الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول:
فضائل الحجاب
أولًا: الحجاب طاعة لله عز وجل وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوجب الله تعالى طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)[الأحزاب: 36، 37] )
وقال عز وجل: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)[النساء: 65] )
وقد أمر الله سبحانه وتعالى النساء بالحجاب فقال عز وجل:
(وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور: 31] ) ،.
وقال سبحانه: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب: 33] ) ،
وقال تبارك وتعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53] ) ،
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب: 59] ) ،.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة"(1) يعني أنه يجب سترها.
(1) تقدم تخريجه.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أختٍ له نذرت أن
تحج حافية غير مختمرة، فقال:"مروها فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام "(1) .
قال الخطابي رحمه الله: أما أمره إياها بالاختمار، فلأن النذر لم ينعقد
فيه؛ لأن ذلك معصية، والنساء مأمورات بالاختمار والاستتار. اهـ (2) . ثانيَا: الحجاب إيمان
والله سبحانه وتعالى لم يخاطب بالحجاب إلا المؤمنات، فقد قال سبحانه:(وَقُل لِلِمُؤمِنَاتِ) وقال عز وجل: (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) .
ودخل نسوة من بني تميم على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عليهن ثياب رقاق، فقالت: إن كنتن مؤمنات، فليس هذا بلباس المؤمنات، وإن كنتن غير مؤمنات، فتمتعن به" (3) ، وأدْخِلت امرأة عروس عليها رضي الله عنها، وعليها خِمار قبطي معصفر، فقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: " لم تؤمن بسورة النور امرأة تلبس هذا" (3) .
ثالثا: الحجاب طهارة
بَيَّن الله سبحانه الحكمة من تشريع الحجاب، وأجملها قي قوله تعالى:
((وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53] )) ، فنص سبحانه على أن الحجاب طهارة لقلوب المؤمنين والمؤمنات.
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/145) ، سنن أبي داود (3/ 233) رقم (3293) ، سنن ابن ماجه (1/ 654) ، سنن الترمذي (4/116) ، وحسنه، سنن النسائي (7/20) ، وضعفه الألباني في إرواء الغليل " (8/218) رقم (2592) .
(2)
"معالم السنن"(4/ 376) .
(3)
"تفسير القرطبي"(14/ 244) .
وبيان ذلك أنه إذا لم تر العين لم يشته القلب، أما إذا رأت العين فقد يشتهي القلب، وقد لا يشتهي، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة حينئذ أظهر؛ لأن الرؤية سبب التعلق والفتنة، فكان الحجاب أطهر للقلب، وأنفى للريبة، وأبعد للتهمة، وأقوى في الحماية والعصمة "
رابعا: الحجاب عفة
رغَب الإسلام في التعفف (1) ، وعظَّم شأنه، وكان صلى الله عليه وسلم يأمر به، وَيَحُثُّ عليه، ففي الحديث أن هرقل سأل أبا سفيان: ماذا يأمركم؟ - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ففال: قلت: يقول "اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة"(2) .
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "أسألك الهدى والتقى والعفة"(3)، وفي لفظ آخر:"إني أسألك الهدى والتقى والعفاف "(4) الحديث.
والعفة صفة من صفات الحور العين التي أشار إليها قوله تعالى: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)[الرحمن: 72] ) ، وقوله عز وجل:(وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)[ص: 52] ) ، وقوله جل وعلا:(وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)[الصافات: 48] )
فقوله جل وعلا: (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) يعني: أنهن عفيفات لا ينظرن إلى
(1) العفة: حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة، والمتعفف: المتعاطي لذلك بضرب من الممارسة والقهر، انظر:"المفردات " للراغب (ص 507) .
(2)
جزء من حديث طويل رواه البخاري (1/43) في كتاب بدء الوحي وغيره، ومسلم في كتاب الجهاد، والإمام أحمد (1/ 262- 263) .
(3)
رواه الإمام أحمد (1/ 389، 434، 443) .
(4)
رواه مسلم في كتاب الذكر، والترمذي في الدعوات، وابن ماجه في الدعاء، والإمام أحمد (1/411، 416، 437) .
غير أزواجهن، (عِينٌ) أي: حسان الأعين، جميلات المظهر، عفيفات تقيات نقيات.
فقد جعل سبحانه عفتهن قرينة حجابهن وقرارهن في خيامهن، وامتدحهن بالعفة مع الجمال، فأعظم ما تكون العفة إذا ما اقترنت بالجمال، وقد وصف بهما يوسف عليه السلام في قول امرأة العزيز:(فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ)[يوسف: 32] ) ،.
ومن إعظام الإسلام لأمر العفاف أن شرط في إباحة الزواج من الكتابيات كونهن محصنات أي عفائف، كما أن العفة في القرآن خلق المؤمنات وسجية المحجبات.
وقد جعل الله عز وجل الحجاب عنوان عفة المرأة عن التهمة الموجبة للتأذي:
* فقال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ) الإدناء (أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) بأنهن عفائف (فَلَا يُؤْذَيْنَ) فلا يتعرض لهن الفساق بأذى من قول أو فعل، وذلك لأن التي تبالغ في التستر حتى تحجب وجهها لا يُطمع فيها أنها تكشف عورتها.
والآية دليل على وجود أذية إن لم يحتجبن، وذلك لأنهن إذا لم يحتجبن ربما ظُنَّ أنهن غير عفيفات، وقوله تعالى:(فَلَا يُؤْذَيْنَ)[الأحزاب: 59] ، نص على أن في معرفة محاسن المرأة إيذاءً لها ولذويها بالفتنة والشر.
وقال سبحانه وتعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) رخص لهن في وضع الجلابيب، ورفع الإثم عنهن في ذلك، ثم عقبه ببيان المستحب فقال عز وجل:(وأن يستعففن) باستبقاء الجلابيب (خير لهن والله سمِيع
عليمٌ) [النور: 60] فحرض القواعد العجائزْ على الاستعفاف، وأوضح أنه خير لهن وإن لم يتبرجن.
فظهر بذلك فضل التحجب والتستر بالثياب ولو من العجائز (1) ، فوجب أن يكون التحجب الكامل والاستعفاف عن إظهار الزينة خيرًا للشابات من باب أولى، وأبعد لهن عن أسباب الفتنة، فظهر بذلك أن الحجاب عفة ونقاء وصيانة.
خامسا: الحجاب ستر
عن يعلى بن شداد بن أوس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى
حَيِيٌّ ستير، يحب الحياء والستر" (2) الحديث.
وقد امتن الله سبحانه وتعالى على الأبوين بنعمة الستر فقال عز وجل:
(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)) [طه: 118]، وقال سبحانه ممتنًا على عباده:(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) الآية [الأعراف: 26] ،
قال عبد الرحمن بن أسلم:، يتقى الله فيواري عورته، فذاك لباس التقوى) .
ولذلك تجد وظيفة اللباس عند من لا يتقون الله ولا يستحيون منه كعامة
(1) وذلك لأن النفس الأبية لا ترضى بالدون، وقد عاب الله عز وجل قومًا استبدلوا طعاما بطعامِ أدنى منه، فنعى ذلك عليهم فقال عز من قائل:(أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)[البقرة: 61] ؛ لأن ذلك دليل
على وضاعة النفس وقلة قيمتها.
(2)
رواه أبو داود رقم (4012) و (4013) في الحمام: باب النهي عن التعري، والنسائي (1/ 200) في الغسل: باب الاستتار عند الاغتسال، ورواه الإمام أحمد
في "المسند"(4/244) .
(3)
قال في "الدر المنثور": أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 76) .
الغربيين مثلًا، لا يتجاوز غرض الزينة والرياش، وأما المؤمنون المتقون فإنهم يحرصون على اللباس؟ أولَا لستر العورات التي يستحيا من إظهارها، ثم بعد ذلك لهم سعة في إباحة الزينة والتجمل.
إن الذنوب معايب يُبْتعدُ عنها، ويُستتر منها، والعورات كذلك معايب يجب أن تستر، ويبتعد عما يحرم منها، وكأن المكثرين من الخطايا هم الذين لا يبالون بما يبدو من عوراتهم، ومن هنا ترى المؤمنين المبتعدين عن الذنوب بعيدين عن إظهار العورات.
