المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بحكم الحجاب - عودة الحجاب - جـ ٣

[محمد إسماعيل المقدم]

الفصل: ‌الأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بحكم الحجاب

‌الفصل الثاني

‌الأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بحكم الحجاب

وقد جمعتها في ثلاثه أقسام:

القسم الأول: أحاديث استنبط منها العلماء وجوب الحجاب على المسلمات عامة.

القسم الثاني: أحاديث تبين حجاب أمهات المؤمنين، ومنها أحاديث استنبط منها بعض العلماء ما يفيد عموم الحجاب لسائر المؤمنات.

القسم الثالث: أحاديث تفيد مشروعية الحجاب الكامل لسائر نساء الأمة المحمدية، أو تفيد شيوعه فى نساء الصدر الأول، أو تفيد منع الرجال من النظر إلى الأجنبيات، ونبين فيها محاولة بعض العلماء استنباط

وجوب الحجاب الكامل لسائر المسلمات من بعض هذه الأحاديث.

القسم الأول

1-

عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المرْأَةُ عَوَرَة"(1) .

* قال الشيخ حمود التويجري حفظه الله:

"وهذا الحديث دال على أن جميع أجزاء المرأة عورة في حق الرجال الأجانب، وسواء في ذلك وجهها وغيره من أعضائها، وقد نقل

أبو طالب عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال: ظُفر المرأة عورة، فإذا خرجت من بيتها فلا تُبِنْ منها شيئَا ولا خُفَّها، فإن الخُفَّ يصفُ القدم،

(1) تقدم تخريجه.

ص: 329

وأحبُّ إلي أن تجعل لكمها زرا عند يدها حتى لا يبين منها شيء" اهـ.

وقد تقدم ذكر ما نقله شيخ الإِسلام ابن تيميه عن الإمام أحمد أنه قال:

كل شيء منها عورة حتى ظفرها، قال شيخ الإسلام:"وهو قول مالك"(1) اهـ.

عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها"(2) .

* قال الشنقيطي رحمه الله تعالى:

وقد ذكر هذا الحديث صاحب مجمع الزوائد، وقال: رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون، وهذا الحديث يعتضد بجميع ما ذكرنا من الأدلة، وما جاء فيه من كون المرأة عورة: يدل على الحجاب للزوم ستر كل ما

يصدق عليه اسم العورة، ومما يؤيد ذلك: الهيثمي أيضا في مجمع الزوائد

عن ابن مسعود قال: "إنما النساء عودة، وإن المرأة لتخرج عن بيتها وما بها من بأس فيستشرفها الشيطان فيقول: "إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبته،

وإن المرأة لتلبس ثيابهما فيقال: أين تريدين؟ فتقول: أعود مريضًا أو أشهد

جنازة أو أصلي في مسجد، وما عبدت امرأة ربها مثل أن تعبده في بيتها" ثم

قال: رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات اهـ منه ومثله له حكم الرفع إذ

لا مجال للرأي فيه (3) .

2-

عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَنْتقِب المرأةُ المحرِمَةُ، ولا تَلْبَسُ القُفازَينِ"(4) .

(1)"الصارم المشهور"(ص: 96)، "الرد القوي" (ص: 245) .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

"أضواء البيان"(6/ 596) .

(4)

أخرجه البخاري (4/63) رقم (1838) في جزاء الصيد: باب ما ينهى من =

ص: 330

* قال الشيخ أبو هشام عبد الله الأنصاري:

هذا الحديث أحسن دليل على ما وقع من التغير والتطور في ألبسة النساء بعد نزول الحجاب والأمر بإدناء الجلباب، وأن النقاب كان قد صار من ألبسة النساء بحيث لم يَكُنَّ يخرجن إلا به، وليس معنى النهي عن الانتقاب للمحرمة أنها لا تستر وجهها،. . .، وإنما المراد أنها لا تتخذ النقاب

لباسا على حدة من ألبستها، وإنما تستر وجهها بجزء من لباسها" (1) اهـ.

* قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله:

والمسألة الرابعة عشرة: قوله في حديث ابن عمر: "ولا تَنَتقِب الَمرأةُ" وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئًا من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتعرض عن الرجال، ويعرضون عنها" (2) اهـ.

* وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله:

وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي

لم يُحْرِمْنَ وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن (3) .

وقال شيخ الإسلام أيضًا: ووجه المرأة في الإِحرام فيه قولان في مذهب

= الطيب للمحرم والمحرمة، والموطأ (1/ 324) في الحج: باب ما ينهى عنه من لبس الثياب في الإِحرام والترمذي رقم (833) في الحج: باب ما جاء فيما لا

يجوز للمحرم لبسه، وقال:"حسن صحيح"، وأبو داود رقم (1825، 1826)

في المناسك: باب ما يلبس المحرم، والنسائي (5/ 135) في الحج، باب النهي أن تلبس المحرمة القفازين، والإمام أحمد (2/ 119) .

(1)

"إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب" - الحلقة الخامسة - مجلة الجامعة السلفيه.

(2)

"عارضة الأحوذي"(4/ 56) .

(3)

"مجموع الفتاوى"(15/370 – 37) .

ص: 331

أحمد وغيره، قيل: إنه كرأس الرجل فلا يغطى، وقيل: إنه كبدنه فلا يغطى بالنقاب والبُرْقُع ونحو ذلك مما صنع على قدره؛ وهذا هو الصحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه إلا عن القفازين والنقاب.

وكن النساء يدنين على وجوههن ما يسترها من الرجال من غير وضع

ما يجافيها عن الوجه، فعلم أن وجهها كبدن الرجل، وذلك أن المرأة كلها عورة، فلها أن تغطي وجهها ويديها (1) لكن بغير اللباس المصنوع بقدر العضو، كما أن الرجل لا يلبس السراويل ويلبس الإِزار" (2) اهـ.

* وقال الإمام العلامة المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في "تهذيب السَنن":

"وأما نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما المرأة أن تنتقب وأن تلبس القفازين فهو دليل على أن وجه المرأة كبدن الرجل لا كرأسه، فيحرم عليها فيه ما وضع وفُصِّل على قدر الوجه كالنقاب والبرقع ولا يحرم عليها ستره بالمِقْنَعة والجِلباب ونحوهما، وهذا أصح القولين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين وجهها ويديها، ومنعها من القفازين والنقاب، ومعلوم أنه لا يحرم عليها ستر يديها وأنهما كبدن المحرم يحرم سترهما بالمفصَّل على قدرهما وهما القفازان، فهكذا الوجه إنما يحرم ستره بالنقاب ونحوه، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حرف واحد، في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام إلا النهي عن النقاب، وهو كالنهي عن القفازين، فنسبة النقاب إلى الوجه كنسبة القفازين إلى اليد سواء، وهذا واضح بحمد الله"(3) اهـ.

وفال أيضًا في "إعلام الموقعين" في نفس الحديث:

"ونساؤه صلى الله عليه وسلم أعلم الأمة بهذه المسألة، وقد كن يَسْدُلن على وجوههن

(1) يعني في حال الإحرام.

(2)

"مجموع الفتاوى"(20/ 120) .

(3)

"تهذيب سنن أبي داود"(5/ 282- 283) بهامش "عون المعبود".

ص: 332

إذا حاذاهن الركبان فإذا جاوزوهن كشفن وجوههن - ورَوى وكيع، عن شعبة، عن يزيدَ الرِّشْك، عن معاذة العدوية قالت: سألتُ عائشة رضي الله عنها ما تلبسُ المحرمة؟ فقالت: لا تنتقب ولا تتلثم وتسدل الثوبَ على وجهها" (1) .

ثم ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى قول الذين يمنعون المحرمة من تغطية وجهها ورد عليهم إلى أن قال: فكيف يحرم ستر الوجه في حق المرأة مع أمر الله لها أن تدني عليها جلبابها، لئلا تُعرف ويفْتَتَن بصورتها" (2) اهـ. وذكر الإمام ابن القيم أيضا في "بدائع الفوائد" سؤالَا في كشف المرأة وجهها في حال الإِحرام وجوابا لابن عقيل في ذلك، ثم تعقبه بالرد فقال: سبب هذا السؤال والجواب خفاءُ بعض ما جاءت به السنة في حق المرأة

في الإِحرام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لها كشف الوجه في الإحرام ولا غيره، وإنما جاء النصُّ بالنهي عن النقاب خاصة، كما جاء بالنهي عن القفازين، وجاء بالنهي عن القميص والسراويل.

