اهـ
* وقال الشيخ السيد محمد عثمان ابن السيد محمد أبي بكر ابن السيد عبد الله الميرغني المحجوب المكي (ت 1268 هـ) في "تفسيره":
(يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) أي يرخين على وجوههن وسائر أجسادهن ما يسترهن من الملاآات والثوب الساتر (4) . اهـ.
* وقال العلامة أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي (ت 1270 هـ) في " تفسيره":
والإدناء: التقريب، يقال: أدناني، أي قربني، وضمن معنى الإرخاء
أو السدل، ولذا عُدِّيَ بـ "على"، على ما يظهر لي، ولعل نكتة التضمين الإشارة إلى أن المطلوب تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين فتأمل. وقال أيضًا رحمه الله:
(1) لكاع: كلمة تقال لمن يُستَحقَرُ به مثل العبد والأمهَ والخامل والقليل العقل، مثل قولك: يا خسيس. اهـ من "فتح البيان" لصديق حسن خان (7/ 415) .
(2)
"روخ البيان"(7/ 240) .
(3)
"فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير"(4/ 304- 305) .
(4)
"تفسير الميرغني "(2/ 93) .
والظاهر أن المراد بعليهن: على جميع أجسادهن، وقيل: على رؤوسهن أو على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه. وقال أيضًا. وفي رواية أخرى عن الحبر رواها ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه. تغطي وجهها من فوق رأسها بالجلباب وتبدي عينا واحدة، وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أم سلمة قالت:"لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها"(1) .
وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "رحم الله تعالى نساء الأنصار، لما نزلت (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ) الآية، شققن مروطهن، فاعتجرن بها، فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان (2) . اهـ.
* وقال نعمةُ الله بنُ محمود الخجواني:
يدنين يُغطين (عَلَيْهِنَّ) أي على أيدهن وأرجلهن وعلى جميع معاطفهن (مِن) فواضل (جَلَابِيبِهِنَّ) وملاحفهن بحيث لا يبدو من مفاصلهن وأعضائهن شيء سوى العينين، بل عين واحدة (3) . اهـ.
* وقال الشيخ عبد العزيز بن أحمد الدميري:
يدنين يرخين الرداء سترا
…
للوجه والرأس يعم الصدرا (4)
(1) أخرجه أبو داود (2/ 182) بإسناد صحيح، وأورده في "الدر" (5/ 221) برواية عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبي داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث أم سلمة بلفظ:"من أكسية سود يلبسنها"، والغربان؟ جمع غراب، شبهت الأكسية في سوادها بالغربان
(2)
"روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني"(22/88-90) .
(3)
"الفواتح الإلهية"(2/163) نقلا عن "مجلة الجامعة السلفية".
(4)
"التيسير في علوم التفسير" ص (91) نقلَا عن "مجلة الجامعة السلفية".
* وقال المهايمي:
(يُدْنِينَ) أي يقربن تقريب تغطية (عَلَيْهِنَّ) أي على وجوههن
وأبدانهن (1) . اهـ.
* وقال علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) رحمه الله في "تفسيره":
فَأمِرنَ - يعني الحرائر- أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليحتشمن ويُهبن فلا يطمع فيهن طامع.
وقال أيضا: وأخرج - يعنى ابن أبي حاتم - عن يونس بن يزيد أنه سأل الزهري: هل على الوليدة خمار، متزوجة أو غير متزوجة؟ قال: عليها الخمار إن كانت متزوجة، وتنهى عن الجلباب، لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات (2) .
* قال علامة القصيم الشيخ أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في "تفسيره":
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الآية: هذه الآية هي التي تسمى آية الحجاب، فأمر الله نبيه أن يأمر النساء عموما، ويبدأ بزوجاته وبناته لأنهن آكد من غيرهن، ولأن الآمر لغيره ينبغي أن يبدأ بأهله قبل غيرهم كما قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) أن (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) وهن اللاتي يكن فوق الثياب من ملحفة وخمار ورداء ونحوه، أى يغطين بها وجوههن وصدورهن.
(1)"تبصير الرحمن"(2/ 164) نقلأ عن "مجلة الجامعة السلفية"
(2)
"محاسن التأويل"(13/4908 - 4909)
ثم ذكر حكمة ذلك فقال: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) دل على وجود أذية إن لم يحتجبن، وذلك لأنهن إذا لم يحتجبن ربما ظُنَّ أنهن غير عفيفات
فيتعرض لهن من في قلبه مرض فيؤذيهن، وربما استهين بهن، وظُنَّ أنهن إماء فتهاون بهن من يريد الشر، فالاحتجاب حاسم لمطامع الطامعين فيهن.
(وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) حيث غفر لكم ما سلف، ورحمكم بأن بين لكم الأحكام، وأوضح الحلال والحرام، فهذا سد للباب من جهتهن، وأما من جهة أهل الشر فتوعدهم بقوله:(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي مرض: شك أو شهوة (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) أي المخوفون المرهبون الأعداء المتحدثون بكثرتهم وقوتهم وضعف المسلمين.
ولم يذكر المعمول الذي ينتهون عنه ليعم ذلك كل ما توحي به أنفسهم إليهم، وتوسوس به، وتدعو إليه من الشر من التعريض بسب الإسلام وأهله، والإرجاف بالمسلمين وتوهين قواهم، والتعرض للمؤمنات بالسوء والفاحشة، وغير ذلك من المعاصي الصادرة من أمثال هؤلاء (ِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أي نأمرك بعقوبتهم وقتالهم ونسلطك عليهم ثم إذا فعلنا ذلك لا طاقة لهم بك وليس لهم قوة ولا امتناع، ولهذا قال:(ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا)(1) "، اهـ.
* قول العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي (ت 1393 هـ) :
قال رحمه الله:
ومن الأدلة القرآنية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) فقد قال غير واحد من أهل العلم: إن معنى (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ
(1)"تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان"(6/ 122) .
جَلَابِيبِهِنَّ) أنهن يسترن بها جميع وجوههن، ولا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة تبصر بها، وممن قال به ابن مسعود، وابن عباس، وعَبيدة السلماني وغيرهم.
فإن قيل: لفظ الآية الكريمة وهو قوله: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) لا يستلزم معناه ستر الوجة لغة، ولم يرد نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع على استلزامه ذلك، وقول بعض المفسرين إنه يستلزمه معارَض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه، وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه.
فالجواب: أن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى فيها: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) يدخل في معناه ستر وجوههن بإدناء جلابيبهن عليها، والقرينة المذكورة هي قوله تعالى:(قُلْ لِأَزْوَاجِكَ) ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن لا نزاع فيه بين المسلمين، فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين يدل على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب كما ترى.
ومن الأدلة على ذلك أيضَا هو ما قدمنا في سورة النور (1) في الكلام على قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) من أن استقراء القرآن يدل على أن معنى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) الملاءة فوق الثياب، وأنه لا يصح تفسير (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالوجه والكفين كما تقدم إيضاحه، وأعلم أن قول من قال:"إنه قد قامت قرينة قرآنية على أن قوله تعالى: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) لا يدخل فيه ستر الوجه، وأن القرينة المذكورة هي قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) قال: وقد دل قوله: (أَنْ يُعْرَفْنَ) على أنهن سافرات كاشفات عن وجوههن لأن التي تستر وجهها لا تعرف " باطل، وبطلانه واضح، وسياق الآية يمنعه منْعًا باتا لأن قوله:
(1) انظر ص (303) وما بعدها
(يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) صريح في منع ذلك، وإيضاحه: أن الإشارة في قوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) راجعة إلى إدنائهن عليهن من جلابيبهن، وإدناؤهن عليهن من جلابيبهن لا يمكن بأي حال أن يكون أدنى أن يعرفن بسفورهن، وكشفهن عن وجوههن كما ترى، فإدناء الجلابيب منافٍ لكون المعرفة معرفة شخصية بالكشف عن الوجوه كما لا يخفى.
وقوله في الآية الكريمة: (لِأَزْوَاجِكَ) دليل أيضا على أن المعرفة المذكورة
في الآية ليست بكشف الوجوه، لأن احتجابهن لا خلاف فيه بين المسلمين.
والحاصل: أن القول المذكور تدل على بطلانه أدلة متعددة:
الأول: سياق الآية كما أوضحناه آنفا.
الثاني: قوله (لِأَزْوَاجِكَ) كما أوضحناه أيضًا.
الثالث: أن عامة المفسرين من الصحابة فمن بعدهم فسروا الآية مع بيانهم سبب نزولها، بأن نساء أهل المدينة كن يخرجن بالليل لقضاء حاجتهن خارج البيوت، وكان بالمدينة بعض الفساق يتعرضون للإماء، ولا يتعرضون للحرائر، وكان بعض نساء المؤمنين يخرجن في زي ليس متميزا عن زي الإماء، فيتعرض لهن أولئك الفساق بالأذى، ظنا منهم أنهن إماء، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يتميزن في زيهن عن زي الإماء، وذلك بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، فإذا فعلن ذلك، ورآهن الفساق علموا أنهن حرائر، ومعرفتهن بأنهن حرائر لا إماء هو مبنى قوله:(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) فهي معرفة بالصفة لا بالشخص، وهذا التفسير منسجم مع ظاهر القرآن كما ترى، فقوله:
(يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) لأن إدناءهن عليهن من جلابيبهن يشعر بأنهن حرائر فهو أدنى وأقرب لأن يعْرفن: أي يعلم أنهن حرائر، فلا يؤذين من قبل الفساق الذين يتعرضون للإماء.
وهذا هو الذي فسر به أهل العلم بالتفسيرِ هذه الآية، وهو واضح،
وليس المراد منه أن تعرض الفساق للإماء جائز (1) بل هو حرام، ولا شك أن المتعرضين لهن من الذين في قلوبهم مرض، وأنهم يدخلون في عموم قوله:(وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) في قوله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) إلى قوله: (وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) .
ومما يدل على أن المتعرض لما لا يحل من النساء من الذين في قلوبهم مرض، قوله تعالى:(َّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) الآية، وذلك معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى:
حافظ للفرج راض بالتقى
…
ليس ممن قلبه فيه مرض
وفي الجملة: فلا إشكال في أمر الحرائر بمخالفة زي الإماء ليهابهن الفساق، ودفع ضرر الفساق عن الإماء لازم، وله أسباب أخر ليس منها إدناء الجلابيب. اهـ (2) .
* ونقل العلامة أبو الأعلى المودودي (ت 1399 هـ) رحمه الله تعالى جملة من أقوال المفسرين في تفسير هذه الآية ثم قال رحمة الله عليه:
"ويتضح من هذه الأقوال جميعا أنه من لدن عصر الصحابة الميمون إلى القرن الثامن للهجرة، حمل جميع أهل العلم هذه الآية على مفهوم واحد، هو الذي قد فهمناه من كلماتها، وإذا راجعنا بعد ذلك الأحاديث النبوية والآثار، علمنا منها أيضا أن النساء قد شرعن يلبسن النقاب على العموم
(1) وقد شنع بعضهم بذلك، وزعم أن لازم هذا التفسير: أن الله تعالى أطلق الفساق على أعراض إماء المسلمين.
انظر: "المحلى"(3/ 219) ، "الحجاب" للألباني ص (44-45) ، وهذا الاستنباط ليس بلازم أصلًا، لأن سياق الآيات يرده صراحة كما هو واضح أعلى والله أعلم.
(2)
"أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن"(6/ 6! هـ) .
بعد نزول هذه الآية على العهد النبوي، وكن لا يخرجن سافرات، فقد جاء في سنن أبي داود والترمذي والموطأ للإمام مالك وغيرها من كتب الأحاديث أن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أن "المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين"، و"نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب" وهذا صريح الدلالة على أن النساء في عهد النبوة قد تعودن الانتقاب ولبس القفازين عامة، فنهين عنه في الإحرام، ولم يكن المقصود بهذا الحكم أن تُعْرَضَ الوجوه في موسم الحج عرضا، بل كان المقصود في الحقيقة أن لا يكون القناع جزءا من هيئة الإحرام المتواضعة، كما يكون جزءًا من لباسهن عادة، فقد ورد في الأحاديث الأخرى تصريح بأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعامة المسلمات كنَّ يخفين وجوههن عن الأجانب في حالة إحرامهن أيضا، ففي سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذَوْا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه"(1)، وفي الموطأ للإمام مالك عن فاطمة بنت المنذر قالت:"كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، فلا تنكره علينا"(2) .
وقد ورد في "فتح الباري" عن عائشة رضي الله عنها: "تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها"(3) .
وكل من تأمل كلمات الآية وما فسرها به أهل التفسير في جميع الأزمان بالاتفاق، وما تعامل عليه الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لم ير في الأمر مجالا
(1) رواه أبو داود رقم (1833)، في الحج: باب في المحرمة تغطي وجهها (2/167) .
(2)
الموطأ- باب تخمير المحرم وجهه، ص (217) ط. الشعب، بدون قولها:"فلا تنكره علينا".
(3)
انظر: "فتح الباري" - كتاب الحج، باب ما يلبس المحرم من الثياب (3/ 474) ط السلفية.
للجحود بأن المرأة قد أمرها الشرع الإسلامي بستر وجهها عن الأجانب، ما زال العمل جاريا عليه منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا اليوم (1) . اهـ. وقال رحمه الله في "تفسير سورة الأحزاب":
والجلباب في اللغة العربية: الملحفة والملاءة واللباس الواسع، والإدناء يعني: التقريب واللف، فإن أضيف إليه حرف الجر "على" قُصد به الإِرخاء والإِسدال من فوق.
وبعض المترجمين والمفسرين في هذه الأيام غلبهم الذوق الغربي، فترجموا هذا اللفظ بمعنى الالتفاف؟ لكي يتلافوا حكم ستر الوجه، لكن الله لو أراد ما ذكره هؤلاء السادة لقال:"يدنين إليهن"، فإن من يعرف اللغة العربية لا يمكن أن يسلم بأن (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ) تعني: أن يتلففن أنفسهن فحسب، هذا بالإضافة إلى قوله:(جَلَابِيبِهِنَّ) يحول أكثر وأكثر دون استخراج هذا المعنى.
(ومِنْ) هنا للتبعيض يعني جزءَا أو بعضا من جلابيبهن، ولو التفت المرأة بالجلباب لالتفت به كله طبعًا لا ببعضه، أو بطرف منه، ومن ثم تعني الآية صراحة أن يتغطى النساء تمامًا، ويلففن أنفسهن بجلابيبهن ثم يسدلن عليهن من فوق بعضا منها أو طرفها، وهو ما يعرف عامة باسم النقاب. هذا ما قاله أكابر المفسرين في أقرب عهد بزمن الرسالة وصاحبها صلى الله عليه وسلم، فقد روى ابن جرير وابن المنذر أن محمد بن سيرين رحمه الله سأل عبيدة السلماني عن معنى هذه الآية،- وكان عبيدة قد أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأت إليه، وجاء المدينة في عهد عمر رضي الله عنه، وعاش فيها، ويعتبر نظيرا للقاضي شريح في الفقه والقضاء - فكان جوابه أن أمسك بردائه وتغطى به، حتى لم يظهر من رأسه ووجهه إلا عين واحدة.
(1)"الحجاب" ص (302 - 303)
وقد فسرها ابن عباس رضي الله عنهما أيضا بما يقارب هذا إلى حد كبير، وما ثقله عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه يقول فيه:"أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة"، وهذا ما قاله قتادة والسدي أيضًا في تفسير هذه الآية.
ويتفق أكابر المفسرين الذين ظهروا في تاريخ الإسلام بعد عصر الصحابة والتابعين على تفسير الآية بهذا المعنى" اهـ.
* ثم قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) :
المراد بقوله (يُعْرَفْنَ) أن كل من يراهن في هذا اللباس الوقور المحتشم
غير المزين يعرف أنهن شريفات حرائر، لا أوباش متهتكات متبذلات فيطمع أي مستهتر خليع في أن ينال منهن مراده.
والمقصود من قوله: (فَلَا يُؤْذَيْنَ) لا يتعرض لهن أحد بأذى.
ونحن نتوقف هنا قليلا، ونحاول أن نفهم معًا أي روح لقانون الاجتماع الإسلامي يعبر عنها هذا الأمر القرآني؟ وما هو غرضه ومقصوده الذي ذكره رب العالمين بنفسه؟
لقد أمر الله النساء في الآية رقم (31) من سورة النور ألا يبدين زينتهن
إلا لأشخاص معينين ذُكِروا في هذه الآية: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) ، فإذا قرأنا هذا الأمر متصلًا مع الآية التي بين أيدينا من سورة الأحزاب، ظهر لنا في وضوح أن الأمر الصادر إلى النساء في هذه الآية أن يدنين عليهن من جلابيبهن يعني: إخفاء الزينة عن غير المحارم، ولا يتحقق هذا الغرض طبعًا إلا إذا كان الجلباب غير مزين ولا منقوش في ذاته، وإلا ضاع هذا الغرض بارتداء جلباب مزين منقوش لافت للنظر.
وفوق هذا أن الله تبارك وتعالى لا يأمر النساء بإرخاء الجلباب وإخفاء الزينة فحسب، بل يأمرهن كذلك أن يسدلن على أنفسهن - يعني من أعلى - طرفًا من جلابيبهن، وأي إنسان عاقل لا يمكن أن يفهم من هذا القول شيئَا سوى أنه يقصد ضرب النقاب أو التنقب؛ حتى يختفي الوجه أيضا إلى جانب إخفاء زينة الجسم واللباس، ثم يذكر رب العالمين ذاته علة هذا الأمر فيقول: إن هذه أمثل طريقة لأن يعرف نساء المسلمين فلا يؤذين.
ويظهر من هذا تلقائيًّا أن هذا الأمر صادر إلى النسوة اللاتي لا يتلذذن بمعاكسة الرجال لهن، وحملقتهن في وجوههن وأجسامهن، ورغبتهم فيهن، بل يتألمن ويتأذين، واللاتي لا يردن جعل أنفسهن في عداد نجوم المجتمع الداعرات، بل يردن أن يعرفن بأنهن مصابيح البيوت العفيفات التقيات، هؤلاء الشريفات الطيبات يقول الله لهن: إن كنتن تردن أن تعرفن بهذه الصفة فعلًا، وإن كان اهتمام الرجال بكن، ورغبتهم فيكن لا يلذ لكن حقيقة، بل يؤذيكن، ويؤلمكن، فليس السبيل إلى ذلك أن تخرجن من بيوتكن متزينات كعروس ليلة زفافها، وتظهرن جمالكن وحسنكن براقًا
أخاذا كأحسن ما يكون أمام الأعين الطامعة الجائعة، بل إن أفضل سبيل لهذا الغرض أن تخرجن خافيات زينتكن كلها في جلباب مسدل غير مزين، وتضربن النقاب على وجوهكن، وتمشين بطريقة لا يلفت نظر الناس فيها إليكن شيء حتى ولا صوت حليكن.
إن المرأة التي تتزين وتتهيأ قبل خروجها، ولا تخرج قدمها من منزلها قبل أن تكون قد وضعت أصنافا وألوانا من المساحيق والخطوط بين أحمر وأزرق وأسود وأبيض، لا يمكن أن يكون غرضها من هذا سوى أنها تريد أن تلفت إليها نظر الرجال، وتدعوهم هي نفسها إلى الالتفات إليها، والاهتمام بها، والرغبة فيها، فإن قالت بعد ذلك إن النظرات الجائعة العطشى تؤذيها، وتضايقها، وإن ادعت أنها لا تريد أن تُعرف بأنها "سيدة
مجتمع " و"امرأة محبوبة مرغوب فيها"، بل تحب أن تكون ربة بيت شريفة
محترمة، فليس ذلك منها غير خداع ومكر.
إن قول الإِنسان لا يحدد نيته، بل إن نيته الحقيقية هي التي تختار، وتحدد
شكل عمله، ومن ثم فالمرأة التي تجعل نفسها شيئًا لافتًا للنظر، ثم تمشي أمام الرجال، يفضح فعلها هذا الدوافع التي تكمن خلفه، والمحركات التي تعمل
وراءه، ولهذا يتوقع طلاب الفتنة منها نفس ما يتوقعونه من امرأة من هذا
الصنف، فالقرآن يقول للنساء: هيهات هيهات أن تكُنَّ مصابيح البيوت النيرات، ونجوم المجتمع الداعرات في وقت واحد، فلكي تكن مصابيح البيوت اتركن تلك المناهج والطرق والأساليب التي تناسب نجوم المجتمع،
واسلكن أسلوب الحياة الذي يساعدكن في أن تصبحن مصابيح البيوت، إن الرأي الشخصي لأي إنسان - سواء كان مطابقا للقرآن أم مخالفا،
وسواء أراد قبول هدي القرآن منهج عمل، وقاعدة سلوك أم لم يرد - إن
كان لا يريد بحال أن يرتكب جريمة عدم الأمانة في التفسير، فلا يمكن أن
يخطئ في فهم مراد القرآن وقصده، وما لم يكن منافقًا فسوف يُسَلم بأن
مراد القرآن هو ما ذكرنا آنفًا، فإن خالف بعد ذلك فسوف يخالف بعد أن
يعترف بأنه يعمل على خلاف القرآن، أو أنه يفهم هدي القرآن فهمًا أعوج
خاطئا " (1) اهـ
* وقال فضيلة الشيخ أبي بكر جابر الجزائري - حفظه الله تعالى -: "قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) .
هذه الآية من سورة الأحزاب، وهي متأخرة في التلاوة عن الآيتين
قبلها (2) أبطلت دعوى الخصوصية في الحجاب؛ حيث أشركت في
(1)"تفسير سورة الأحزاب " ص: (161- 163) ، (165 - 167) .
(2)
يعني قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) الآية، وقوله =
الخطاب نساء المؤمنين باللفظ الصريح، وهي تطالب المؤمنات إذا خرجن من بيوتهن لحاجة استدعت ذلك أن يغطين وجوههن، ويسترن محاسنهن.
أما التعليل في الآية فهو يشير إلى المجتمع الإسلامي في تلك الأيام،
وأنه كان مخلخلًا مهزوزًا؛ لوجود أغلبية فيه من المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات، وحُكم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستقر بعد، والأمن لم يستتب، بدليل أن المنافقين كان منهم من يتعرض للجواري في الشوارع،
ويغازلهن لإيقاعهن في الريبة، فمن باب الوقاية العاجلة أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول آمرا أزواجه وبناته ونساء المؤمنين به إذا خرجت إحداهن لحاجتها أن تغطي رأسها ووجهها، لتُعرف أنها حرة، وليست جارية تخدم البيوت، فلا يتعرض لها أولئك المنافقون بالكلام المريب والمغازلة الفاتنة، والمقصود من الكلام أن هذه الآية مؤكدة لفرضية
الحجاب، ومقررة له.
ودعاة السفور يقولون إن هذه الآية لم تأمر بتغطية الوجه، وإنما أمرت بتغطية الرأس فقط، وهو فهم باطل؛ إذ الجلباب هو ما تضعه المرأة على رأسها، فكيف يقال لها: أدني الجلباب من رأسك تغطية (1) .
وإنما تدنيه عن رأسها لتغطي به وجهها، هذا هو المعقول والمفهوم من العرب، ثم مجرد تغطية الرأس لا تمنع من المغازلة المخوفة، وإنما يمنع منها تغطية الوجه بالمرة، أما كاشفة الوجه فإن النظر إليها ومنها يسَهلُ المكالمة، فالمغازلة، كما قال الشاعر الحكيم:
نظرة فابتسامة فسلام
…
فكلام فموعد فلقاء". (2)
= عز وجل: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) الآية إلى قوله تعالى: (وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) .
(1)
كذا في الأصل، ولعله:(فكيف يقال لها: "أدنى الجلباب من رأسك" وهو يغطيه؟) يريد أنه يكون حينئذ تحصيل حاصل، والله أعلم.
(2)
"فصل الخطاب في المرأة والحجاب"(ص: 38 - 39) .
* وقال الدكتور محمد محمود حجازي في تفسيره:
(يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) فيسترن أجسادهن كلها حتى وجوههن إلا
ما به ترى الطريق (1) اهـ.
* وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف:
"والمفهوم من الجلباب أنه لا ينحصر باسم ولا بجنس ولا بلون، وإنما هو كل ثوب تشتمل به المرأة لستر مواضع الزينة من ثابت ومنقول، وإذا عرفنا المقصود منه، زال الحرج في وصفه ومسماه.
فقوله تبارك وتعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ)(2) يدل على تخصيص الوجه لأن الوجه عنوان المعرفة فهو نص على وجوب ستر الوجه.
وقوله تعالى: (فَلَا يُؤْذَيْنَ) هو نص على أن في معرفة محاسن المرأة إيذاء
لها ولغيرها بالفتنة والشر، ولذلك حرم الله تعالى عليها أن تخرج من بدنها ما تعرف به محاسنها أيا كانت" (3) اهـ.
* وقال حفظه الله تعالى (2) :
"الجلباب" أكمل من ضرب الخمار لأنه يحيط ببدن المرأة كلها، ويستر جميع ما يعلو بدنها من الزينة، أو ما يصف جسمها، لأن لبس الثياب التي تصف حجم المرأة حرام عليها استعمالها بحضرة الرجال الأجانب
…
(1) "التفسير الواضح (22/ 27)
(2)
وقال فضيلته معلقا على هذا الموضع: (لو لم يكن من الأدلة الشرعية على منع كشف الوجه إلا هذا النص من الله تعالى لكفى به حكمَا موجبَا، لأن الوجه هو العنوان من المرأة لمعرفتها من الناحية المحذورة، والله تعالى أمر المرأة بأن تعمل على حجب ما يدل على معرفتها من بدنها، وهذا الأمر يقتضي الوجوب، ولا يوجد
أي دليل ينقله من الوجوب إلى الاستحباب أو الخيار) اهـ من هامش ص: 48.