وجوب ستر العورات
قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف: 31] .
وقال جل وعلا: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) [النور: 30، 31] ، ويدخل في حفظ الفروج حفظها عن التكشف، وعن أن يُنظر إليها. وعن جابر بن صخر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا نُهينا أن تُري عوراتنا "(1) .
حب الستر من أخلاق الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام
* فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن موسى كان رجلًا حَييًّا سِتِّيرًا، لايرى من جلده شيء، استحياءً منه "(2) الحديث.
(1) رواه الحاكم (3/ 222- 223) ، وابن أبي حاتم في العلل (2/ 276) .
(2)
رواه البخاري (1/ 459) في الغسل: باب من اغتسل عريانا وحده، وفي =
وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي "(1) الحديث، وفي لفظ:"اللهم استر عورتي ".
* وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "احفظ عورتك، إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينُك "، قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: "إن استطعت أن لايرينها أحد فلا يَرينها"، قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: "فالله تبارك وتعالى أحق أن يُستحيا منه من الناس "(2) .
فيستحب ستر العورة حتى في حال الخلوة - وقيل يجب؛ تأدبا مع الله سبحانه وتعالى، لقوله صلى الله عليه وسلم:"فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه من الناس ".
وعن سعيد بن يزيد رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني فقال: "أوصيك أن تستحيي من الله تعالى كما تستحيي من الرجل الصالح من
= الأنبياء: باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام، وفي تفسير سورة
الأحزاب، والترمذي (3219) في التفسير- سورة الأحزاب، والإمام أحمد (2/515) .
(1)
جزء من حديث رواه عن ابن عمر رضي الله عنهما أبو داود في "الأدب "(4/ 318- 319) رقم (5074) ، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" رقم (40) ص (15) ، والحاكم في "الدعاء"(1/517)، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن ماجه في "الدعاء"(2/1273) – 1274) رقم (3871) ، وابن حبان في "صحيحه " رقم (2356) موارد، وصححه النووي في " الأذكار" ص (66) ، وحسنه الحافظ ابن حجر كما في "الفتوحات الربانية "(1/ 108) .
(2)
رواه أبو داود رقم (4017)، في الحمام: باب ما جاء في التعري، والترمذي (2670) و (2795) في الأدب: باب ما جاء في حفظ العورة، وابن ماجه،
وذكره البخاري تعليقا بصيغهّ الجزم (1/266) في الغسل: باب من اغتسل
عريانا وحده في خلوة فالتستر أفضل، وقال الحافظ في "الفتح ": وإسناده إلى بهز صحيح اهـ، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم
قومك " (1) .
* وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة "(2) الحديث.
بل ندبتنا الشريعة إلى الستر حتى عن أعين الجن الذين يَرَوْننا ولا نراهم.
* فعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا وضع أحدهم ثوبه أن يقول: بسم الله "(3)، وعن علي رضي الله عنه بلفظ:"إذا دخل أحدهم الخلاء"(4) .
وكل ما تقدم من الأدلة في حق الرجال فهو ينتظم النساء أيضًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "النساء شقائق الرجال "(5) .
وقد وردت أدلة خاصة تفيد أن المرأة كلها عورة بالنسبة للأجنبي، فيجب ستر ما يصدق عليه اسم العورة:
* منها: ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(1) أخرجه الإمام أحمد في "الزهد" ص (46) ، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" ص (50) ، وغيرهما.
(2)
رواه مسلم رقم (338) في الحيض: باب تحريم النظر إلى العورات، وأبو داود رقم (4018) في الحمام: باب ما جاء في التعري، والترمذي رقم (2794) في الأدب: باب ما جاء في كراهية مباشرة الرجل الرجل، والمرأة المرأة.
(3)
أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" ص (8) رقم (20) - وانظر: "إرواء الغليل "(1/ 89) .
(4)
أخرجه الترمذي رقم (606)(2/503 - 504) في الصلاة: باب ما ذكر من التسمية عند دخول الخلاء، وقال الترمذي:"هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه؟ وإسناده ليس بذاك القوي" اهـ. وابن ماجه (1/ 127- 128) .
(5)
رواه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أبو داود رقم (236) في الطهارة: باب في الرجل يجد البلة فى منامه، والترمذي رقم (113) في الطهارة. باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللاً، ولا- يذكر احتلاما.
"المرأة عورة"(1) الحديث.
* وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تباشر المرأةُ المرأة فتنعتها لزوجها، كأنه ينظر- إليها"(2)
الحديث يفيد أنه لم يبق للرجال سبيل إلى معرفة الأجنبيات من النساء لشدة حرصهن على الستر إلا من طريق الصفة أو الاغتفال ونحو ذلك، ولهذا قال "كأنه ينظر إليها".
وعدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء اللاتي لا يسترن زينتهن ضمن أهل النار:
* فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا"(3) .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات"(4) .
* * *
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه الإمام أحمد (1/ 387)، والبخاري (9/250) في النكاح: باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها، وأبو داود رقم (2150) في النكاح: باب ما يؤمر به من غض البصر، والترمذي رقم (2793) في الأدب: باب مما جاء في كراهية مباشرة الرجل الرجل والمرأة المرأة، وقال "هذا حديث حسن صحيح".
(3)
تقدم تخريجه
(4)
انظر تخريجه ص (135)
نماذج من حرص الصحابة رضي الله عنهم
على ستر النساء
رُوي أن امرأة خرجت متزينة في عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، أذن لها زوجها في البروز، فَأُخْبرَ بها عمر رضي الله عنه، فطلبها، فلم يقدر عليها، فقام خطيبا، فقال: َ "هذه الخارجة، وهذا المرسلها لو قدرت عليهما لشترت (1) بهما"، ثم قال:"تخرج المرأة إلى أبيها يكيد بنفسه (2) ، وإلى أخيها يكيد بنفسه، فإذا أخرجت فلتلبس معاوزها"(3) .
ورُوي أنه رضي الله عنه سمع نائحة، فأتاها، فضربها بالدرة حتى وقع خمارها عن رأسها، فقيل:"يا أمير المؤمنين، المرأهّ المرأة قد وقع خمارها"، فقال:"إنها لا حُرْمَةَ لها"(4) .
والشاهد جزع الصحابة رضي الله عنهم لما انحسر الخمار عن رأسها.
ولما دخل الثوار المتمردون على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ليقتلوه حاولت زوجته نائلة بنت الفرافصة أن تستره بشعرها، فقال لها أمير المؤمنين رضي الله عنه:"خذي خمارك، فلَعمري لَدخولُهم عليَّ أعظم من حُرْمَة شعرك "(5) .
(1) شترت به تشتيرًا: إذا سمعت به، ونددت، وأسمعته القبيح، وكان حقيقة التشتير إبراز مساوئ الرجل، وإظهار ما بطن منها، من الشتر: وهو انقلاب في الجفن الأسفل؛ لأنه بروز ما حقه أن يبطن، وهو عيب- انظر "الفائق "(2/ 220) ، و "غريب الحديث"(1/105) .
(2)
يكيد بنفسه: أي يسوق سياق الموت.
(3)
المعاوز: الخلقان: واحدهما: معوز، من الإعواز، وهو الفقر والحاجة- انظر:"الفائق " للزمخشري (2/ 220) ، "غريب الحديث " للخطابي (2/105- 155) ، و "مصنف عبد الرزاق "(4/371- 372) . (4) الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (18/ 75) و "الزواجر" للهيثمي (5) كذا (!) ولعله (ما دخولهم عليَّ) ، أو يكون المقصود بالسياق الاستفهام =
نماذج من حرض الصحابيات رضي الله عنهن على الستر
قالت عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك: "فلما أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، فرجعت إلى المعسكر، وما فيه من داع ولا مجيب، قد انطلق الناس، فتلفعت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني، إذ مر بي صفوان ابن المعطل السلمي، وكان قد تخلف عن المعسكر لبعض حاجاته، فلم يبت مع الناس فرأى سوادي، فأقبل حتى وقف عليَّ، فعرفني حين رآني، وكان قد رآني قبل أن يضرب علينا الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي"(1) .