ومعلوم أن نهيه عن لبس هذه الأشياء، لم يُرِد أنها تكون مكشوفة لا

تستر ألبتة بل قد أجمع الناسُ على أن المحرمة تستر بدنها بقميصها ودِرْعها، وأن الرجل يستر بدنه بالرداء وأسافله بالإِزار، مع أن مخرج النهي عن النقاب والقفازين والقميص والسراويل واحد، وكيف يُزاد على موجَب النص

ويُفهم منه أنه شرع لها كشف وجهها بين الملا جهارًا؟ فأي نص اقتضى هذا أو مفهومِ أو عموم أو قياس أو مصلحة؟

(1) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "تلبس المحرمة من الثياب ما شاءت إلا ثوبَا مسه زعفران أو ورس، ولا تتبرقع، ولا تتلثم، وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت ". رواه البيهقي (5/ 47) ، وغيره، انظر:"مسائل الإمام أحمد" لأبي داود (ص: 108-110) .

(2)

انظر: "إعلام الموقعين عن رب العالمين"(1/ 222 -223، 276) ، "بدائع

الفوائد" (3/ 141-143) .

ص: 333

بل وجه المرأة كبدن الرجل، يحرم ستره بالمفصل على قدره كالنقاب والبُرقع، بل وكيدها يحرم سترها بالمفصل على قدر اليدين كالقُفَّاز، وأما سترها بالكم وستر الوجه بالملاءة والخمار والثوب فلم يُنْه عنه البتة، ومن

قال: إن وجهها كرأس المحرم فليس معه بذلك نص ولا عموم، ولا يصح قياسه على رأس المحرِم، لما جعل الله بينهما من الفرق.

وقول من قال من السلف: "إحرام المرأة في وجهها"، إنما أراد به هذا المعنى، أي لا يلزمها اجتناب اللباس كما يَلزم الرجل، بل يلزمها اجتناب النقاب، فيكون وجهها كبدن الرجل.

ولو قدر أنه أراد وجوبَ كشفه فقوله ليس بحجة ما لم يثبت عن صاحب الشرع أنه قال ذلك وأراد به وجوب كشف الوجه ولا سبيل إلى واحد من

الأمرين. وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "كنا إذا مَرَّ بنا الركبان سدلت إحدانا الجلباب على وجهها"، ولم تكن إحداهن تتخذ عودا

تجعله بين وجهها وبين الجلباب" (1) ، كما قاله بعض الفقهاء، ولا يُعْرَفْ هذا عن امرأة من نساء الصحابة ولا أمهات المؤمنين البتة، لا عملا ولا

فتوى، ومستحيل أن يكون هذا من شعار الإِحرام، ولا يكونَ ظاهرًا

مشهورًا بينهن يعرفه الخاص والعام.

ومن آثر الإِنصاف، وسلك سبيل العلم والعدل، تبين له راجح المذهب من مرجوحها، وفاسدها من صحيحها، والله الموفق والهادي" (2) اهـ.

* ونقل الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" عن ابن المنذر أنه قال:

أجمعوا على أن المرأة المحرمة تلبس المخيطَ كله والخِفافَ، وأن لها أن تغطي رأسها وتستُر شعرها إلا وجهها، فتسدل عليه الثوب سدلًا خفيفا تستتر به عن نظر الرجال الأجانب، ولا تخمره، إلا ما روي عن فاطمة

(1) انظر: "نيل الأوطار"(5/ 71) .

(2)

"بدائع الفوائد"(3/ 174- 175) .

ص: 334

بنت المنذر قالت: " كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر

رضي الله عنها تعني جدتها "

قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلا، كما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بنا ركب سدلنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات فإذا جاوزونا رفعناه"(1) اهـ.

* قال العلامة الصنعاني في حاشيته على "شرح العمدة" بعد ما ذكر الحديث "لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين".

قال: قوله: بوجهها وكفيها، أقول: فلا يُلبس ما فصل وقطع وخيط لأجل الوجه كالنقاب، ولأجل اليدين كالقفازين، لا لأن المراد أنها لا تغطي وجهها وكفيها كما توهم، فإنه يجب سترهما، لكن بغير النقاب والقفازين" (2) اهـ.

3-

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جَر ثَوبَه خُيلَاءَ لم يَنظر الله إليه يوم القِيامَةِ" فقالتْ أمُّ سَلَمة رضي الله عنها:

فكيف يَصْنَعُ النسَاء بذُيولهن؟ قال: "يُرخِينَ شبرَا" فقالت: "إذًا تنكَشِف أقَدامهن " قال: "فيرخينَه ذِرَاعا لا يزِدن عليه"(3) .

وقال الترمذي: وفي الحديث رخصة للنساء في جَرِّ الإزار لأنه يكون أستَرَ لهن".

وقال البيهقي: في هذا دليل على وجوب ستر قدميها.

وفي رواية لأحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)"فتح الباري"(3/475) ، وانظر ص 319 الحاشية رقم (1) .

(2)

"العدة شرح العمدة بحاشية الصنعاني"(3/ 476) .

(3)

رواه أبو داود رقم (4117) ، والترمذي (4/ 223) ، والنسائي (8/209) ،

والإمام أحمد (2/ 5، 55) وعبد الرزاق (11/ 82) ، وأبو عوانة (5/ 482) ،

قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح ".

ص: 335

رخص للنساء أن يُرْخين شبرًا، فقلن: يا رسول الله إذًا تنكشف أقدامُنا، فقال:"ذِرَاعا ولا يَزِدنَ عليه"(1) .

ْوفي رواية له أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه عن الذيل، فقال:"اجعلنَه شِبرَا" فقلن: شبرا لا يَسْتُرُ من عَورَةِ، فقال:"اجعلْنَه ذرَاعَا" فكانت إحداهن إذا أرادت أن تتخذ درعا أرخت ذراعَا فجعلته ذيلا (2) .

* قال التويجري:

وفي هذا الحديث والحديثين بعده دليل على أن المرأة كلها عورة في حق الرجال الأجانب، ولهذا لما رخص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء في إِرخاء ذيولهن شبرًا، قلن له:

إنَ شبرا لا يستر من عورة، والعورة ها هنا القدم، كما هو واضح من باقي الروايات عن ابن عمر وأم سلمة رضي الله عنهم.

وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم النساء على جعل القدمين من العورة وإذا كان الأمر هكذا القدمين فكيف بما فوقهما من سائر أجزاء البدن ولا سيما الوجه الذي هو مجمع محاسن المرأة؟ وأعظم عا يَفْتَتِنُ به الرجال ويتنافسون في تحصيله إن كان حسنا.

ومن المعلوم أن العشق الذي أضنى كثيرا من الناس وقتل كثيرا منهم إنما

كان بالنظر إلى الوجوه الحسنة، لا إلى الأقدام وأطراف الأيدي ولا إلى الحلي والثياب، وإذا كان قدم المرأة عورة يجب سترها، فوجهُها أولى أن يُسْتَر والله أعلم (3) .

(1) انظر: سنن النسائي (8/209) ، وابن ماجه (3580) ، وأحمد (6/293، 309) ، وابن أبي شيبة (8/ 220) ، والدارمي (2647) ، وابن حبان (1451 - موارد) ، والطبراني في "الكبير"(23/358، 384، 416، 417) .

_________

(2)

"المسند"(2/90) .

(3)

"الصارم المشهور"(ص: 97 – 98) .

ص: 336

* وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله:

هذا الحديث دليل على وجوب ستر قدم المرأة، وأنه أمر معلوم عند

نساء الصحابة رضي الله عنهم، والقدم أقل فتنة من الوجه والكفين بلا ريب، فالتنبيه بالأدنى تنبيه على ما فوقه، وما هو أولى منه بالحكم، وحكمة

الشرع تأبى أن يجب ستر ما هو أقل فتنة، ويرخص في كشف ما هو أعظم منه فتنة، فإن هذا من التناقض المستحيل على حكمة الله وشرعه (1) اهـ.

4-

عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والدخولَ

على النساءِ" فقال رجل من الأنصَارِ: "يا رسُولَ الله! أفرأيتَ الحَمُو؟ "، قال: "الحَمُو الموتُ" (2) .

* قال الشنقيطي رحمه الله تعالى:

فهذا الحديث الصحيح صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالتحذير الشديد من الدخول على النساء فهو دليل واضح على منع الدخول عليهن وسؤالهن متاعًا إلا من وراء حجاب، ِ لأن من سألها متاعَا لا من وراء حجاب فقد

دخل عليها، والنبي صلى الله عليه وسلم حذّره من الدخول عليها، ولما سأله الأنصاري

عن الحمو الذي هو قريب الزوج الذي ليس محرمَا لزوجته كأخيه وابن أخيه وعمه وابن عمه ونحو ذلك - قال له صلى الله عليه وسلم: "الحَمو الموتُ" فسمى صلى الله عليه وسلم

دخول قريب الرجل على امرأته وهو غير محرم لها باسم الموت، ولا شك

أن تلك العبارة هي أبلغ عبارات التحذير، لأن الموت هو أفظع حادث

يأتي على الإنسان في الدنيا، كما قال الشاعر:

(1)"الحجاب"(ص: 18) .