(3)
"نظرات في حجاب المرأة المسلمة"(ص: 48 - 49) .
(4)
"السابق"(ص: 52) .
ص 226 فارغة
في البيوت.
وهذه الآية الكريمة تستدعي التأمل وإدارة الفكر من وجوه:
الأول: أن الله تعالى لم يقل: "يتجلببن" وإنما قال: (يُدْنِينَ) ومعلوم أن الإدناء ليس هو نفس التجلبب، بل هو أمر زائد على التجلبب، فلا يحصل الامتثال بهذا الأمر بمجرد التجلبب، بل لابد من الإِتيان بقدر زائد عليه يصح أن يطلق عليه كلمة الإِدناء.
الثاني: أن الإِدناء لا يطلق على لبس الثياب، ثم إنه لا يتعدى بعلى، بل يتعدى باللام، ومِن، وإلى فتعديته هنا بعلى لتضمينه معنى فعل آخر، وهو الإِرخاء، والإِرخاء يكون من فوق، فالمعنى: يرخين شيئا من جلابيبهن من فوق رؤوسهن على وجوههن.
أما قولنا: على وجوههن، فلأن الجلباب لابد أن يقع على عضو عند الإِرخاء، ومعلوم بالبداهة أن ذلك العضو لا يكون إلا الوجه وأما أن يكون على الجبهة فقط فمعلوم أن هذا القدر القليل من عطف الثوب لا يسمى إِرخاء، ويؤيد هذا المعنى - أي: أن المراد بالإِدناء هو الإِرخاء، لا مجرد، التجلبب - أيضًا، أن الله أتى بكلمة (مِن) التبعيضية قبل الجلابيب، فمقتضاه أن الإِدناء يكون بجزء من الجلباب مع أن التجلبب يطلق على مجموع هيئة لبسه.
الثالث: أن الضمير في (يُدْنِينَ) يرجع إلى ثلاث طوائف جمعاء: إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وإلى بناته، وإلى نساء المؤمنين، وقد أجمعوا على أن ستر الوجه والكفين كان واجبا على أزواجه صلى الله عليه وسلم، فإذا دل هذا الفعل على وجوب ستر الوجه والكفين في حق طائفة منها؛ فلم لا يدل نفس ذلك الفعل على نفس ذلك الوجوب في حق طائفتين أخريين؟!
الرابع: أن الله أمر أمهات المؤمنين بالتستر الكامل في آية الحجاب، ولم يستثن عضوًا من عضو، فلو كان المراد بإدناء الجلباب مجرد تغطية الرأس
من غير أن يشمل الوجه والكفين لكان كلامه تعالى عبثا في حق أمهات المؤمنين إذ من العجائب أن يؤمر أولًا بالتستر الكامل حتى الوجه والكفين، ثم يؤمر بتغطية الرأس فقط، مع بقاء الآية الأولى محكمة غير منسوخة.
وياليت شعري أي حاجة مست إلى الأمر بستر الرأس بعد الأمر بستر جميع الأعضاء؟!
الخامس: أن أساليب الرواة وإن اختلفت في بيان سبب نزول هذه
الآية، لكنهم متفقون على أن من أهداف هذا الأمر تمييز الحرائر من الأِماء
بالزي.
فعلينا أن نرجع في معرفة ذلك إلى تقاليد العرب في ذلك الزمان وقبله، ويبدو من إشعار الشعراء الجاهليين أن الحرائر والشريفات كن محتجبات الوجوه في الجاهلية أيضا، وحجاب الوجوه – وإن يكن عامًّا - لكنه كان هو الزي الفارق بين الحرة والأمة.
ثم ساق فضيلته شواهد شعرية لتأييد أن ستر الوجوه وكشفها كان هو الفارق بين الحرة والأمة في زمن الجاهلية (1)، إلى أن قال حفظه الله: وبعد معرفة هذا القدر من تقاليد نساء الجاهلية يسهل علينا فهم معنى الآية، وأن الله تعالى أمر المؤمنات بالتزام الزي الذي كان قد تقرر عندهم أنه زي الحرة، وليس بزي الأمة، ومعلوم أن ذلك الزي كان هو ستر الوجه بالجلباب.
السادس: أن الروايات التي وردت في بيان سبب نزول هذه الآية إما ساكتة عن بيان الزي الذي يفرق بين الحرة والأمة، وإما صريحة جازمة فيه
(1) وقد تقدم ذكر جملة صالحة منها في فصل تاريخ الحجاب في الجاهلية، فراجع ص (84) .
فالرواية التي فيها، الصراحة ببيان الزي هى ما رواه أبن سعد عن محمد ابن كعب القرظى قال: كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المسلمين يؤذيهن، فإذا قيل له، قال:"كنت أحسبها أمة"، فأمرهن الله أن يخالفن لفي الإماء، ويدنين عليهن من جلابيبهن تخمر وجهها إلا إحدى عينيها، يقول:(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) ، يقول ذلك أحرى أن يعرفن (1) ويقرب منها الرواية التي رواها ابن جرير، ونقلها فضيلة الدكتور الهلالي فإن فيها تفسير (يُدْنِينَ) بكلمة: يتقنعن، والتقنع يطلق على تغطية الوجه، ومنه مقنع الكندي، سمى مقنعا لأنه كان لا يخرج إلا وعلى وعلى وجهه ستر (2) .
ومنه ما قال أحمد بن أبي يعقوب في "تاريخه": وكانت العرب تحضر سوق عكاظ وعلى وجهها البراقع، فيفال: إن أول عربى كشف قناعه ظريف ابن غنم العنبري (3) .
ومنه المثل السائر: ألقى عن وجهه قناع الحياء.
فالروايات التي تبين سبب النزول تصرح أيضًا بان الفرق بين الحرة والأمة إنما كان بستر الوجه وكشفه.
وأما استدلالاهم بما تقرر في كتب الفقه من أن الأمة لا تستر رأسها
فليس بناهض:
أما أولا: فلأن الله تعالى إنما رد المسلمين إلى التقاليد التي كانت متقررة
في مجتمع العرب، ولم يردهم إلى ما تقرر في هذا الشرع، فإن ما تقرر فيه،
لم يتقرر إلا بعد نزول هذه الآية.
وأما ثانيا: فلأن كشف الرأس للإِماء ليس بمتفق عليه (4) .
(1)"طبقات ابن سعد"(8/176، 177) .
(2)
انظر: "الأغاني" ترجمه مقنع (17/60) .
(3)
"تاريخ اليعقوبي" ط. أوربة (2/ 315) .
(4)
"تفسير ابن كثير"(5/516) ، و"تفسير سورة النور" لابن تيمية =
وأَما ما قاله فضيلة الدكتور من أن عمر رضي الله عنه كان يضرب الإِماء على ستر الرأس فليس بصحيح، بل الصحيح أنه كاد يضربهن على ستر الوجه وهاك لفظ الرواية: قال أنس: مرت بعمر بن الخطاب جارية متنقبة، فعلاها بالدرة، وقال: يالكاع تتشبهين بالحرائر؟ ألقي القناع (1) .
والعجب من فضيلة الدكتور أنه كيف رضي أن يستدل به على جواز كشف الوجوه للحرائر؟!
السابع؟ أنا لو سلمنا - على سبيل التنزل - أن مجرد ستر الرأس يكفي لتمييز الحرة من الأمة، فلا شك أن ستر الوجه مع ستر الرأس أوْلى في إِعطاء هذا التمييز، وفي تأدية هذا الغرض، فسبب النزول على تقدير صحة
ما فهمه منه فضيلة الدكتور لا يقتضي نفي ستر الرأس ولا ينافي وجوبه.
الثامن أن سبب النزول ينص على أن الله تعالى دَرَأَ- بأمر إِدناء الجلباب-
مفسدة من المفاسد، وهي التعرض للنساء، ولكن هناك مفاسد أخرى أكبر منها، وذلك أن المرأة- ولو كانت فاجرة- إذا تعرض لها أحد في الطريق بالتغزل، أو بإلقاء الكلمات تثور الحمية والغيرة فيها، وتستشيط غضبًا، إلا التي ترامت في وقاحتها وفجورها إلى النهاية، قلما يظفر الرجل بجدوى في
مطلوبه بمثل هذا التعرض، ولا يجتني من عمله هذا إلا شوك الذل
والهوان
ولكن إذا خرجت المرأة سافرة الوجه فلا غرو أن يلتقي نظرها بنظر أحد من الرجال، ومعروف أن التقاء النظرين يحدث انجذابا في القلبين قلما يصبر أحدهما عن الآخر، ويقع كل واحد منهما فريسة لصاحبه
بسهولة تامة، ولذلك ورد "أن النظر سهم من سهام إبليس مسموم " (2) . وقال الشاعر:
= ص (17) ، و"المحلى"(3/ 281) .
(1)
"فتح البيان" للنواب صديق حسن خان (7/316)
(2)
انظر: "تفسير ابن كثير"(5/87) .
كل الحوادث مبداها من النظر
…
ومعظم النار من مستصغر الشرر
وقال آخر:
يصرعن ذا اللب حتى لاحراك به
…
وهن أضعف خلق الله إنسانا
وليست هذه المفاسد متخيلة مفروضة، بل قد ابتلي بها المجتمع البشري في
العالم كله، وكل ذلك من عواقب هذا السفور.
فإذا كانت هناك مفاسد أخرى بجنب المفسدة التي نزلت لدرئها الآية الكريمة فهل من حكمة الحكيم الخبير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وما يتطور إليه المجتمع بفضل السفور، هل من حكمته أن يدرأ مفسدة واحدة صغيرة، ويترك مفاسد أخرى كبيرة مفتحة الأبواب، يدرؤها مع أنها من قبيلها وأشد منها؟
فالصحيح أن مفسدة واحدة صغيرة - وهي التعرض للنساء في الطرقات - لما ظهرت واقتضت أمرًا من أوامر الله يسد به بابها أمر الله بأمر يكفي لسد باب هذه المفسدة، ولسد أبواب المفاسد الأخرى التي هي أكبر من أختها، فأمر بستر الرأس والوجه حتى ينقطع السبيل.
ولعل قائلاً يقول: إن الأمر إذا كان كذلك؛ فلم لم ينبه الله تعالى على
تلك الأغراض النبيلة التي تكمن وراء هذا الأمر؟ ولم اقتصر على الإشارة إلى تلك الأَغراض في آية الحجاب بقوله: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) فلم يحتج إلى الإِعادة، ويالها من كلمة جامعة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة من أغراض هذا الباب إلا أحصتها في طيها، ثم إن قوله تعالى:(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) يشير إلى هذه الأغراض أيضًا، قال الرازي: "قيل: يعرفن أنهن حرائر فلا يتبعن، ويمكن أن يقال: المراد أنهن
لا يزنين، لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة لا يطمع فيها أن تكشف عورتها" (1) اهـ.
(1) انظر: "التفسير الكبير"(6/ 799) .
التاسع: أن أعمال أمهات المؤمنين، وأعمال نساء المسلمين ترشدنا إلى
ما هو الصحيح في معنى إدناء الجلباب، لأن الخطاب كان موجها إليهن مباشرة، وكان الله مهيمنَا عليهن، والرسول قيما ورقيبًا على أعمالهن، فلا نحسب أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة والصحابيات على عمل لم يوجبه الله، مع أنه كان قد جاء لرفع الأواصر والأغلال، وكان عزيزَا عليه ما عنتوا، وقد أعطت الروايات عن أعمالهن تفصيلًا لا يحوم حوله شك، ولا ريب بأنهن كن يسترن الوجوه إيمانا بكتاب الله، وتصديقًا بتنزيله (1) .
العاشر: أن من تصدى من الصحابة والتابعين وعلماء أهل التأويل لتفسير إدناء الجلباب فسره بستر الوجوه، إلا بعض أقوال شاذة، وهاك شيئا من تلك النصوص
…
ثم سرد فضيلته جملة كبيرة من النقول عن جماهير المفسرين، وقد تقدم نقل أقوالهم آنفا.
ثم قال حفظه الله معقبًا: هذه هي أقوال أعلام هذه الأمة من لدن أفضل القرون إلى القرن الرابع عشر الذي نعيش فيه، يعرف منها أن من تصدى لتفسير إدناء الجلباب فقد فسره بتغطية الوجه، ولو كان ممن يقول بجواز كشفه، ولا يُعْرَف أحد خالف هذا التفسير صريحا، وإنما يستأنس بأقوال بعضهم أنه لا يرى تغطية الوجه جزءًا من إدناء الجلباب، وهاك نصوص هولاء:
قال مجاهد: يتجلببن (2) .
وقال عكرمة: تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها (3) .
وقال سعيد بن جبير: يسدلن عليهن (4) .
(1) وقد سردنا فيما مضى النصوص التي تقرر هذه الدعوى بما لا مجال للكلام فيه.
(2)
، (3)"تفسير ابن كثير"(5/516) .
(4)
"روح المعاني" للآلوسي (22/ 83) .
وقال ابن قتيبة: يلبسن الأردية (1) .
وهذه الأقوال كما ترى ليست صريحة في نفي ستر الوجه، فإن التجلبب، وسدل الجلباب ولبس الأردية لا ينافي تغطية الوجه، على أن التجلبب كان له طريق معروف في نساء المسلمين، وهو لبسها مع تغطية الوجه، فمن يدعي حمل هذه الأقوال على خلاف المعروف فليأت عليه بدليل.
ثم هذا الوجه العاشر من الوجوه التي أشرنا إليها في بداية الكلام على هذه الآية، فتلك عشرة كاملة، ولدينا مزيد.
الحادي عشر: أن قوله (يُدْنِينَ) صيغه مضارع للأمر، ومعلوم أن الأمر للوجوب، وأنه إذا ورد بصيغة المضارع يكون آكد في الدلالة على الوجوب.
وإذا تعين بعشرة وجوه أن المراد بإدناء الجلباب هو تغطية الوجه، تعين
أنه واجب نطق به كتاب الله، فلا مناص عن الالتزام به.
وفي ختام البحث على معنى هذه الآية لا أرى بأسًا أن أتكلم حول ما
قاله فضيلة الدكتور في الإدناء.
إن فضيلة الدكتور نقل عن ابن جرير اختلاف أهل التأويل في
الإدناء: أهو تغطية الوجه، أم شد الجلباب على الجبهة؟ ثم رجح الأخير، بل صرح بأنه هو المتعين لخمسة أمور. . .
أقول: قد عرفت مما قدمنا أن هذا التقسيم لا يبتني على أساس متين،
فكل ما يتفرع عليه فهو مثله.
قال فضيلة الدكتور: (الأول: ما تقدم من النصوص التي يفسر بها كتاب الله ومن رويت عنه - وهو النبي وأصحابه - أعلم بكتاب الله) اهـ
أقول:
(1)"زاد المسير في علم التفسير"(6/ 422) .
سينكشف الغطاء عن تلك النصوص وعن عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
وأمته، فاصطبروا.
قال: (الثاني: أقوال العلماء السابقة (1) لا تتمشى مع القول بوجوب
ستر الوجه والكفين بوجه، ولا يقدر أحد أن يقول أن أولئك كانوا يجهلون معنى هذه الآية، ويتواطئون على خلاف ما دلت عليه) اهـ
أقول:
لا يغرن أحدًا إجماعُ العلماء أو شبه إجماعهم على إخراج الكفين والوجه عن العورة، فمدار الحجاب ليس هو العورة، بل إنما أمر الحجاب لأنه أزكى وأطهر لقلوب المؤمنين والمؤمنات، ولو صح أن موقفهم وأقوالهم لا تتمشى مع القول بوجوب ستر الوجه والكفين، فلا شك أنهم أو كثير منهم ناقضوا أنفسهم حيث صرحوا بالوجوب، ولا يقدر أحد أن يقول إن أولئك كانوا يجهلون معنى التناقض، وفضيلة الدكتور ينقل عن بعضهم التصريح بأن الوجه والكفين ليسا بعورة، والتصريح بأن سترهما واجب، وأن سبب الوجوب هو خوف الفتنة، ومع ذلك يقول فضيلته "إن أقوالهم لا تتمشى مع القول بالوجوب"، ولا أدرى أي شيء يمنع عن التمشي بعد هذا كله؟
ثم ليعلم أن الصحابة والأمة المسلمة التي التزمت نساؤها بستر الوجوه بعد نزول آيتي النور والأحزاب – كما سنورد مدللًا - وكذلك أكابر الصحابة والتابعين وفطاحل العلماء المفسرين الذين فسروا إدناء الجلباب بستر الوجوه، لا يقدر أحد أن يقول إنهم كانوا يجهلون لغة العرب، أو كانوا يجهلون أنهم يمتثلون ويفسرون أمرَا من أوامر الله، وأن الأمر
للوجوب.
(1) يشير فضيلة الدكتور الهلالي - رحمه الله تعالى - إلى تنصيص كثير من العلماء على
إخراج الوجه والكفين من حدود العورة.
قال: (الثالث: أن إدناء الجلابيب غير صريح في تغطية الوجه، ولا
سيما إذا عرفت سبب نزولها، والتعليل الذي هو في آخر الآية وهو قوله:(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) اهـ.
أقول:
قد عرفت أن إدناء الجلابيب لا يصلح لمعنى غير تغطية الوجه، ولا
سيما إذا عرفت سبب نزولها والبيئة التي نزلت فيها، وعرفت معنى التعليل الذي هو في آخر هذه الآية، وفي آية الحجاب.
قال: (الرابع: كثرة القائلين بالثاني حتى ابن عباس، إلخ) اهـ.
أقول:
أولًا: الكتاب والسنة هما العيار على الناس، والناس ليسوا عيارا على الكتاب والسنة.
ثانيًا: قد عرفت – وستعرف - حقيقة الكثرة والقلة في الجانبين، فليس القائلون بالسفور إلا نزرا يسيرًا في جنب هذه الأمة الزاخرة المتدفقة بأسرها.
قال: (الخامس: أن هذه الآية مفسرة في القرآن نفسه، وأولى ما فُسر به القرآنُ، القرآنُ. . . الخ) اهـ.
أقول:
نعم، هذه الآية يفسرها قوله تعالى:(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)، وقوله تعالى:(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)، وأما تفسيرها بقوله تعالى:(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) فتفسير لجزء من مدلولها، ولناحية من نواحي معناهِا الواسعة الأرجاء، فلا يصح الاقتصار عليه، وقد قدمنا ما في الاستدلال بهذه الآية على جواز كشف الوجه (1) ، فلا حاجة إلى الإعادة.
(1) انظر (299) ، (314) .
وإذا كانت في القرآن عدة آيات تصلح لتفسير آية منه فليس لنا أن نفسرها ببعضها، ونهمل بعضا آخر فلا نراعيها، على أن التأسيس معلوم الأولوية كل التأكيد (1) .
فإذا قلنا: إن آية النور بيان لجزء (2) من آداب النساء في المجتمع
(1) وذلك لأن اللفظ إذا احتمل أكثر من معنى، رجح تقديم محتمل اللفظ الراجح على المحتمل المرجوح: كالتأسيس، فإنه يقدم على التوكيد، مثال ذلك قوله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الآية، فكلمة (وَصَدُّوا) هنا يحتمل أن يكون لازمة مثل قوله تعالى:(رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) وعليه يكون معنى الصدود الكفر، فتكون كالتوكيد لقوله تعالى:(كَفَرُوا) ، ويحتمل
أن تكون متعدية، وحينئذ يدل قوله تعالى:(كَفَرُوا) على كفرهم في أنفسهم،
وقوله: (وَصَدُّوا) على أنهم حملوا غيرهم على الكفر، وصدوه عن الحق، فهنا يترجح القول الأخير لأن فيه تأسيسَا لمعنى جديد، خلاف القول الأول الذي يقتضي التكرار والتوكيد.
ونظير ذلك قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)) إن حملنا الحياة
الطيبة في هذه الآية على الحياة الدنيا كان ذلك تأسيسًا، وإن حملناها على حياة الجنة تكرر ذلك مع قوله بعده:(وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ) الآية، لأن حياة الجنة الطيبة هي أجرهم الذي يجزونه، قال أبو حيان في "البحر المحيط":(والظاهر من قوله تعالى: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) إن ذلك في الدنيا، وهو قول الجمهور،
ويدل عليه قوله: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ) يعني في الآخرة) اهـ.
ومثال ذلك أيضًا قوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، وقوله عز وجل:(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)، قيل: تكرار اللفظ فيهما توكيد، وكونه للتأسيس أرجح
لما ذكرنا، فتحمل الآلاء في كل موضع على ما تقدم قبل ذلك التكذيب، فلا يتكرر منها لفظ، وكذا يقال في سورة المرسلات، فيحمل على المكذبين بما ذكر قبل كل لفظ، والله تعالى أعلم.
(2)
إنما يسوغ هذا الجمع بناء على التسليم الجدلى بصحة ما ذهبوا إليه من آية النور تفيد جواز السفور، ومع ذلك فإنها - طبقَا لما فهمته الصحابيات رضي الله عنهن
لا تفيد ذلك كما سيأتي إن شاء الله.
الإِسلامي، وآية الأحزاب بيان لجزء آخر منها، يكون ذلك أوفق بلطائف التنزيل وببلاغة كلام الله تعالى وإعجازه" اهـ.
* وقال العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله في تفسير الآية:
"والجلابيب جميع جلباب، والجلباب هو ما تضعه المرأة على رأسها للتحجب، والتستر به، أمر الله سبحانه جميع النساء بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور والوجه وغير ذلك حتى لا يُعرفن بالعفة فلا يُفتتن، ولا يَفْتِنَّ غيرَهن فيؤذيهن"(1) اهـ.
* * *
(1) رسالة تبحث في مسائل السفور والحجاب " ص: (6) .
فصل في بيان معنى الحجاب
تقدمت عبارات المفسرين في تحديد المقصود من الجلباب، وقد جمعها الحافظ ابن حجر في "الفتح" سبعة أقوال:(المقنعة، والخمار أو أعرض منه، والثوب الواسع يكون دون الرداء، والإِزار، والملحفة، والملاءة، والقميص)(1) اهـ.
وأرجحها ما ذهب إليه كثير من المحققين، ألا وهو أنه الجلباب في لغة العرب التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما غطى جميع الجسم لا بعضه.
ذكره ابن حزم في "المحلى"(2) ، وصححه القرطبي في تفسيره (3) .
وقال ابن الأثير: (الجلباب: الملحفة والإِزار الذي تتغطى به المرأة)(4) اهـ.
وقال البغوي: (هو المُلاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار)(5) اهـ.
وقال ابن كثير: (هو الرداء فوق الخمار، وهو بمنزلة الإِزار اليوم)(6) اهـ.
قال الألباني: (ولعله العباءة التي تستعملها اليوم نساء نجد والعراق ونحوهما)(7) . اهـ.
وقال الشيخ أنور الكشميري: (والجلباب رداء ساتر من القرن إلى
(1)"فتح الباري"(1/ 505) .
(2)
"المحلى"(3/217) .
(3)
"الجامع لأحكام القرآن"(14/243) .
(4)
"جامع الأصول"(6/ 152) .
(5)
"معالم التنزيل".
(6)
"تفسير القرآن العظيم"(3/518) .
(7)
"حجاب المرأة المسلمة"(ص: 38) .
القدم) (1) . اهـ.
وقال الشيخ إبراهيم الشوري، والشيخ محمد الشيباوي:(والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن، وكل امرأة أعرف بما يستر جسمها، ولا تحتاج إلى تعليم في ذلك)(2) اهـ.
وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف: (والمفهوم من الجلباب لا ينحصر
باسم ولا بجنس ولا بلون، وإنما هو كل ثوب تشتمل به المرأة لستر مواضع الزينة من ثابت ومنقول، وإذا عرفنا المقصود منه زال الحرج في وصفه ومسماه) (3) اهـ.
حكم لبس الجلباب
روى الشيخان وغيرهما عن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق (4) ، والحُيَّض، وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها".
قال الحافظ ابن حجر: (وفيه امتناع خروج المرأة بغير جلباب)(5) اهـ. وقال البدر العيني: (ومنها - أي من فوائد الحديث - امتناع خروج النساء بدون الجلاليب)(6) اهـ.
قال العلامة الألباني معلقًا على عبارة الكشميري (7) رحمه الله:
(1)"فيض الباري"(1/ 388) .
(2)
"تيسير التفسير""العشر الثامن من القرآن"(ص:46) .
(3)
(نظرات في كتاب حجاب المرأة المسلمة)(ص: 48) .
(4)
العواتق. جمع عاتق، وهي الشابة أول ما تدرك.
(5)
"فتح الباري"(1/ 505) .
(6)
"عمدة القارئ"(3/ 305)
(7)
"فيض الباري"(1/388)
"الجلباب لستر زينة المرأة عن الأجانب، فسواء خرجت إليهم، أو دخلوا عليها فلابد على كل حال من أن تتجلبب (1) ، ويؤيد هذا ما قاله
قيس بن زيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر. . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها فتجلببت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن جبريل أتاني فقال لي أرجع. حفصة فإنها صوامة قوامة، وهي زوجتك في الجنة"(2) ، وقد صح عن عائشة أنها كانت إذا صلت تجلببت، فدل على أن الجلباب ليس خاصا بالخروج" (3) اهـ.
فتوى العلامة الألباني في وجوب الجلباب:
قال رحمه الله تعالى:
"
…
الحق الذي يقتضيه العمل بما في آيتي النور والأحزاب أن المرأة يجب عليها إذا خرجت من دارها أن تختمر، وتلبس الجلباب على الخمار، لأنه كما قلنا سابقًا أستر لها، وأبعد عن أن يصف حجم رأسها وأكتافها، وهذا أمر يطلبه الشارع. . .، وهذا الذي ذكرته هو الذي فسر به السلف آية الإِدناء، ففي "الدر" (5/ 222) :(وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) قال: يسدلن عليهن
من جلابيبهن، وهو القناع فوق الخمار، ولا يحل لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار وقد شدت به رأسها ونحرها"، (4) اهـ.