والشاهد منه مبادرتها رضي الله عنها إلى تغطية وجهها حرصا على الستر، إقامة لحدود الله عز وجل.
* وعن أم علقمة بن أبي علقمة قالت: "رأيت حفصة بنت عبد الرحمن ابن أبي بكر دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها خمار رقيق يشف عن جبينها، فشقته عائشة عليها، وقالت: أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور (2) ؟! ثم دعت بخمار فكستها) (3) ، وفي رواية الموطأ "وكستها خمارا كثيفا" (4) .
* ودخل عليها- رضي الله عنها نسوة من نساء أهل الشام، فقالت: لعلكن من الكُورة (5) التي يدخل نساؤها الحمامات؟ قلن: نعم، قالت:
= الإنكاري، والله أعلم.
(1)
انظر تخريجه ص (؟؟؟) .
(2)
تشير- رضي الله عنها إلى قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)[النور: 31]
(3)
انظر تخريجه ص (؟؟؟) .
(4)
"الموطأ" للإمام مالك (3/ 103) .
(5)
الكورة اسم يقع على جهة من الأرض مخصوصة كالشام والعراق وفلسطين، =
أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت ما بينها وبين الله من حجاب "(1) .
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها، خرق الله عز وجل عنها ستره "(2) ، وذلك لأن الجزاء من جنس العمل.
* وعن أنس رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بعبدِ قد وهبه لها، قال: وعلىَ فاطمة رضي الله عنها ثوب، إذا قَنَعت به رأسها، لم يبلغ رجليها، و، اذا غطت به رجليها، لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال:"إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغُلامُكِ "(3) .
وَيُرْوَى عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت "يا أسماء إني قد استقبحت ما يصنع النساء أن يُطْرحَ على المرأة الثوبُ فيصفها"، فقالت أسماء: يا ابنة رسول الله ألا أريك شيئًا رأيته بالحبشة؟ "، فدعت بجرائد رطبة، فحتتها، ثم طرحت عليها ثوبًا، فقالت فاطمة: "ما أحسن هذا وأجمله تُعرف به المرأة من الرجل (4) فإذا مت أنا فاغسليني أنت وعليّ ولا يدخل عَلَيَّ أحدٌ، فلما تُوُفِّيت غسلها علي وأسماء
= ونحو ذلك اهـ من "جامع الأصول"(7/ 339) .
(1)
رواه أبو داود رقم (4009) و (4010) في الحمام في فاتحته، والترمذي رقم (2803) و (2804) في الأدب: باب ما جاء في دخول الحمام، وقال:"هذا حديث حسن".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه أبو داود (4/ 62) رقم (4106) كتاب اللباس: باب في العبد ينظر إلى شعر مولاته، وعنه البيهقي (7/ 95) ، وصححه الألباني في "الإرواء"(6/ 206) .
(4)
وفي رواية أنها قالت لها: "سترك الله كلما ستريني"، انظر:"سير أعلام النبلاء، (2/ 129، 132) ، و "المستدرك" (3/162) .
رضي الله عنهما" (1) .
والشاهد منه أن فاطمة عليها السلام استقبحت أن يصف الثوب المرأة وهي ميتة، فلا شك أن وصفه إياها وهي حية أقبح وأقبح.
* ومثله ما جاء عن نافع وغيره أن الرجال والنساء كانوا يخرجون بهم سواء، فلما ماتت زينب بنت جحش رضي الله عنها أمر عمر رضي الله عنه مناديا فنادى:"ألا لا يخرج على زينب إلا ذو رحم من أهلها"، فقالت بنت عميس:"يا أمير المؤمنين ألا أريك شيئًا رأيت الحبشة تصنعه لنسائهم؟ "، فَجَعَلَتْ نعشًا، وغَشَّتْة ثوبها، فلما نظر إليه قال:"ما أحسن هذا! ما أستر هذا" فأمر مناديًا أن اخرجوا على أمكم " (2) .
* وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: كيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: "يرخين شبرا"، قالت: إذن تنكشف أقدامهن، قال:"فيرخين ذراعا، ولا يزدن عليه"(3) .
* وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما:
ألا أُريك امرأة من أهل الجنة: قلت: بلى، قال هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني أصْرعُ، وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: "إن
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(2/ 43) ، والسياق له، والبيهقي (4/ 34- 35) ، وفي سنده جهالة، قال ابن التركماني:"في سنده من يحتاج إلى كشف حاله" اهـ.
(2)
رواه ابن سعد في "الطبقات"(8/ 79) ، و "سير أعلام النبلاء"(2/213) .
(3)
رواه الترمذى رقم (1731) في اللباس: باب ما جاء في جر ذيول النساء، وقال:"حسن صحيح"، والنسائي (8/ 209) في الزينة: باب ذيول النساء، وأبو داود رقم (4119) في اللباس: باب في قدر الذيل، وفي روايته قال:"رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين في الذيل شبرا، فاستزدنه، فزادهن شبرًا، فكُن يُرْسِلنَ إلينا، فنذرع لهن ذراعا، والشاهد في هذه الرواية قوله: "فاستزدنه " مما يدل على شدة حرصهن على الستر.
شئت صبرتِ ولك الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله عز وجل أن يعافيك "، قالت أصبر، قالت: فإني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف. فدعا لها (1) . والشاهد فيه حرصها على الستر حتى في حال العذر، ففي رواية البزار من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما في نحو هذه القصة أنها قالت "إني أخاف الخبيث أن يجردني " الحديث.
* وعن امرأة من الأنصار قالت: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه غضبان، فاستترت بكم درعي، فتكلم بكلام لم أفهمه، فقلت: يا أم المؤمنين كأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان؟ قالت: نعم أوَ ما سمعتيه؟ قالت: وما قال؟ قالت: قال: "إن السوء إذا فشا في الأرض فلم يُتناه عنه أنزل الله عز وجل بأسه على أهل الأرض "، قالت: قلت: يا رسول الله! وفيهم الصالحون؟ قال: "نعم، وفيهم الصالحون، يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يقبضهم الله عز وجل إلى مغفرته ورحمته، أو إلى "رحمته ومغفرته " (2) والشاهد قولها: "فاستترت بكم درعي ".
* وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له امرأة أخطبها، فقال:"اذهب فانظر إليها، فإنه أجدر أن يؤدم بينكما"، فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتُها إلى أبويها، وأخبرتهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنهما كرها ذلك، قال: فسَمعتْ ذلك المرأةُ، وهي في خدرها، فقالت: إن كان
(1) أخرجه البخاري (10/ 119)، رقم (5652) في المرض: باب فضل من يصرع من الريح، وقولها:"إني أتكشف "، قال الحافظ:"المراد أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر" اهـ (10/115) .
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 418) ، وقال في "الفتح الرباني" (أورده الهيثمي، وقال:"رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح" اهـ قلت:
هو السند الأول من طريق يزيد بن هارون، ورواه أيضا الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "الحلية") اهـ (19/175) .
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر، وإلا فأنشُدك"، كأنها أعظمت ذلك، قال: فنظرتُ إليها فتزوجتُها، فَذَكَر من موافقتها"(1) ، وموضع الشاهد منه واضح.
* وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل "، فخطبتُ جاريةً فكنتُ أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوُّجها، فتزوجتها " (2) .
والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن استطاع" إلخ؛ لأنه يبرز حرص المرأة المسلمة على الستر، حتى ليشق على من أراد رؤيتها أن يراها إلا بعناء واستغفال واختباء.
* وعن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال: "خطبت امرأةً، فجعلت أتخبأ لها، حتى نظرت إليها في نَخْل لها، فقيل له: أتفعل هذا، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ألقى الله في قلب امرئٍ خِطبة امرأة، فلا بأس أن ينظر إليها" (3) ، ولو كانت هذه المرأة متكشفة
(1) روى شطره الأول: الترمذي رقم (1087)، وحسَّنه في النكاح: باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة، والنسائي - واللفظ له – (6/ 69- 70) في النكاح: باب ما جاء في النظر قبل التزويج، وصححه ابن حبان (1236- موارد) ،- ورواه بطوله ابن ماجه رقم (1888)(1/ 575) والإمام أحمد (4/ 245) -، وقال في "الفتح الرباني":"وصححه ابن حبان والحاكم، وأقره الذهبي " اهـ. (16/ 154) .