(2)

رواه البخاري (9/242) في النكاح: باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة، ومسلم رقم (2172) في السلام: باب تحريم الخلوة

بالأجنبية والدخول عليها، والترمذي رقم (1171) في الرضاع: باب ما جاء في

كراهية الدخول على المغيبات، والإمام أحمد (4/ 149، 153) .

ص: 337

والموت أعظم حادث

مما يمر على الجبلة

والجبلة: الخلق - ومنه قوله تعالى: (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ)[الشعراء: 184]

فتحذيره صلى الله عليه وسلم هذا التحذير البالغ من دخول الرجال على النساء،

وتعبيره عن دخول القريب على زوجة قريبه باسم الموت، دليل صحيح

نبوي على أن قوله تعالى: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) عام في جميع النساء كما ترى، إذ لو كان حكمه خاصا بأزواجه صلى الله عليه وسلم، لما حذَّر الرجال هذا

التحذير البالغ العام من الدخول على النساء.

وظاهر الحديث التحذير من الدخول عليهن ولو لم تحصل الخلوة بينهما، وهو كذلك، فالدخول عليهن والخلوة بهن كلاهما محرم تحريمًا

شديدا بانفراده، كما قدمنا أن مسلما رحمه الله أخرج هذا الحديث في باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها فدل على أن كليهما حرام" (1) اهـ.

* وقال ابن حجر في "فتح الباري" في شرح الحديث المذكور:

إياكم والدخولَ بالنصب على التحذير، وهو تنبيه المخاطب على محذور ليتحذر عنه كما قيل: إياك والأسد، وقوله: إياكم، مفعول لفعل مضمر تقديره: اتقوا.

وتقدير الكلام: اتقوا أنفسكم أن تدخلوا على النساء، والنساء أن

يدخلن عليكم، ووقع في رواية ابن وهب بلفظ: لا تدخلوا على النساء،

وتضمن منع الدخول منعَ الخلوة بها بطريق الأولى" (2) اهـ.

* وقال الشيخ عبد القادر السندي:

الحديث فيه دلالة واضحة على أنه لا يجوز دخول الأجنبي على

(1)"أضواء البيان"(6/ 592 - 593) .

(2)

"فتح الباري"(9/ 242) .

ص: 338

الأجنبية، وكذا قريب الزوج من أخ وعم ونحو ذلك، وفي رواية لمسلم في "الصحيح" عن أبي الطاهر عن ابن وهب قال: سمعت الليث يقول:

"الحمو أخو الزوج وما أشبه من أقارب الزوج وابن العم ونحوه"، وفي

الحديث تغليظ شديد وتنبيه خطير من الدخول على النساء.

* وقال الإمام ابن الأثير في "النهاية":

لا يخلون رجل بأجنبية، وإن قيل حموها، ألا حموها الموت، أحد الأحماء أقارب الزوج، والمعنى فيه: أنه إذا كان رأيه في أخي الزوج وما شابهه وهو قريب فكيف بالغريب؟ أي: فلتمت، ولا تفعل ذلك، وهذه الكلمة تقولها العرب كما تقول الأسد: الموت، والسلطان: النار، أي لقاؤهما مثل الموت والنار، يعني أن خلوة ابن عم الزوج معها أشد من خلوة غيرها من الغرباء

لأنه ربما حَسَّنَ لها أشياء، وحملها على أمور تثقل على الزوج من التماس ما

ليس في وسعه أو سوء عشرة أو غير ذلك".

قلت: إذا كان الوجه والكفان ليستا من العورة والزينة وجاز كشفهما

أمام الأجانب فلماذا هذا التشديد في هذه الأحاديث الصحيحة، ولماذا

هذا التناقض بين تلك الأحاديث وقد سبق أن قلت: إن تلك الأحاديث غير صحيحة فلا يجوز أن يقال إنها متعارضة مع هذه

الأحاديث الصحيحة التي فيها التغليظ الشديد والتحريم الموثق، فلو

كانت تلك الأحاديث والآثار التي يستدل بها بعض الناس على جواز

كشف الوجه والكفين صحيحة الإسناد لكانت شاذة غير محفوظة في

أنظار أهل الحديث، فكيف وهي ضعيفة منكرة، فلا يحتج بها بحال من

الأحوال فلا ينبغي أن يقال بعد هذا النقل إن الوجه والكفين ليستا من

العورة والزينة استنادًا على قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الذي

سبق بيانه من ناحية الإسناد" (1) اهـ.

(1)"رسالة الحجاب"(ص: 33 - 35) .

ص: 339

* وقال البوطي:

فلولا أن المرأة بمجموعها عورة بالنسبة للأجانب من الرجال، لما أطلق

النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن دخولهم عليهن إذا النهي يشمل مختلف ما عليه المرأة

من حالات، وما دامت بادية الوجه كما هو شأن كل امرأة في بيتها، ولقد

انسحب الحكم كما نرى حتى على أخي الزوج فلا يجوز له هو الآخر أن

يدخل على امرأة أخيه، ولو كان الوجه غير عورة لاستثنى - تسهيلَا للأحماء - أن تكون المرأة ساترة لما عدا الوجه والكفين من أجزاء

جسمها" (1) اهـ.

5-

عن عائشة رضي الله عنها: أن أفلح أخا أبي القعَيس جاء يستأذن عليها، وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب، قالت: "فَأبَيْتُ أن

آذنَ له، فلما جَاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أخبرتُه بالذي صَنَعْتُ، فأمرني أن آذنَ له" (2) .

وفي رواية أنه قال لها: "أتحتجبين مني، وأنا عمك؟ ".

وفي ثالثة: فقلت: لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أخا

أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس".

ورواية: "وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة".

وقال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حَرموا من الرضاع ما يحرم

(1)"إلى كل فتاة تؤمن بالله"(ص: 40- 41) .

(2)

هي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "ائذني له، فإنه عمك، تربت يمينك" وفي رواية: "صدق وأفلح، ائذني له".

والحديث رواه البخاري (8/ 392) كتاب التفسير: باب إن تبدوا شيئا أو تخفوه. . . وفي الشهادات، وفي النكاح، ومسلم رقم (1444) في الرضاع:

باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، والموطأ (2/601، 602) في الرضاع:

باب رضاعة الصغير، والترمذي رقم (1147) في الرضاع، وأبو داود رقم (2055) في النكاح، والنسائي (6/ 99) في النكاح.

ص: 340

من النسب"، وفي رواية مسلم: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحتَجِبِي منه، فإنه يحَرُمُ من الرضَاعِ ما يحَرُمُ من النسَبِ".

* قال الحافظ ابن حجر في فوائد هذا الحديث:

"وفيه وجوب احتجاب المرأة من الرجال الأجانب"(1) اهـ.

والشاهد فيه واضح، وهو أن الحافظ عمم حكم الوجوب على سائر النساء.

6-

عن الزهري عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانَ لإحداكن مَكُاتب، وكانَ عندَه ما

يؤدّي، فلتَحتَجِب منه" (2) .

* قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:

"وجه الدلالة من هذا الحديث - يعني على وجوب الحجاب - أنه يقتضي

أنَّ كشف السيدة وجهها لعبدها جائز ما دام في ملكها، فإذا خرج منه، وجب عليها الاحتجاب لأنه صار أجنبيا، فدل على وجوب احتجاب

المرأة عن الرجل الأجنبى" (3) اهـ.

وروى الطحاوي بإسناده عن ابن شهاب أن نبهان مولى أم سلمة حدثه

(1)"فتح الباري "(9/ 56) .

(2)

أخرجه أبو داود (4/ 21) رقم (3928) ، والترمذي رقم (1261)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ومعنى هذا الحديث عند أهل العلم على التورع، وقالوا:

لا يعتق المكاتب، وإن كان عنده ما يؤدي حتى يؤدي اهـ. وأخرجه وابن ماجه (2520) ، والحاكم (2/ 219)، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وابن حبان (1412) ، والبيهقي (10/ 327) ، وأشار إلى جهالة نبهان، ثم قال: قال الشافعي: لم أر من رضيت من أهل العلم يثبت هذا الحديث. اهـ، والإمام أحمد (6/289، 308، 311)، وانظر الكلام في نبهان مولى أم سلمة (ص: 346) .