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 310) .
(2)
أخرجه ابن سعد (8/ 58)، قال الألباني:(الحديث مرسل، وأخرجه الحاكم " (4/ 15) ، وذكر له شاهدا من حديث أنس، فيتقوى به إن شاء الله تعالى) اهـ من
"حجاب المرأة المسلمة" هـ (ص: 40) .
(3)
"حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص: 40) .
(4)
"حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص: 39 – 40)
وقال رحمه الله في موضع آخر:
"الغرض من الثوب إنما هو رفع الفتنة، ولا يحصل ذلك إلا بالفضفاض الواسع، وأما الضيق فإنه وإن ستر لون البَشَرة فإنه يصف حجم جسمها أو بعضه، ويصوره في أعين الرجال، وفي ذلك من الفساد والدعوة إليه ما
لا يخفى، فوجب أن يكون واسعًا، وقد قال أسامة بن زيد رضي الله عنهما: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، فقال: مالك لم تلبس القبطية؟ قلت: كسوتها امرأتي،
فقال: "مرها فلتجعل تحتها غلالة، فإني أخاف أن تصف حجم عظامها"(1) .
فقد أمره صلى الله عليه وسلم بأن تجعل المرأة تحت القبطية غلالة - وهي شعار يلبس تحت الثوب - ليمنع بها وصف بدنها، والأمر يفيد الوجوب كما تقرر في الأصول " (2) اهـ.
وقد صرح الحديث بأن القبطية كانت "كثيفة" أي: ثخينة غليظة، كما صرح بالمحذور الذي خشيه النبي صلى الله عليه وسلم من هذه القبطية فقال:"إني أخاف أن تصف حجم عظامها".
فمن هنا جزم الشيخ- رحمه الله بأن الحديث وارد على الثياب الكثيفة التي تصف حجم الجسم من ليونتها، ولو كانت غير رقيقة، ولا يمكن حمله على الثياب الرقيقة الشفافة التي لا تستر لون البشرة، ومن ثم استنكر الشيخ على بعض الشافعية قوله: ويستحب أن تصلي المرأة في قميص سابغ وخمار، وتتخذ جلبابًا كثيفًا فوق ثيابها ليتجافى عنها، ولا يتبين حجم أعضائها (3)، فقال معلقا:
(والقول بالاستحباب فقط ينافي ظاهر الأمر فإنه للوجوب كما تقدم،
(1) تقدم تخريجه.
(2)
"حجاب المرأة المسلمة"(ص: 60) .
(3)
ذكره الرافعي في "شرحه "(4/ 92، 105 بشرح المهذب) .
وعبارة الإمام الشافعي رضي الله عنه في "الأم" قريب مما ذهبنا إليه، فقد قال (1/78) : "وإن صلى في قميص يشف عنه لم تجزه الصلاة. . فإن صلى في قميص يصفه، ولم يشف كرهت له، ولا يتبين أن عليه إعادة الصلاة، والمرأة في ذلك أشد حالًا من الرجل إذا صلت في درع وخمار يصفها الدرع، وأحب إلي أن لا تصلي إلا في جلباب فوق ذلك، وتجافيه عنها لئلا
يصفها الدرع".
وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "لابد للمرأة من ثلاثة أثواب تصلى فيها: درع، وجلباب، وخمار، وكانت عائشة تحل إزارها فتجلببُ به "(1) .
وإنما كانت تفعل ذلك لئلا يصفها شيء من ثيابها، وقولها "لابد" دليل
في وجوب ذلك، وفي معناه قول ابن عمر رضي الله عنهما: إذا صلت المرأة، فلتصل في ثيابها كلها: الدرع والخمار والملحفة (2) .
وهذا يؤيد ما سبق أن ذهبنا إليه من وجوب الجمع بين الخمار والجلباب على المرأة إذا خرجت) (3) اهـ.
فصل
مناقشة ما ذهب إليه فضيلة الشيخ الألباني في تفسير آية الإدناء
* قال رحمه الله:
"لا دلالة في الآية على، أن وجه المرأة عورة يجب عليها ستره، بل غاية ما
(1) أخرجه ابن سعد (8/48 - 49) ، وصحح الألباني إسناده على شرط مسلم
(الحجاب) هـ (ص: 62) .
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وصحح سنده الألباني في "الحجاب" (ص: 62) .
(3)
"حجاب المرأة المسلمة"(ص: 61- 62) .
فيها الأمر بإدناء الجلباب عليها، وهذا كما ترى أمر مطلق، فيحتمل أن يكود الإدناء على الزينة ومواضعها التي لا يجوز لها إظهارها حسبما صرحت به الآية الأولى (1) - وحينئذ تنتفي الدلالة المذكورة، ويحتمل أن يكون أعم من ذلك، فعليه يشمل الوجه
وقد ذهب إلى كل من التأويلين جماعة من العلماء المتقدمين، وساق أقوالهم في ذلك ابن جرير في تفسيره، والسيوطي في "الدر المنثور"، ونحن نرى أن القول الأول أشبه بالصواب لأمور
الأول: أن القرآن يفسر بعضه بعضا، وقد تبين من آية النور المتقدمة أن الوجه لا يجب ستره، فوجب تقييد الإِدناء هنا بما عدا الوجه توفيقًا بين الآيتين.
الأخر: أن السنة تبين القرآن، فتخصص عمومه، وتقيد مطلقه، وقد دلت النصوص الكثيرة منها على أن الوجه لا يجب ستره، فوجب تفسير هذه الآية على ضوئها، وتقييدها بها.
فثبت أن الوجه ليس بعورة يجب ستره، وهو مذهب أكثر العلماء كما قال ابن رشد في "البداية"(1/ 89) ، ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي ورواية عن أحمد، كما في "المجموع"(3/ 169) ، وحكاه الطحاوي في "شرح المعاني "(2/ 9) عن صاحي أبي حنيفة أيضا، وجزم في "المهمات"
من كتب الشافعية أنه الصواب، كما ذكره الشيخ الشربيني في "الإقناع "(2/110) .
لكن ينبغي تقييد هذا بما إذا يكن على الوجه وكذا الكفين شيء من الزينة لعموم قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) وإلا وجب ستر ذلك، لاسيما في هذا العصر الذي تفنن فيه النساء بتزيين وجوههن وأيديهن
(1) يعني لذلك قوله تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) الآية
بأنواع من الزينة والأصبغة مما لا يشك مسلم بل عاقل ذو غيرة في تحريمه اهـ (1) .
وأنت ترى من كلام فضيلته أنه صرح بأن القول الأول الذي حكاه
"أشبه" بالصواب، وذكر أن مرجع هذا الشبه" إلى أمرين:
الأول: أن القرآن يفسر بعضه بعضا.
وهذا حق، ولكن لو طبقناه على آيات الحجاب مجتمعة لعلمنا أن آيات
سورتي النور والأحزاب متضافرة على إثبات عموم الإدناء لسائر البدن، وقد تقدمت الإشارة إلى أن التأسيس معلوم الأولوية على التوكيد إذا دار الأمر بينهما، فلو سلمنا أن آية (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) تفيد إباحة السفور، فإن آية الإِدناء تؤسس حكمًا جديدا، وتقدم بيان ذلك في الكلام الذي نقلناه عن الشيخ أبي هشام الأنصاري فراجعه (2) .
والأمر الثاني: الذي ذكره الشيخ هو دعوى أن النصوص الكثيرة من
السنه دلت على أن الوجه لا يجب ستره.
ويجاب عنها بأن هذه النصوص المشار إليها محتملة، وليست صريحة في
إباحة السفور، والد ليل إذا طرقه الاحتمال سقط به الاستدلال، ويأتي بيان ذلك مفصلا أن شاء الله تعالى (3) .
ثم خلص فضيلته من الأمرين السابقين إلى أن الوجه ليس بعورة، فقال
رحمه الله: فثبت أن الوجه ليس بعورة يجب ستره ثم قال: وهو مذهب أكثر العلماء. . . إلخ.
والجواب: أن هذا صحيح، ولا تعارض- بحمد الله- بين ما ذهب
(1)"حجاب المرأة المسلمة"(ص: 40 -42) ويأتي مزيد بيان في تفسير الآيات المشار إليها إن شاء الله.
(2)
راجع ص: (236) .
(3)
انظر ص: (391) وما بعدها، ص (426 – 429)
إليه أكثر العلماء من أن الوجه ليس بعورة، وبين إفتاء بعضهم بوجوب ستره أمام الأجانب، لأن حدود العورة ليست هي حدود الحجاب، فإذا قيل: إن وجه المرأة ليس بعورة، فهذا المذهب إنما هو في الصلاة إذا لم تكن المرأة بحضرة الرجال الأجانب، وأما بالنسبة لنظر الأجنبي إليها فجميع بدنها عورة لابد من ستره عن الأجنبي مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم:"المرأة عورة"(1) .
ولهذا غالبًا ما تجد تصريح العلماء بأن الوجه والكفين ليسا بعورة إنما يكون عند الكلام على شرط ستر العورة في أبواب "شروط صحة
الصلاة".
قال الشافعي- رحمه الله في "باب كيف لبس الثياب في الصلاة "(2) : (وكل المرأة عورة، إلا كفيها ووجهها) اهـ.
وقال أيضا: (وعلى المرأة أن تغطي في الصلاة كل ما عدا كفيها ووجهها) اهـ.
وقال الشهاب: (وما ذكره - أي البيضاوي - من الفرق بين العورة في الصلاة وغيرها مذهب الشافعي رحمه الله (3) اهـ.
وقال الشيخ محمد عليش رحمه الله: (والعورة من الحرة جميع بدنها سوى وجهها وكفيها، وهذا بالنسبة للصلاة. . .)(4) اهـ.
وقال الإمام موفق الدين ابن قدامة رحمه الله تعالى في باب "صفة الصلاة": (وقال الأوزاعي والشافعي: جميع المرأة إلا وجهها وكفيها، وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة)(5) اهـ.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
"الأم"(1/77) .
(3)
"عناية القاضي"(6/ 373)، وانظر:"روح المعاني" للآلوسي (18/141) .
(4)
"منح الجليل على مختصر العلامة خليل"(1/133) .
(5)
"المغني"(1/101) .
ونقل عنه الشيخ محمد زكريا بن يحيى الكاندهلوي قوله: (أجمعوا على أن للمرأة كشف وجهها في الصلاة)(1) اهـ.
وبعد أن صحح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه ليس للمرأة أن تبدي الوجه واليدين والقدمين للأجانب، قال:(وأما ستر ذلك في الصلاة، فلا يجب باتفاق المسلمين، بل يجوز لها كشف الوجه بالإجماع)(2) اهـ.
وقال الشيخ مصطفى الرحيباني: (لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة - ذكره في المغني وغيره)(3) 0 اهـ.
وقال المرداوي رحمه الله: (قال الزركشي: "أطلق الإمام أحمد القول بأن جميعها عورة، وهو محمول على ما عدا الوجه أو على غير الصلاة"، وقال بعضهم: الوجه عورة، وإنما كشف في الصلاة للحاجة، قال الشيخ تقي الدين: والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز النظر إليه)(4) اهـ.
وقال الشيخ العلامة فقيه الحنابلة في وقته منصور بن إدريس البهوتي (5) : (والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"المرأة عورة" رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح، وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم:"أتصلي المرأة في درع وخمار، وليس عليها إزار؟ "، قال:"إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها" رواه أبو داود، وصحح عبد الحق وغيره أنه موقوف على أم سلمة "إلا وجهها".
(1)"بذل المجهود لحل سنن أبي داود"(4/ 301) .
(2)
"حجاب المرأة المسلمة ولباسها في الصلاة" ص (6)
(3)
"مطالب أوى النهى في شرح غاية المنتهى"(1/330) .
(4)
"الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"(1/452) .
(5)
"كشاف القناع عن متن الإقناع"(1/243) .
ولا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة،
ذكره في المغني وغيره "قال جمع: وكفيها" واختاره المجد، وجزم به في
العمدة والوجيز، لقوله تعالى:(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) .
قال ابن عباس وعائشة "وجهها وكفيها" رواه البيهقي، وفيه ضعف،
وخالفهما ابن مسعود، وهما - أي الكفان والوجه من الحرة البالغة -
عورة خارجها، أي: الصلاة باعتبار النظر كبقية بدنها لما تقدم من قوله
صلى الله عليه وسلم "المرأة عورة") اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
(اختلفت عبارة أصحابنا في وجه الحرة في الصلاة، فقال بعضهم: ليس
بعورة وقال بعضهم: عورة، وإنما رخص في كشفه في الصلاة للحاجة،
والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز
النظر إليه)
وقال أيضًا: (فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر لا طردا
ولا عكسا) (1) اهـ.
وقال المحقق أبو النجا شرف الدين موسى الحجاوي المقدسي:
(والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها،
قال جمع: وكفيها، وهما والوجه عورة خارجها باعتبار النظر كبقية
بدنها) (2) اهـ.
وقال: (ويكره أن يصلي في ثوب فيه صورة، وأن يصلى الرجل ملثمًا،
والمرأة منتقبة، إلا أن تكون في مكان، وهناك أجانب لا يحترزون عن
النظر إليها، فلا يجوز لها رفع النقاب) (3) اهـ.
(1) نقله عنه التويجري في "الصارم المشهور" ص: 72- 73.
(2)
"الإقناع"(1/ 88) .
(3)
"الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع"(185) باب ستر العورة وبيانها.
قال الشيخ الإمام عبد القادر بن عمر الشيباني الحنبلي: "والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة، حتى ظفرها وشعرها "إلا وجهها"، والوجه والكفان
من الحرة البالغة عورة خارج الصلاة باعتبار، والنظر كبقية بدنها" (1) اهـ.
وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله: "العورة عورتان: عورة
في الصلاة، وعورة في النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك" (2) اهـ.
أما احتجاج فضيلة الشيخ ناصر الدين الألباني بما ذكره "الشربيني" في "الإِقناع" فمردود بما تقدم بيانه من أن مدار الحجاب ليس هو العورة، بل مردود بما ذكره الشربيني نفسه في تفسيره المسمى "السراج المنير" حين نقل قول ابن عادل:(ويمكن أن يقال: المراد يعرفن أنهن لا يزنين، لأن تستر وجهها مع أنه ليس بعورة- أي: في الصلاة - لا يطمع فيها أنها تكشف عورتها)(3) اهـ.
بل هذا الشربيني نفسه يصرح بترجيح تحريم النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها (4)، فتراه ينقل عن السبكي قوله:"إن الأقرب إلى صنع الأصحاب أن وجهها وكفيها عورة في النظر لا في الصلاة" اهـ.
وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) :
"والمستثنى هو الوجه والكفان لأنهما ليستا من العورة، والأظهر أن
هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة، لا يحل لغير الزوج
والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة" (5) اهـ.
(1)(نيل المآرب بشرح دليل الطالب)(1/ 39) .
(2)
"القياس في الشرع الإسلامي" ص: 69.
(3)
"السراج المنير"(3/ 271)، وانظر أيضَا كلام الشربيني المذكور ص:(؟؟؟)
(4)
"مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج"(3/129) .
(5)
"عناية القاضي وكفاية الراضي"(6/ 373) .
قال الشهاب في شرحه: ومذهب الشافعي رحمه الله كما في الروض وغيرها أن جميع بدن المرأة عورة حتى الوجه والكف مطلقًا، وقيل: يحل النظر إلى الوجه والكف إن لم يخف فتنة، وعلى الأول: هما عورة إلا في الصلاة، فلا تبطل صلاتها بكشفها" (1) اهـ.
وقال الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله: "ويباح كشف وجهها حيثا لم يأت دليل بتغطيته، والمراد كشفه عند الصلاة بحيث لا يراها أجنبي، فهذه عورتها في الصلاة، وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة كما يأتي تحقيقه"(2) اهـ.
وقال المودودي رحمه الله تعالى: "وأدعى إلى العجب أن هؤلاء الذين يبيحون للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها للأجانب يستدلون على ذلك بأن الوجه والكفين من المرأة ليسا بعورة، مع أن الفرق كبير جدا بين الحجاب وستر العورة، فالعورة مالا يجوز كشفه حتى للمحارم من الرجال، وأما الحجاب فهو شيء فوق ستر العورة، وهو ما حيل به بين النساء والأجانب من الرجال "(3) اهـ.
وقال فضيلة الشيخ أبو هشام عبد الله الأنصاري: (لا يغرن أحدًا إجماعُ العلماء أو شبه إِجماعهم على إخراج الوجه والكفين عن العورة،
فمدار الحجاب ليس هو العورة، بل إنما أمر بالحجاب لأنه أزكى وأطهر لقلوب المؤمنين والمؤمنات، ولو صح أن موقفهم وأقوالهم لا تتمشى مع القول بوجوب ستر الوجه والكفين، فلا شك أنهم أو كثير منهم تناقضوا أنفسُهم حيث صرحوا بالوجوب، ولا يقدر أحد أن يقول: إن أولئك كانوا يجهلون معنى التناقض) (4) اهـ.
(1) السابق.
(2)
"سبل السلام"(1/ 176) .
(3)
"تفسير سورة النور" ص: 158.
(4)
"مجلة الجامعة السلفية - ذو القعدة 1398هـ، ص:69.
وقال الدكتور محمد محمود حجازي: "وعورة المرأة في الصلاة كل بدنها إلى وجهها وكعبيها (1) ، وهي كلها عورة بالنسبة للرجال الأجانب، وبعضهم يقول: كلها إلا الوجه والكفين ما لم تخف الفتنة"(2) اهـ. وقال الشيخ محمد على الصابوني: "الأمر بالجلباب إنما جاء بعد أن استقر أمر الشريعة على وجوب "ستر العورة"، فلابد أن يكون الستر المأمور به هنا زائدَا على ما يجب من ستر العورة، ولهذا اتفقت عبارات
المفسرين- على اختلاف ألفاظها- على أن المراد بالجلباب: الرداء الذي تستر به المرأة جميع بدنها فوق الثياب،
…
وليس المراد ستر العورة كما
ظن بعض الناس" (3) اهـ.
فهذا القدر من النقول عن أهل العلم كاف لإثبات الفرق بين حدود العورة وحدود الحجاب.
وعليه فلا يصح ما أيَّد به البعض إباحته للسفور من إِجماع العلماء أو شبه إجماعهم على إِخراج الوجه والكفين من العورة، فتدبر ذاك، والله سبحانه يتولى هداك.
(1) كذا بالأصل، ولعل ما يقتضيه السياق:(إلا وجهها وكفيها) .
(2)
"التفسير الواضح "(18/ 66) .
(3)
"روائع البيان "(2/ 378) .
الدليل الثاني
آية الحجاب
وهي قوله تعالى مخاطبًا الصحابة رضي الله عنهم في شأن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)[الأحزاب: 53] .
هذه هي آية الحجاب، نزلت في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة، وهي نعم بإطلاقها حجاب جميع الأعضاء بما فيها الوجه والكفان، لا تستثني عضوًا من عضو.
وهذا المعنى هو الذي يشهد له عمل أمهات المؤمنين، ولم يختلف العلماء في تعيين هذا المعنى حتى نطيل الكلام في تحقيقه، وإنما يقول من يظن أن الوجه والكفين خارجان عن الحجاب:"إن هذه الآية مختصة بأمهات المؤمنين"، وهذه الناحية هي التي تقتضي البحث والتنقيب في هذه الآية. * قال شيخ المفسرين الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى:
(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) يقول: وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعًا (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) يقول: من وراء ستر بينكم وبينهن ولا تدخلوا عليهن بيوتهن (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) يقول تعالى ذكره:
سؤالكم إياهنَ المتاع إذا سألتموهن ذلك من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن من عوارض العين فيها، التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء، وفي صدور النساء من أمر الرجال، وأحرى من أن لا يكون
للشيطان عليكم وعليهن سبيل " (1) اهـ.
* وقال العلامة أبو بكر الجصاص الحنفي - رحمه الله تعالى -:
"قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) قد تضمن
حظْر رؤية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وَبَيَّن به أن ذلك أَطهر لقلوبهم وقلوبهن؛ لأن نظر بعضهم إلى بعض ربما حدث عنه الميلُ والشهوة، فقطع الله بالحجاب الذي أوجبه هذا السبب، قوله تعالى:(وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) يعني: بما بَيَّنَ في هذه الآية من إِيجاب الاستئذان، وترك الإطالة للحديث عنده، والحجاب بينه وبين نسائه، وهذا الحكم وإن نزل خاصًّا في النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، فالمعنى عام فيه وفي غيره، إذ كنا مأمورين باتباعه والاقتداء به، إلا ما خصه الله به دون أمته" (2) اهـ.
ولعله يشير إلى قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) الآية، وغيرها من الآيات العديدة في الأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
* وقا! ل الإمام القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المالكي:
"المسألة الثالثة عشرة- قوله: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) وفي المتاع أربعة أقوال: الأول: عارية، الثاني: حاجة، الثالث: فتوى، الرابع: صحف القرآن، وهذا يدل على أن الله أذن فى مساءلتهن
من وراء حجاب في حاجة تعرض أو مسألة يستفتى فيها، والمرأة كلها عورة، بدنها وصوتُها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة، كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يَعِنُّ، وَيَعْرِضُ
(1)"جامع البيان"(22/39) .
(2)
"أحكام القرآن"(3/369 – 370) .
عندها.
المسألة الرابعة عشرة - قوله: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)
المعنى: أن ذلك أنفى للرِّيبة، وأبعد للتهمة، وأقوى في الحماية، وهذا يدل
على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له، فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله، وأحصن لنفسه، وأتم لعصمته" اهـ (1) .
* وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المالكي- رحمه الله:
"واختلف في المتاع، فقيل:- ما يتمتع به من العواري (2) ، وقيل: فتوى، وقيل: صحف القرآن، والصواب أنه عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين، وسائر المرافق للدين والدنيا".
وقال أيضًا: في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض، أو مسألة يُستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنتة أصول الشريعة من أن المرأة
عورة، بدنُها وصوتُها، كما تقدم، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها، أو داءٍ يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعيَّن
عندها " (3) اهـ.
ومما يؤيد عموم آية الحجاب وأنها ليست خاصة بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن قوله تعالى بعدها: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)[الأحزاب: 55] .
(1)"أحكام القرآن"(3/578 – 579) .
(2)
العواري: جمع عارية، ما تداولوه بينهم.
(3)
الجامع لأحكام القرآن " (14/227) .
* قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله:
"لما أمر الله النساء بالحجاب عن الأجانب بَيَّن أن هؤلاء الأقارب لا
يجب الاحتجاب عنهم كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) الآية" (1) اهـ.
* وقال النسفي في تفسيره:
"لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: يا رسول الله أو نحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ "، فنزل:(لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ) أي: النساء المؤمنات (وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) أي: لا إِثم عليهن في أن لا يحتجبن من هؤلاء" (2) اهـ.
* وقال الشيخ إسماعيل حقي البروسوي رحمه الله:
(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا) الماعون وغيره (فَاسْأَلُوهُنَّ) أي: المتاع (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) من خلف ستر، ويقال خارج الباب (ذَلِكُمْ) أي سؤال المتاع من وراء الحجاب (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) أي: أكثر تطهيرًا من الخواطر النفسانية، والخيالات الشيطانية، فإن كل واحد من الرجل والمرأة إذا لم ير الآخر لم يقع في قلبه شيء.
قال في "كشف الأسرار": نقلهم عن مألوف العادة إلى معروف الشريعة ومفروض العبادة، وبيَّن أن البشر بشر، وإن كانوا من الصحابة وأزواج النبي عليه السلام، فلا يأمن أحد على نفسه من الرجال والنساء، ولهذا شدد الأمر في الشريعة بأن لا يخلو رجل بامرأة ليس بينهما محرمية، كما
(1)"تفسير القرآن العظيم"(3/ 504)
(2)
"مدارك التنزيل، وحقائق التأويل"
قال عليه السلام: "لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان "، وكان عمر رضي الله عنه يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة، وكان يذكره كثيرا، ويود أن ينزل فيه، وكان يقول:"لو أطاع فيكن ما رأتكن عين " اهـ.
وقال أيضُا: "وكانت النساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرجال (1) اهـ، يعني قوله تعالى (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا) الآية.
* وقال الإمام محمد بن على بن محمد الشوكاني- رحمه الله: "والإِشارة بقوله (ذَلِكُمْ) إلى سؤال المتاع من وراء حجاب، وقيل:
الإشارة إلى جميع ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع، والأول أولى، واسم الإِشارة مبتدأ، وخبره (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) أي أكثر تطهيرًا لها من الريبة، وخواطر السوء التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال.
وفي هذا أدب لكل مؤمن وتحذير له من أن يثق بنفسه في الخلوة مع من
لا تحلُّ له، والمكالمة من دون حجاب لمن تحرم عليه".
وفي تفسير قوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ) قال: (وَلَا نِسَائِهِنَّ) هذه الإضافة تقتضي أن يكون المراد بالنساء المؤمنات، لأن الكافرات غير مأمونات على العورات، والنساء كلهن عورة" اهـ (2) .
* وقال السيوطي- رحمه الله تعالى-:
(هذه آية الحجاب التي أمِر بها أمهات المؤمنين بعد أن كان النساء لا يحتجبن)(3) اهـ.
(1) "روح البيان، (7/ 215) .
(2)
"فتح القدير"(4/ 298) .
(3)
(الإكليل في استنباط التنزيل" (ص: 179) .