(2)
أخرجه أبو داود (2082) في النكاح: باب الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها، والإمام أحمد (3/ 334، 360) ، والحاكم (2/ 165)، وقال:"صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في "الفتح " (9/ 87) :"سنده حسن " اهـ، وقال في "بلوغ المرام":(رجاله ثقات) اهـ.
(3)
رواه سعيد بن منصور في "سننه " رقم (159) ، وابن ماجه (1886)(1/ 574) ، والإمام أحمد (4/ 225) ، وإسناده ضعيف فيه الحجاج بن أرطاة، وهو مدلس، وقد عنعنه، وقواه الألباني بطرقه في "الصحيحة" رقم (98) .
معروضة كنساء هذا الزمان- إلا من رحم ربك لما احتاج إلى الاختباء وفي رواية عن سهل بن أبي حثمة قال "رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحاك فوق إجَّار- وهو السطح الذي ليس حواليه ما يرد الساقط عنه - لها ببصره طردَا شديدًا فقلت- أتفعل هذا وأنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!، فقال: فذكر الحديث".
* وعن عاصم الأحول قال: "كنَّا ندخل على حفصة بنت سيرين، وقد جعلت الجلباب هكذا، وتنقبت به، فنقول لها: رَحِمَكِ الله، قال الله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) هو الجلباب، قال: فتقول لنا: أي شيء بعد ذلك؟ فنقول: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) ، فتقول: هو إثبات الحجاب "(1) .
(ولما كان العلامة الكاساني في حلب طلبت منه زوجته الفقيهة فاطمة بنت السمرقندي الرجوع إلى بلاده، فلما همَّ بذلك استدعاه الملك العادل نور الدين، وسأله أن يقيم بحلب، فعرفه أنه لا يقدر على مخالفة زوجه، إذ هي بنت شيخه، فأرسل الملك إلى فاطمة خادما بحيث لا تحتجب منه، ويخاطبها عن الملك في ذلك، فلم تأذن للخادم، وأرسلت إلى زوجها تقول له:! أبَعُدَ عهدُك بالفقه إلى هذا الحدِّ؟ أما تعلم أنه لا يحل أن ينظر إلىَّ هذا الخادم؟ وأي فرق بينه وبين الرجال في عدم جواز النظر؟ فأرسل إليها الملك امرأة لتكلمها في هذا)(2) .
(1) أخرجه البيهقي (7/ 93) .
(2)
(كذا في "الجواهر المضيئة" بدائع الصنائع للكاساني) اهـ - ذكره في "رؤية دينية في ضوء العصر" ص (14) .
سادسا الحجاب حياء
* الحياء مشتق من الحياة، والغيث يسمى حيا- بالقصر - لأن به حياةَ الأرض والنبات والدواب، وكذلك سميت بالحياء حياة الدنيا والآخرة، فمن لا حياء فيه فهو ميت في الدنيا، شقي في الآخرة، وحقيقته أنه خُلُق يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق.
* وبين الذنوب وبين قلة الحياء، وعدم الغيرة تلازم من الطرفين، وكل منهما يستدعي الآخر، ويطلبه حثيثا (1) .
* والحياء من أبرز الصفات التي تنأى بالمرء عن الرذائل، وتحجزه عن السقوط إلى سفاسف الأخلاق، وحمأة الذنوب، كما أن الحياء من أقوى البواعث عل الفضائل وارتياد معالي الأمور:
* عن أبي السَّوَّار العدوي حسان بن حريث قال: سمعت عمران بن حصين رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، وفي رواية قال:" الحياء خير كله "، أو قال:"الحياء كله خير" شك الراوي (2) .
* ولعظيم أثره جعله الإسلام في طليعة خصائصه الأخلاقية:
يُروَى عن زيد بن طلحة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء"(3) .
(1) انظر: "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص (72) ، و"مدارج السالكين" (2/ 259) .
(2)
أخرجه البخاري (10/ 537) في الأدب: باب الحياء، ومسلم رقم (37) في الحياء: باب بيان عدد شعب الإيمان، وأبو داود رقم (4796) في الأدب: باب الحياء.
(3)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 905) في حسن الخلق: باب ما جاء في الحياء مرسلا، ووصله ابن ماجة رقم (4181) و (4182) بسندين ضعيفين.
* وَبَيِّن صلى الله عليه وسلم أن الحياء لم يزل مستحسنا في شرائع الأنبياء الأولين، وأنه
لم يُرفع، ولم ينسخ في جملة ما نسخ الله من شرائعهم، فعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فافعل ما شئت "(1) .
* والحياء نوعان:
أولهما: نفسي، وهو الذي خلقه الله تعالى في جميع النفوس، كحياء كل شخص من كشف عورته والوقاع بين الناس، والآخر: إيماني، وهو خصلة تمنع المؤمن من ارتكاب المعاَصي خوفًا من الله تعالى، وهذا القسم من الحياء فضيلة يكتسبها المؤمن، ويتحلى بها، وهي أمُّ كل الفضائل الأخرى.
فلذلك وجب على المسلمين أن يُعوِّدُوا بناتهم على الحياء، والتخلق بهذا الخلق الذي اختاره الله تعالى لدينه القويم، لأن عدم الحياء علامة لزوال الإيمان، ولا يخفى ما يتولد عن ذلك من العواقب الوخيمة (2) .
* عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحياءُ والإيمانُ
قرِنا جميعًا، فإذا رُفِعَ أحَدُهُما رُفِعَ الآخر" (3) .
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار"(4) .
(1) أخرجه البخاري (10/ 540) في الأدب: باب إذا لم تستح فاصنع ما شئت، وفي الأنبياء: باب ما ذكر عن بني إسرائيل، وأبو داود رقم (4797) في الأدب: باب
ما جاء في الحياء، وابن ماجة رقم (4183) في الزهد: باب الحياء.
(2)
" حجاب المرأة العفة والأمانة والحياء" تأليف السيد عبد الله جمال الدين أفندي ص (15) .
! 3) رواه الحاكم في (المستدرك)(1/ 22) ، وقال هذا حديث صحيح على شرطهما " وأقره الذهبي.
(4)
أخرجه الترمذي رفي (2010) في البر والصلة باب ما جاء في الحياء، وقال =
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل من الأنصار، وهو يَعِظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعْهُ فإن الحياء من الإيمان "(1) .
* والحياء من أخلاق الملائكة عليهم السلام:
* فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظهر أنه قد رقدت، فأخذ رداءه رويدا، وانتعل رويدًا، وفتح الباب رويدًا، فخرج، ثم أجافه رويدًا" الحديث، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لها:"فإن جبريل أتاني حين رأيتِ، فناداني، فأخفاه منك، فأجبتُه، فأخفيتُه منكِ، ولم يكن ليدخل عليك، وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت، فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم " الحديث (2) .
والشاهد منه أن جبريل عليه السلام استحيا أن يدخل عليها، وقد وضعت ثيابها رضي الله عنها، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يدخل.
* وكانت شدة الحياء من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المثل الأعلى لكل مسلم ومسلمة.
_________
= الترمذي: "حسن صحيح ".
(1)
رواه البخاري (1/93) في الإيمان: باب الحياء من الإيمان، وفي الأدب: باب الحياء، ومسلم رقم (36) في الإيمان: باب بيان عدد شعب الإيمان، والترمذي رقم (2618) في الإيمان: باب ما جاء أن الحياء من الإيمان، وأبو داود رقم (4795) في الأدب: باب في الحياء، والنسائي (8/121) في الإيمان: باب الحياء، وابن ماجة رقم (58) في المقدمة: باب في الإيمان.
(2)
أخرجه مسلم (3/14) واللفظ له، والنسائي (1/ 286) ، (2/ 160- 161) ، والإمام أحمد (6/ 221)، وانظر:"سير أعلام النبلاء"(2/196) .