(3)

"رسالة الحجاب"(ص: 19) .

ص: 341

أنه بينا هو يسير مع أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في طريق مكة، وقد بقي من كتابته ألفا درهم، قال: فكنت كلما أدخل عليها وأراها، فقالت: وهي تسير: "ماذا بقي عليك من كتابتك يا نبهان؟ "، قلت:"ألفا درهم"، قالت:"فهما عندك؟ "، فقلت:"نعم"، فقالت:"ادفع ما بقي عليك من كتابك إلى محمد بن عبد الله بن أمية، فإني قد أعنته بها في نكاحه، وعليك السلام"، ثم ألقت دوني الحجاب فبكيت، وقلت:"والله لا أعطيه إياها أبدًا"، قالت:"إنك والله يا بني لن تراني أبدًا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا أنا إذا كان عند مُكاتب إحداكن وفاء بما بقي عليه من كتابته؛ فاضربوا دونه حجاب".

ثم قال الطحاوي رحمه الله: ومما يستخرج من هذا الحديث من الأحكام مما يدخل فيه مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مَن سواهن من الناس. . . إلخ" (1) اهـ.

وعن سليمان بن يسار قال: استأذنت على عائشة رضي الله عنها، فقالت: من هذا؟ فقلت: سليمان، قالت: كم بقي عليك من مكاتبتك؟ قال: قلت: عشر أواق، قالت: ادخل فإنك عبد ما بقي عليك درهم (2) .

***

(1)"مشكل الآثار"(1/ 121) .

(2)

رواه البيهقى (7/ 95) ، وصححه الألباني في إرواء الغليل" (6/183) وقال

البيهقي عقبه: "وروينا عن القاسم بن محمد أنه قال: إن كانت أمهات المؤمنين يكون لبعضهن المكاتب، فتكشف له الحجاب ما بقي عليه درهم، فإذا قضى أرخته دونه".

ص: 342

القسم الثاني

حجاب أمهات المؤمنين

انعقد الإجماع على وجوب الحجاب الكامل في حق أمهات المؤمنين، وذلك أمتثالَا لأمر الله تعالى في آية الحجاب، وبيت الأحاديث ذلك، وهاك بعضا منها:

1-

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك قالت: "فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني، فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه (1) حين عرفني، فخمرت. (وفي رواية: فسترت وجهي عنه بجلبابي"(2) الحديث.

(1) تعني قوله: "إنا لله، وإنا إليه راجعون".

(2)

جزء من حديث الإفك الطويل، رواه البخاري (5/ 320) في الشهادات، والجهاد، والمغازي، وفي تفسير سورة يوسف، والنور، والإيمان والنذور، والاعتصام، والتوحيد، ومسلم رقم (2770) في التوبة: باب حديث الإفك، والترمذي رقم (3179) في التفسير: سورة النور، والنسائي (1/ 163 - 164) في الطهارة باب بدء التيمم، وما خمرت الصديقة بنت الصديق وجهها إلا لأنه عورة وزينة ينبغي إخفاؤها.

قال الشيخ عبد العزيز بن خلف رحمه الله: (وهذا أيضًا من أدلة الوجوب لتخميرها وجهها بالجلباب، لأنه لم يرد أن ستره خاص بهن بأي لفظ في القرآن ولا في السنة، ولأن الحجاب غير الإِدناء، وهو ظاهر) اهـ من (نظرات في حجاب المرأة المسلمة" (ص: 96) .

ص: 343

2-

وعن عكرمة قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول، وقد بلغه أن - عائشة رضي الله عنها احتجبت من الحسين بن علي رضي الله عنهما. . .، فقال:"إن رؤيته لها لحل".

وعن عمر بن دينار عن أبي جعفر قال: كان الحسن والحسين لا يريان أمهات المؤمنين. .، فقال ابن عباس:"إن رؤيتهما لهن تَحِلُّ"(1) .

3-

وعن يزيد بن بابنوس قال: ذهبت أنا وصاحب لي إلى عائشة رضي الله عنها فاستأذنا عليها، فألقت إلينا وسادة، وجذبت إليها الحجاب، فقال صاحبي: ما تقولين في العراك. . . الحديث.

4-

وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: قلت لعائشة: إنما فاقنا عروة (2) بدخوله عليكِ كما أراد، قالت:"وأنت إذا أردت فاجلس من وراء حجاب فسلني عما أحببت، فإنا لم نجد أحدً بعد النبي صلى الله عليه وسلم أولى لنا من أبيك. . . " الحديث (3) .

والشاهد منه قولها رضي الله عنها: "فاجلس من وراء حجاب" امتثالا لقوله تعالى: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) .

5-

عن صفية بنت شيبة قالت: حدثتنا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت: "يا رسول الله! يرجع الناس بِنُسُكَين، وأرجع بنسك واحد؟ "، فأمر بي أخي عبد الرحمن فأعمرني من التنعيم، وأردفني خلفه على البعير في ليلة حارة، فجعلت أحسر عن خماري، فتناولني بشيء في يده، فقلت: "هل ترى من أحد؟ (4) .

(1)"الطبقات الكبرى"(8/ 178)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 232)

(2)

عروة هو: ابن الزبير، وأمه أسماء بنت أبي بكر، فعائشة رضي الله عنها خالته، ولهذا كان يدخل عليها.

(3)

الطبقات الكبرى" (8/ 211) .

(4)

رواه الطيالسي في "مسنده".

ص: 344

6-

عن أم سنان الأسلمية قالت: لما نزلنا المدينة لم ندخل حتى دخلنا مع صفية منزلها، وسمع بها نساء المهاجرين والأنصار، فدخلن، فرأيت

أربعًا من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم منتقبات: زينب بنت جحش، وحفصة، وعائشة، وجويرية. . . الحديث (1) .

7-

وعن أم معبد بنت خليف قالت: رأيت عثمان وعبد الرحمن في خلافة عمر حجَّا بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت على هوادجهن الطيالسة الخضر، وهن حجرة من الناس، يسير أمامهن ابن عفان على راحلته، يصيح إذا دنا منهن أحد:"إليك، إليك"، وابن عوف من ورائهن يفعل مثل ذلك، فنزلن بقرية قريبًا من منزلي، اعتزلن الناس، وقد ستروا عليهن الشجر عن كل ناحية، فدخلت عليهن وهن ثمان جميعًا (2) .

وقد تقدم خبر اتخاذ النعش لأم المؤمنين زينت رضي الله عنها وتغشيته بثوب، واستحسان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه هذه السنة (3) .

8-

عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن أم سُلَيم صنعت حيسا (4) ، وأرسلت

به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمناسبة زواجه من زينب بنت جحش رضي الله عنها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وجلسوا يأكلون ويتحدثون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط إلى أن خرجوا (5) .

(1)"الطبقات الكبرى"(8/ 126) .

(2)

"الطبقات الكبرى"(8/ 209) .

(3)

انظر: ص (102) .

(4)

الحَيس: نوع من الحلوى.

(5)

رواه مسلم وغيره، وقال الدكتور البوطى:(لا يقال إن هذا قد يكون حكما خاصَا بزوجات الرسول عليه الصلاة والسلام لأن الفرق بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وسائر نساء المسلمات فيما يتعلق بالحجاب، إنما هو فارق زمني فقط، ذلك أن مشروعية الحجاب تمت في حق نسائه عليه الصلاة والسلام أولا، ثم إنها عمت سائر النساء بعد حين) اهـ. من "إلى كل فتاة تؤمن بالله" ص (41-42) .

ص: 345

9-

عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو" (1) .

10-

قال الإمام الترمذي: حدثنا سويد نا عبد الله بن يونس بن زيد، عن ابن شهاب، عن نبهان مولى أم سلمة أنه حدثه أن أم سلمة حدَّثته أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندها ميمونة، فأقبل ابنُ أم مكتوم، وذلك بعد أن أُمِرنا بالحجاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"احتَجبَا منهُ"، فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يُبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفعميَاوانِ أنتما؟ ألستُما تبصِرَانه؟ "(2) .

(1) أخرجه البخاري (9/ 248) ، ومسلم (3/ 22) ، والنسائي (1/ 236) ، والبيهقي (7/ 92) ، وأحمد (6/ 84- 85) .

(2)

رواه أبو داود رقم (4112)(4/361) في اللباس: باب في - قوله عز وجل: - (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ)، والترمذي رقم (2779) (5/102) في الأدب: باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال، وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح"، والإمام أحمد (6/ 296) ، وابن سعد في "الطبقات"(8/ 126- 127) ، وابن حبان (1457، 1968) ، والطحاوي في "المشكل"(1/ 115 - 116) ، والبيهقي (7/ 91 -92) ، والبغوي في "شرح السنة"(9/ 34) .