* وقال العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله تعالى -: "قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها
أن يقول بعض العلماء في الآية قولًا وتكون في نفس الآية قرينة تدل على
عدم صحة ذلك القول، وذكرنا له أمثلة في الترجمة، وأمثلة كثيرة في الكتاب لم تذكر في الترجمة، ومن أمثلته التي ذكرنا في الترجمة هذه الآية الكريمة فقد قلنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك:
ومن أمثلته قول كثير من الناس: إن آية الحجاب أعني قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإن تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين إن غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن، وقد تقرر في الأصول أن العلة قد تعم معلولها، وإليه أشار في مراقي السعود" بقوله:
وقد تخصصُ وقد تعمم
…
لأصلها لكنها لا تخرم
انتهى محل الغرض من كلامنا في الترجمة المذكورة – وبما ذكرنا تعلم أن
في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء لا خاصٌّ بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن،
لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه.
ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) هو علة قوله تعالى: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه، وضابط هذا المسلك المنطبق عن جزئياته: هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علةً لذلك الحكم، لكان الكلام معيبا عند العارفين، وَعَرف
صاحب "مراقي السعود" دلالة الإِيماء والتنبيه في مبحث دلالة الاقتضاء والإِشارة والإيماء والتنبيه بقوله:
دلالة والإيماء والتنبيهِ
…
في الفن تقصد لذى ذويهِ
أن يقرن الوصف بحكم إن يكن
…
لغير عله يَعِبْهُ من فَطِنْ
وعَرَّفَ أيضَا الِإيماء والتنبيه في مسالك العلة بقوله.
والثالث الإيما اقتران الوصفِ
…
بالحكم ملفوظين دون خلفِ
وذلك الوصف أو النظير
…
قِرانه لغيرها نصير
فقوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) لو لم يكن علة لقوله
تعالى: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) لكان الكلام معيبَا غير منتظم عند الفطن العارف.
وإذا علمت أن قوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) هو علة قوله: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) وعلمت أن حكم العلة عام، فاعلم أن
العلة قد تعمم معلولها، وقد تخصصه كما ذكرنا في بيت "مراقي السعود"، وبه تعلم أن حكم آية الحجاب عام لعموم علته، وإذا كان حكم هذه الآية عامَّا بدلالة القرينة القرآنية، فاعلم أن الحجاب واجب بدلالة القرآن على جميع النساء (1) اهـ.
خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة
ودلالة ذلك على عموم حكم الجلباب
* قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى:
وعن الأدلة على أن حكم آية الحجاب عام، هو ما تقرر في الأصول من
أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة، ولا يختص الحكم بذلك
(1)"أضواء البيان"(6/ 584) .
الواحد المخاطَب؛ لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحدٍ من أمته يعم حكمه جميع الأمة، لاستوائهم في أحكام التكليف، إلا بدليل خاص يجب الرجوع
إليه، وخلافُ أهلِ الأصول في خطاب الواحد هل هو من صيغ العموم الدالة على عموم الحكم؟ خلاف في حال، لا خلاف حقيقي، فخطاب
الواحد عند الحنابلة صيغة عموم، وعند غيرهم من المالكية والشافعية وغيرهم، أن خطاب الواحد لا يعم؛ لأن اللفظ الواحد لا يشمل بالوضع غيره، وإذا كان لا يشمله وضعًا، فلا يكون صيغة عموم، ولكن أهل هذا القول موافقون على أن حكم خطاب الواحد عام لغيره، ولكن
بدليل آخر غير خطاب الواحد وذلك الدليل بالنص والقياس.
أما القياس- فظاهر، لأن قياس غير ذلك المخاطب عليه بجامع استواء المخاطبين في أحكام التكليف من القياس الجلي- والنص كقوله صلى الله عليه وسلم:"إني لا أُصَافحُ النسَاءِ، وما قَولي لامرأةٍ واحدة إلا كقَولي لمائةِ امرأة".
وأشار إلى ذلك في "مراقي السعود" بقوله:
خطابُ واحدٍ لغير الحنبلِ
…
من غير رَعي النصِ والقيسِ الجلي
وبهذه القاعدة الأصولية (1) التي ذكرنا تعلم أن حكم آية الحجاب عام، وإن كان لفظها خاصّا بأزواجه صلى الله عليه وسلم، لأن قوله لامرأة واحدة من أزواجه أو من غيرهن كقوله لمائة امرأة كما رأيت إيضاحه قريبًا (2) اهـ.
وقال الشنقيطي رحمه الله أيضا: وإذا علمت بما ذكرنا أن حكم آية الحجاب عام، وأن ما ذكرنا معها من الآيات فيه الدلالة عل احتجاب
جميع بدن المرأة عن الرجال الأجانب علمت أن القرآن دل على الحجاب. ولو فرضنا أن آية الحجاب خاصة بأزواجه صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنهن خير
(1) وممن صحح هذه القاعدة العلامة الألباني، ونقل عن بعض المحققين ما يؤيد أنها الحق، ويلزم من ذلك تعميم آية الحجاب خلافا لمذهبه، انظر "تمام المنة في التعليق على فقه السنة" ص 41-42.
(2)
أضواء البيان، (6/589 - 581) بتصرف
أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامة وعدم التدنس بأنجاس الريبة، فمن يحاول منع نساء المسلمين- كالدعاة للسفور
والتبرج والاختلاط اليوم- من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة غاشٌّ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مريضُ القلب كما ترى (1) اهـ.
* وقال الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية السابق في تفسيره:
(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ) إذا طلبتم من نسائه صلى الله عليه وسلم (مَتَاعًا) شيئًا يُتمتع به الماعون ونحوه، ومثله العلم والفتيا (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) أي سِتر بينكم وبينهن (ذَلِكُمْ) أي السؤال من وراء حجاب (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) من الريب وخواطر السوء، وكان نزول آية الحجاب في شهر ذي القعدة من السنةَ الخامسة من الهجرة، وحكم نساء المؤمنين في ذلك
حكم نسائه صلى الله عليه وسلم (2) اهـ.
* وقال الأستاذ محمد أديب كلكل:
"ومن الأدلة على وجوب ستر الوجه واليدين من المرأة قوله سبحانه وتعالى حيث أمرنا إذا سألنا النساء متاعًا أن نطلبه من وراء حجاب، فقال سبحانه: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) فلو لم يكن ستر الوجه أمرًا مطلوبَا لم يكن لطلب الحاجة من وراء حجاب أي معنى، وقد قرر الله عز وجل أن الحجاب أطهر لقلوب الجميع، فلا يقل أحد غير ما قال الله عز وجل ".
إلى أن قال: "فإن قال قائل: إن هذه الآية خاصة بأمهات المؤمنين وقد
(1)"السابق"(6/ 592) .
(2)
"صفوة البيان لمعاني القرآن"(2/190) .
نزلت بحقهن، قلت: إنها وإن كانت خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم من جهة السبب، فهي عامة من جهة الأحكام، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأكثر آيات القرآن ذوات أسباب في نزولها بلا خلاف
بين العلماء، فإذا حصرنا أحكامها ضمن دائرة أسبابها فما هو حظنا منها إذن؟ وبذلك نكون قد عطلنا آيات الله، وأبطلنا أحكامها جملة وتفصيلًا، وهل أنزل القرآن ليطبق في عصر دون عصر وفي زمن دون أزمان؟
فادعاء أنها خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم إضافة إلى ما ذكرته لا ينهض حجة
لأن الاستثناء في آية (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ) عام، وهو فرع من الأصل وهو الحجاب، فدعوى تخصيص الأصل يستلزم تخصيص الفرع، وهو غير مسلم لما علم تعميمه، فهل يقال لامرأة أباح الله لها أن تظهر على أبيها وابنها وأخيها: إن الله لم يوجب عليك التحجب عن غيرهم؟! فقصر الله عز وجل ظهور المرأة على محارمها فقط بقوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ
…
) الآية، أما غيرهم من الأجانب فإنه يجب عليها الاحتجاب عنهم بداهة بمقتضى مفهوم الآية" (1) اهـ.
* يقول الشيخ سعيد الجابي رحمه الله في كتابه "كشف النقاب":
"فقوله عز وجل: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) يدفع هذا- أي دعوى التخصيص - لأنه قد أشير إليه بغير ما يدعيه أهل التخصيص من أن الحجاب لأجل تميزهن عن غيرهن، ورفعهن على من سواهن، بل بيَّن سبحانه أن الباعث للحجاب هو تطهير قلوب الفريقين، وإذا كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم المطهراتُ من السفاح، المحرماتُ علينا بالنكاح، الموصوفات بأنهن أمهات المؤمنين قد أمرن بالحجاب طهارة لقلوبهن وقلوب أبنائهن المحرم عليهم نكاحُهن، فما نقول في غيرهن المحللات لنا بالنكاح، المتطلع
(1)"فقه النظر في الإسلام"(ص: 40- 43) .
لهن أهل السفاح، هل يجوز لهن أن يكن سافرات غير منتقبات! وبارزات غير محجبات.؟!
ومما يدفع دعوى الاختصاص: قول العربي العالم بلغته أكثر منا على
أثر نزول آية الحجاب: "نهينا أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب،
لئن مات محمد لأتزوجن فلانة، فنزل:(وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) .
ومما يدفع دعوى الاختصاص: إشراك الله عز وجل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ونساء المؤمنين في حكم واحد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) فبطلت دعوى التخصيص.
وإذا كان الأمر كذلك، فكل ما ثبت لنسائه عليه السلام ثبت لغيرهن،
وكل ما ثبت لغيرهن ثبت لهن، ولقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم أن الأمر يقتضي العموم، وأن سياق الآية يفيده ويقتضيه" (1) اهـ.
*وقال الأستاذ محمد أديب كلكل:
"وأما قوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) إنما يعني توجيههن وتربيتهن توجيهَا ساميًا، وتربية عالية بأنهن لسن كأحد من النساء في المكانة والمنزلة والرفعة والحرمة، إنه أسلوب في التربية لا يختلف عن قولك لولدِ نجيب مثلا: "يا بني لست كأحد من عامة الأولاد حتى تطوف في الشوارع، وتأتي بما لا يليق من الحركات، فعليك بالأدب واللياقة"، فقولك هذا لا يعني أن سائر الأولاد يُحْمَدُ فيهم طواف الشوارع، وإتيان الحركات السيئة، ولا يطلب منهم الأدب واللياقة، بل المراد بمثل قولك هذا تحديد معيار لمحاسن الأخلاق وفضائلها، كي يتطلع
(1) السابق.
ويصبو إليها كل ولد يريد أن يعيش كنجباء الأولاد فيسعى في بلوغها
والحصول عليها، إن القرآن قد اختار هذا الأسلوب وهذه الطريقة في مخاطبة نساء النبي صلى الله عليه وسلم لضبطهن بضابطة على وجه خاص حتى يكن أسوة لسائر النساء، وتتبع طريقتهن وعاداتهن في بيوت عامة المسلمين.
فقوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)) إنها وصايا ربانية وأوامر إلهية، فأي منها لا يتصل بعامة النساء المسلمات؟ وهل النساء المسلمات لا يجب عليهن أن يتقين الله تعالى، أو قد أبيح لهن أن يخضعن بالقول، ويكلمن الرجال كلاما يغريهم ويشوقهم؟ أو يجوز لهن أن يتبرجن تبرج الجاهلية؟ ثم هل ينبغي لهن أن يتركن الصلاة ويمنعن الزكاة، ويعرضن عن طاعة الله ورسوله؟ وهل يريد الله أن يتركهن في الرجس؟
فإذا كانت هذه الأوامر والإِرشادات عامة لجميع المسلمات فما المبرر لتخصيص ما ورد في سياق مخاطبة أمهات المؤمنين من قرار في البيوت وملازمة للحجاب، وعدم مخالطة الأجانب بهن خاصة؟ إن التوجيه الرباني، والتربية الإِلهية لكل النساء عامة بشخص أمهات المؤمنين من باب
"إياك أعني، واسمعي يا جارة"(1) اهـ.
* وقال الشيخ وهبي سليمان غاوجي الألباني:
"للحجاب الشرعي المأمور به ثلاث درجات بعضها فوق بعض في الاحتجاب والاستتار، دل عليها الكتاب والسنة، الأولى: حجاب
(1) السابق.
الأشخاص في البيوت بالجدر والخدر وأمثالها بحيث لا يرى الرجال شيئا من أشخاصهن ولا لباسهن ولا زينتهن الظاهرة ولا الباطنة، ولا شيئا من جسدهن من الوجه والكفين وسائر البدن.
وقد أمر الله تعالى بهذه الدرجة من الحجاب فقال: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) إذ إن هذا يدل على أن سؤال أي شيء منهن يكون من خلف ستر يستر الرجال عن النساء والنساء عن الرجال، وما ذكر من سبب نزول الآية يقرر هذا الأمر ويؤكده، وأمر بها في قوله تعالى:(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) .
قال محمد بن سيرين: نُبِّئْتُ أنه قيل لسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: مالك لا تحجين ولا تعتمرين كما تفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت، واعتمرت، وأمرني الله تعالى أن أقرَّ في بيتي، فو الله لا أخرج من بيتي حتى أموت، قال: فوالله ما خرجت من باب حجرتها، حتى خرجت جنازتها، وهذا الحكم عام قد استثنى منه الخروج للحاجة، قال صلى الله عليه وسلم:"أُذِنَ لكن في الخروج لحاجتكن" رواه البخاري، ويرشح هذه الدرجةَ أحاديثُ تحبب إلى المرأة القرار في البيت، وعدم الخروج حتى إلى صلاة الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قرارها في بيتها أرجى لها في الأجر عند الله تعالى" (1) . اهـ
* وقال الشيخ أبو هشام عبد الله الأنصاري:
"إن الأمر بالحجاب في هذه الآية لا يختص بأمهات المؤمنين، وإن كان ضمير النسوة يرجع إليهن لأجل أنهن هن المذكورات في السياق؛ ولأنهن الأسوة والقدوة لنساء المسلمين في جميع نواحي الحياة، ومعلوم أن التخصيص بالذكر لا يوجب التخصيص بالحكم، والدليل على عدم الاختصاص من وجوه:
(1)"المرأة المسلمة"(ص: 197- 198) .
الأول: تقرر في أصول الشريعة أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة حتى يرد دليل على التخصيص، وليس! هناك أي دليل على تخصيص حكم الحجاب بأمهات المؤمنين، كما ستعرف.
الثاني: أن سياق الآية هو العموم،- وإن كان المورد خاصا- فقوله تعالى:(لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) ليس معناه أنهم يدخلون بيوت غير النبي من غير أن يؤذن لهم، ثم قوله، (إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) إلى قوله:(وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) ليس معناه أنهم لا يتأدبون بهذه الآداب، ولا يراعونها إلا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان سياق الآية هو العموم، وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر إنما لأجل أن ما عرض له هو المورد والسبب في نزولها، ولأجل أنه هو القدوة للمسلمين، فكيف يسوغ لنا أن نتحرر عن جزء من آداب هذه الآية قائلين إنه مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه؟!
الثالث: أن الله تعالى بين حكمة الحجاب وعلته فقال: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) ، وهذه العلة عامة إذ ليس أحد من المسلمين يقول إن غير أزواج النبي لا حاجة إلى تزكية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن، وعموم علة الحجاب وحكمته دليل على عموم حكم الحجاب لجميع نساء المسلمين.
الرابع: دليل الأولوية! وهو أن أمهات المؤمنين كن أطهر نساء الدنيا قلوبا، وأعظمهن قدرا في قلوب المؤمنين، ومع ذلك أمرن بالحجاب طلبًا لتزكية قلوب الطرفين؛ فغيرهن من النساء أولى بهذا الأمر.
الخامس: أن آية إدناء الجلباب تتمة وتفسير لآية الحجاب، وتلك عامة لنساء المؤمنين نصًّا، فلابد وأن تكون آية الحجاب كذلك.
السادس: أن نساء المسلمين التزمن بالحجاب كما التزمت أمهات
المؤمنين" اهـ.
إلى أن قال فضيلته:
"هذا؛ وإنك لو تصفحت نصوص العلماء لا تكاد تجد أحدًا يقول بتخصيص الحجاب بأمهات المؤمنين، والحجاب الذي جعله من جعله خاصًّا بهن هو قدر زائد على الحجاب المعروف الذي نحن في بحثه، ويتضح ذلك بالتأمل في نصوصهم.
قال القاضي عياض: "فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة، ولا في غيرها، ولا يجوز لهن إظهار شخوصهن- وإن كن مستترات- إلا ما دعت إليه الضرورة من الخروج للبراز. . وقد كن إذا قعدن للناس جلسن من وراء الحجاب، وإذا خرجن حجبن وسترن أشخاصهن كما جاء في حديث حفصة يوم وفاة عمر، ولما توفيت زينب جعلوا لها قبة فوق نعشها تستر شخصها". انتهى، انظر:"صحيح مسلم مع شرحه للنووي "(2/ 215) ؛ "فتح الباري"(8/ 530) .
فالذي يراه القاضي مختصًّا بهن هو عدم جواز كشف الوجه والكفين لهن مهما اشتدت الحاجة إلى ذلك، وعدم إبراز شخوصهن وإن كن مستترات، وأصرح من كلام القاضي ما قاله من المفسرين البغوي وغيره.
فال البغوي: "فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم منتقبة كانت أو غير منتقبة"(انظر: "تفسير البغوي" على هامش "الخازن" (5/ 224) .
ومعلوم أن اختصاص هذا القدر الزائد على الحجاب بأمهات المؤمنين
لا ينافي عموم الحجاب لعامة النساء (1) ، على أن المحققين رَدُّوا على القاضي
(1) قال الشيخ شمس الدين الرملي الشهير بالشافعي الصغيرَ رحمه الله في كتابه "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج":
(وما نقله الإمام من الاتفاق على منع النساء - أي منع الولاة لهن يعني من =
عياض ما ادعاه، وأثبتوا أن هذا الاشتداد في الحجاب لم يقع رأسًا (1) اهـ.
= الخروج سافرات- معار ض لما حكاه القاضي عياض عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها، وإنما ذلك سنة، وعلى الرجال غض البصر عنهن للآية، وحكاه المصنف- أي النووي عليه الرحمة- في شرح مسلم، وأقره عليه.
ودعوى بعضهم عدم التعارض في ذلك، "إذ منعهن من ذلك ليس لكون الستر
واجبا عليهن في ذاته، بل لأن فيه مصلحة عامة، وفي تركه إخلال بالمروءة"
مردودة، إذ ظاهر كلامهما أن الستر واجب لذاته، فلا يتأتى هذا الجمع، وكلام القاضي ضعيف، وحيث قيل بالجواز كُرِه، وقيل: خلاف الأولى، وحيث قيل بالتحريم- وهو الراجح- حرم النظر إلى المنقبة التي لا يبين منها غير عينيها ومحاجرها، كما بحثه الأذرعي، ولا سيما إذا كانت جميلة، فكم في المحاجر من خناجر) اهـ (6/ 187) .
مع أن الحافظ ابن حجر رحمه الله نقل عن القاضي عياض ما يشعر بأنه يستدل بآية الإدناء على حجاب جميع البدن، قال الحافظ رحمه الله في شرح حديث
الخثعمية: (وفي الحديث منع النظر إلى الأجنبيات وغض البصر، قال عياض:
"وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة"، قال:"وعندي أن فعله إذ غطى وجه الفضل أبلغ من القول" ثم قال: "ولعل الفضل لم ينظر نظرَا يُنكَر، بل خشي عليه أن يئول إلى ذلك، أو كان قبل نزول الأمر بإدناء الجلابيب" اهـ من
"الفتح"(11/12) ، ولا شك أن هذا الاحتمال الأخير ضعيف، لأن حجة الوادع التي وقعت فيها تلك القصة كانت في السنة العاشرة من الهجرة، وآيات الحجاب نزلت قبل ذلك في السنة الخامسة من الهجرة، والله أعلم.
(1)
قال الحافظ رحمه الله تعالى: (وفي الحديث من الفوائد: مشروعية الحجاب لأمهات المؤمنين، قال عياض:"فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا في غيرها، ولا إظهار شخوصهن- وإن كن مستترات- إلا ما دعت إليه الضرورة من براز"، ثم استدل بما في "الموطأ" أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يُرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها" انتهى، وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن،
وقد كنَّ بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن، ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون =
* وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف حفظه الله:
"لم يرد في آية "النور" وآية "الحجاب" أي تخصيص لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم
بما قضت به من الأحكام، فهي أحكام عامة للمسلمات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وإن من الزعم الباطل أن يقال: إن آية الحجاب
خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن ما ورد عن الأحكام على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب التستر ومنع ما يدعو إلى الفتنة وصيانة المرأة المسلمة من بذل زينتها وشرفها وكرامتها للرجال الأجانب عنها، عام لكل مسلمة إلى يوم القيامة، وأما مسارعة أمهات المؤمنين إلى العمل بالشرائع الدينية، فهذا لا يدل على أنه خاص بهن، لأنهن القدوة الحسنة لكل مسلمة إلى يوم القيامة، وأثر الفعل في الاقتداء وامتثال الأحكام أعظم من القول فقط،
وهذا ملموس.
ومثله ما وقع في عمرة الحديبية فيما ثبت في رواية البخاري قال: "لما تم صلح الحديبية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقال: "قوموا، فانحروا، ثم احلقوا"، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت
أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى
= منهن الحديث، وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء لما ذكر له طواف عائشة:"أقبل الحجاب أو بعده؟ " قال: "قد أدركت ذلك بعد الحجاب" اهـ. وقال الحافظ أيضا: (والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه النفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي، حتى صرح بقوله
عليه الصلاة والسلام: "أحجب نساءك"، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب، ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلًا، ولو كن مستترات فبالغ ذلك، فمنع منه، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن دفعا للمشقة، ورفعًا للحرج، اهـ من "فتح الباري"(8/ 391) ، وانظر نص الحديث المشار إليه في "الفتح"(8/ 388) رقم (4895) .
تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلق، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّا" اهـ.
فمثل هذه القصة فيها امتثال للأمر، واقتداء بالقدوة الحسنة، لأن الأمر الذي يلازمه فعل يكون كذلك، فهو أقوى في مسارعة المسلم للأخذ به من الأمر وحده، وهكذا كان حال النساء المسلمات في زمن التنزيل لما نزل أمر الله بالحجاب، كانت أول من سارع للأخذ به أمهات المؤمنين ليقوى به جانبا الأخذ بالتشريع لظهورهن أمام سائر المسلمين بصورة ما أراده الله تعالى من المؤمنات في تنزيله عز وجل" (1) اهـ.
* وقال الشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي رحمه الله بعد أن ذكر آيتي سورة الأحزاب (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) الآية، (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) الآية:
"فإن قيل: الآيتان الأخيرتان سياقهما وظاهرهما الخصوص بأزواج
النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: كلا، بل الأصل في كل شريعة وآية أنه يدخل تحتها كل فرد من الأمة ما لم يخرجه دليل، ولا دليل على اختصاصهن بذلك، إذ كل مؤمنة منهية عن الخضوع بالقول للرجال، والتبرج الجاهلي بإبداء زينتها، كما أمرت بالقرار في البيت، وترك الخروج منه إلا لمصلحة، وكذا كل مؤمن مأمور بحسن الأدب مع المؤمنات إذا سألهن حاجة أو متاعَا أن يكون من وراء حجاب، وأن لا يخرق عليها الحجاب، ولا يأمرها بتركه، ولا يقرها على معصية إذا ائتمرت لأمره، فإذا خالفت فلا إثم على من سألها من المتقين، وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد أُذنَ لَكُنَ أن
تخرجن لحوائجكن" رواه البخاري"(2) اهـ.
(1)"نظرات في كتاب حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص: 92 – 93) .
(2)
"تيسير الوحيين"(1/ 144- 145) .
* وقال الشيخ أبو بكر الجزائري- حفظه الله -:
(فهذه الآية الكريمة تعرف بآية الحجاب، إذ هي أول آية نزلت في شأنه،
وعلى أثرها حَجَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، وحجب المؤمنون نساءهم، وهي نص في فرض الحجاب، إذ قوله تعالى:(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) قطعي الدلالة في ذلك، ومن عجيب القول أن يقال إن هذه الآية نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم فهي خاصة بهن دون باقي نساء المؤمنين، إذ لو كان الأمر كما قيل لما حجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم، ولما كان لإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للخاطب أن ينظر لمن يخطبها معنى أبدا.
وفوق ذلك أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم جعلهن الله تعالى أمهات المؤمنين، إذ قال الله تعالى:(وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) ، فنكاحهن محرم على التأبيد كنكاح الأمهات، فأي معنى إذا لحجبهن وحجابهن إذا كان الحكم مقصورًا عليهن، ومن هنا كان الحكم عاما يشمل كل مؤمنة إلى يوم القيامة، وكان من باب قياس الأولى، فتحريم الله تعالى التأفيف للوالدين يدل على تحريم ضربهما من باب أولى، وهذا الذي دلت عليه نصوص الشريعة، وعمل به المسلمون) (1) اهـ.
تنبيه
لم يتعرض فضيلة الشيخ ناصر الدين الألباني لمناقشة استدلال هذه الكثرة من العلماء بآية "الحجاب" في كتابه "حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة" وكأنه- رحمه الله ذهب إلى تخصيص الوجوب بأمهات المؤمنين، وعدم تعميم الحكم على سائر المسلمات، مع أن هذا "العموم" لازم من كلامه- رحمه الله، فقد أستشهد بحديث أم عطية رضي الله عنها
(1)"فصل الخطاب في المرأة والحجاب"(ص: 34- 35) .