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءَ
من العذراء في خِدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه " (1) .
* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم كيف تغتسل من حيضتها؟ قال: فذكرت أنه علمها كيف تغتسل ثم تأخذ فرصة من مسك فتطهر بها، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: "تطهري بها سبحان الله "، واستتر، وأشار إلينا سفيان بن عيينة- أحد رواة الحديث- بيده على وجهه، قال: قالت عائشة: واجتذبتها إليَّ، وعرفت ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: تتبعي بها أثر الدم (2) .
ولهذا؛ تأدب أصحابه رضي الله عنهم بهذا الخلق الإيماني، واختص بعضهم بمزية ظاهرة فيه، منهم أميرُ البررة، وقتيلُ الفجرة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحياء من الإيمان، وأحيى أمتي عثمان "(3) .
ومن فضائله رضي الله عنه ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا عائشة ألا أستحيي من رجل والله إن الملائكة لتستحيي منه "؟ (4)
(1) أخرجه البخاري (10/ 538) في الأدب: باب الحياء، وفي الأنبياء: باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم رقم (2320) في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم: باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم، والخِدْر: بالكسر سِتر يمد للجارية في ناحية البيت، راجع (تاج العروس) للزبيدي (3/170) .
(2)
رواه مسلم (4/ 13-15) بشرح النووي.
(3)
رواه ابن عساكر- وانظر (سلسلة الأحاديث الصحيحة) رقم (1828)(4/442) ، وابن ماجه المقدمة باب رقم (11) ، والإمام أحمد (1/74) ، (3/184،
281) .
(4)
رواه الأمام أحمد في (المسند)(6/ 62)، وروى نحوه مسلم رقم (2401) في فضائل الصحابة: باب من فضائل عثمان رضي الله عنه
* وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "إني لأدخل البيت المظلم أغتسل فيه من الجنابة، فأحني فيه صلبي حياء من ربي "(1) .
وكذلك كان حال نساء الصحابة رضي الله عنهن، فلقد جاءت فاطمة بنت عتبة رضي الله عنها تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاخذ عليها:(أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ) الآية، فوضعت يدها على رأسها حياءً، فأعجبه ما رأي منها، فقالت عائشة رضي الله عنها:"أقِرِّي أيتها المرأة، فوالله ما بايعنا إلا على هذا"، قالت:"فنعم إذَا"، فبايعها بالآية (2) .
النقاب حارس الحياء
إن الوجه المصون بالحياء، كالجوهر المكنون في الوعاء، ولن تتزين امرأة بزينة هي أحمدُ ولا أجملُ من برقع الحياء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وما كان الحياء في شيء إلا زانه"(3) .
ولقد أبرز القرآن الكريم خلق الحياء في ابنتي الرجل الصالح، اللتين انحدرتا من بيت كريم، كله عفة وطهارة، وحسن تربية، وآية ذلك ما حكى القرآن من صيانتهما وحيائهما.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)[القصص: 25] .
قال: "ليست بِسَلفع (4) من النساء خراجة ولَّاجة، ولكن جاءت
(1)(المستطرف)(1/ 113) ..
(2)
رواه الإمام أحمد في (المسند)(6/ 151) .
(3)
عجز حديث عن أنس رضي الله عنه الترمذي رقم (1975) في البر والصلة: باب ما جاء في الفحش والتفحش، وحسنه، وابن ماجة رقم (4185) في الزهد: باب الحياء، والإمام أحمد (3/ 165) ، والبخاري في الأدب المفرد" (2/ 601) .
(4)
امرأة سلفع: سليطة جريئة، قال في لسان العرب) :
مستترة، قد وضعت كم دِرْعها على وجهها استحياء" (1)
ورواه ابن أبي حاتم فقال: حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل عن أبي إسحق عن عمرو بن ميمون قال: قال عمر رضي الله عنه: "جاءت تمشي على استحياء، قائلةً بثوبها على وجهها، ليست بسَلْفَع من النساء ولَّاجة خَرَاجة"(2) .
* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي رضي الله عنه واضعة ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دُفن عمر رضي الله عنه، والله ما دخلتُهُ إلا مشدودة عَلَيَّ ثيابي حياءَ من عمر رضي الله عنه "(3) .
* وروى البخاري في صحيحه بسنده عن فاطمة عليها السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها وعليًّا رضي الله عنه وقد أخذا مضاجعهما" الحديث، وفيه في رواية على بن أعبد: "فجلس عند رأسها فأدخلت رأسها في اللفاع،
= "وفي الحديث: شرهن السلفعة البلقعة: البذية الفحاشة القليلة الحياء، ورجل سلفع: قليل الحياء، وفي حديث أم الدرداء: "شر نسائكم السلفعة" هي الجريئة على الرجال، وأكثر ما يوصف به المؤنث، وهو بلا هاء أكثر، ومنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) قال: ليست بسلفع " اهـ مختصرا (10/35 - 36) .
(1)
أخرجه الفريابي، وابن أبي شيبة في "المصنف "، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اهـ كل من "الدر
المنثور" (5/ 124) .
(2)
ذكره ابن كثير من رواية ابن أبي حاتم، وقال:"هذا إسناد صحيح " اهـ من تفسير القرآن العظيم " (6/238) ، وقال ابن كثير في تفسير الَاية: "أي تمشي مشي الحرائر، كما روي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال:"كانت مستترة بكم ذراعها " اهـ (6/ 238)، وانظر: " المستدرك، (2/ 407) .
(3)
"السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين " ص (91)، وقد روى نحوه الحاكم (4/ 7) وقال:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "، وسكت عنه الذهبي.
حياءً من أبيها" الحديث (1) .
* والحادثة التالية- إن صحت- تجسد قيمة الحياء:
عن فرج بن فضالة عن عبد الخبير بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه عن جده قال جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم خلاد وهي منتقبة تسأل عن ابنها وهو مقتول فقال لها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة؟! فقالت: إن أرزأ ابني فلن أرزأ حيائي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ابنك له أجر شهيدين "، قالت: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: "لأنه قتله أهل الكتاب"(2) .
* ومما يؤكد ارتباط تغطية الوجه بشدة الحياء ما ثبت:
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سُلَيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل عل المرأة من غسل إذا احتلمت؟، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا رأت الماء"، فغطَّت أم سلمة (3) - تعني وجهها - وقالت: يا رسول الله، وتحتلم المرأة؟، قال:"نعم، تربت يمينك، ففيم يشبهها ولدها"؟ (4) .
ومما يذكر في كتب التاريخ والأدب أن النابغة أحد فحول الشعر الجاهلي قد مرت به امرأة النعمان في مجلس فسقط نصيفها (أي برقعها)
(1)(فتح الباري)(11/ 125) .
(2)
رواه أبو داود (3/ 5- 6) رقم (2488) في الجهاد: باب فضل قتال الروم على غيرهم من الأمم، وفي إسناده عبد الخبير بن ثابت قال البخاري:(روى عن فرج ابن فضالة، حديثه ليس بالقائم، فرج عنده مناكير)، وقال أبو حاتم الرازي:"عبد الخبير حديثه ليس بالقائم، منكر الحديث". انظر "مختصر المنذري"(3/ 359) .
(3)
قال الحافظ: "في مسلم من حديث أنس أن ذلك وقع لعائشة أيضًا، ويمكن الجمع بأنهما كانتا حاضرتين) " اهـ من "الفتح"(1/277) .
(4)
رواه البخاري رقم (130)، في العلم: باب الحياء في العلم - وانظر "الفتح"(1/276) .
الذي كانت قد تقنعت به فسترت وجهها بذراعيها وانحنت على الأرض ترفع النصيف بيدها الأخرى، فطلب النعمان من النابغة أن يصف هذه الحادثة في قصيدة فعمل القصيدة التي مطلعها.