وقال النووي رحمه الله: (وهذا الحديث حسن، ولا يلتفت إلى قدح من قدح فيه بغير حجة معتمدة) اهـ من "شرح النووي"(10/ 97) ، ونبهان هو المخزومي مولى أم سلمة، قال الحافظ ابن حجر:(أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عنها، وإسناده قوي، وأكثر ما عُللَ به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان، وليست بعلة قادحة، فإن من يعرفه الزهري، ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحْه أحد، لا تُرَدّ روايته) اهـ من "الفتح"(9/248)، وقال في موضع آخر:(حديث مختلف في صحته) اهـ. "الفتح"(1/ 654)، وقال في "تلخيص الحبير":(ليس في إسناده سوى نبهان مولى أم سلمة، شيخ الزهري، وقد وُثق) اهـ (3/148) ، ولعله يعني توثيق ابن حبان له، كما صرح به في "التهذيب"(10/ 146) ، وقد وثقه الحافظ الذهبي في "الكاشف"، وضعفه =

ص: 346

11-

وعن أنس رضي الله عنه في قصة زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفية

رضي الله عنها: فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين، أو مما ملكت يمينه، فقالوا إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملك يمينه، فلما ارتحل وطَّأ لها خلفه، ومد الحجاب بينها وبين الناس (1) .

وفي رواية أخرى عن أنس رضي الله عنه أيضا قال:

"فلما قُرب البعير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج، وضع رسول الله رجله لصفية لتضع قدمها على فخذه، فأبت ووضعت ركبتها على فخذه، وسترها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملها وراءه، وجعل رداءه على ظهرها ووجهها، ثم شده من تحت رجلها وتحمَّل بها وجعلها بمنزلة نسائه"، اهـ.

* قال الشيخ عبد العزيز بن خلف حفظه الله:

وهذا الحديث من أدلة الوجوب أيضا، لأنه من فعله صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة، فهو عمل كامل، حيث إنه صلى الله عليه وسلم ستر جسمها كله، وهذا هو الحق الذي يجب اتباعه، فهو القدوة الحسنة، ولو لم يكن دليل من النصوص الشرعية على وجوب ستر المسلمة وجهها وجميع بدنها ومقاطع لحمها إلا هذا الحديث الصحيح، لكفى به موجبًا وموجهَا إلى أكمل الصفات" (2) اهـ.

= الألباني في "تخريج فقه السيرة" ص (44-45) ، و"إرواء الغليل" رقم (1806)(6/ 210)، وانظر لزاما:"عمدة القاري"(20/216 - 217) ، فإن صح الحديث، فإن قول الترمذي:(باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال) ، يفيد عموم حكم الحجاب لجميع نساء هذه الأمة، وأنه ليس خاصا بأمهات المؤمنين، والخطاب - وإن توجه إليهن - فغيرهن تبع لهن رضي الله عنهن.

(1)

رواه البخاري في عدة مواضع في الصلاة، والأذان، وصلاة الخوف، والجهاد، والأنبياء، والغازي، ومسلم رقم (1365) في النكاح: باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها، وفي المغازي باب غزوة خيبر، والنسائي (6/ 131-134) في النكاح باب البناء في السفر.

(2)

"نظرات في حجاب المرأة المسلمة"(ص 97) .

ص: 347

* وقال الشيخ أبو هشام الأنصاري في معرض رَدِّه على من احتج بقصة صفية رضي الله عنها على أن الحجاب خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم: "قلت: إن قصة صفية هذه لا تدل على اختصاص الحجاب بأمهات المؤمنين، بل على عكس من ذلك تدل عل عمومه لهن ولنساء المسلمين، لأن السياق يصرح تمام التصريح بان الصحابة كانوا مترددين في أمر صفية أنها مملوكة سُرية أو حرة متزوجة؟ وأنهم كانوا على جزم صارم بان النبي صلى الله عليه وسلم لو حجبها فهي أمارة على أنه أعتقها وتزوجها، ولم يكن جزمهم هذا إلا لأنهم كانوا يعرفون أن الحجاب مختص بالحرائر، وأنه أكبر ميزة وأعظم فارق في معرفة الحرة من المملوكة (1) ، فإذا حجبها فلابد وأن تكون حرة، والحرة لا تصلح أن تكون سُرِّيَّة فهي إذن من أزواجه وأمهات المؤمنين.

فالصحابة رضي الله عنهم إنما جعلوا الحجاب أمارة على العتق والتزويج، لأن صفية كانت سبيًا مملوكة، نعم لو كانت من الحرائر المؤمنات من قبل، ثم جعلوا الحجاب أمارة على كونها من أمهات المؤمنين لكان في ذلك دليل على اختصاص الحجاب بهن، وأما إذ ليس فليس.

ثم ليعلم أن التزوج والعتق ليسا من خصائصهن، فالحجاب الذي جعلوه أمارة على العتق والتزوج كيف يكون مختصا بهن؟ ثم إن القصة لا تدل على أكثر من أن أمهات المؤمنين كن محتجبات، ولا يلزم من كونهن محتجبات اختصاصهن بالحجاب" (2) اهـ.

***

(1) انظر ص: (206) .

(2)

"مجلة الجامعة السلفية".

ص: 348

القسم الثالث

1-

عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شققن مروطهن فاختمرن بها"(1) .

وروى ابن أبي حاتم هذا الحديث من طريق صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة قالت: فذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة رضي الله عنها: "إن لنساء قريش لفضلَا، وإني والله ما رأيت أفضل من

نساء الأنصار أشد تصديقًا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) انقلب رجالهن إليهن، يتلون عليهن ما أنزل الله عليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وبنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل، فاعتجرت به تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان" (2) .

وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: "رحم الله نساء الأنصار، لما نزلت (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ) الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها، وصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان"(3) .

ولا يتأتى تشبيههن بالغربان إلا مع سترهن وجوههن بفضول أكسيتهن (4) .

(1) رواه البخاري رقم (4758) في التفسير: باب (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)"فتح الباري"(8/ 347) .

(2)

"تفسير ابن كثير"(5/ 90) .

(3)

"فتح القدير" للشوكاني (4/ 307) .

(4)

"إلى كل فتاة تؤمن بالله " ص: 41.

ص: 349

والاعتجار: هو الاختمار.

قال الحافظ: "قوله: "فاختمرن" أي: غطين وجوههن" اهـ (1) .

وتفسير الاختمار بتغطية الوجه هو الصحيح، لما مضى (2) من التفصيل عن أعمالهن.

***

2-

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذَوْا بنا سَدَلَتْ إحدانا جلبابها

من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه" (3) .

وهذان الحديثان (4) صريحان في شمول الحجاب للوجوه، بل يفيدان أن تغطية الوجوه كان هو المقصود بأمر الحجاب، والحديث الأخير حكمه عام لجميع نساء المؤمنين، فإن المراد بضمائر جمع المتكلم ليست أمهات المؤمنين فحسب كما يزعمه الزاعمون، والدليل على ذلك أن عائشة رضي الله عنها هي التي روت هذا الحديث، وهي التي كانت تفتي: بأن المرأة المحرمة تسدل جلبابها من فوق رأسها على وجهها.

(1)"فتح الباري"(8/ 347) .

(1)

انظر ص: (310) .

(3)

أخرجه الإمام أحمد (6/30)، وأبو داود رقم (1833) في الحج: باب في المحرمة تغطي وجهها (2/167) ، وابن ماجه (2935) ، والبيهقي (5/48) ، والدارقطني (286، 287) ، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، وتكلم فيه غير واحد، وأخرج له مسلم في جماعة غير محتج به، وقال الحافظ في التلخيص (2/ 292) : ". . . أخرجه ابن خزيمة، وقال: في القلب من يزيد بن أبي زياد، ولكن ورد من وجه آخر، ثم أخرج من طريق فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر - وهي جدتها - نحوه، وصححه الحاكم. اهـ.

الإشارة إلى هذا الحديث، وإلى الذي قبله، وهو حديث الإفك، وفيه قولها رضي الله عنها:(وكان يراني قبل الحجاب)، وقولها:(فخمرت وجهي بجلبابي) .

ص: 350

وروى مالك في الموطأ ما يفيد أن تغطية الوجوه في الإِحرام كان عامًّا في النساء، لا في زمن الصحابة فقط، بل فيما بعدهم أيضَا، فقد روى عن فاطمة بنت المنذر قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق فلا تنكره علينا (1) .

وهذا العموم هو الذي فهمه العلماء في حديث عائشة.