لإثبات أن الأمر بإخراج النساء إلى صلاة العيد إنما وقع بعد نزول الحجاب، ونص الحديث المشار إليه:
"لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة (1) جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلم عليهن، فرددن السلام، فقال: "أنا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكن"، فقلن: مرحبًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرسوله، فقال: "تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئًا، ولا تسرقن، ولا تزنين، ولا. تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصين في معروف؟ " فقلن:"نعم"، فمد عمر يده من خارج الباب، ومددن أيديهن من داخل، ثم قال:"اللهم اشهد"، وأمرنا (وفي رواية: فأمرنا) أن نخرج في العيدين العتق والحيض، ونهينا عن اتباع الجنائز، ولا جمعة علينا، فسألته عن البهتان، وعن قوله:(وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) ؟ قال: هي النياحة" (2)
…
ثم قال الشيخ: ووجه الاستشهاد به إنما يتبين إذا تذكرنا أن آية بيعة النساء (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا. . .) إنما نزلت يوم الفتح كما قال مقاتل (الدر 6/ 209) ، ونزلت بعد آية
الامتحان كما أخرجه ابن مردويه عن جابر (الدر 6/ 211) ، وفي البخاري عن المسور أن آية الامتحان نزلت في يوم الحديبية، وكان ذلك سنة ست على الصحيح كما قال ابن القيم في "الزاد"، وآية الحجاب إنما نزلت سنة ثلاث وقيل: خمس حين بنى صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، كما في ترجمتها في "الإصابة".
(1) تعني من الحديبية وليس قدومه مهاجرا منه مكة كما قد يتبادر إلى الذهن- أفاده الشيخ في حاشية. ص: 26.
(2)
أخرجه أحمد في "المسند"(6/ 408- 409) ، والبيهقي (3/184) ، والضياء المقدسي في "المختارة"(1/104- 105/1)، وحسن إسناده الذهبي في "مختصر البيهقي" (133/ 1) ] اهـ. من هامش "حجاب المرأة المسلمة" ص: 26 مختصرا.
فثبت من ذلك أن أمر النساء بالخروج إلى العيد إنما كان بعد فرض
الحجاب، ويؤيده أن في حديث عمر أنه لم يدخل على النساء، وإنما بايعهن من وراء الباب، وفي هذه القصة أبلغهن أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بأن يخرجن للعيد، وكان ذلك في السنة السادسة عقب رجوعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، بعد نزول آية الامتحان والبيعة كما تقدم" (1) اهـ.
والشاهد منه قول الشيخ رحمه الله: "بعد فرض الحجاب" مشيرًا إلى آية الحجاب (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا) الآية، ثم دعم كلامه بقوله:"ويؤيده أن في حديث عمر أنه لم يدخل على النساء، وإنما بايعهن من وراء الباب" فيلزم من هذا أن الشيخ يستدل بعموم آية الحجاب في حق سائر النساء، والله أعلم.
* * *
(9)"حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص 25- 26) .
الدليل الثالث
(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)) [الأحزاب: 32، 33] .
ومحل الشاهد منه قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)
* قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري- رحمه الله تعالى-:
"قيل إن التبرج في هذا الوضع التبختر والتكسر".
ثم روى بسنده عن قتادة قال: "أي إذا خرجتن من بيوتكن؛ قال: كانت لهن مشية وتكسر وتغنج، يعني بذلك الجاهلية الأولى، فنهاهن الله عن ذلك.
حدثني يعقوب، قال ثنا ابن علية، قال: سمعت ابن أبي نُجيح، يقول في قوله تعالى:(وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) قال: التبختر، وقيل: إن التبرج هو إظهار الزينة، وإبراز المرأة محاسنها للرجال " (1) .
* وقال الإمام أبو بكر الجصاص رحمه الله تعالى:
وقوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) روى هشام عن محمد بن سيرين قال: قيل لسودة بنت زمعة: ألا تخرجين كما تخرج أخواتك؟ قالت: والله لقد حججت واعتمرت ثم أمرني الله أن أقر في بيتي، فوالله لا أخرج، خرجت حتى أخرجوا جنازتها.
(1)"تفسير الطبري"(22/4) .
وقيل: إن معنى (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) كن أهل وقار وهدوء وسكينة، يقال: وقر فلان في منزله يقر وقورًا إذا هدأ فيه واطمأن به، وفيه الدلالة على أن النساء مأمورات بلزوم البيوت منهيات عن الخروج.
وقوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) روى ابن أبي نجيح عن مجاهد (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) قال: كانت المرأة تتمشى بينِ أيدي القوم، فذلك تبرج الجاهلية، وقال سعيد عن قتادة (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) يعني إذا خرجتن من بيوتكن، قال: كانت لهن مشية وتكسر وتغنج فنهاهن الله عن ذلك، وقيل: هو إظهار المحاسن للرجال، وقيل: في الجاهلية الأولى ما قبل الإِسلام، والجاهلية الثانية حال من عمل في الإسلام بعمل أولئك.
فهذه الأمور كلها مما أدب الله تعالى به نساء النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لهن،
وسائر النساء المؤمنين مرادات بها (1) اهـ.
* وقال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله:
"قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) يعني اسكنَّ فيها، ولا تتحركن، ولا تبرحن منها، حتى إنه رُوي- ولم يصح (2) - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف من حجة الوداع قال لأزواجه: "هذه، ثم ظهور الحصر"؛ إشارة إلى ما يلزم المرأة من لزوم بيتها، والانكفاف عن الخروج منه، إلا لضرورة.
وقد دخلت نَيّفًا على ألف قرية من برية، فما رأيت نساءٌ أصون عيالًا،
ولا أعف نساء من نساء نابلس التي رُمِي فيها الخليل عليه السلام بالنار، فإني أقمت فيها أشهرًا، فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة، فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن، فإذا قُضيت الصلاة، وانقلبن
(1)"أحكام القرآن"(3/359 - 360) .
(2)
ولكن صححه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(4/88)، وانظر:"صحيح الجامع الصغير"(6/ 77) حديث رقم (6885) .
إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدةٍ منهن إلى الجمعة الأخرى، وسائر القرى تُرى نساؤها متبرجات بزينة وعُطلة، متفرقات في كل فتنة وعُضْلة، وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهن حتى استشْهِدْنَ فيه" (1) اهـ.
* وقال الإمام أبو عبد الله القرطبي- رحمه الله:
معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم
فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة، على ما تقدم في غير موضع، فأمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن، وخاطبهن بذلك تشريفا لهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلم أنه فعل الجاهلية الأولى (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)(2) " اهـ.
وقال ابن عطية رحمه الله: "والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها، فأمِرْن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهى ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة؛ لأنهم كانوا لا غيرَة عندهم، وكان أمر النساء دون حجاب، وجعلها أولى بالنسبة إلى ما كن عليه، وليس المعنى أن ثَمَّ جاهلية أخرى (3) ، وقد أوقع اسم الجاهلية على تلك المدة قبل الإِسلام، فقالوا: جاهلي في الشعراء، وقال ابن عباس في البخاري: سمعت أبي في الجاهلية يقول"(4) إلي غير هذا" (4) اهـ.
(1)"أحكام القرآن"(3/ 1535 - 1537) .
(2)
"الجامع لأحكام القرآن"(14 / 179- 180) .
(3)
انظر نقد العلامة الألباني لمصطلح "جاهلية القرن العشرين" في "حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه" تصنيف الأستاذ محمد إبراهيم الشيباني (1/ 391- 394) .
(4)
"الجامع لأحكام القرآن (14/ 180) .
قال القرطبي معلقَا: قلت: وهذا قول حسن، ويُعْترضُ بأن العرب كانت أهل قشف وضنك في الغالب، وأن التنعم وإظهار الزينة إنما جرى في الأزمان السابقة، وهي المراد بالجاهلية الأولى، وأن المقصود من الآية مخالفة من قبلهن من المِشية على تغنيج وتكسير وإظهارِ المحاسن للرجال، إلى غير ذلك مما لا بجوز شرعَا، وذلك يشمل الأقوال كلَها ويعمُّها فيلزمن البيوت، فإن مست الحاجة إلى الخروج فليكن على تبذل وتستر تام، والله الموفق" (1) اهـ.
وقال القرطبي أيضا.
"لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإِماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إِليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن"(2) اهـ.
* قال الإمام أبو حيان:
"كان دأب الجاهلية أن تخرج الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار".
وقال أيضا: "الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه"
ونقل أبو حيان أيضَا عن الليث أنه قال: (تبرجت المرأة: أبدت محاسنها من وجهها وجسدها) . اهـ.
ونقل عن مقاتل في تفسير التبرج: (تلف الخمار على وجهها، ولا تشده)(3) . اهـ.
ونقل الحافظ في "الفتح" عن الفراء قوله: (كانوا في الجاهلية تسدل
(1)"الجامع لأحكام القرآن"(14/180)
(2)
"السابق"(14/ 243)
(3)
"البحر المحيط"(7/ 230)
المرأة خمارها من ورائها، وتكشف ما قدامها، فأمِرْنَ بالاستتار) (1) اهـ.
وقال الإمام أبو حيان أيضَا:
"وكان نساء العرب يكشفن وجوههن كما تفعل الإِماء، وكان ذلك داعيا إلى نظر الرجال لهن، فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليسترن بذلك وجوههن، ويفهم الفرق بين الحرائر والإِماء"(2) اهـ.
* وقد ذكر العلامة محمد أنور الكشميري الديوبندي رحمه الله تعالى الآيات التي لها تعلق بأنواع الحجب المأمور بها فقال:
"ومنها: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ
…
) إلخ، والخطاب فيها- وإن كان خاصّا- إلا أن الحكم عام، ثم الخروج عند الحوائج ليس من تبرج الجاهلية الأولى في شيء، إنما تبرجهن أن يخرجن كالرجال بالوقاحة، وعدم تستر" (3) اهـ.
ونقل عن الحافظ تقسيمه الحجاب بأن منه ما يكون بإدناء النقاب عند الخروج، واسمه حجاب الوجوه، والثاني اسمه حجاب الأشخاص) (4)
يعني: القرار في البيوت، والله أعلم.
* وقال الشيخ إسماعيل حقي البروسوي:
" (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ
…
) والمعنى: الزمن يا نساء النبي بيوتكن، واثبتن
في مساكنكن، والخطاب- وإن كان لنساء النبي- فقد دخل فيه غيرهن" (5) اهـ.
(1)"فتح الباري"(8/347) .
(2)
"البحر المحيط"(7/ 250) .
(3)
، (4)"فيض الباري"(1/ 254) .
(5)
"روح المعاني"(7/170) .
" وقال الراغب الأصفهاني:
"ثوب مُبرَّج صُوّرتْ عليه بروج، فاعتبر حُسْنُهُ، فقيل: تبرجت المرأة، أي تشبهت به في إظهار المحاسن، وقيل: ظهرت من برجها أي قصرها، ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) وقوله تعالى: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ) ، والبرج سعة العين وحسنها تشبيهَا بالبرج في الأمرين"(1) اهـ.
* وقال الشوكاني رحمه الله:
ويمكن أن يراد بالجاهلية الأخرى ما يقع في الإِسلام من التشبه بأهل الجاهلية بقول أو فعل، فيكون المعنى: ولا تبرجن أيها المسلمات بعد إِسلامكن تبرجًا مثل تبرج أهل الجاهلية التي كنتن عليها، وكان عليها من قبلكن، أي: لا تحدثن بأفعالكن وأقوالكن جاهلية تشبه الجاهلية التي كانت من قبل" (2) اهـ.
* وقال الألوسي رحمه الله:
"والمراد على جميع القراءات أمرهن رضي الله تعالى عنهن بملازمة البيوت وهو أمر مطلوب من سائر النساء، أخرج الترمذي والبزار عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المرأة عورة، فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها".
وأخرج البزار عن أنس قال: جئن النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن: يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى فهل لنا عمل ندرك به فضل المجاهدين في سبيل الله تعالى؟ فقال عليه الصلاة والسلام:
"من قعدت منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى"
(1)"المفردات"(ص: 54) .
(2)
"فتح القدير"(4/ 278) .
وقد يحرم عليهن الخروج بل قد يكون كبيرة كخروجهن لزيارة القبور إذا عظمت مفسدته، وخروجهن ولو إلى المسجد وقد استعطرن وتزين إذا تحققت الفتنة، أما إذا ظنت فهو حرام غير كبيرة، وما يجوز من الخروج كالخروج للحج وزيارة الوالدين وعيادة المريض، وتعزية الأموات من الأقارب ونحو ذلك، فإنما يجوز بشروط مذكورة في محلها" (1) اهـ.
* وقال الشيخ أحمد مصطفى المراغي- رحمه الله:
" (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) أي: الزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة، وهو أمر لهن ولسائر النساء"(2) اهـ.
* وقال المودودي رحمه الله:
"إن مقام المرأة ومستقرها هو البيت، وما وضعت عنهن واجبات خارج البيت إلا ليلازمن البيوت بالسكينة والوقار ويقمن بواجبات الحياة العائلية، أما إن كان بهن حاجة إلى الخروج فيجوز لهن أن يخرجن من البيوت بشرط أن يراعين جانب العفة والحياء، فلا يكون في لباسهن بريق أو زخرفة أو جاذبية تجذب إليهن الأنظار، ولا في نفوسهن من حرص على إظهار زينتهن، فيكشفن تارة عن وجوههن، وأخرى عن أيديهن، ولا في مشيتهن شيء يستهوي القلوب، ولا يلبسن كذلك من الحلي ما يحلو وسواسه في المسامع ولا يرفعن أصواتهن بقصد أن يسمعها الناس، نعم يجوز لهن التكلم في حاجتهن، ولكنه يحب أن لا يكون في كلامهن لين وخضوع ولا في لهجتهن عذوبة وتشويق، كل هذه الضوابط والحدود - إن راعتها النساء - جاز لهن أن يخرجن لحوائجهن"(3) اهـ.
(1)"روح المعاني"(22/ 6) .
(2)
(تقسير المراغي" (22/ 6) .
(3)
"الحجاب"(ص: 313) .
* وقال فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق- رحمه الله:
" (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) الزمنها فلا تخرجن لغير حاجة شرعية، ومثلهن
في ذلك سائر نساء المؤمنين". اهـ.
وقال أيضا: "ومما يباح خروجهن لأجله الحج، والصلاة في المسجد، وزيارة الوالدين، وعيادة المريض، وتعزية الأقارب، والعلاج ونحو ذلك بشروطه التي منها التستر وعدم التبذل"(1) . اهـ.
* وقال العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله:
"نهى سبحانه في هذه الآيات نساء النبي الكريم أمهات المؤمنين وهن من خيرِ النساء وأطهرهن عن الخضوع بالقول للرجال، وهو تليين القول وترقيقه؛ لئلا يطمع فيهن من في قلبه مرض شهوة الزنا ويظن أنهن يوافقنه على ذلك، وأمر بلزومهن البيوت، ونهاهن عن تبرج الجاهلية، وهو إظهار الزينة والمحاسن كالرأس والوجه والعنق والصدر والذراع والساق ونحو ذلك من الزينة لما في ذلك من الفساد العظيم والفتنة الكبيرة وتحريك قلوب الرجال إلى تعاطي أسباب الزنا.
وإذا كان الله سبحانه يحذر أمهات المؤمنين من هذه الأشياء المنكرة مع صلاحهن، وإيمانهن، وطهارتهن، فغيرهن أولى وأولى بالتحذير، والإنكار، والخوف عليهن من أسباب الفتنة عصمنا الله وإياكم من مضلات الفتن، ويدل على عموم الحكم لهن ولغيرهن قوله سبحانه في هذه الآية (وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فإن هذه الأوامر أحكام عامة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن" (2) . اهـ.
(1)"صفوة البيان لمعاني القرآن"(2/183)
(2)
"رسالة في الحجاب والسفور"(ص: 13 14)
* وقال الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه الله:
"في هذه الآية الكريمة دلالات كبرى كلها تؤكد حكم الحجاب، وتقرره، وهي كالتالي:
1-
منع المؤمنة من ترقيق قولها وتلينه إذا تكلمت مع أجنبي عنها ليس محرمًا لها.
2-
تقدير وجود مرض الشهوة في قلوب بعض المؤمنين، وهو علة نهي المرأة عن ترقيق قولها إذا قالت.
3-
وجود تحديد العبارة والتكلم على قدر الحاجة، بحيث لا تزيد المرأة إذا تكلمت مع أجنبي في كلامها ما ليس بضروري للإفهام، فلا يجوز منها إطناب ولا استطراد، بَل يجب أن تكون كلماتها على قدر حاجتها في خطابها.
4-
لزوم المرأة المسلمة بيتها وهو مقر عملها الطبيعي، فلا تخرج إلا لحاجة ماسه إذ البيت هو محل تربية أولادها، وخدمة زوجها، وعبادة ربها بالصلاة، والزكاة، وذكر الله وما والاه.
5-
تحريم التبرج، وهو خروج المرأة المسلمة من بيتها كاشفة من (1) وجهها، مظهرة لمحاسنها غير خجلة ولا محتشمة حيية.
إن هذه الدلالات الخمس من هذه الآية في خطاب أمهات المؤمنين رضي الله عنهن كل واحدة منها دالة بفحواها على فرضية الحجاب، وتَحتُّمِه على المرأة المسلمة، غير أن المبطلين (2) لم يروا ذلك، فقالوا في هذه الآية والتي قبلها:"إنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم وهي خاصة بهن ولا تعلق لها بغيرهن من نساء المؤمنين وبناتهم"، وهو قول مضحك عجيب. . . وهاتان الآيتان مثلهما مثل إقسام الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه لو أشرك
(1) كذا بالأصل، ولعله (عن) .
(2)
لعل فضيلته يقصد بالمبطلين دعاة التحرر من الحجاب بالكلية، لا العلماء الفضلاء المخالفين في حكم كشف الوجه والكفين عن اجتهاد مخلص.
لحبط عمله، وكان من الخاسرين في آية الزمر، مع العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم لا يتأتى منه الشرك ولا غيره من الذنوب، ولكن الكلام من باب "إياك أعني، واسمعي يا جارة"، وعليه فإذا كان الرسول على جلالته لو أشرك لحبط علمه، وخسر فغيره من باب أولى، كما أن الحجاب لو فرض على نساء النبي وهن أمهات المؤمنين كان على غيرهن من باب أولى. ويبدو أنه لما كان الحجاب مخالفا لما كان عليه العرب في جاهليتهم، ولم يشرع تدريجا، وشيئًا فشيئا حتى بالقوة، إذ لا يمكن فيه التدريج، فلما شرع دفعة واحدة كان أمرا عظيما، فبدأ الله تعالى فيه بنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يقال- وما أكثر من يقول يومئذ، والمدينة مليئة بالنفاق والمنافقين-: انظروا كيف ألزم نساء الناس البيوت والحجاب، وترك نساءه وبناته غاديات رائحات ينعمن بالحياة. . . إلى آخر ما يقول ذوو القلوب المرضى في كل زمان ومكان، فلما فرضه على نساء رسوله صلى الله عليه وسلم لم يبق مجال لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَرْغَبَ بنفسها عن نساء الرسول صلى الله عليه وسلم فترى السفور لها، ولا تراه لأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته، وهذا يعرف عند علماء الأصول بالقياس الجلي، ومن باب أولى كتحريم
ضرب الأبوين قياسا على تحريم التأفيف في قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)(1) اهـ.
* وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف رحمه الله:
"قد قرن الله تعالى هذا التوجيه بالتقوى حيث لا تلتزم بتلك الصفات المحمودة المشروعة إلا من تخشى الله تعالى وتنقيه من كل النساء، وهذا السياق قيل لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يقول أحد من المسلمين: إن الحكم خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقط؟! وأن للنساء المؤمنات أن يخالفنه؟ هذا لا
(1)"فصل الخطاب في المرأة الحجاب"(ص: 35- 38) .
يقول به أحد، والحكم لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
…
وهذا كله ظاهر، لأن هذه كلَّها أحكام وآداب وتوجيه من الله
جل جلاله لتحتفظ المرأة المسلمة بكرامتها وحصانتها، ولقطع دابر الوسائل التي تقرب إلى الفتنة والشر، وهذا سبيل من كان يرجو الله واليوم الآخر.
وأما أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فمضمون الآيات مخاطبتهن تعظيمَا وإكبارَا لهن،
مع أن الحق استبعاد الفتنة معهن من أصحابه صلى الله عليه وسلم، لأنهن لسن كأحد من النساء بالفضل وعظيم القدر، لا بما يدعو إلى الفتنة والشر من بدن المرأة ومواضيع الزينة منها، فلا ريب أنهن وسائر المسلمات المؤمنات سواء، لأن الجميع في باب واحد من عدم العصمة، وحينما نقول:"إن الجميع في باب واحد من عدم العصمة"، نقول ذلك لعموم أنه لا عصمة لأحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم، غير أنهن أتقى النساء، لأنهن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شهد الله لهن بأنهن الطيبات وأنهن المبرآت، فعلى أزواجه وبناته ومن تبعهن من المسلمات المؤمنات رضوان الله تعالى ورحمته وبركاته" (1) اهـ.
* وقال الدكتور السيد محمد علي نمر:
"ولأمر ما أضاف الله البيت إلى المرأة لكثرة ملازمتها له، حيث يقول سبحانه: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) فالبيوت للأزواج، ولكنها أضيفت إلى المرأة لما تقوم به من دور عظيم فيه"(2) .
يا أختُ سابغة البرا
…
قع في الأباطح والوعورْ
قَرِّي فديتُك حيث لا
…
تؤذيكِ لافحة الهجير
ودعي الجنوحَ إلى السفو
…
رِ، وخَففي ألمَ العشير
النمر لو لزم الشرى
…
من كان يطمع في النمور؟
(1)"نظرات في حجاب المرأة المسلمة"(ص: 94- 95) . (2)"إعداد المرأة المسلمة"(ص: 59) .
والطير تأخذها شبا
…
كُ الصَّيْدِ في ترك الوكور (1)
الدليل الرابع
قوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)) [النور: 31] .
في هاتين الآيتين الكريمتين ثلاثة مواضع استُدلَّ بها على وجوب الحجاب:
الأول: قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) .
فقد صح عن ابن مسعود وغيره تفسير الزينة بالثياب الظاهرة من المرأة، وأما من قال:(إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) الوجه والكفان فقد بنى مذهبه:
1-
إما على آثار عن ابن عباس رضي الله عنهما، منها صحيح (2) ومنها ضعيف.
2-
وإما على أساس الترجيح بالإِلزام الفقهي، بناءَ على أن عورة المرأة
في الصلاة: البدن كله ما عدا الوجه والكفين، وأن إحرامها في الوجه والكفين، قالوا: فيلزم من ذلك إباحة إظهارهما.
ومما يلفت النظر أن كثيرَا من المفسرين وقعوا في بعض التناقض حيث
(1)"فقه النظر في الإسلام"(ص: 188) .
(2)
قوله رضي الله عنه: "الكف ورقعة الوجه " رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/283) .
التزموا في سائر آيات الحجاب القول بوجوبه على سائر النساء، ثم ذهبوا في هذا الموضع بالذات إلى ترجيح المذهب المنسوب إلى ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، واحتجوا بهذا الإلزام الفقهي غير اللازم لوجود الفرق بين داخل الصلاة، وخارجها.
وقد رجح بعضهم جواز كشف الوجه والكفين لأن الحاجة قد تمس إلى إظهارهما كالخِطبة والشهادة والتطبيب إلخ، والجواب أنه يرخص لها ذلك في حدود حاجتها، والله أعلم.
أما الموضع الثاني: فقوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)، أما الثالث: فقوله عز وجل: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) .
تحقيق الآثار المنسوبة إلى ابن عباس رضي الله عنهما والآثار المسندة إلى أبن مسعود رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى:
(إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)
قال فضيلة الشيخ عبد القادر بن حبيب السندي المدرس بمعهد الحرم المكي الشريف أثناء نقده لأئر: "إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه"(1) .
وليس هناك حديث صحيح مرفوع في هذا المعنى إلا ما جاء عن عبد الله
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في أثر أخرجه الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره (2) ، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3) .
قال الإمام ابن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب، قال ثنا مروان، قال
(1) انظر تحقيقه ص (370 - 371) .
(2)
"تفسير الطبري"(8/119) .
(3)
"السنن الكبرى"(2/182- 183) ، (7/86) .
ثنا مسلم الملائي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) قال: الكحل والخاتم.
قلت: إسناده ضعيف جدًّا، بل هو منكر.
قال الإمام الذهبي: مسلم بن كيسان أبو عبد الله الضبي الكوفي الملائي الأعور عن أنس وإبراهيم النخعي، وقال الإمام الحافظ أبو الحجاج المزي في ترجمة مسلم بن كيسان الملائي روى عن سعيد بن جبير- وهو يروي في هذا الإسناد عن سعيد بن جبير (1) .
ثم قال الإمام الذهبي فى ترجمته: "عن الثوري ووكيع بن الجراح بن مليح، قال الفلاس: متروك الحديث، وقال أحمد: لا يكتب حديثه، وقال يحيى: ليس بثقة، وقال البخاري: يتكلمون فيه، وقال يحيى أيضَا: زعموا أنه اختلط، وقال يحيى القطان: حدثني حفص بن غياث قال: قلت لمسلم الملائي: عمن سمعت هذا؟ قال- عن إبراهيم عن علقمة، قلنا: علقمة عمن؟ قال: عن عبد الله، قلنا: عبد الله عمن؟ قال: عن عائشة-، وقال النسائي: متروك الحديث"(2) اهـ.
"وقلت: هذا الإسناد ساقط لا يصلح للمتابعات والشواهد كما لا يخفى على أهل هذا الفن الشريف.
وقال الإمام الحافظ البيهقي في "السنن الكبرى": "أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا حفص بن غياث عن عبد الله بن مسلم بن هرمز عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: ما في الكف والوجه"(3) اهـ.
(1)"تهذيب الكمال "(7/ 663) .
(2)
"ميزان الاعتدال"(4/ 106) .