أمن آل مية رائح ومغتدي
…
عجلان ذا زاد وغير مزود
إلى أن قال:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
…
فتناولته واتقتنا باليد (1)
إن التجرد من خلق الحياء مدرجة الهلاك، والسقوط من درك إلى درك
إلى أن يصبح الإنسان صفيق الوجه، وينزع منه خلق الإسلام، فيجترئ على المخالفات، ولا يبالي بالمحرمات، وهناك تلازم بين ستر ما أوجب الله ستره، وبين التقوى، كلاهما لباس، هذا يستر عورات القلب ويزينه، وذاك يستر عورات الجسم ويزينه، وهما متلازمان:
فمن شعور التقوى لله والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح التكشف والحياء منه.
قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) الآية [الأعراف: 26] ،
قال الشاعر:
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى
…
تقلب عريانًا وإن كان كاسيا
وخير خصال المرء طاعة ربه
…
ولا خير فيمن كان لله عاصيا
إن مسارعة آدم وحواء إلى ستر عوراتهما بأوراق الشجر دليل على أن الحياء عنصر أصيل مركوز في فطرة الإنسان، فعليه أن يهتم به، ويحافظ عليه، ويصونه من أن يثلم، ففي صيانته، وسلامته سلامة للفطرة عن أن تمسخ أو تحرف، لأن في انحرافها مسخا وتشويها لآدميته، ولأن الحياء شعبة من شعب الإيمان، فمن تمسك به فقد تحصن ضد الشيطان، وأغلق
(1) تقدم ص (89) .
في وجهه بابا منيعَا، لو قدر له أن يدخل منه، لنال صاحبَه شر عظيم، والعياذ بالله.
إذا لم تخش عاقبة الليالي
…
ولم تستح فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير
…
ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
سابعا: الحجاب يناسب الغيرة
إن الحجاب يتناسب مع الغيرة التي جبل عليها الإنسان السويُّ، والغيرة غريزة تستمد قوتها من الروح، والتحرر عن القيود غريزة تستمد قوتها من الشهوة، فهذه تغري بالسفور، وتلك تبعث على الاحتجاب.
إن المدنية الغربية انحازت إلى الطبيعة الأولى، وقررت أن لا تحرم المنتسبين إليها التمتع بسفور النساء، واختلاط الجنسين، وضحَّتْ بالطبيعة الثانية في سبيل ذلك، فالرجل الغربي يخالط نساء الناس، ويجالسهن متهتكات، مقابل التنازل عن غيرته على زوجته وأخته وبنته، فيخالطهن غيره، ويجالسهن.
إن القضاء على الغيرة بلغ عند مدنية الغرب إلى أن اعتبرتها من النقائص، بالرغم من أن الإنسان يشعر بفطرته أنها فضيلة، وتواضع كتابها وشعراؤها على تغيير هذه الفطرة.
ومن الدليل على كون السفوريين يتكلفون إسكات صوت الغيرة في قلوبهم، وإماتتها مقابل ما يتمتعون به من الاختلاط بنساء غير نسائهم، أن مقلدتهم من المسلمين لا يسمحون بالدخول على نسائهم إلا لمن يسمح لهم بالدخول على نسائه، فلو قصدوا بالسفور الذي يدعون له إلى تحرير المرأة من أسر الاحتجاب كما يدعونه، لما حافظوا على شرط المعاوضة في سفور نسائهم عند أي رجل من معارفهم (1) .
11) انظر: "قولي في المرأة" ص (25- 27) .
* وفي السطور التالية نتوقف قليلا لنفصل معنى الغيرة وفضيلتها، وبيان ارتباطها الوثيق بقضية صيانة المرأة وحفظ العرض، فنقول بتوفيق الله وحده:
إن من آثار تكريم الإسلام للمرأة ما غرسه في نفوس المسلمين من الغيرة، ويُقْصَدُ بالغيرة تلك العاطفة التي تدفع الرجل لصيانة المرأة عن كل مُحرم وشين، وعار.
قال النحاس: "الغيرة هي أن يحمي الرجل زوجته وغيرها من قرابته، ويمنع أن يدخل عليهن، أو يراهن غيرُ مَحْرَم "(1) .
* ويَعُدُّ الإسلام الدفاع عن العرض، والغيرة على الحريم جهادا يبذل من أجله الدم، ويضحى في سبيله بالنفس، ويجازي فاعله بدرجة الشهيد في الجنة.
* فعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قُتِلَ دُونَ ماله فهو شهيد، ومَنْ قُتِلَ دون دَمِهِ فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد" ومن قتل دون أهله فهو شهيد" (2) .
بل يعد الإسلام الغيرة من صميم أخلاق الإيمان، فمن لا غيرة له لا إيمان له، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أغير الخلق على الأمة:
* فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلًا
مع امرأتي لضربته بالسيف غيرَ مُصْفِح (3) ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1)"زاد المسلم"(5/ 158) .
(2)
رواه الترمذي رقم (1418)، (1421) في الديات: باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد، وأبو داود رقم (4772) في السنة: بابْ في قتال اللصوص، والنسائي (7/ 115، 116) في تحريم الدم: باب من قتل دون ماله، وابن ماجة رقم (2580) في الحدود: باب من قتل دون ماله فهو شهيد، وأحمد في "المسند" رقم (1628)، وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح".
(3)
ضربه بالسيف غير مصفح: إذا ضربه بحدِّه، وفربه صَفْحًا: إذا ضربه بعرضه.
فقال: "تعجبون من غيرة سعد؟ والله، لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها، وما بطن " الحديث (1) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وإن غيرة الله: أن يأتي المؤمنُ ما حَرمَ الله عليه "(2) .
* وإن من ضروب الغيرة المحمودة: أنفةَ المحبِّ وحميته أن يشاركه في محبوبه غيره، ومن هنا كانت الغيرة نوعَا من أنواع الأثرة، لابد منه لحياطة الشرف، وصيانة العرض، وكانت أيضا مثار الحمية والحفيظة فيمن لا حمية له ولا حفيظة.
وضد الغيور الدَّيُّوث، وهو الذي يقر الخبث في أهله، أو يشتغل بالقيادة، وقال العلماء أيضًا: (الديوث الذي لا غيرة له على أهل
بيته) (3)، وفي المحكم:(الديوث الذي يُدخل الرجال على حرمه بحيث يراهم)(4)، وقد ورد الوعيد الشديد في حقه:
* فعن عبد الله بن "عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجِّلة، والدَّيُّوث " الحديث (5) .
(1) رواه البخاري (12/ 181) في الحدود: باب من رأى مع امرأته رجلا فقتله، وفي التوحيد، ورواه تعليقَا في النكاح: باب الغيرة، ومسلم رقم (1499) في اللعان: في فاتحته.
(2)
رواه البخاري (9/ 230) في النكاح: باب الغيرة، ومسلم برقم (2761) في التوبة: باب غيرة الله تعالى، وتحريم الفواحش، والترمذي رقم (1168) في الرضاع: باب ما جاء في الغيرة.
(3)
"النهاية لما غريب الحديث"(2/147) .
(4)
"الزواجر" للهيثمي (2/52) .
(5)
أخرجه النسائي (1/ 357) واللفظ له، والإمام أحمد (2/ 134) ، وابن خزيمة في (التوحيد)(235) ، وابن حبان (56) ، وصححه العلامة أحمد شاكر رقم (6180)(9/34) .
إن الغيرة على حرمة العفة ركن العروبة، وقوام أخلاقها في الجاهلية والإسلام، لأنها طبيعة الفطرة البشرية الصافية النقية، ولأنها طبيعة النفس الحرة الأبية.