قال في "عون المعبود" في قولها: "يمرون بنا": أي علينا معشر النساء (2) .

وقال الشوكاني في "النيل": واستدل بهذا الحديث على أنه يجوز للمرأة

إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها أن تسدل ثوبها من فوق رأسها على وجهها، لأن المرأة تحتاج إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره مطلقَا كالعورة، لكن إذا سدلت يكون الثوب متجافيا عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة، هكذا قال أصحاب الشافعي وغيرهم، وظاهر الحديث خلافه، لأن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، فلو كان التجافي شرطًا لبينه صلى الله عليه وسلم ".

وقال ابن المنذر: "أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط والخفاف، وأن لها

أن تغطي رأسها لا وجهها فتسدل الثوب سدلًا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال" (3) انتهى.

والمقصود من نقل كلام الشوكاني وابن المنذر أن العلماء لا يرون هذه الضمائر راجعة إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة" (4) اهـ.

3-

وعن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "كنا نغطي وجوهَنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في

(1) الموطأ" (1/328)، كتاب الحج: باب تخمير المحرم وجهه.

(2)

"عون المعبود"(5/ 102، 104، 105) .

(3)

"نيل الأوطار"(5/ 77) .

(4)

"مجلة الجامعة السلفية" عدد أكتوبر 1978م.

ص: 351

الإِحرام" (1)

4-

وعن فاطمة بنت المنذر فى رحمها الله قالت: "كنا نخمر وجوهنا، ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما"(2) .

وفي تعبير أسماء رضي الله عنها بصيغة الجمع في قولها: "كنا نغطي وجوهنا من الرجال " دليل على أن عمل النساء في زمن الصحابة رضي الله

عنهم كان على تغطية الوجوه من الرجال الأجانب والله أعلم، أما حديث

فاطمة بنت المنذر فيفيد أن تغطية الوجه في الإِحرام كان عامًّا في النساء لا في زمن الصحابة فقط بل فيما بعدهم أيضًا.

5-

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"إذا خَطَبَ أحدُكُم المرأةَ، فإن استطَاعَ أن يَنظُرَ إلى ما يدعُوه إلى نِكَاحِها

فليَفعَل " فخطبت جارية فكنت أتخبَّأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها، وتزوجتُها (3) .

6-

وعن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال: خطبتُ امرأةُ فجعلتُ أتخبأ لها حتى نظرتُ إليها في نَخل لها، فقيل له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أَلقى الله في قلب

امرِئ خطبَة امرأة فلا بأس أن ينظُرَ إليها" (4) .

(1) أخرجه الحاكم (1/ 454)، وقال: "صحيح على شرط الشيخين،، ووافقه الذهبي، وهو صحيح على شرط مسلم وحده.

(2)

أخرجه الإمام مالك في الموطأ (1/ 328) في الحج: باب تخمير المحرم وجهه، والحاكم (1/ 454) ، وصححه، ووافقه الذهبي.

(3)

أخرجه الإمام أحمد (3/ 334) ، (3/360) ، وأبو داود رقم (2082) في النكاح باب الرجل ينظر إلى المرأة، وهو يريد تزويجها، والحاكم (2/ 165) ،

وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في "بلوغ المرام": رجاله ثقات، وقال في "الفتح" وسنده حسن، وله شاهد من حديث محمد بن مسلمة اهـ (9/87)

(4)

رواه سعيد بن منصور في "سننه"(1/146) رقم (519) ، وابن ماجه (1886) =

ص: 352

7-

وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتُ له امرأة أخطُبُها فقال:"اذهَبْ فانظُر إليها فإنه أجْدَر أن يؤدَمَ بينَكما" فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتها إلى أبويها، وأخبرتُهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهما كرِها ذلك، قال: فَسَمِعت ذلك المرأةُ وهي في خِدْرِها، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر، وإلا فأنشدُك، كأنها أعظمت ذلك، قال: فنظرت إليها فتزوجتها، فذكر من موافقتها (1) .

* قال التويجري:

"وفي هذا الحديث والحديثين قبله دليل على مشروعية احتجاب النساء

من الرجال الأجانب، ولهذا أنكروا على محمد بن مسلمة لما أخبرهم أنه تخبأ لمخطوبته حتى نظر إليها وهي لا تشعر، فأخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رخَّص في ذلك للخاطب.

وكذلك المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لما طلب النظر إلى المخطوبة كَرِه ذلك

= والطحاوي (2/ 8) ، والبيهقي، والطيالسي (1186) ، والإمام أحمد (4/ 225) ، والحاكم (3/434)، وقال: هذا حديث غريب، وإبراهيم بن صرمة ليس من شرط هذا الكتاب، وقال الذهبي في "التخليص": ضعفه الدارقطني، وقال أبو حاتم: شيخ. اهـ، والحديث رواه ابن حبان في "الزوائد"(1235) .

(1)

رواه سعيد بن منصور في "سننه"(1/145) رقم (516)، والترمذي (3/ 397) رقم (1087) في النكاح: باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة، وحسَّنه، والنسائي (6/ 69) في النكاح، باب إباحة النظر قبل التزويج، والدارمي (2/ 134) ، وابن ماجه (1888) ، والطحاوي (2/8)، وابن الجارود في "المنتقى" ص:

312، والدارقطني (3/ 252) ، والبيهقي (7/ 84) ، والإمام أحمد (4/144) ، (4/ 245) ، عن بكر بن عبد الله المزني عن المغيرة بن شعبة، وأخرجه عن ثابت عن أنس رضي الله عنه، قال:(أراد المغيرة أن يتزوج. . .) الحديث وابن ماجه

(1887)

، وابن حبان (1236 - موارد) ، والدارقطني (3/253) ، والحاكم (2/165)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال البوصيري في "الزوائد": هذا إسناد صحيح، رجال ثقات. اهـ (1/118) .

ص: 353

والداها، وأعظمت ذلك المرأة وشددت على المغيرة ثم مكنته من النظر إليها طاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي هذه الأحاديث أيضا بيان ما كان عليه نساء الصحابة رضي الله عنهم من المبالغة في التستر من الرجال الأجانب، ولهذا لم يتمكن جابر ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهما من النظر إلى المخطوبة إلا من طريق الاختباء والاغتفال، وكذلك المغيرة لم يتمكن من النظر إلى مخطوبته إلا بعد إذنها له في النظر إليها" (1) اهـ.

وكذلك يشهد لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه: "فإن استطَاعَ أن يَنطرَ إلى ما يَدعُوه إلى نِكَاحِهَا فَليَفعَل".

* وقال الشيخ أبو هشام ا! لأنصاري معلقا على حديث المغيرة رضي الله عنه:

وهذا الحادث يدل أيضَا على أن النساء كن قائمات بالتستر بحيث لم يكن الرجل يقدر على أن يراهن إلا بالحيل والتصرفات، أو إلا أن يسمحن له بالرؤية، ولو كن يخرجن سافرات الوجوه، كاشفات الخدين، مكتحلات العينين، مخضوبات الكفين لم يكن الرجال يحتاجون إلى تجشم هذه المشقات في رؤيتهن ". اهـ.

وقال معلقًا على قول جابر رضي الله عنه في آخر حديثه: فخطبت امرأة من بني سلمة فكنت أختبئ تحت الكرب حتى رأيت منها بعض ما دعاني إِليها

(المحلى لابن حزم (11/220) .

وفي هذا الحديث دليل من وجهين:

الأول: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن استطاع أن ينظر. . . إلخ" يدل على أن النظر

إلى النساء لم يكن سهلَا، بل كان لابد لها من حيل وتصرفات، ولو كانت النساء يخرجن سافرات الوجوه في ذلك الزمان لم يكن لاشتراط الاستطاعة

(1)"الصارم المشهور"(ص: 94- 95) .

ص: 354

في النظر إليهن معنى.

والثاني: ما فعله جابر من الاختباء تحت الكرب دليل على أن النساء لم يكن يتركن الحجاب إلا إذا علمن أنهن في أمن من نظر الرجال.

وقال في حديث محمد بن مسلمة رضي الله عنه:

وهذا الحادث مثل حادث جابر في الدلالة على، المطلوب، مع مزيد الدلالة على أن النظر إلى المرأة الأجنبية كان من أسباب التعجب والنكران

عند أوائل هذه الأمة" (1) اهـ.

* * *

8-

وعن موسى بن يزيد الأنصاري عن أبي حميد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خَطَبَ أحدُكم امرأةَ، فلا جُنَاحَ عليه أن يَنظُرَ إليها إذا

كان أنما يَنظر إليها لخِطبته، وأن كانت لا تعلَمُ" (2) .