(3)
"السنن الكبرى"(2/ 225) ، (7/ 852)، وقال الشيخ منصور بن إدريس البهوتي رحمه الله:(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) قال ابن عباس=
قلت: إسناده مظلم ضعيف لضعف راويين هما أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال الإمام الذهبي. أحمد بن عبد الجبار العطاردي روى عن أبي بكر بن عياش وطبقته، ضعفه غير واحد، قال ابن عدي: رأيتهم مجمعين على ضعفه ولا أرى له حديثَا منكرا، إنما ضعفوه لأنه لم يلق الذين يحدث عنهم، وقال مطين: كان يكذب، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابنه عبد الرحمن: كتبت عنه وأمسكت عن التحديث عنه لما تكلم الناس فيه، وقال ابن عدي: كان ابن عقدة لا يحدث عنه، وذكر أن عنده قِمَطْرًا على أنه كان لا يتورع أن يحدث عن كل أحد، مات سنة 272 هـ (1) .
وقال الحافظ في التقريب: ضعيف (2) .
وكذا يوجد في هذا الإِسناد- عند الإمام البيهقي- عبد الله بن مسلم بن
هرمز المكي عن مجاهد وغيره، قال الحافظ الذهبي: ضعفه ابن معين،. وقال: وكان يرفع أشياء، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابن المديني: كان ضعيفا (مرتين) عندنا، وقال أيضا: ضعيف، وكذا ضعفه النسائي (3)، وقال الحافظ في "التقريب": ضعيف (4) .
قلت: هذان الإسنادان ساء حالهما إلى حد بعيد لا يحتج بهما ولا يكتبان، وهنا أسانيد أخرى لا تقل درجتها في الضعف والنكارة، وبذلك يمكن أن يقال إن هذه النسبة غير صحيحة إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (5) .
= وعائشة: وجهها وكفيها. رواه البيهقي، وفيه ضعف، وخالفهما ابن مسعود. اهـ من "كشف القناع"(1/243) .
(1)
"ميزان الاعتدال"(1/ 112 - 113) .
(2)
"تقريب التهذيب"(1/ 19) .
(3)
"ميزان الاعتدال"(2/ 503) .
(4)
"تقريب التهذيب"(1/ 450)
(5)
في هذا التعميم نظر، فقد صحت بعض آثار عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذا المعنى، منها ما تقدم ص (283)
ولو صح الإِسناد إليه لما كان فيه حجة عند علماء أهل الحديث فكيف
في هذه الحال، وقد صحت الأسانيد إلى ابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإلى غيره من الصحابة رضي الله عنهم عكس هذا المعنى الذي رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" والبيهقي في "سننه" وكذا ابن أبي حاتم في "تفسيره"، وزد على ذلك ما ثبت بأسانيد صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سوف يأتي مفصلا من أمره صلى الله عليه وسلم بالحجاب والستر.
* وإليكم أولا ما جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم
عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره إذ قال رحمه الله تعالى: حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال أخبرني الثوري، عن أبي إسحاق الهمداني، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال:(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الثياب (1) .
قلت: إسناده في غاية الصحة وأورد هذا الأثر الإمام ابن كثير في تفسيره (2) .
ثم ساق الإمام ابن جرير الطبري إسنادَا آخر بقوله: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي
الأحوص، عن عبد الله مثله - قلت: إسناده في غاية الصحة.
وقال الإمام السيوطي: أخرج ابن جرير الطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الزينة الظاهرة الوجه والكفان وكحل العينين، ثم قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:"فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها، ثم لا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن" الآية.
(1)"تفسير الطبري"(18/ 119) ، وقد رواه ابن أبي شيبة، والحاكم من طريقه، وقال: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في
"التلخيص".
(2)
"تفسير القرآن العظيم"(2/283) .
ثم قال رضي الله عنه: "والزينة التي تبديها لهؤلاء قرطاها، وقلادتها وسوارها، وأما خلخالها، ومعضدها، ونحرها، وشعرها، فإنها لا تبديه إلا لزوجها (1) " قلت: رواية ابن عباس رضي الله عنهما هذه قد اطلعت على إسنادها عند ابن جرير الطبري في تفسيره ورجالها كلهم ثقات إلا أنها منقطعة؛ لأن فيها على بن أبي طلحة المتوفى سنة 143 هـ يروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- ولم يلقه والواسطة بينهما هو مجاهد بن جبر المكي - وهو إمام كبير ثقة ثبت كما لا يخفى على أحد - وقد احتج بهذه الرواية - أعني رواية على بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- البخاري في "الجامع الصحيح "(2) ؛ إذ أوردها في مواضع عديدة من كتاب التفسير معلقة وإن كانت ليست على شرطه في "الجامع الصحيح" - قال ذلك الحافظ في "التهذيب"(3) .
وقال الإمام المزي في "تهذيب الكمال" مشيرَا إلى رواية التفسير هذه "في ترجمة على بن أبي طلحة: "هو مرسل عن ابن عباس، وبينهما مجاهد (4)"، واعتمد على هذه الرواية علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي في "تفسيره" (5) ، والإمام القرطبي في تفسيره (6) ، وكذلك الإمام ابن كثير في تفسيره في مواضع عديدة فكانت قوية ومحتجُّا بها عند علماء التفسير وغيرهم، وإن ظاهر القرآن والسنة وأثار الصحابة والتابعين تؤيدها
فليعتمد عليها ويستأنس بها". (7) اهـ من "رسالة الحجاب" للسندي.
(1)"الدر المنثور"(5/ 42) .
(2)
انظر مثلا: "فتح الباري"(8/ 54، 76، 114) .
(3)
"تهذيب التهذيب"(7/ 340) .
(4)
"تهذيب الكمال"(5/ 480) .
(5)
"محاسن التأويل"(4/ 4909) .
(6)
"الجامع لأحكام القرآن"(14/ 243) .
(7)
"رسالة الحجاب في الكتاب والسنة"(ص: 21 26) .
ولو أن فضيلته اقتصر على قوله: "يُستأنس بها" لكان أقرب من قوله: "فليعتمد عليها" لما في الكلام الذي أسلفه في رواية على بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ما أجاب به العلماء عن قول
ابن عباس رضي الله عنهما
* أولَا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
والسلف تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين، فقال ابن مسعود: هي الثياب، وقال ابن عباس ومن وافقه: هي ما في الوجه واليدين مثل الكحل والخاتم.
قال: وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين، زينةَ ظاهرة وزينة غير ظاهرة، وجوَّز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم، وأما
الباطنة فلا تبديها إلا للزوج وذوي المحارم.
وقبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجال وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) حجب النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها فأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الستر ومنع أنسَا أن ينظر.
ولما اصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك عام خيبر قالوا: إن حجبها فهي
من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه، فحجبها.
فلما أمر الله أن لا يُسئلن إلا من وراء حجاب، وأمر أزواجه وبناته
ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن؛ والجلباب هو المُلاءة وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء، وتسميه العامة: الأزار، هو الأزار
الكبير الذي، يغطي رأسها وسائر بدنها، وقد حكى عَبيدة وغيره أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها، ومن جنسه النقاب " فكن النساء ينتقبن" وفي الصحيح "إن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين"، فإذا كنَّ مأمورات بالجلباب وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب، كان حينئذ الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهر للأجانب، فما بقي يَحِلُّ للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة
فابن مسعود ذكر آخر الأمرين؛ وابن عباس ذكر أول الأمرين" (1) اهـ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
ثانيا: قال العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى:
"وأما ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر "إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا" بالوجه والكفين فهو محمول على حالة النساء قبل نزول آية الحجاب، وأما بعد ذلك فقد أوجب الله عليهن ستر الجميع كما سبق في الآيات الكريمات من سورة الأحزاب وغيرها، ويدل على أن ابن عباس أراد ذلك ما رواه على بن أبي طلحة عنه أنه قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة.
وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم والتحقيق وهو الحق الذي لا ريب فيه، ومعلوم ما يترتب على ظهور
(1)"حجاب المرأة ولباسها في الصلاة" ص: 13 – 17، "مجموع الفتاوى"(22/ 110)، ويتضح من هذا أن شيخ الإسلام يذهب إلى وقوع النسخ في مراحل تشريع الحجاب قال رحمه الله: (وعكس ذلك الوجه واليدان والقدمان ليس لها
أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين بخلاف ما كان قبل النسخ بل لا تبدي إلا الثياب) اهـ، وقال أيضَا رحمه الله تعالى:(وأما وجهها ويداها وقدماها فهي إنما نهيت عن إبداء ذلك للأجانب لم تُنه عن أَبدائه للنساء ولا لذوى المحارم) اهـ.
من "مجموع الفتاوى"(22/ 117 - 118) .
الوجه والكفين من الفساد والفتنة، وقد تقدم قوله تعالى:(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) ولم يستثن شيئا وهي آية محكمة، فوجب الأخذ بها والتعويل عليها وحمل ما سواها عليها، والحكم فيها عام في نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين وتقدم من سورة النور ما يرشد إلى ذلك" (1) اهـ.
وهذا الجمع أولى لما ورد عن ابن عباس أيضًا من قوله: تدني الجلباب
إلى وجهها ولا تضرب به. قال روح في حديثه: قلت: وما (لا تضرب به) ؟ فأشار لي كما تجلبب المرأة، ثم أشار لي ما على خدها من الجلباب قال:"تعطفه وتضرب به على وجهها كما هو مسدول على وجهها". رواه أبو داود في كتاب المسائل قال: حدثنا أحمد - يعني ابن محمد بن حنبل - قال حدثنا يحيى وروح عن ابن جريج قال أخبرنا عطاء قال أخبرنا أبو الشعثاء أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فذكر الحديث – وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وقول ابن مسعود رضي الله عنه ومن وافقه هو الصحيح في تفسير هذه الآية لاعتضاده بآية سورة الأحزاب وهي قولة تعالي: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) .
* قال الإمام أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله: "قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) أي لا يُظهِرنها لغير محرم، وزينتهن
على ضربين: خفية كالسوارين والقرطين والدملج والقلائد ونحو ذلك،
وظاهرة وهي المشار إليها بقوله: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) وفيه سبعة أقوال: أحدها: أنها الثياب، رواه أبو الأحوص عن ابن مسعود، وفي لفظ آخر
قال. هو الرداء.
(1)"رسالة في الحجاب والسفور" ص: 19.
والثاني: أنها الكف والخاتم والوجه.
والثالث: الكُحل والخاتم، رواهما سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والرابع: القُلبان، وهما السواران والخاتم والكحل، قاله المسور بن مخرمة.
والخامس: الكحل والخاتم والخضاب، قاله مجاهد.
والسادس: الخاتم والسِّوار، قاله الحسن.
والسابع: الوجه والكفان، قاله الضحاك.
قال القاضي أبو يعلى: والقول الأول أشبه، وقد نص عليه أحمد فقال:
الزينة الظاهرة: الثياب، وكل شيء منها عورة حتى الظفر.
ويفيد هذا تحريم النظر إلى شيء من الأجنبيات لغير عذر، فإن كان لعذر
مثل أن يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها، فإنه ينظر في الحالين إلى وجهها خاصة، فأما النظر إليها لغير عذر فلا يجوز لشهوة ولا لغيرها، وسواء في
ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن فإن قيل: فلم لا تبطل الصلاة فالجواب: أن في تغطيته مشقة فعفي عنه" (1) اهـ.
* قال ابن عطية:
"ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي (2) ، وأن تجتهد
في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة
حركة فيما لابد منه ونحو ذلك، فما ظهر على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه" (3) اهـ.
(1)"زاد المسير"(6/ 31) .
(2)
كذا، ولعله:"بألا تبدي وجهها" كما يظهر من السياق، ومن تعقيب القرطبي رحمه الله.
(3)
"الجامع لأحكام القرآن"(12/ 229) .
ثم عقب القرطبي رحمه الله قائلاً:
"قلت: هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة، وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعًا إليهما (1) ، يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها وساق حديث أسماء (2) مستدلا به، إلى أن قال رحمه الله: وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا: إن المرأة إذا كانت جميلة، وخيف من وجهها وكفيها الفتنة، فعليها ستر ذلك، وإن كانت عجوزًا أو مُقَبَّحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها"(3) اهـ.
* وقال البيضاوي رحمه الله تعالى في تفسيره:
(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) كالحلي والثياب والأصباغ فضلا عن مواضعها
لمن لا يحل أن تبدي له (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم فإن في سترها حرجَا.
وقيل المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف (4) ، أو ما يعم المحاسن
(1)"الجامع لأحكام ألقرآن"(12/ 229) .
(2)
وقد تعقب الألباني هذا الاستدلال من القرطبي بقوله: (قلت: وفي هذا التعقيب نظر أيضا، لأنه وإنا كان الغالب على الوجه والكفين ظهورهما بحكم الواقع، فإنما ذلك بقصد من المكلف، والآية حسب فهمنا إنما أفادت استثناء ما ظهر دون قصد، فكيف يسوغ حينئذ جعله دليلًا شاملا لما ظهر بالقصد؟ فتأمل) اهـ من
"حجاب المرأة المسلمة"(ص: 24) .
(3)
انظر الجواب عنه (ص: 336) .
(4)
ونظيره قوله تعالى: (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) والمراد بها الجنة، لأنها مكان الرحمة، وكذلك:(لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) والمراد مواضع الصلاة، قال الزمخشري:(وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر فإنه ما نهى عن الزينة إلا لملابستها تلك المواقع فكان إبداء المواقع نفسها متمكنا في الحظر ثابت القدم في الحرمة) اهـ.
الخلقية والتزيينية، والمستثنى هو الوجه والكفان لأنهما ليستا من العورة، والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة" اهـ.
* قال الشهاب في "شرحه":
"ومذهب الشافعي رحمه الله كما في "الروضة" وغيرها أن جميع بدن المرأة عورة حتى الوجه والكف مطلقَا، وقيل: يحل النظر إلى الوجه والكف إن لم يخف فتنة، وعلى الأول: هما عورة إلا في الصلاة، فلا تبطل صلاتها بكشفهما".
وقال أيضَا: قوله: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أي: بلا إظهار كأن كشفته الريح، والاستثناء عن الحكم الثابت بطريق الإشارة، وهو المؤاخذة به في دار الجزاء، وفي حكمه ما لزم إظهاره لتحمل شهادة ومعالجة طبيب.
وقال أيضًا: "قوله: "وقيل المراد بالزينة مواضعها" وفي نسخة: مواقعها، وهو بمعناه، وهذا ما ارتضاه الزمخشري، وهو على مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وجعله كناية عما ذكر كنقي الجيب وهو مجاز من ذكر الحال وإرادة المحل، وقيل: إنه بتقدير مضاف كما ذكره المصنف رحمه الله. وفي "الانتصاف": قوله: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ) الآية يحقق أن إبداء الزينة مقصود بالنهي، ولو حمل على ما ذكر لزم أن يحل للأجانب النظر إلى ما ظهر من مواقع التزيين، وهو باطل لأن بدن الحرة جميعه عورة يعني عند
الشافعي ومالك، وأما إبداء الزينة وحدها فلا خلاف في جوازه، إذ لا يحرم نظر سوار امرأة يباع في يد رجل، وأما كونه تنكسر به قلوب الفقراء فلا وجه له ولذا مرضه المصنف لمخالفته مذهبه وفيه نظر، والزينية نسبة إلى الزينة وفي نسخة "التزيينية"، وقوله "والمستثنى" أي على هذا القول وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، والقدمان والذراعان فى رواية (قوله: بدن الحرة
عورة) كما في الحديث: "المرأةُ عورة مستورة" رواه الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه، لكن ليس فيه لفظ مستورة، وما ذكره من الفرق بين العورة في الصلاة وغيرها مذهب الشافعي رحمه الله، وفيه كلام في ابن الهمام فراجعه " (1) اهـ.
* وقال الشيخ العلامة محمد بن أحمد بن جزي الكلبي رحمه الله:
(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) نهى عن إظهار الزينة بالجملة
ثم استثنى الظاهر منها، وهو ما لابد من النظر إليه عند حركتها أو إصلاح شأنها وشبه ذلك، فقيل:(إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) يعني الثياب فعلى هذا يجب ستر جميع جسدها، وقيل: الثياب والوجه والكفان، وهذا مذهب مالك لأنه أباح كشف وجهها وكفيها في الصلاة وزاد أبو حنيفة
القدمين" (2) اهـ.
* وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
"هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات، وغيرة منه لأزواجهن عباده المؤمنين، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات.
وقال رحمه الله. وقال: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أي:
ولا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه، وقال ابن مسعود: كالرداء والثياب يعني على ما كان يتعاناه (3) نساء العرب، من المِقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه، لأن هذا لا يمكن إخفاؤه ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها وما لا يمكن إخفاؤه، وقال بقول ابن مسعود: الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء
(1)"عناية القاضي وكفاية الراضي"(6/ 373) .
(2)
"التسهيل لعلوم التنزيل"(3/ 64) .
(3)
أي يأخذن أنفسهن به.
وإبراهيم االنخعي وغيرهم" (1) اهـ.
* وقال السيوطي رحمه الله:
(وَلَا يُبْدِينَ) يظهرن (زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) وهو الوجه والكفان فيجوز نظره لأجنبي إن لم يخف فتنة في أحد وجهين، والثاني: يحرم لأنه مظنة الفتنة، ورجح حسمًا للباب" (2) اهـ.
"تفسير القرآن العظيم"(6/ 46- 47)، قال الشيخ الأنصاري معلقا على عبارة ابن كثير رحمه الله هذه:
(والمقصود أن فيها الدلالة على أن ستر جميع الجسد كان قد صار ديدن نساء الصحابة والتابعين ونساء المسلمين.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت عليه آيات الحجاب فقام بتعليمها وتعليم تأويلها وحكمتها، هاهم أولئك الصحابة كافة الأنصار منهم والمهاجرون تعلموا منه
معنى تلك الآيات، ثم رجعوا إلى بيوتهم فعلموهم أزواجهم وبناتهم وأخواتهم ونساء بيوتهم، وهاهن الصحابيات الطاهرات سمعن هذه الآية وتعملنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ممن تعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فشققن مروطهن وغطين وجوههن، وجعلن النقاب جزءًا أو لباسَا من ألبستهن، وهذا هو الذي صار ديدن نساء العرب ونساء المسلمين كافة، لا زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين فقط، بل حكى الشوكاني عن ابن رسلان اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه لا سيما عند كثرة الفساق (نيل الأوطار 6/ 245) . ولم يكن فعلهم وفعل نسائهم هذا تطوعَا، ولا التزاما من قبل أنفسهن بما لم يلزمه الله ورسوله، كما يزعمه الله ورسوله، كما يزعمه الزاعمون، بل فعلوا كل ذلك - كما أخبرتنا الصديقة بنت الصديق- إيمانا بكتاب الله وتصديقًا بتنزيله، وامتثالَا بأوامر الله وتناهيًا عن نواهيه، ولم يكن يخفى عليهم أن أوامر الله للوجوب ونواهيه للتحريم، وأن نساءهم بتغطيه وجوههن يمتثلن أمر الحجاب
وأمر إدناء الجلباب، ويتناهين عن إبداء الزينة، وأنهن ممثلات للمجتمع الذي يريد الله ثم يريد رسوله إقامته، وبعد هذا كله لا أدري كيف يشك شاك في وجود
ستر الوجوه وحرمة إبدائها؟ وماذا ومن ذا بعد الله ورسوله والصحابة والمؤمنين حتى يعتمد عليه؟ اهـ "من مجلة الجامعة السلفية".
_________
(2)
"تفسير الجلالين"(2/ 54) .
وروى ابن أبي حاتم والسيوطي في "الدر" عن سعيد بن جبير موقوفا أنه قال: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) يعني: ولا يضعن الجلباب وهو القناع من فوق الخمار (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ) الآية قال: فهو محرم" (1) اهـ.
* وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي رحمه الله تعالى:
قال أحمد: ولا تبدي زينتها إلا لمن في الآية، ونقل أبو طالب:"ظفرها عورة، فإذا خرجت فلا تبين شيئًا ولا خفها فإنه يصف القدم" وأحبُّ إليَّ أن تجعل لكمها زرَا عند يدها. واختار القاضي قول من قال: المراد بما ظهر من الزينة: الثياب لقول ابن مسعود وغيره، لا قول من فسرها ببعض الحلي أو ببعضها فإنه الخفية، قال: وقد نص عليه أحمد فقال: الزينة الظاهرة الثياب وكل شيء منها عورة حتى الظفر (2) اهـ.
* وقال العلامة الكشميري رحمه الله:
فإن قلت: وإذا جاز كشف هذه الأعضاء مطلقا فما معنى التخصيص والاستثناء؟ قلت: ومن ادعى أن القرآن رغبهن في كشفها؟ ولكن
السياق في إبداء الزينة عند من يباح له ضرورة، أما من لا ضرورة فيهم فالسنة فيهم كما ذكرها في آية أخرى وهي إدناء الجلباب لأن ذلك أستر لها، وإن جاز لها كشفها أيضا إلا أنه لما كان قد ينجر إلى الفتن حرض القرآن بسترها في عامة الأحوال (3) اهـ.
وقال أيضَا رحمه الله: وإنما قلت: إن كشف الوجه جائز لولا الفتنة
لحديث فضل بن عباس وشابة في الحج فصرف صلى الله عليه وسلم وجهه عنها وقال: "خشيت أن يقع بينهما شيطان"(4) فافهم وتشكر (4) اهـ.
(1) نقله الخجندي في "حبل الشرع المتين"(ص: 234) .
(2)
"الفروع"(1/ 601) .
(3)
، (4)"فيض الباري"(4/ 24) ، وانظره (4/308)، وسيأتي الجواب عن حديث الفضل (ص: 381) إِن شاء الله.
* وقال الألوسي رحمه الله:
ومذهب الشافعي عليه الرحمة كما في "الزواجر": أن الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى الكوعين عورة في النظر من المرأة ولو أمة على الأصح، وإن كانا ليسا عورة من الحرة في الصلاة. . . وذهب بعض الشافعية إلى حل النظر إلى الوجه والكف إن أمنت الفتنة، وليس بمعول عليه عندهم، وفسر بعض أجلتهم ما ظهر بالوجه والكفين بعد أن ساق الآية دليلا على أن عورة الحرة ما سواهما، وعلل حرمة نظرهما بمظنة الفتنة فدل ذلك على أنه ليس كل ما يحرم نظره عورة، وأنت تعلم أن إباحة إبداء الوجه والكفين حسبما تقتضيه الآية عندهم مع القول بحرمة النظر إليهما مطلقَا في غاية البعد، فتأمل (1) .
واعلم؛ أنه إذا كان المراد النهي عن إبداء مواقع الزينة، وقيل بعمومها الوجه والكفين والتزم القول بكونهما عورة وحرمة إبدائهما لغير من
استثنى بعد يجوز أن يكون الاستثناء في قوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)
من الحكم الثابت بطريق الإشارة وهو المؤاخذة في دار الجزاء، ويكون المعنى: أن ما ظهر منها من غير إظهار كان كشفته الريح مثلًا فهن غير
مؤاخذات به في دار الجزاء، وفي حكم ذلك ما لزم إظهاره لنحو تحمل شهادة ومعالجة طبيب، وروى الطبراني، والحاكم وصححه، وابن المنذر،
وجمع آخرون، عن ابن مسعود أن "ما ظهر": الثياب والجلباب، وفي
(1) قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
(إن الله تعالى أمر المؤمنات بحفظ فروجهن، والأمر بحفظ الفروج أمر به، وبما يكون وسيلة إليه، ولا يرتاب عاقل أن وسائله تغطية الوجه لأن كشفه سبب للنظر إليها وتأمل محاسنها والتلذذ بذلك، وبالتالي إلى الوصول والاتصال، وفي الحديث: (العينان تزنيان، وزناهما النظر) إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: "والفرج يصدق كل ذلك
أو يكذبه "، فإذا كان الوجه من وسائل حفظ الفرج كان مأمورا به لأن الوسائل
لها أحكام المقاصد) اهـ من "رسالة الحجاب"(ص: 6) .
رواية الاقتصار على الثياب، وعليها اقتصر أيضَا الإمام أحمد، وقد جاء إطلاق الزينة عليها في قوله تعالى:(خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) على ما في البحر" (1) اهـ.
* قال الشيخ أبو هشام الأنصاري:
(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) .
وهذه أول آية من الثلاث حسب ترتيب القرآن، يستأنس من بعض الروايات أنها نزلت قبل آية إدناء الجلابيب، بينما يستأنس من بعض الروايات الأخرى أنها نزلت بعدها، وعلى كلا التقديرين لها محمل صحيح فلا تعنينا هذه الناحية من البحث.
وهذه الآية تأمر المؤمنات بإخفاء الزينة كلها سواء أردنا بالزينة الزينة الخلقية من الوجه والعينين، والأنف والشفتين، والشعر والخدين،
والأذنين والصدغين، وغيرها من جسد المرأة وأعضائها، أو أردنا الزينة
المكتسبة، من السوار والخاتم، والخضاب والكحل، والفتخ والقلب،
والدملج والقرط، والإكليل والثوب المبرقش وغيرها.
إن هذه الآية تأمر بإخفاء هذه الزين كلها لا تستثني منها زينة من زينة (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ، و (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) مبهم لم يفسره الكتاب والسنة
بل تركاه على إبهامه، وقام الصحابة والتابعون والعلماء المفسرون برفع هذا الإبهام، ولا شك أنهم لو أجمعوا على شيء لكان فيه غنى وكفاية، ولكان ذلك رافعا للإبهام، والنزاع معا، ولكن شاء الله أن لا يرتفع هذا الإِبهام رحمة بهذه الأمة، فاضطربت أقوالهم وتخالفت، حتى استحقت أن نتركها على حالها ونرجع إلى الله ورسوله، فلما رجعنا إلى الله ورسوله وجدنا الإِبهام باقيا على حاله، وستعرف أن بقاءه خير، ولنبحث الآن عن ناحية أخرى.
(1)"روح المعاني"(8/ 141) .