لقد رأينا هذا الخلق يستقر في نفوس الجاهليين الذي تذوقوا معاني تلك الفضائل، وتحلوا بها، فإذا هم يغارون على عِرض جيرانهم من هوى أنفسهم ذاتهم، استمع معي إلى. عنترة يقول مفتخرا بنفسه:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
…
حتى يواري جارتي مأواها
وقول حاتم الطائي:
إذا ما بت اختل عرس جاري
…
ليخفيني الظلام فلا خفيت
أأفضح جارتي وأخون جاري
…
فلا والله أفعل ما حييت
وفي عصر الإسلام يقول مسكين الدرامي:
ناري ونار الجار واحدة
…
وإليه قبلي تنزل القِدْرُ
ما ضر جاري إذ أجاوره
…
أن لا يكون لبيته ستر
أعمى إذا ما جارتي خرجت
…
حتى يواريَ جارتي الخِدر
ويقول آخر في جارته أيضًا:
ولم أكن طلابا أحاديث سرها
…
ولا عالمًا إذا ما مرت أي جنس ثيابها
وربما قامت الحروب غيرة على المرأة، وحمية لشوفها، واستجابة لاستغاثتها واستنجادها: فقد (تدافعت أشراف العرب في مساق عامتهم
يوم الفِجار (1) قريش وهوازن وكان من أمر ذلك أن شبابًا من كِنانة أطافوا بامرأة من غِمار الناس في سوق عُكاظ، فأعجبهم ما رأوْا من حسنها، وسألوها أن تُسْفِرَ لهم عن وجهها، فأبت ذلك عليهم، فاخذوا يُعْنِتُونَها (2)
(1) حروب الفِجار: حروب نشبت بين العرب في الجاهلية في سوق عكاظ وهي أربع، وإنما دعيت بهذا الاسم لأن العرب أباحوا فيها حرمة الأشهر الحرم فقاتلوا، فكان ذلك منهم فِجارَا أي تفاجرَا.
(2)
أعنته: شق عليه.
ويسخرون بها، وهنالك نادت: يا آل عامر!، فَلَبَّتْها سيوف بني عامر، ووقف بنو كنانة يدرأون عن فتيانهم، وهاجت هَوَازِن لعامر، واغتمرت قريش في كنانة (1) ، وهنالك تفجرت الدماء، وتناثرت الأشلاء (2) ، ولولا حكمة بدرت من حرب بن أمية يومئذ لكان الخطب أفدحَ، والمصاب أطَمَّ، فقد وقف بين القوم فحسم ضغينتهم، واحتمل ديات قتلاهم) (3) . نماذج من غيرة الصحابة رضي الله عنهم
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان شديد الغيرة على النساء، فهو الذي أشار على الرسول صلى الله عليه وسلم بحجب نسائه، فوافقه القرآن فعن أنس رضي الله عنه قال عمر رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب (4) .
* عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيتني دخلت الجنة، الحديث وفيه: "ورأيت قصرا بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟، فقال: لعمر فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك "، وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه: "فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر، فذكرت غيرته، فولَّيت مُدْبِرا" فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله، أعليك أغار؟ (5) .
* وعن أبي السائب مولى هشام بن زُهرة رضي الله عنه: أنه دخل على أبي سعيد
(1) عامر بطن من بطون هوازن، وقريش فرع من فروع كنانة.
(2)
الأشلاء- جمع شلو- قطع اللحم.
(3)
"العقد الفريد"(3/109) ، وانظر "المرأة العربية"(1/ 27- 28) .
(4)
رواه البخاري (8/ 387) رقم (4790) في التفسير: باب (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) الآية.
(5)
رواه البخاري (7/ 50) في فضائل الصحابة: باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه رقم (3679) ، (3680)، وقال السفاريني:(أي كيف أغار على دخولك قصرًا أنت السبب في حصوله لي؟ بل وأنت أولى بالمؤمنين من أنفسهم" اهـ من (شرح ثلاثيات المسند" (2/21) .
الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكا في عراجين في ناحية البيت، فالتفت، فإذا حية، فوثبت لأقتلها، فأشار إليَّ أن اجلس، فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار، فقال: أترى هذا البيت؟، فقلت: نعم، فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعُرس، قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يومًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذ عليك سلاحك، فإني أخشى عليك قريظة" فأخذ الرجل سلاحه، ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به - وأصابته غيرة - فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل، فإذا بحية عظيمة مُنْطَوِية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه، فما يُدْرى أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى؟ قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرنا ذلك له، وقلنا: ادْعُ الله يحييه لنا، فقال:"استغفروا لصاحبكم"، ثم قال:"إن بالمدينة جنّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا، فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان (1) . والشاهد منه قول الرواي: "وأصابته غيرة".
* وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "ألا تستحيون ألا تغارون: أن يخرج نساؤكم؟! فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العُلوج (2) ، أما تغارون؟ إنه لا خير فيمن لا يغار"(3) .
(1) رواه مسلم (14/ 234- 235) بشرح النووي، كتاب قتل الحيات وغيرها، وانظر "المرقاة"(4/3430)
(2)
انظر: (المسند) بتحقيق أحمد شاكر (2/ 255) ، وصححه، (والعلوج: جمع عِلْج، وهو الرجل من كفار العجم، أو الضخم القوي) اهـ من "الفتح الرباني، (17/303) .
(3)
هذه الزيادة في "المغني" لابن قدامة (7/ 27) .
* وذكر أبو عمر في "التمهيد" أن عمر رضي الله عنه لما خطب عاتكة بنت زيد شرطتْ عليه ألا يضربها، ولا يمنعها من الحق، ولا من الصلاة في المسجد النبوي، ثم شرطت ذلك على الزبير، فتحيَّل عليها أن كمن لها لما خرجت إلى صلاة العشاء، فلما مَرَّت به ضرب على عَجيزتها؟ فلما رجعت قالت:
"إنا لله! فسد الناس! "، فلم تخرج بعد (1) .
* ويروى أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إن الله ليغار للمسلم، فَلْيَغَرْ"(2)
ولما دخل الخوارج المفسدون على أمير البررة، وقتيل الفجرة عثمان بن عفان رضي الله عنه ليقتلوه، حاولت زوجه الوفية نائلة بنت الفرافصة رضي الله عنها أن تستر أمير المؤمنين بشعرها، فقال لها:"خذي خمارَكِ، فلعمري لدخولهم على أعظم من حرمة شعرك"(3) .
أحداث صنعتها الغيرة
* ذكر الحافظ ابن كثير- رحمه الله في حوادث سنة ست وثمانين ومائتين: قال في المنتظم: ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة أن امرأة تقدمت إلى قاضي الري (4) ، فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببينة تشهد لها به، فقالوا: نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا؟، فلما صمَّموا علي ذلك قال الزوج: "لا تفعلوا، هي صادقة فيما تدَّعيه، فأقرَّ بما ادعَتْ ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها، فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه، وأنه إنما أقر ليصون
(1) "الإصابة (8/ 12)، وانظر: أسد الغابة (6/ 185) .
(2)
"أخبار النساء" ص (82) .
(3)
"أعلام النساء" لكحالة (5/ 150) ، و"الدر المنثور في طبقات ربات الخدور" ص (517) .
(4)
سماه السمعاني: موسي بن إسحق الأنصار الخطمي.
وجهها عن النظر: هو في حِل من صداقي عليه في الدنيا والآخرة اهـ (1)، زاد الحافظ السمعاني في "الأنساب": فقال القاضي وقد أعجب بغيرتهما: يُكْتَبُ هذا في مكارم الأخلاق اهـ.
* ويذكر بعض المؤرخين في حسنات الحجاج بن يوسف الثقفي:
أن امرأة مسلمة سُبيت في الهند، فنادت:(واحَجَّاجاه) واتصل به ذلك، فجعل يقول:(لبيكِ) ، وأنفق سبعة ملايين من الدراهم حتى أنقذ المرأة) (2)
* وهذه امرأة شريفة أسرها الروم، لا تربطها بالخليفة (المعتصم بالله) رابطة سوى أخوة الإسلام، تستنجد به لما عذبها صاحب عمورية، وتطلقها صيحة يسجل التاريخ دويها الضخم:"وامعتصماه"، وما إن بلغت المعتصم هذه الندبة- وكان يأخذ لنفسه شيئًا من الراحة - حتى قالها بملء جوارحه:(لبيكِ) ، وانطلق لتوه إلى القتال، وانطلقت معه جحافل المسلمين، وقد ملأت الغيرة لكرامة المرأة نفس كل جندي إباءً وحماسا، فأنزلوا بالعدو شر هزيمة، واقتحموا قلاعه في أعماق بلاده حتى أتوا عمورية، وهدموا قلاعها، وانتهوا إلى تلك الأسيرة، وفكوا عقالها، وقال لها المعتصم:(اشهدي لي عند جَدك المصطفى صلى الله عليه وسلم أني جئت لخلاصك)(3)
* (وفي القرن السابع الهجري حين ضرب التفرق أطنابه بين المسلمين
(1)"البداية والنهاية"(11/ 81) ..