! قال الشيخ أبو هشام الأنصاري حفظه الله:

إن رفع الجناح عن إظهار التزين في هذه الحالة المخصوصة لأجل هذه المصلحة الخاصة دليل على أن في إظهار التزين في عامة الأحوال جناحًا وإثما.

والدليل على تغاير حكم الخطبة عن حكم عامة الأحوال أن الخاطب أبيح له النظر إلى المخطوبة، بل هو مأمور بذلك أمر حض وإرشاد، أو أمر

استحباب وندب، بينما هو مأمور بغض البصر عن الأجنبيات، وحرم

عليه النظر إليهن إلا النظرة الأولى أو نظرة الفجأة التي تصدر منه من غير

(1)"مجلة الجامعة السلفية" عدد نوفمبر، ديسمبر 1978.

(2)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 424)، وفي "مجمع الزوائد":(رواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير")(4/276)، وقال:"ورجال أحمد رجال الصحيح" اهـ، وسكت عليه الحافظ في "التلخيص"(3/147) .

ص: 355

تعمد وقصد، والذين لهم إلمام بقواعد الشريعة يعرفون جيدًا أن تقييد إِباحة الشيء أو جوازه أو رخصته بحالة خاصة دليل على تحريمه في الأصل كما أن ما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للحاجة أو المصلحة الراجحة (انظر زاد المعاد 1/224) فجواز أو إباحة إظهار التزين - الذي يعده البعض كشف الوجه - للمخطوبة دليل على تحريم إظهار تلك الزينة في عامة الأحوال.

وصنيع الفقهاء والمحدثين يرشد إلى ما قلنا: فإن عامتهم بوبوا على أحاديث الخطبة بباب جواز النظر إلى الخطوبة وأمثاله، فتقييدهم النظر إلى المخطوبة بالجواز يشعر بأن النظر إلى غير المخطوبة غير جائز عندهم (1) .

* قال الشيخ أبو محمد المقدسي في "المغني":

"لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في إباحة النظر إلى المرأة لمن أراد نكاحها. . .، ولا بأس بالنظر إليها بإذنها وغير إذنها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالنظر وأطلق. . .

ولا يجوز له الخلوة بها لأنها محرمة ولم يَرد الشرعُ بغير النظر فبقيت الخلوة على التحريم ولأنه لا يُؤمَن مع الخلوة مواقعة المحظور. . .، ولا ينظر إليها نظرة تلذذ وشهوة ولا لريبة، قال أحمد في رواية صالح: ينظر إلى الوجه ولا يكون عن طريق لذة، وله أن يردد النظر إليها ويتأمل محاسنها لأن المقصود لا يحصل إلا بذلك" (2) اهـ كلامه ملخصًا.

وقيَّد الحجاوي والفُتُوحي وغيرهما جواز النظر بما إذا غلب على ظنه إجابته، قال الجراعيُ: متى غلب على ظنه عدم إجابته لم يجز، كمن ينظر إلى امرأة جليلة يخطبها مع علمه أنه لا يُجاب إلى ذلك" اهـ.

(1)"مجلة الجامعة السلفية" نوفمبر، ديسمبر 1978

(2)

"المغني"(6/ 552 - 553) مختصرا، وفي المسألة تفصيل يراجع في "السلسلة الصحيحة" حديث رقم (95) إلى (99) .

ص: 356

وكما أن الأحاديث التي ذُكرت آنفًا قد دلت بمنطوقها على جواز نظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، فكذلك هي دالة بمفهومها على أنه لا يجوز النظرُ إلى غيرها من سائر الأجنبيات - ويوضح ذلك قوله في حديث أبي حُميد رضي الله عنه: إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة، فدل على أنه لا يجوز النظر إلى الأجنبية لغير خاطب.

وأيضا فوضع البأس والجُناح على الخاطب إذا نظر إلى مخطوبته يدل على أنه لا يجوز النظر لغير خاطب، وأن عليهْ في نظره إلى الأجنبية بأسا وجناحَا، والله أعلم.

وقد أخرج البخاري رحمه الله تعالى في "الجامع" نحو حديث المغيرة بن

شعبة رضي الله عنه فقد عقد بابًا إذ قال: (باب النظر إلى المرأة قبل التزويج) .

وقال الحافظ في "الفتح":

قال الجمهور: لا بأس أن ينظر الخاطب إلى الخطوبة، قالوا: ولا ينظر إلى غير وجهها وكفيها (1) .

* قال السندي:

"وأما المفهوم المخالف لهذا الحديث فإنه لا يجوز لغير الخاطب أن ينظر

إليها ولا يتحقق ذلك إلا إذا كانت المرأة محجبة وأما في حالة كشف الوجه

والكفين فلا معنى لهذا الحديث بالمفهوم، فهذا أيضَا دليل على عدم جواز

كشف الوجه والكفين" (2) اهـ.

وسياق حديث محمد بن مسلمة وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ألقَى الله عز وجل في قلب امرئ خِطبَةَ امرأة فلا بأس أن ينظُرَ إليها" فهذا الإذن بهذا السياق يدل على تحريم النظر إلى الوجه والكفين لغير الخاطب.

(1) راجع الخلاف في هذا في "الفتح"(9/87 -88) .

(2)

"رسالة الحجاب" ص (42 - 43) .

ص: 357

9-

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُباشِرِ المرأةُ المرأة، فَتنعَتها لزوجِها، كأنه يَنظُرُ إليها"(1) .

* قال القسطلاني رحمه الله:

"قال الطيبي رحمه الله تعالى: المعنى به فى الحديث النظر مع المس، فتنظر إلى ظاهرها من الوجه والكفين، وتجس باطنها باللمس"(2) اهـ.

* قال الشيخ حمود التويجري حفظه الله:

"وفي نهيه صلى الله عليه وسلم المرأة أن تباشر المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها دليل

على مشروعية احتجاب النساء عن الرجال الأجانب، وأنه لم يبق للرجال

سبيل إلى معرفة الأجنبيات من النساء إلا من طريق الصفة أو الاغتفال ونحوِ ذلك، ولهذا قال:"كأنه ينظُرُ إليها" فدلَّ على أن نظر الرجال إلى

الأجنبيات ممتنع في الغالب من أجل احتجابهن عنهم، ولو كان السفور جائزًا لما كان الرجال يحتاجون أن تُنْعَتَ لهم الأجنبيات من النساء بل كانوا يستغنون بنظرهم إليهن كما هو معروف في البلدان التي قد فشا فيها

التبرج والسفور" (3) اهـ.

* * *

10-

وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن

(1) رواه البخاري (9/ 250) في النكاح: باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها،

وأبو داود رقم (2150) في النكاح: باب ما يؤمر به من غض البصر، والترمذي رقم (2793) في الأدب: باب ما جاء في كراهية مباشرة الرجل الرجل، والمرأة

المرأة.

(2)

"إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري"(9/ 237) .

(3)

"الصارم المشهور" ص (95) .

ص: 358

نظر الفُجَاءَةِ فأمرني أن أصرف بصري" (1) .

* وقال التويجري:

"ويستفاد من هذا الحديث أن نساء المؤمنين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كن

يستترن عن الرجال الأجانب ويغطين وجوههن عنهم، وإنما كان يقع النظر عليهن فجأة في بعض الأحيان، وأيضَا لو كُنَّ يكشفن وجوههن عند الرجال الأجانب لكان في صرف البصر عنهن مشقة عظيمة. ولاسيما إذا كثرت النساءُ حول الرجل، لأنه إذا صرف بصره عن واحدة فلا بد أن

ينظر إلى أخرى أو أكثر، وأمَّا إذا كن يغطين وجوههن كما يفيده ظاهر

الحديث، فإنه لا يبقى على الناظر مشقة في صرف النظر، لأن ذلك إنما

يكون بغتة في بعض الأحيان والله أعلم" (2) .

(1) رواه مسلم رقم (2159) في الآداب: باب نظر الفجأة، وأبو داود رقم (2148) في النكاح: باب ما يؤمر من غض البصر، والترمذي رقم (2777) في

الأدب: باب ما جاء في نظرة الفجأة.