إن الله تعالى حينما نهى إبداء الزينة أسند الفعل إلى النساء، وجاء به متعديَا، لكنه حينما استثنى لم يقل "إلا ما أظهرن منها"، بل قال:(إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فعدل الفعل عن التعدي إلى اللزوم ولم يسنده إلى النساء،
ومقتضى هذا أن المرأة مأمورة بإخفاء الزينة مطلقا، وليست مخيرة في إبداء شيء منها، نعم! إنها إذا التزمت بالإخفاء، وتقيدت به، ثم ظهر من تلك الزينة شيء من غير أن تقصر وتفرط في الإخفاء، ومن غير أن تقصد وتتعمد الإِبداء، فإنها لا تعاتب عليه ولا تؤاخذ به عند الله، هذا هو المفهوم من سياق هذه الآية، وهذا الذي يقتضيه نظم الكلام.
ومن هنا يعرف أن كل زينة يمكن للمرأة إخفاؤها فهي مأمورة بإخفائها، سواء كان الوجه والكفان أو الكحل والخاتم والسواران، وأنها لو قصرت في إخفاء مثل هذه الزينة، وكشفتها تعمدًا تؤاخذ عليها، وأن كل زينة لا يمكن إخفاؤها- مثل الثياب الظاهرة- أو يمكن إخفاؤها
ولكنها انكشفت من غير أن تتعمد المرأة لكشفها أو تشعر بانكشافها، فإنها
لا تؤاخذ عليها، ولا تستحق عتابًا ما، كما أنها لا تؤاخذ ولا تعاتب إذا كشفتها عمدا- لأجل حاجة أو مصلحة ألجأتها إلى كشفها، فكأن المرأة لم تباشر ولم تتعمد كشفها، وإنما الحاجة أو المصلحة هي التي كشفتها، فلا
عتاب على المرأة، فقوله تعالى:(إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) في معنى قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)
والحاصل أن الزينة نوعان، نوع يمكن إخفاؤها، فالمرأة مأمورة بإخفاء هذا النوع من الزينة مهما كانت، ونوع لا يمكن إخفاؤها، أو يمكن ولكنها تنكشف من غير أن تتعمد المرأة كشفها، أو تعتري حاجه تلجئ المرأة إلى إبدائهما، فهذا النوع هو المراد بقوله تعالى:(مَا ظَهَرَ مِنْهَا) والمرأة لا تؤاخذ على ظهور هذا النوع من زينتها، ولما كان هذا النوع من الزينة يختلف باختلاف الظروف والحاجات والمصالح، ولا يمكن تحديدها بحد معين لا يقبل الزيادة والنقصان تركها الله ورسوله على إبهامها تيسيرا
لهذه الأمة واجتنابَا عن التضييق عليها.
ويضرب لذلك مثلا بالثياب الظاهرة، أو ما انكشفت من أعضائها لأجل تيار الهواء من غير قصد منها، والنظر إلى المخطوبة قبل النكاح، أو كشف المرأة بعض أعضائها أمام الطبيب لدفع الحرج، أو كشفها للوجه والكفين أمام الشاهد، هذه وأمثالها من الصور، التي تلتجئ المرأة فيها إلى كشف أعضائها التي أمرت بسترها إجماعَا، ولا عتاب عليها في تلك
الصور، فإن كل ذلك مما ظهر من زينتها من غير أن تبديها بخيارها.
ومن هنا يظهر أن تحديد (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) في الوجه والكفين أو الخاتم والسوارين أو الكحل والخضاب وأمثالها لا يصح، بل الصحيح هو تركه على إبهامه وعمومه، وأنه شامل لجميع جسد المرأة حسب الحاجة والظروف، وأن الذين حددوه في مقدار معين فقد وقعوا في التفريط، ولكنهم بجنب هذا التفريط وقعوا في الإفراط، فإنهم أباحوا لها أن تبدي هذا القدر مطلقا، سواء دعت الحاجة إلى كشفها أم لا، مع أن الله لم يخيرهن في إبداء شيء من الزينة، وإنما عفا عنهن ما ظهر منها بنفسها.
وإذا تحقق معنى هذه الآية فليكن على ذكر من القارئ الكريم أن قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ) مضارع في معنى النهي، والنهي للتحريم، وإذا وقع النهي بصيغة المضارع يكون آكد في التحريم، فالآية صريحة في أن إبداء الزينة حرام على المرأة، فهي دليل على وجوب الحجاب، وأن الوجه والكفين داخلان فيه.
والذين يستدلون بهذه الآية على جواز كشف الوجه والكفين لم أر لهم شيئا يروي الغليل ويشفي العليل، وإنما جل ما يتوكئون عليه هو صرف الآية عن معناها المنصوص إلى غيره مستدلا بقول ابن عباس وأصحابه، وقول ابن عباس يأبى عما ينحلون إليه.
وذلك لأن ابن عباس وعدة من أصحابه فسروا إدناء الجلباب بتغطية الوجه، ولم يكن يخفى عليهم أنهم يفسرون أمرا من أوامر الله تعالى، وأن
أمره تعالى للوجوب، وأن الله أوجب ذلك لإقامة التمييز بين الحرة والأمة، فلا يمكن صرفه عن الوجوب إلى الاستحباب، وإلا يفوت الغرض المطلوب والهدف المنشود، فهل يا ترى أنهم تناقضوا أنفسهم فقالوا بوجوب ستر الوجه، وقالوا بجواز كشفها مطلقَا؟ لا، بل يستأنس من قول ابن عباس أنه يرى جواز الكشف لأجِل الضرورة، فقد روى ابن جرير عنه في قوله:(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ؛ قال: والزينة الظاهرة: الوجه، وكحل العين، وخضاب الكف، والخاتم، فهذا تظهره في بيتها لمن دخل من الناس عليها "تفسير ابن جرير"(18/83، 84) .
فابن عباس لا يفتي بجواز كشف الوجه واليدين مطلقًا، وإنما يفتي بجواز كشفهما عند من دخل عليها في البيت، ثم المراد بالداخلين في البيت إما أن يكون حق أقاربها من ليس بمحرم لها، مثل أبناء عمها وعمتها وخالها وخالتها ومثل أحمائها، فإن هؤلاء يكثر دخولهم في البيت، فابن عباس يرى في التستر عنهم مشقة وحرجا، ويستنبط جواز كشف الوجه والكفين أمامهم من قوله:(إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فكأن المرأة ليست هي التي أبدت الزينة أمامهم بل المشقة هي التي أظهرتها، وإما أن يكون المراد بالداخل في البيت كل من دخل في البيت مطلقَا بعد الإذن، وبالجملة فتقييد الجواز بالبيت يفيد أن ابن عباس يرى اشتغال المرأة بمهنتها في بيتها، من الحوائج التي تبيح لها كشف الوجه أما الأجانب، فهو يرى الجواز في حالة خاصة، وهو ينبئ عن
عدم الجواز في عامة الأحوال، فانظر أين قوله هذا من الذين يميلون إلى السفور، ويزعمون أن ابن عباس هو إمامهم في هذا (1) اهـ.
* أما العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي فقد قال بعد أن ذكر ما أثر عن السلف في تفسير قوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) :
(1)"مجلة الجامعة السلفية" عدد مايو، يونيو 1978م.
"وقد رأيت في هذه النقول المذكورة عن السلف أقوال أهل العلم في الزينة الظاهرة والباطنة، وأن جميع ذلك راجع في الجملة إلى ثلاثة أقوال كما ذكرنا:
الأول: أن المراد بالزينة ما تتزين به المرأة خارجا عن أصل خلقتها، ولا يستلزم النظر إليها برؤية شيء من بدنها كقول ابن مسعود رضي الله عنه، ومن وافقه: إنها ظاهر الثياب، لأن الثياب زينة لها خارجة عن أصل خلقتها وهى ظاهرة بحكم الاضطرار كما ترى.
وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا وأحوطها وأبعدها من الريبة وأسباب الفتنة.
القول الثاني: أن المراد بالزينة، ما تتزين به، وليس من أصل خلقتها أيضا، لكن النظر إلى تلك الزينة يستلزم برؤية شيء من بدن المرأة، وذلك كالخضاب والكحل ونحو ذلك، لأن النظر إلى ذلك يستلزم رؤية الموضع الملامس له من البدن كما لا يخفى.
القول الثالث: أن المراد بالزينة الظاهرة بعض بدن المرأة الذي هو من أصل خلقتها لقول من قال: إن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان- وما تقدم ذكره عن بعض أهل العلم.
وإذا عرفت هذا فاعلم؛ أننا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولًا، وتكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول (1) ، وقدمنا أيضا في ترجمته أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون الغالب في القرآن إرادة معنى معين في اللفظ، مع تكرر ذلك اللفظ في القرآن، فكون ذلك المعنى هو المراد من اللفظ في الغالب، يدل على أنه هو المراد في محل النزاع، لدلالة غلبة إرادته في القرآن بذلك اللفظ، وذكرنا له بعض الأمثلة في
(1)"أضواء البيان"(1/10 - 12)
الترجمة (1)
وإذا عرفت ذلك فاعلم؛ أن هذين النوعين من أنواع البيان اللذين ذكرناهما في ترجمة هذا الكتاب المبارك ومثلنا لهما بأمثلة متعددة كلاهما موجود في هذه الآية التي نحن بصددها.
أما الأول منها: فبيانه أن قول من قال في معنى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أن المراد بالزينة: الوجه والكفان مثلَا، توجد في الآية
قرينهّ تدل على عدم صحة هذا القول، وهي أن الزينة في لغة العرب، هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها كالحلي والحلل، فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر، ولا يجوز الحمل عليه، إلا بدليل يجب الرجوع إليه وبه تعلم أن قول من قال: الزينة الظاهرة: الوجه والكفان خلاف ظاهر معنى لفظ الآية، وذلك قرينة على عدم صحة هذا القول، فلا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه.
وأما نوع البيان الثاني المذكور فإيضاحه: أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن العظيم مرادَا به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها كقوله تعالى:(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وقوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) وقوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا) وقوله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا) وقوله تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) وقوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) الآية وقوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) الآية وقوله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الآية، وقوله تعالى:(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ)
الآية، وقوله تعالى:(قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ)، وقوله تعالى عن قوم موسى:(وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) الآية وقوله
(1)"السابق"(1/ 15- 16) .
تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ)
فلفظ الزينة فى هذه الآيات كلها يراد به ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته كما ترى وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرآن يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى، الذي غلبت إرادته في القرآن العظيم، وهو المعروف في كلام العرب كقول
الشاعر:
يأخذن زينتهن أحسن ما ترى
…
وإذا عطِلن فهن خيرُ عواطلِ
وبه تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفين فيه نظر.
وإذا علمت أن المراد بالزينة فى القرآن ما يتزين به مما هو خارج عن أصل الخلقة وأن من فسرها من العلماء بهذا اختلفوا على قولين: فقال بعضهم: هي زينة لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة كظاهر
الثياب، وقال بعضهم: هي زينة يستلزم النظر إليها رؤية موضعها من بدن المرأة كالكحل والخضاب ونحو ذلك.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له:
أظهر القولين المذكورين عندي قول ابن مسعود رضي الله عنه أن الزينة الظاهرة: هي ما لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية، وإنما قلنا إن هذا القول هو الأظهر، لأنه هو أحوط الأقوال وأبعدها عن أسباب الفتنة، وأطهرها لقلوب الرجال والنساء، ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها كما هو معلوم والجاري على قواعد الشرع الكريم هو تمام المحافظة والابتعاد عن الوقوع فيما لا ينبغي (1) اهـ.
(1)"انظر "أضواء البيان" (6/192 - 202) .
* وقال الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله رحمة واسعة:
"وأما قوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فقد جعلت البيانات المختلفة في كتب التفسير مفهوم هذه الآية مغلقا إلى حد عظيم، وإلا فإن هذه الآية واضحة جدا لا خفاء فيها ولا إبهام، فإذا قيل في الجملة الأولى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) أي: لا يظهرن محاسن ملابسهن وحليهن ووجوههن وأيديهن وسائر أعضاء أجسادهن، استثنى من هذا الحكم العام بكلمة (إلا) في جملة (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أي: ما كان ظاهرا لا يمكن إخفاؤه أو هو ظهر بدون قصد الإِظهار من هذه الزينة، وهذه الجملة تدل على أن النساء لا يجوز لهن أن يتعمدن إظهار هذه الزينة، غير أن ما ظهر منها بدون قصد منهن- كأن يخف الرداء لهبوب الريح وتنكشف بعض الزينة مثلا - أو ما كان ظاهرا بنفسه لا يمكن إخفاؤه، كالرداء التي تجلل به النساء ملابسهن، لأنه لا يمكن إخفاؤه وهو مما يستجلب النظر لكونه على بدن المرأة على كل حال- فلا مؤاخذة عليه من الله تعالى.
وهذا هو المعنى الذي بينه عبد الله بن مسعود، والحسن البصري، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي لهذه الآية، وعلى العكس من ذلك قال غيرهم من المفسرين: إن معنى مَا ظَهَرَ مِنهَا ما يظهره الإنسان على العادة الجارية، ثم هم يدخلون فيه وجه المرأة وكفيها بكل ما عليها من الزينة، أي أنه يصح عندهم أن تزين المرأة وجهها بالكحل والمسحق والصبغ ويديها بالحناء والخاتم والحلق والأسورة ثم تمشي في الناس كاشفة وجهها وكفيها وهذا المعنى للآية مروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
وتلامذته، وإليه ذهبت طائفة كبيرة من فقهاء الحنفية.
وأما نحن فنكاد نعجز عن أن نفهم بأي قاعدة من قواعد اللغة يجوز أن يكون معنى (مَا ظَهَرَ) : "ما يظهره الإنسانُ" فإن الفرق بين "أن يظهر الشيء بنفسه" و"أن يظهره الإنسان بقصده" واضح لا يكاد يخفى على
أحد، والظاهر من الآية أن القرآن ينهى عن إبداء الزينة ويرخص فيما إذا ظهرت من غير قصد، فالتوسع في هذه الرخصة إلى حد "إظهارها عمدا" مخالف للقرآن، ومخالف للروايات التي يثبت بها أن النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما كن يبرزن إن الأجانب سافرات الوجوه، وأن الأمر بالحجاب كان شاملًا للوجه، وكان النقاب قد جعل جزءًا من لباس النساء إلا في
الإِحرام.
وأدعى إلى العجب أن هؤلاء الذي يبيحون للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها للأجانب يستدلون على ذلك بأن الوجه والكفين من المرأة ليسا
بعورة مع أن الفرق كبير جدًّا بين الحجاب وستر العورة، فالعورة ما لا
يجوز كشفه حتى للمحارم من الرجال، وأما الحجاب فهو شيء فوق ستر العورة وهو ما حيل به بين النساء والأجانب من الرجال، وإن موضوع
البحث في هذه الآية هو الحجاب لا ستر العورة" (1) اهـ.
* وقال الشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي رحمه الله:
وزينة الوجه هي أكبر الزينة التي نهين عن إبدائها لأجنبي وكشفها، كما
أمر الرجال أن يغضوا أبصارهم عنها وعن كل محرم، ولهذا ما أحد ينظر إلى شيء من المرأة قبل وجهها لما جعل الله عليه الناس من تفضيل زينته وحسنه على كل زينة فيها، والله لم يخاطب الناس إلا بما يعقلون بفطرتهم، وما جرت به عادتهم ودلت عليه لغتهم، وليس من المعقول ولا من حكمة الله ولا دينه الذي أنزله رحمة وهداية وصيانة للأعراض والفضائل، وسياجا لها أن يحرم الزنا ووسائله، ويعظم عقوبته، ثم يبيح للنساء أن يكشفن وجوههن بين الرجال الأجانب، ويسفرن بها، ويتبرجن في الطرقات، لا مرية أن هذا أكبر دواعي الزنا وأسبابه، وهتك الأعراض،
(1)"تفسير سورة النور"(ص: 157- 158) .
والضرر بالرجال الذين جبلهم على الميل إلى زينة وجه المرأة وحسنه والمغالاة في المهر لأجله" (1) اهـ محل الغرض منه.
* وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله:
"إن الله تعالى نهى عن إبداء الزينة مطلقا إلا ما ظهر منها، وهي التي
لابد أن تظهر كظاهر الثياب، ولذلك قال:(إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ، لم
يقل: إلا ما أظهرن منها، ثم نهى مرة أخرى عن إبداء الزينة إلا لمن استثناهم فدل هذا على أن الزينة الثانية غير الزينة الأولى، فالزينة الأولى هي الزينة الظاهرة التي تظهر لكل أحد، ولا يمكن إخفاؤها، والزينة الثانية هي الزينة الباطنة التي يتزين بها، ولو كانت هذه الزينة جائزة لكل أحد لم يكن للتعميم في الأولى والاستثناء في الثانية فائدة معلومة.
4-
أن الله تعالى يرخص بإبداء الزينة الباطنة للتابعين غير أولى الإربة
من الرجال، وهم الخدم الذين لا شهوة لهم، وللطفل الصغير الذي لم يبلغ الشهوة، ولم يطلع على عورات النساء، فدل هذا على أمرين:
أحدهما: أن إبداء الزينة الباطنة لا يحل لأحد من الأجانب إلا لهذين الصنفين.
الثاني: أن علة الحكم ومداره على خوف الفتنة بالمرأة والتعلق بها، ولا ريب أن الوجه مجمع الحسن وموضع الفتنة، فيكون ستره واجبَا لئلا يفتتن به أولو الإربة من الرجال، (2) اهـ.
* وقال الدكتور محمد فؤاد البرازي- حفظه الله-:
لو كان المعنى بـ (مَا ظَهَرَ) الوجه والكفين، بمعنى أن العادة فيهما أنهما لا يُستران. بل يبرزان، لكان الملائم مقامًا في التعبير أن يكون: "إلا
(1)"تيسير الوحيين"(1/ 142- 143) .
(2)
"رسالة الحجاب"(ص: 8- 9) .
الظاهر منها"، وإنما قال النص: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فأشار إلى حصول ذلك عفوًا، ودون قصد حيث أسند الظهور إلى الشيء، لا إلى فاعله"(1) .
وقال أيضًا: ولا نرتاب في أن بعض السلف الذين فسروا: (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالوجه والكفين يشترطون مع ذلك أمن الفتنة، وإلا فهل يجيز واحد منهم لامرأة كشف وجهها - في مثل هذا الزمان أمام الرجال، وفيهم الفسقة لصوص الأعراض الذين يتشببون بمحاسن النساء، ويذرعون الطرقات بحثَا عنهن، والفتنة في هذا غالبة، إن لم نقل متحققة" (2) اهـ.
* وقال الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه الله تعالى:
قوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) الآية،
إن دلالة هذه الآية على الحجاب قوية إذ تضمنت الأمر بغض، البصر وحفظ الفرج، فحفظ الفرج لا يتم إلا بغض البصر، وغض البصر لا يتم إلا بالحجاب التام، وتقدم لنا في هذا الباب أن غض البصر يتأتى لأحد الجنسين وكلاهما مأمور به إذا لم يكن هنا اختلاط، أو مع الاختلاط فلا يتأتى، وليس في إمكان أي مؤمن أو مؤمنة أن يطيع ربه في هذا الأمر بحال.
ومن هنا كان مدلول كلمة الحجاب ليس هو أن تغطي المرأة محاسنها فحسب، بل مدلوله الحق هو أن يكون هناك حاجب وحاجز يحول دون اختلاط النساء بالرجال والرجال بالنساء، وعندئذ يمكن غض البصر وحفظ الفرج، ولما كان خروج المرأة ضروريا لما يطرأ لها من أمور تستدعي
(1)"حجاب المرأة في الأسلام" ص: 20) - طبعة مجلس إشاعهَ العلوم بالجامعة النظامية - حيدر آباد - الهند.
(2)
"السابق"(ص: 25) .
خروجها، أذن لها في الخروج ولكن غير مبدية لزينتها بل ساترة لها إلا ما لا يمكن ستره كعين تبصر بها، أو كف تتناول به أو ثياب عليها، وهذا معنى الاستثناء في الآية (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) وبه فسره غير واحد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم" (1) اهـ.
الدليل الخامس
قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) .
وهذا يتضمن أمر النساء بتغطية وجوههن ورقابهن، وبيان ذلك أن المرأة إذا كانت مأمورة بسدل الخمار من رأسها على جيبها لتستر صدرها فهي مأمورة ضمنًا بستر ما بين الرأس والصدر وهما الوجه والرقبة، وإنما لم يُذكر هاهنا للعلم بأن سدل الخمار إلى أن يضرب على الجيب لابد أن يغطيهما.
قد يطلق الاختمار لغة على تغطية الوجه
قال بعضهم في وصف امرأة بالجمال وهي مخمرة وجهها:
قل للمليحة في الخمار المذهب
…
أفسدت نسك أخي التقي المذهب
نور الخمار ونور خدك تحته
…
عجبا لوجهك كيف لم يتلهبَ
* قال الألباني:
فقد وصفها - يعني المليحة - بأن خمارها كان على وجهها أيضا (2) اهـ.
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
الخمر التي تغطى الرأس والوجة والعنق، والجلابيب التي تسدل من
(1)"فصل الخطاب في المرأة والحجاب "(ص، 50- 51) . (2)"حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص: 33)
فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان (1) اهـ.
* وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف حفظه الله:
قال تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) قد أمر الله تبارك وتعالى المرأة بعدم إبداء شيء من زينتها إلا ما ظهر منها عن غير قصد الفتنة، ثم أراد - جل ذكره - أن يعلمها كيف تحيط مواضع الزينة بلف الخمار الذي تضعه على رأسها فقال:(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ) يعني من الرأس وأعالي الوجه (عَلَى جُيُوبِهِنَّ) يعني الصدور حتى تكون بذلك قد حفظت الرأس وما حوى، والصدر وما تحته، وما بين ذلك من الرقبة وما حولها، لتضمن المرأة بذلك ستر الزينة الأصلية والفرعية، فمن استثنى شيئًا من تلك المنطقة المحرمة بنص القرآن العزيز، فعليه الدليل الذي يخصص هذا، ويحدد المستثنى، وهذا غير ممكن قطعًا، لأنه يحتاج إلى نص صريح من القرآن العزيز، أو من السنة المطهرة، وأنَّى لأولئك الذي قد استثنوا الوجه من تلك المنطقة بالأمور الظنية أن يأتوا بالدليل القطعي؟ ويشهد لما قلناه من تحريم خروج الزينة الأصلية والمنقولة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بزوجته صفية، وفعل أمهات المؤمنين، وفعل نساء المؤمنات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية، وآية الأحزاب، من الستر الكامل بالخمر والجلابيب (2) اهـ.
(1) نقله عنه في "السابق"(ص:)71.
(2)
"نظرات في حجاب المرأة المسلمة (ص: 44- 45)، وقال الشيخ أيضَا:
والقاعدة الأساسية في تفسير ألفاظ القرآن العزيز، وتطبيق ما أراده الله منها، فيما يختص بالرجال، مقيد بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله، وما كان من اختصاص النساء. فإن من فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته، لأنهن أعلى مستوى في الاقتداء لنساء المؤمنين إلى يوم القيامة. اهـ، وانظر أيضا كتابه ع:(70-71) ، (77- 79) .
* وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف أيضا:
"قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) صريح في إدناء الخمار من
الرأس إلى الصدر، لأن الوجه من الرأس الذي يجب تخميره عقلا وشرعًا وعرفا، ولا يوجد أي دليل يدل على إخراج الوجه من مسمى الرأس في لغة العرب، كما لم يأت نص على إخراجه أو استثنائه بمنطوق القرآن والسنة ولا بمفهومهما، واستثناء بعضهم له، ونفيهم بأنه غير مقصود في عموم التخمير مردود بالمفهوم الشرعي واللغوي ومغمور بأقوال بقية علماء السلف والخلف، كما هو مردود بقاعدتين اصطلح عليهما رجال الفقه في السنة.
الأولى: أن حجة الأثبات مقدمة على حجة النفي.
والثانية: أنه إذا تعارض مبيح وحاظر قدم الحاظر على المبيح.
الموضع الثالث: آية الحجاب في سورة الأحزاب فهي صريحة في تخمير الوجه لأنه - عنوان المعرفة". اهـ (1)
* وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين:
"قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) فإن الخمار ما تخمر به المرأة رأسها وتغطية بها كالغدقة (2) ، فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار على
جيبها كانت مأمورة بستر وجهها إما لأنه من لازم ذلك أو بالقياس، فإنه إذا وجب ستر النحر والصدر كان وجوب ستر الوجه من باب أولى لأنه موضع الجمال والفتنة، فإن الناس الذين يتطلبون جمال الصورة لا يسألون إلا عن الوجه، فإذا كان جميلًا لم ينظروا إلى ما سواه نظرا ذا أهمية، ولذلك إذا قالوا:"فلانة جميلة" لم يفهم من هذا الكلام إلا جمال الوجه،
(1)"نظرات" هامش (ص: 15) .
(2)
كذا بالأصل!
فتبين أن الوجه هو موضع الجمال طلبَا وخبرا، فإذا كان كذلك فكيف يفهم أن هذه الشريعة الحكيمة تأمر بستر الصدر والنحر، ثم ترخص في كشف الوجه" اهـ (1) .
" وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
"قال البخاري رحمه الله في "صحيحه": باب "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" وقال أحمد بن شبيب: حدثنا أبي، عن يونس، قال ابن شهاب
عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "يرحم الله نساء المهاجرات
الأول، لما أنزل الله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شققن مروطهن فاختمرن بها" (2) .
حدثنا أبو نعيم، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن
صفية بنت شيبة أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: "لما نزلت هذه الآية (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي
فاختمرن به" اهـ. من صحيح البخارى.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الفتح" في شرح هذا الحديث: "قوله: (فاختمرن) أي غطين وجوههن، وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهو التقنع، قال الفراء: كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها فأمرن بالاستتار".