(2)
"معجم البلدان " لياقوت الحموي (8/ 381) .
(3)
"شبهات حول العصر العباسي " للدكتور مؤيد فاضل ملا رشيد ص (83) ،
ونضيف: أليس من حقنا أن نصم آذان حكامنا اليوم بقول الشاعر المعاصر:
رب (وامعتصماه) انطلقت
…
ملء أفواه الصبايا اليتم
صادفت أسماعهم لكنها
…
لم تصادف نخوة المعتصمَ
لا يُلام الذئب في عدوانه
…
إن يكُ الراعي عدوَّ الغنم
حتى أضعفهم، واحتل الصليبيون قسمًا من بلادهم، وطمعوا في المزيد، واستعانوا ببعضهم على بعض، حتى أوشكوا أن يحتلوا مصر، فكر حاكم مصر الفاطمي آنذاك المدعو "العاضد لدين الله " أن يستعين بوالي الشام "نور الدين زنكي "، ولكنْ كيف وملك الشام لا يعترف بالخليفة الفاطمي في مصر، ولا يؤمن بشرعية خلافته، وحكمه إنما يدين بالاعتراف للخلافة العباسية في بغداد، وبينها وبين الفاطميين أشد الخصام؟
لقد وجد الحل بواسطة المرأة والغيرة على كرامتها، وهكذا أرسل العاضد إلى نور الدين زنكي رسالة استنجاد أرفقها بأبلغ نداء: أرفقها بخصلة من شعور نساء بيت خلافته في القاهرة، وكان أن بلغ التأثير مداه في قلب نور الدين، فسرت حمية الغيرة والنخوة قي جند الشام وأهله، فبذلوا- لإنقاذ مصر من الصليبيين- فلذات أكبادهم بقيادة أسد الدين شيركوه، ويوسف بن أيوب "صلاح الدين الأيوبي".
وهكذا صنعت المرأة بخَصلة شعرها حدثًا غيَّر مجرى التاريخ، وقلب الأحداث رأسا على عقب، إلى أن كان يوم حطين الذي غسل الأرض المقدسة من العار، وأرغم جحافل الصليبيين على حمل عصا الرحيل والتسيار) (1) .
إن حياة الغيرة التي يحياها المجتمع المسلم، والتي يسموا بها فوق النجوم رفعة، ويرتقي بها إلى أعلى المنازل فضلًا وطهرا، يقابلها في المجتمعات الكافرة قي الشرق والغرب حياة الدياثة (2) والخباثة، والقذارة والحقارة، واللوثة والنجاسة، والذلة والمهانة، التي قد تترفع عنها بعض الحيوانات حيث تغار فحولها على إناثها، ويقاتل الفحل دون أنثاه كل فحل يعرض لها حتى تصير إلى الغالب، وتأمل معي القصة التالية:
(1)"ماذا عن المرأة؟ " ص (25- 26)، وانظر:"البداية والنهاية"(12/ 255) .
(2)
راجع "المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية" ص (46- 47) .
عن عمرو بن ميمون الأودي رضي الله عنه قال: "رأيت في الجاهلية قرْدة اجتمع عليها قرَدةٌ قد زنت، فرجموها، فرجمتها معهم"(1) .
فاستقباح الزنا، والغيرة على العرض فطر الله سبحانه عليه هذا الحيوان البهيم الذي لا عقل له!
والغيرة علي الحريم رمز الإسلام، ومن فقدها من أبناء البلاد الإسلامية، فإنما فقدها بعد اندماجه في أمم لا يغارون على نسائهم، ولا يرون أي بأس في مخاصرة زوجاتهم لرجال آخرين، في مرأى منهم ومشهد اهـ (2) .
لقد وقع الشقاق الواسع بيننا وبين الأوربيين في الغيرة، يقول الدكتور نور الدين عثر حفظه الله:(إن أوربا لم تقدس العفة في يوم من الأيام، بل لم تحافظ على الطهر العذري، وحسبنا من المقياس الخلقي في موقفهم من المرأة أن لا نجد في لغتهم كلمة تعبر عن كرامة المحافظة والاستقامة في السلوك "الغريزي" أعني كلمة "العرض" هذه الكلمة الجامعة لمعاني الفضيلة "الغريزية"، وحمية المؤمن في الغيرة عليه والدفاع عنه) اهـ (3) .
إن الأوربيين يستهجنون هذه المعاني، ولا يستسيغونها، بل هم ينددون
بهذه ا! لفطرة الإنسانية العالية، ويحاربونها بمختلف الأساليب، ويرمون من خلال قصصهم وأدبهم أن يهبطوا بالإنسان السامَي إلى مستوى الحيوانية السافلة.
قال رفاعة الطهطاوي في مجلة "روضة المدارس " التي كان يرأس تحريرها: (من محاسن الإسلام أن الله سبحانه وتعالى قد أودع في قلب الرجل الغيرة على نسائه، حتى جعل سبحانه وتعالى بدن الحرة عورة
(1) رواه البخاري (7/ 191) في مناقب الأنصار: باب القسامة في الجاهلية.
(2)
"الفتن" للبيانوني ص (213- 214) .
(3)
"ماذا عن المرأة؟ "، للدكتور نور الدين عثر ص (22- 23) .
بالنسبة للآخرين، فلا يحل لها كشفه عليه، ولا يحل له نظرها أيضًا، فلذلك كانت نساء الإسلام مصوناتٍ في بيوتهن، سيدات على غيرِهن.. ومن العادة أيضا العامة لسائر المسلمين، أنه لا يليق أن يسأل الإنسان عن حال زوجته، وإن كان هذا يُعَدُّ في بلاد الإفرنج من اللطافة والظرافة، لفقدهم الغيرة) اهـ (1) .
عود على بدء
إن الحجاب بمعناه الواسع يتناسب مع الغيرة المحمودة، وإن التبرج والاختلاط والخلوة المحرمة، وسائر أسباب الافتتان بالمرأة إنما تنتج عن عدم الغيرة وضعف الحمية.
ولو أن المرأة التزمت درجة الحجاب المثلي وقرَّت في بيتها، ولو أنها إذا احتاجت للخروج فخرجت، حجبت كل بدنها عن الأجانب، لما كان لهذه الفتن مكان في حياتنا.
ولو أننا تأملنا الواقع من حولنا لأدركنا أن بداية الفتتة إنما هي النظرة المحرمة على حد قول القائل:
نظرة فابتسامة فسلام
…
فكلام فموعد فلقاء
فلو أسدل الحجاب علي وجه المرأة أيضا إذن لأخمدت الفتنة من أصلها، (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) [الأحزاب: 25] ،.
ولقد سبق أن بَيَّنا أن من الغيرة المحمودة أنفةَ المحب، وحميته أن يشاركه
في محبوبه غيره، فإذا كان النظر المحرم إلى وجه المرأة وغيره هو "زنا العين " بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم نحتج إلى إثبات أن هذا النظر نوع من المشاركة فيما ينبغىِ أن يستأثر به الزوج، أو المحارم لأمن الفتنة من جانبهم.
(1) نقله عنه الدكتور السيد أحمد فرج في "المؤامرة على المرأة المسلمة"، ص (141) .
ومن هنا يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا تستحيون؟ ألا تغارون؟ يترك أحدكم امرأته بين الرجال تنظر إليهم، وينظرون إليها"(1) .
وأخيرَا قال العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: وبالجملة، فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء
في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب، مع أن الوجه هو أصل الجمال، والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغرائز البشرية وداع إلى الفتنة، والوقوع فيما لا ينبغي، ألم تسمع بعضهم يقول:
قلت اسمحوا لي أن أفوز
…
بنظرة ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم
أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك، ولقد صدق من قال:
وما عجب أن النساء ترجلت
…
ولكن تأنيث الرجال عُجابُ (2)
* * *
(1)"الزواجر" للهيثمي (2/ 46) .
(2)
"أضواء البيان"(6/ 602) .