(2)

"الصارم المشهور" ص (92) ، وقال الشيخ أبو هشام الأنصاري في معرض الرد

على من استدل بهذا الحديث على إباحة السفور: (هذا لا يتم به الاستدلال، فإنه

غاية ما فيه إمكان وقوع النظر على الأجنبيات، وهذا لا يستلزم جواز كشف الوجوه والأيدي أمام الأجانب، وإيضاح ذلك أن المرأة كثيرَا ما تكشف وجهها

وكفيها ظنًّا منها أنها بمأمن من نظر الأجنبي بينما تكون هي بمرأى منه، مثلَا تمر في طريق خالية من الرجال فتكشف وجهها ويكون رجل عند باب غرفته أو شباكها أو في شرفة أو على سقف أو في ناحية أخرى يراها وهى لا تشعر به

كذلك ربما تضطر المرأة إلى كشف بعض جسدها لأمر ما، كما أنها ربما ينكشف

بعض أعضائها من غير خيار منها أو من غير أن تشعر بانكشافه - وقد أسلفنا

بعض هذا - وربما تكون المرأة غير مسلمة أو مسلمة اجترأت على هتك أوامر الله وكشفت بعض أعضائها تعمدَا - وقد عمت به البلوى في هذا الزمان - فالسبيل في هذه الصور وأمثالها أن يؤمر الرجل بغض البصر، وليس من مقتضيات هذا أن

يجوز للمرأة كشف وجهها من غير عذر أو حاجة أو مصلحه) اهـ من "مجلة =

ص: 359

11-

عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة "وفي رواية أخرى: ثلاث طلقات" وهو غائب، فجاءت

رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: "تِلكَ امرأة يغشاها أصحَابي (1) ، اعتَدِّي عند ابن أم مكتُوم فإنه رجل

أعمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ عندَه".

وفي رواية: "انتَقِلي إلى أم شريكٍ، وأم شريك امرأة غنية من الأنصارِ،

عظيمةُ النفقَةِ فى سبيلِ اللهِ، ينزلُ عليها الضيفَانِ، فإني أكره أن يَسقُطَ

خمارُك أو ينكشفَ الثوبُ عن سَاقَيكِ، فيرى القومُ منك بعضَ ما تكرهين، ولكن انتقِلي إلى ابنِ عمك عبدِ الله ابن أم مكتومِ الأعمى - وهو من البطن

التي هي منه - فإنك إذا وَضَعتِ خمارَك لم يَرَك"، فانتقلتُ إليه، فلما انقضت عدتي سمعتُ نداء المنادي ينادي: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى صلاته جلس على المنبر

فقال: "إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميمَا

الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال. . ." الحديث (2) .

= الجامعة السلفية" عدد (نوفمبر وديسمبر 1978) .

(1)

قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله في "عارضة الأحوذي":

(قوله لها: "تلك امرأة يغشاها أصحابي" قيل في ذلك وجهان:

أحدهما: أن ذلك قبل نزول الحجاب، وهو ضعيف، لأن مغيب عليّ إلى اليمن حين سافر معه زوج فاطمة كان بعد نزول الحجاب بمدة.

الثاني: وهو الصحيح: أن أم شريك كانت مبجلة رجلة، فكان المهاجرون والأنصار يداخلونها بجلالتها ورجولتها، فلم يكن ذلك موضع تحصين لكثرة

الداخل فيه والخارج، وعسر التحفظ فيه، فنقلها منه إلى دار امرأة لها زوج

أعمى، فتكون فى حصانة من الرجال، وفي ستر من ضراوة الرجل المختص بذلك المنزل) اهـ (5/146) .

(2)

أخرجه مسلم (4/196) - واللفظ له -، وأبو داود (2284) ، والنسائي (2/ =

ص: 360

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك" وفي رواية: "فإني أكره

أن يسقط منك خمارك فيرى القوم منك بعض ما تكرهين" دليل على أنه لا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها - فضلا عن غيره - عند البصير من الرجال

الأجانب، وذلك لأن الخمار عام لمسمى الرأس والوجه لغة وشرعَا (1) ،

ويشهد لهذا ما حكيناه سابقًا من قول الحافظ ابن حجر في تعريف الخمر:

ومنه الخِمار لأنه يغطي وجه المرأة.

وقول القاضي أبي علي التنوخي فيما ينسب إليه:

قل للمليحة في الخمار المذهب

أفسدت نسك أخي التقي المذهب

نور الخمار، ونور خدك تحته

عجبا لوجهك كيف لم يتلهب

وهذا الحديث ينبغي أن يفهم في ضوء قوله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عَورَةُ".

وإذ! كان النظر إلى وجوه النساء أعظم فتنة من النظر إلى رؤوسهن، فبعيد أن تأتي الشريعة الكاملة بإيجاب ستر الرؤوس، وإباحة كشف الوجوه، وقوله "لم يرك" ظاهر في إرادة جميع ما يبدو منها من وجه ورأس ورقبة، وليس في الحديث ما يدل على وجوب ستر الرأس وحده دون الوجه.

***

12-

عن عائشة رضي الله عنها قالت. خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب (2) لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها

= 74 – 75) ، والطحاوي (2/38) ، والبيهقيّ (7/432) ، وأحمد (6/412) ،

وانظر: "العدة شرح العمدة بحاشية الصنعاني"(4/240 -241) .

(1)

انظر ص (285)، وانظر:"نظرات في حجاب المرأة المسلمة" ص (72 - 73) ، و"الصارم المشهور" ص (77 - 78) .

(2)

وجاء في كتاب الطهارة في البخاري أنه كان قبل الحجاب والجواب كما ذكره

الحافظ ابن حجر رحمه الله: أن (المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني، =

ص: 361

عمر بن الخطاب فقال: يا سودة أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف

تخرجين، قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفى يده عَرْق - هو العظم إذا أخذ منه معظم اللحم- فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه، فقال:"إنه أُذِنَ لَكن أن تخرُجنَ لحاجَتِكُن"(1) .

* قال الشيخ أبو هشام الأنصاري حفظه الله:

"ومقتضى هذا أن سودة لولا طولُ قَدّها لخفيت على الناس، وأن عمر لم يكن عرفها لكونها كاشفة الوجه، بل لطول قدمها وهيئتها التي تميزها عن غيرها، وفي هذا الحديث دليل أيضا أن الحجاب لم يكن مختصُّا بأمهات المؤمنين، وذلك لأن سياق الحديث يدل على أن عمر لم يكن يحب أن تعرف أشخاص أمهات المؤمنين، ولو كان الحجاب مختصُّا بهن لكان أول دليل عليهن، وأول فارق وأعظم هيئة تميزهن عن غيرهن، ولعرفهن كل أحد، وعرف أعيانهن في معظم الأحوال"(2) اهـ.

واعلم؛ أن غاية ما يؤخذ من هذا الحديث بانفراده هو اشتراك أمهات

= والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع أجانب على الحريم النبوي، حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام:"احجب نساءك"، وأكّد ذلك، إلى أن نزلت آية الحجاب، ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلا - ولو كن مستترات، فبالغ في ذلك، فمنِع منه، وأذِن لهن في الخروج لحاجتهن، دفعا للمشقة، ورفعا للحرج) .

(1)

رواه البخاري (1/ 300) في الوضوء: باب خروجِ النساء إلى البراز وفي التفسير: في تفسير سورة الأحزاب: باب قوله (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) ، وفي الاستئذان، باب آية الحجاب، ومسلم رقم (2170) في السلام: باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان

(2)

"مجلة الجامعة السلفية".

ص: 362

المؤمنين مع سائر النساء في "مشروعية الحجاب"، وهذا موضع اتفاق مع المخالف، فإنه يستدل به على عموم هذه المشروعية، أما الوجوب ذاته فلا يستدل عليه بهذا الحديث بانفراده، وإنما بما سبق من الأدلة الكثيرة على عموم آية الحجاب، وعدم تخصيصها بأمهات المؤمنين، والله أعلم.

13-

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجعنا، وحاذينا بابه إذ هو بامرأة لا نظنه عرفها، فقال صلى الله عليه وسلم:"يا فاطمة من أين جئتِ؟ "، قالت: جئت من عند أهل الميت، رَحِمتُ إليهم مَيتهم، وَعَزَّيتهم. . . (1) الحديث.

فقد ظن الصحابة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف هذه المرأة التي مرت من عنده، لأنها كانت مستترة، ولكنه عرفها، وقال لها:"يا فاطمة" كما عرف عائشة رضي الله عنها وسط الناس وهي منتقبة (2) .

***

(1)

رواه الإمام أحمد (2/ 169) ، والبيهقي في السنن (4/ 60) ، وفي الدلائل (1/192) ، والحاكم في المستدرك (1/ 373)، وقال: "صحيح على شرط الشيخين،

ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.

(2)

وذلك - فيما يروى - حينما جاءت عائشة رضي الله عنها لتنظر إلى صفية رضى الله عنها أول ما قدمت المدينة، (فتنكّرت، وتنقبت، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عينيها، فعرفها) الحديث رواه ابن ماجة، وله شاهد مرسل عن عطاء بن يسار ذكره ابن سعد.

ص: 363