وقال الحافظ أيضَا في كتاب (الأشربة) في أثناء تعريف الخَمر: ومنه خمار
(1)"رسالة الحجاب"(ص: 7-8) .
(2)
قال الشيخ محمود بن أحمد العيني في "عمدة القاري"(10/ 92) : (قوله: "نساء المهاجرات" أي: النساء المهاجرات، قوله: "مروطهن" جميع مِرْط بكسر الميم، وهو الإزار، وقوله: "فاختمرن بها" أي: غطين وجوههن بالمروط التي شققنها) اهـ.
المرأة لأنه يستر وجهها" اهـ.
* قال الشنقيطي رحمه الله في حديث عائشه هذا:
"وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النساء الصحابيات المذكورات فيه فهمن أن معنى قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) يقتضي ستر
وجوههن، وأنهن شققن أزُرَهن فاختمرن أي سترن وجوههن بها امتثالًا لأمر الله في قوله تعالى:(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) المقتضي ستر
وجوههن.
وبهذا يتحقق المنصف: أن احتجاب المرأة عن الرجال وسترها وجهها عنهم ثابت في السنة الصحيحة المفسرة لكتاب الله تعالى، وقد أثنت عائشة رضي الله عنها على تلك النساء بمسارعتهن لامتثال أوامر الله في كتابه، ومعلوم أنهن ما فهمن ستر الوجوه من قوله:(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) إلا من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه موجود وهن يسألنه عن كل ما أشكل عليهن في دينهن، والله جل وعلا يقول:(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فلا يمكن أن يفسرنها من تلقاء أنفسهن" اهـ من "أضواء البيان".
وقد روي ابن أبي حاتم من حديث صفية بنت شيبة قالت: بينما نحن عند عائشة قالت: فذكرن نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة رضي الله عنها: "إن لنساء قريش لفضلًا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة
النور: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مِرطِها المرحل فاعتجرت به تصديقا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات (1)
(1) قال محمد بن الحسن: لا يكون الاعتجار إلا مع تنقب، وهو أن يلف بعض =
كأن على رؤوسهن الغِرْبان"
ومعنى معتجرات: مختمرات كما جاء موضحَا في رواية البخاري المذكورة أنفًا، والاعتجار: هو لَف الخمار على الرأس مع تغطية الوجه. قال ابن الأثير: "وفي حديث عُبيد الله بن عدي بن الخيار: جاء وهو معتجر بعمامته ما يَرى وحشي منه إلا عينيه ورجليه، الاعتجار بالعمامة هو أن يلفها على رأسه وَيرُدّ طرَفَها على وجهه ولا يعمل منها شيئًا تحت ذقنه" اهـ.
* قال العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
"فترى عائشة رضي الله عنها مع علمها وفهمها وتقاها أثنت عليهن هذا الثناء العظيم، وصرحت بأنها ما رأت أشدَّ منهن تصديقًا بكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل، وهو دليل واضح على أن فهمهن لزوم ستر الوجوه من قوله تعالى:(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) من تصديقهن بكتاب الله وإيمانهن بتنزيله (1) ، وهو صريح في أن احتجاب النساء عن الرجال وسترهن وجوههن تصديق بكتاب الله وإيمان بتنزيله كما ترى.
فالعجب كل العجب ممن يدعي من المنتسبين للعلم أنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة ما يدل على ستر المرأة وجهها عن الأجانب، مع أن الصحابيات فعلن ذلك ممتثلات أمر الله في كتابه إيمانا بتنزيله، ومعنى هذا
= العمامة على رأسه، وطرفا منه يجعله شبه المعجر للنساء وهو أن يلفه حول وجهه اهـ. من "المبسوط"(1/ 31)
(1)
وقال الشيخ أبو هشام الأنصاري:
(ومن الطرائف أن بعضهم استدل بقوله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) على أن الوجه ليس بداخل في الحجاب، لأن الله تعالى لم يأمر فيه بستر الوجه، أقول:
نعم إن الله لم يأمر هنا بستره، ولكنه لم يأمر هنا بستر الرأس والعنق والعضدين
أيضا، فهل يجوز لهما كشف هذه الأعضاء؟ فما هو جوابكم فهو جوابنا) . اهـ
من "مجلة الجامعة السلفية" عدد مايو، ويونيو 1978.
ثابت في الصحيح كما تقدم عن البخاري، وهذا من أعظم الأدلة
وأصرحها في لزوم الحجاب لجميع نساء المسلمين كما ترى" (1) اهـ.
الدليل السادس
قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ)
* وقال الشيخ أبو بكر الجزائري:
قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) إن دلالة هذه الآية على الحجاب الكامل أظهر وأقوى من الآيات السابقة، وذلك لأن إثارة الفتنة بسماع صوت الخلخال في الرجل إذا ضربت المرأة برجلها وهي تمشي أقل بكثير من فتنة النظر إلى وجهها وسماع حديثها، فإذا حرم الله تعالى بهذه الآية على المرأة أن تضرب الأرض برجلها خشية أن يسمع صوت حليها فيفتن به سامعه كان تحريم النظر إلى وجهها- وهو محط محاسنها- أولى وأشد حرمة" (2) اهـ.
* وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين:
"قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) يعني: لا تضرب المرأة برجلها فيعلم ما تخفيه من الخلاخيل ونحوها مما تتحلى به للرجل، فإذا كانت المرأة منهية عن الضرب بالأرجل خوفا من افتتان الرجل بما يسمع من صوت خلخالها ونحوه فكيف بكشف الوجه.
فأيما أعظم فتنة أن يسمع الرجل خلخالا بقدم المرأة لا يدري ما هي وما جمالها لا يدري أشابة هي أم عجوز، ولا يدري أشوهاء هي أم حسناء، أيما أعظم فتنة هذا أو أن ينظر إلى وجه سافر جميل ممتلئ شبابَا
(1)"أضواء البيان"(6/595)
(3)
"فصل الخطاب"(ص: 41)
ونضارة وحسنا وجمالا وتجميلا بما يجلب الفتنة، ويدعوا إلى النظر إليها؟ إنَّ كل إنسان له إربة في النساء ليعلم أي الفتنتين أعظم وأحق بالستر والإِخفاء" (1) .
* وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف:
قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) يؤخذ من هذا أن الله تعالى حرَّم على المرأة ما يدعو إلى الفتنة، حتى بالحركة والصوت، وهذا غاية في تأديب المسلمة، ومبالغة في حفظ كرامتها، ودفع الشر عنها، فلو كان شيء أخفى من هذا لذكره جل شأنه توجيهَا للمرأة المسلمة وتعليمًا لها، فما أكرمها على الله حيث تمتثل أوامره، وتعمل بأحكامه، وما أنقصها وأفسدها لما وهبها حينما تخالف أمره، ومن هذه النبذة يظهر لنا ملموسًا - كما يظهر للناس جميعًا - أن المرأة حينما تكون متحجبة ساترة لمواضع زينتها، فإن جِبلة الرجل تتوق إلى النظر لأدنى شيء يبدو منها، فهي قد احتفظت بنور يعترفه كل أحد تحت هذه الحجب.
بخلاف المرأة السافرة التي قد بذلت مواهبها الأصليه والمكتسبة للناظرين، فكل مبذول ممتهن، وقد نزع الله تعالى منها النور الذي يهبه لمن أطاعه واتقاه، فلو علمت المرأة السافرة والمتبرجة، ومن بذلت نفسها ممتهنة للسوقة والأنذال ما تحت هذا الخمار من النور والكرامة لسارعت إليه، فسبحان من له في خلقه شؤون!.
فالله سبحانه وتعالى أدَّب من أطاعه من النساء، ووجههن أكمل توجيه، وعلمهن من العلم النافع ما يكنَّ به عضوا نافعًا في المجتمعات
الإنسانية، وأما صالحة كريمة. . .
(1)"رسالة الحجاب"(9 – 10) .
ومن أجل ذلك جاء القرآن العزيز بتوجيهها التوجيه الذي يحبه الله ويرضاه، فبدأها في هذه الآية بأعلى ما فيها وأفضله، وهو الرأس، وختمهما بأسفل ما فيها وأدناه، وهي الأرجل، فيؤخذ من هذا أن المرأة عورة، حرام عليها أن يظهر من بدنها أي شيء يراه الرجال الأجانب منها، حتى ما وضعته على سبيل التجمل، سواء في ذلك ما كان ظاهرًا أو خفيا من الرأس حتى القدم" (1) اهـ.
* وقال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله:
قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) وهذا يدل
على أن النساء يجب عليهن أن يسترن أرجلهن أيضا، وإلا استطاعت إحداهن أن تبدي ما تخفي من الزينة، وهي الخلاخيل، ولاستغنت بذلك عن الضرب بالرجل، ولكنها كانت لا تستطيع ذلك، لأنه مخالفة للشرع مكشوفة، ومثل هذه المخالفة لم تكن معهودة في عصر الرسالة، ولذلك كانت إحداهن تحتال بالضرب بالرجل لتُعْلِم الرجال ما تخفي من الزينة، فنهاهن الله عن ذلك" (2) اهـ.
ونقل عن ابن حزم رحمه الله قوله بأن هذا نص على أن الرجلين
والساقين مما يخفى، ولا يحل إبداؤه.
ولا ريب أن الفتنة المتوقعة من كشف الوجه أعظم بكثير وأشد ضراوة
من فتنة كشف القدمين أو الضرب بالأرجل، والله أعلم.
الدليل السابع
قوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ
(1)"نظرات في حجاب المرأة المسلمة"(ص: 45- 47) . (2)"حجاب المرأة المسلمة"(ص 36)
سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور: 60]
* قال شيخ المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله تعالى -:
يقول تعالى ذكره: واللواتي قد قعدن عن الولد من الكبر من النساء،
فلا يحضن، ولا يلدن، واحدتهن قاعد (اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) يقول:
اللاتي قد يئسن من البعولة فلا يطمعن في الأزواج (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) يقول: فليس عليهن حرج، ولا إثم أن يضعن ثيابهن، يعني جلابيبهن، وهي القناع الذي يكون فوق الخمار، والرداء الذي يكون فوق الثياب، لا حرج عليهن أن يضعن ذلك عند المحارم من
الرجال، وغير المحارم من الغرباء، غير متبرجات بزينة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله:(وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا)
وهي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار، وتضع عنها
الجلباب، ما لم تتبرج لما يكره الله، وهو قوله:(فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) .
ثم قال: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) حُدّثتُ عن الحسين، قال: سمعت
أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) : يعني الجلباب، وهو القناع، وهذا للكبيرة التي قعدت عن الولد، فلا يضرها أن لا تتجلبب فوق الخمار، وأما كل امرأة مسلمة حُرَّة، فعليها إذا بلغت المحيض أن تدني الجلباب على الخمار، وقال الله في سورة الأحزاب:(نَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) اهـ.
ثم روى بإسناده عن مجاهد قال: (ثِيَابَهُنَّ) : جلابيبهن، وقال ابن زيد: وضع الخمار، وقال ابن مسعود: الجلباب أو الرداء أو الملحفة، إلى أن قال رحمه الله: وقوله: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) يقول: وإن تعففن عن وضع جلابيبهن وأرديتهن، فيلبسنها خير لهن من أن يضعنها، وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل ثم ذكر بسنده عن مجاهد قال: أن
يلبسن الجلابيب، وعن الشعبي قال: ترك ذلك، يعني ترك وضع الثياب" (1) اهـ.
* وقال الإمام أبو بكر الجصاص رحمه الله تعالى:
وقوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) الآية قال
ابن مسعود ومجاهد: والقواعد اللاتي لا يرجون نكاحا هي اللاتي لا يردنه، وثيابهن: جلابيبهن، وقال إبراهيم وابن جبير: الرداء، وقال الحسن: الجلباب والمنطق، وعن جابر بن زيد: يضعن الخمار والرداء.
قال أبو بكر: لا خلاف في أن شعر العجوز عورة لا يجوز للأجنبي النظر إليه كشعر الشابة، وأنها إن صلت مكشوفة الرأس كانت كالشابة في فساد صلاتها، فغير جائز أن يكون المراد وضع الخمار بحضرة الأجنبي.
فإن قيل: إنما أباح الله تعالى لها بهذه الآية أن تضع خمارها في الخلوة بحيث لا يراها أحد، قيل له: فإذا لا معنى لتخصيص القواعد بذلك إذ كان للشابة أن تفعل ذلك في خلوة، وفي ذلك دليل على أنه إنما أباح للعجوز وضع ردائها بين يدي الرجال بعد أن تكون مغطاة الرأس، وأباح لها بذلك كشف وجهها ويدها لأنها لا تشتهي، وقال تعالى:(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) فأباح لها وضع الجلباب، وأخبر أن الاستعفاف
بأن لا تضع ثيابها أيضًا بين يدي الرجال خير لها" (2) اهـ.
(1)"جامع البيان"(18/ 165- 167) .
(2)
"أحكام القرآن"(3/ 333- 334) .
* وقال الإمام الفقيه عماد الدين الطبري المعروف بإلكيا الهراس رحمه الله:
قوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) الآية: عني به الكبيرة السن، وجوز لها أن تضع الرداء واللحاف أو الخمار، قال ابن عباس: المراد به الجلباب من فوق الخمار، ومعلوم أنه غير مجوز لها أن تكشف من بدنها عورة لأنه إن كان حالة الخلوة بنفسها فالعجوز والشابة سواء، وإن كان بين الناس فالواجب حمله على الجلباب وما فوق الخمار لا
نفس الخمار لأن من شأن الجلباب أن يبلغ مع الستر النهاية، ومع الخمار
قد ينكشف من رؤوسهن وأعناقهن بعض التكشف، فأبان الله تعالى أن هذا التحرز ليس وجوبه عليهن كوجوبه على الشابات لأنه ليس في النظر إليهن من خوف الافتتان كما في النظر إلى الشابة، ولذلك قال في آخره:(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ)(1) اهـ.
* ونقل الإمام محيي السنة البغوي رحمه الله في تفسيره "القواعد" عن ربيعة الرأي قال: هُنَّ العُجَّز اللاتي إذا رآهن الرجال استقذروهن، فأما من كانت فيها بقيهَ من جمال، وهي محل الشهوة، فلا تدخل في هذه الآية (2) اهـ.
* وقال أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي في "تفسيره":
"قوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ. . .) الآية، والمراد بالثياب: الثياب
الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) غير مظهرات زينة، يريد الزينة الخفية التي أرادها في قوله:(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) أو غير قاصدات بالوضع التبرج ولكن التخفف إذا
(1)"تفسير إلكيا الهراس الطبري".
(2)
"معالم التنزيل".
احتجن إليه، والاستعفاف من الوضع خير لهن، لما ذكر الجائز عقبه بالمستحب بعثَا منه على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها كقوله:(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ)(1) اهـ.
* وقال الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي رحمه الله تعَالى:
قوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ) الآية: قرر الزمخشري هذه الآية على ظاهرها، ويظهر لي - والله أعلم - أن قوله تعالى:(غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ)
من باب "على لاحب لا يهتدى بمناره"(2) أي: لا منار فيه فيهتدى به، وكذلك المراد هنا: والقواعد من النساء اللاتي لا زينة لهن فيتبرجن بها لأن
الكلام فيمن هي بهذه المثابة، وكأن الغرض من ذلك أن هؤلاء استعفافهن عن وضع الثياب خير لهن فما ظنك بذوات الزينة من الثياب؟.
(1)"الكشاف"(3/76) .
(2)
قال الإمام جمال الدين محمد بن نباته المصري:
على لاحب لايهتدى بمناره
…
إذا سافه العود النباطي جرجرا
يصف قفرا، لا أعلام فيه، وقوله "لا يُهتدى بمناره" يعني ليس فيه منار يهتدى
به، لا أن فيه منارا إلا أنه لا يهدي، والعود: الجمل البالغ تمام سنة، وسافه:
إذا شمه، وجرجرا: إذا حن، وعادة الإبل أن تشم الأرض التي لا تعرفها،
فتحن لعلمها ببعد المسافة اهـ. من "سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون" ص: 186.
ونظيره قول عبيد بن وهب العبسي، وقيل: زهير:
بأرض فضاء لا يسد وصيدها
…
عليَّ ومعروفي بها غير منكر
أي لا يسد بابها علي، يعني: ليست فيها أبواب حتى تسد، على حد قول الآخر:
ولا ترى الضب بها ينجحر. اهـ من "أضواء البيان"(4/42) .
ومثله في القرآن الكريم قوله تعالى: (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) كأنهم قالوا:
ولا تأويل للأحلام الباطلة، فنكون به عالمين. اهـ من "محاسن التأويل" للقاسمي (9/ 3546 - 3547) .
وأبلغ ما في ذلك أنه جعل عدم وضع الثياب في حق القواعد من الاستعفاف إيذانًا بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة، هذا في القواعد
فكيف بالكواعب؟ والله أعلم" (1) اهـ.
* قال الإِمام البيهقي في "سننه":
باب ما جاء في القواعد من النساء:
أخبرنا أبو علي الروذباري، أنبأ أبو بكر بن داسه، ثنا أبو داود، ثنا
أحمد بن محمد المروزي، ثنا علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد
النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) الآية فنسخ واستثنى من ذلك (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) الآية (2) اهـ.
* وقال الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
قوله تعالى: (أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) أي: عند الرجال، ويعني بالثياب: الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار، هذا المراد بالثياب لا جميع الثياب (3) ، (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) أي من غير أن يردن بوضع الحجاب أن تُرى زينتهن، والتبرج: إظهار المرأة محاسنها، (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) فلا يضعن تلك الثياب (خَيْرٌ لَهُنَّ) .
وقال ابن قتيبة: والعرب تقول: امرأة وأضع إذا كبرت فوضعت الخمار، ولا يكون هذا إلا في الهرمة، قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه
الآية دلالة على أنه يباح للعجوز كشف وجهها ويديها بين يدي الرجال،
وأما شعرها فيحرم النظر إليه كشعر الشابة" اهـ.
(1)"الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال" بهامش "الكشاف"(3/ 76) .
(2)
"السنن الكبرى للبيهقي (7/ 93) .
(3)
لأنه من باب إطلاق الكل، وإرادة الجزء.
* وقال الرازي في "تفسيره":
لا شبهة أنه تعالى لم يأذن في أن يضعن ثيابهن أجمع لما فيه من كشف كل عورة فلذلك قال المفسرون: المراد بالثياب هنا الجلباب والبرد والقناع الذي فوق الخمار، وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ (أن يضعن جلابيبهن) وعن السدي عن شيوخه: أن يضعن خمرهن عن
رؤوسهن، وعن بعضهم أنه قرأ (أن يضعن من ثيابهن) وإنما خصهن الله تعالى بذلك لأن التهمة مرتفعة عنهن، وقد بلغن هذا المبلغ، فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهن وضع الثياب، ولذلك قال:(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) وإنما جعل ذلك أفضل من حيث هو أبعد من المظنة، وذلك يقتضي أن عند المظنة يلزمهن أن لا يضعن ذلك كما يلزم مثله في الشابة" (1) اهـ.
* وقال الإمام أبو عبد الله القرطبي رحمه الله:
قوله تعالى: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) أي: غير مظهرات ولا معترضات بالزينة لينظر إليهن، فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق.
والتبرج: التكشف والظهور للعيون، ومنه بروج مشيدة، وبروج السماء والأسوار؛ أي: لا حائل دونها يسترها، وقيل لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين ما تقولين في الخضاب والصباغ والتمائم والقرطين والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب؟ فقالت: يا معشر النساء،
قصتكن قصة امرأة واحدة أحل الله لكُنَّ الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكن أن يروا منكن مُحرما" (2)(3) اهـ.
(1)"التفسير الكبير"(6/ 307) .
(2)
رواه ابن أبي حاتم - كذا في "تفسير القرآن العظيم"(6/ 91) .
(3)
"الجامع لأحكام القرآن"(12/ 309- 311) .
وعن عاصم الأحول قال: كنا ندخل على حفصة بنت سيرين وقد جعلت الجلباب هكذا، وتنقبت به، فنقول لها: رحمك الله، قال الله تعالى:(وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) : هو الجلباب، قال: فتقول لنا: "أي شيء بعد ذلك؟ " فنقول: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) فتقول: "هو إثبات الحجاب"(1) .
* وقال الشيخ إسماعيل حقي رحمه الله تعالى:
" (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ) عند الرجال (ثِيَابَهُنَّ) أي: الثياب الظاهرة كالجلباب والإزار فوق الثياب والقناع فوق الخمار"(2) .
وقال أيضَا رحمه الله. "اعلم أن العجوز إذا كانت حيث لا تشتهى جاز النظر إليها لأمن الشهوة، وفيه إشارة إلى أن الأمور إذا خرجت عن معرض الفتنة، وسكنت نائرة الآفات سهل الأمر وارتفعت الصعوبة وأبيحت الرخص، ولكن التقوى فوق أمر الفتوى كلما أشار إليه قوله تعالى: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) وفي الحديث: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذرَا مما به بأس" (3) .
(9) تقدم تخريجه، وحفصة هي أم الهذيل الأنصارية البصرية التابعية أخت محمد بن
سيرين، قال ابن معين:"ثقة حجة"، وقال إياس بن معاوية:"ما أدركت أحدًا أفضله عن حفصة" وذكرها ابن حبان في "الثقات"، وانظر:"تهذيب التهذيب"(12/409 -410) .
(2)
"روح البيان"(6/ 178) .
(3)
أخرجه الترمذي (2451)، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه،
وابن ماجه (4215) ، والحاكم (4/319) وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي
(5/335) عن عطية السعدي رضي الله عنه مرفوعَا، وفيه عبد الله بن يزيد الدمشقي، قال فيه الجوزجاني:"روى عنه ابن عقيل أحاديث منكرة".
انظر: "تهذيب التهذيب"(6/ 82- 83) .
قال ابن سيرين: ما غشيت امرأة قط لا في يقظة ولا في نوم غير أم عبد الله، وإني لأرى المرأة في المنام فأعلم أنها لا تحل لي فأصرف بصري (1)، قال بعضهم:"ليت عقلي في اليقظة كعقل ابن سيرين في المنام"(2) اهـ.
* وقال علامة القصيم عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى:
(فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ) أي: حرج وإثم (أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) أي: الثياب الظاهرة كالخمار ونحوه الذي قال الله فيه للنساء (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) فهؤلاء يجوز لهن أن يكشفن وجوههن لأمن المحذور منها وعليها.
ولما كان نفي الحرج عنهن في وضع الثياب ربما تُوهم منه جواز استعمالها لكل شيء دفع هذا الاحتراز بقوله: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) أى: غير مظهرات للناس زينة من تجمل بثياب ظاهرة وتستر وجهها، ومن ضرب الأرض ليعلم ما تخفي من زينتها لأن مجرد الزينة على الأنثى ولو مع تسترها ولو كانت لا تشتهى يفتن فيها ويوقع الناظر إليها في الحرج (3) اهـ.
* قال العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:
"وأظهر الأقوال في قوله: (أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) أنه وضع ما يكون فوق الخمار والقميص من الجلابيب التي تكون فوق الخمار والثياب، فقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) دليل واضح على أن المرأة التي فيها جمال ولها طمع في النكاح لا يرخص لها في وضع شيء من ثيابها ولا الإخلال بشيء من التستر بحضرة الأجانب"(4) اهـ.
(1) ومثله قول بعضهم في مدح عفيف:
إن هََم في حُلْم بفاحشة
…
زجرته عفته فينتبهُ
(2)
"روح البيان"(6/ 178) .
(3)
"تيسير الكريم الرحمن"(5/218) .
(4)
"أضواء البيان"(6/ 591) .
* وقال العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى:
يخبر سبحانه أن القواعد من النساء وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحًا لا جناح عليهن أن يضعن ثيابهن عن وجوههن وأيديهن إذا كن غير متبرجات بزينة.
فعلم بذلك أن المتبرجة بالزينة ليس لها أن تضع ثوبها عن وجهها ويديها وغير ذلك من زينتها، وأن عليها جناحا في ذلك ولو كانت عجوزا، لأن كل ساقطة لها لاقطة (1) ، ولأن التبرج يفضي إلى الفتنة بالمتبرجة ولو كانت عجوزًا فكيف يكون الحال بالشابة والجميلة إذا تبرجت؟ لا شك أن إثمها أعظم والجناح عليها أشد، والفتنة بها أكبر.
وشرط سبحانه في حق العجوز أن لا تكون ممن يرجو النكاح، وما
ذاك،- والله أعلم- إلا لأن رجاءها النكاح يدعوها إلى التجمل والتبرج طمعًا في الأزواج، فنهيت عن وضع ثيابها عن محاسنها صيانة لها ولغيرها من الفتنة، ثم ختم الآية سبحانه بتحريض القواعد على الاستعفاف
وأوضح أنه خير لهن، وإن لم يتبرجن، فظهر بذلك فضل التحجب والتستر بالثياب ولو من العجائز وأنه خير لهن من وضح الثياب فوجب أن يكون التحجب والاستعفاف عن إظهار الزينة خيرًا للشابات من باب أولى،
وأبعد لهن عن أسباب الفتنة" (2) اهـ.
* وقال التويجري رحمه الله:
ومفهوم الآية الكريمة أن من لم تيأس من النكاح بعد وهي التي قد بقي فيها بقية من جمال وشهوة للرجال فليست من القواعد، ولا يجوز لها وضع
(1) وقالوا في هذا المعنى:
لكل ساقطة في الحي لاقطة
…
وكل كاسدة يومًا لها سوق (2)"رسالة الحجاب والسفور"(ص: 6-8) .
شيء من ثيابها عند الرجال الأجانب، لأن افتتانهم بها وافتتانها بهم غير مأمون" (1) اهـ.
***
(1)"الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور"(ص: 63) .