المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شروط الحجاب الشرعي - عودة الحجاب - جـ ٣

[محمد إسماعيل المقدم]

الفصل: ‌شروط الحجاب الشرعي

‌الفصل الأول

‌شروط الحجاب الشرعي

إذا تتبعت الآيات القرآنية، والسنة المحمدية، والآثار السلفية في هذا الموضوع، تبين لك أن المرأة إذا خرجت من دارها وجب عليها أن لا تُظْهرَ شيئا من زينتها، وأن تستر جميع بدنها بأي نوع أو زي من اللباس، ما اجتمعت (1) فيه الشروط الآتية.

الأول: استيعاب جميع بدن المرأة (على الراجح) .

الثاني: أن لا يكون زينة في نفسه.

الثالث: أن يكون صفيقًا لا يشف.

الرابع: أن يكون فضفاضا غير ضيق.

الخامس: أن لا يكون مبخرًا مطيبا.

السادس: أن لا يشبه لباس الرجل.

السابع: أن لا يشبه لباس الكافرات.

الثامن: أن لا يكون لباس شهرة (2) .

(1) فإذا تخلف منها شرط واحد لم يُعَدَّ الحجابُ شرعيا، غير أنه يراعى الخلاف الفقهي في الشرط الأول فقط، وأما سائر الشروط فقد اختصرتها من كلام العلامة الألباني في "حجاب المرأة المسلمة"، وكأنه أول من ضبط شروط الحجاب هذا الضبط، فجزاه الله خيرَا، ورحمه رحمة واسعة.

(2)

الشروط من السادس إلى الثامن تحرم على المرأة مطلقَا سواء داخل بيتها أو خارجه.

ص: 153

الشرط الأول

استيعاب جميع البدن

وهو موضوع البحث في هذا القسم، وسوف نفصل أدلته من القرآن والسنة والاعتبار في الباب الخامس إن شاء الله، وكذا سنعرض لمناقشة الشبهات التي استدل بها المخالفون والرد عليها في الباب السادس إن شاء الله تعالى.

الشرط الثاني

ألا يكون زينة في نفسه

ومن أدلة ذلك:

قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) الآية [النور: 31] ،، لأنه بعمومه يشمل الثياب الظاهرة إذا كانت مزينة تلفت أنظار الرجال إليها، ويشهد لذلك قوله تعالى:(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)[الأحزاب: 33] ،.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة، وعصى إمامه، ومات عاصيا، وأمة أو عبد أبق فمات، وامرأة غاب عنها زوجها، قد كفاها مؤونة الدنيا، فتبرجت بعده فلا تسأل عنهم "(1) .

و (التبرج: هو أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها وما يجب عليها ستره مما تَستدعي به شهوة الرجل)(2) .

قال العلامة (الألباني) : (والمقصود من الأمر بالجلباب إئما هو ستر زينة

(1) تقدم تخريجه.

(2)

راجع ص (133) .

ص: 154

المرأة، فلا يعقل حينئذ أن يكون الجلباب نفسه زينة، وهذا كما ترى بَيِّن لا يخفى، ولذلك قال الإمام (الذهبي) في كتاب (الكبائر) (1) :(ومن الأفعال التي تلعن عليها المرأة إظهار الزينة والذهب واللؤلؤ تحت النقاب، وتطييبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت، ولبسها الصباغات والأزر الحريرية والأقبية القصار، مع تطويل الثوب وتوسعة الأكمام وتطويلها، وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه، ويمقت فاعله في الدنيا والآخرة، ولهذه الأفعال التي قد غلبت على أكثر النساء، قال عنهن النبي صلى الله عليه وسلم: "اطلعت على النار، فرأيت أكثر أهلها النساء") اهـ (2) .

قلت: ولقد بلغ الإسلام في التحذير من التبرج إلى درجة أنه قرنه بالشرك والزنى والسرقة وغيرها من المحرمات، وذلك حين بايع النبي صلى الله عليه وسلم النساء على أن لا يفعلن ذلك، فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: جاءت أمَيمة بنت رُقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام، فقال:"أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئا، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تتبرجي تبرج الجاهلية الأولى"(3) .

(1) الكبائر ص (102) .

(2)

انظر ص (136) .

(3)

تقدم تخريجه، وقد قال الآلوسي في "روح المعاني ": (ثم اعلم أن عندي مما يلحق بالزينة المنهي عن إبدائها ما يلبسه أكثر مترفات النساء في زماننا فوق ثيابهن ويستترن به إذا خرجن من بيوتهن، ووهو غطاء منسوج من حرير ذي عدة ألوان، وفيه من النقوش الذهبية والفضية ما يبهر العيون، وأرى أن تمكين أزواجهن ونحوهم لهن من الخروج بذلك ومشيهن به بين الأجانب من قلة الغيرة، وقد عمت البلوى بذلك.

ومثله ما عمت به البلوى أيضًا من عدم احتجاب أكثر النساء من إخوان بعولتهن، وعدم مبالاة بعولتهن بذلك، وكثيرا ما يأمرونهن به، وقد تحتجب المرأة منهم بعد الدخول أيامًا إلى أن يعطوها شيئَا من الحلي ونحوه فتبدولهم، =

ص: 155

الشرط الثالث

أن يكون صفيقا فلا يشف

أما الصفيق فلأن الستر لا يتحقق إلا به، وأما الشفاف فإنه يزيد المرأة فتنة وزينة، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم:"سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات، وعلى رؤوسهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات "(1)، زاد في حديث آخر:"لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا"(2) .

قال ابن عبد البر:، أراد صلى الله عليه وسلم النساء اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يصف ولا يستر، فهن كاسيات بالاسم، عاريات في الحقيقة) (3) .

وعن دحية الكلبي رضي الله عنه قال؟ أتي النبي صلى الله عليه وسلم بَقَبَاطِيّ (4) ، فأعطاني قُبْطِيَّة، وقال:"اصْدَعْها صَدْعين (5) ، فاقطع أحدهما قميصا، وأعط الآخر امرأتك تختمر به"، فلما أدبر قال: "وأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوبا لا

= ولا تحتجب منهم بعد، وكل ذلك مما لم يأذن به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك كثير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) اهـ (6/ 56) . انظر (حجاب المرأة المسلمة) للألباني ص (55- 56) .

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

انظر: "تنوير الحوالك "(3/ 103) .

(4)

القباطي: بفتح القاف، وكسر الطاء المهملة، وتحتية مشددة؛ وجمع قبطية، وهي ثوب من ثياب مصر رقيقة بيضاء، كأنه منسوب إلى القبط، وهم أهل مصر، وضم القاف من تغيير النسب، وهذا في الثياب، فأما في الناس فقِبطي بالكسر، انظر:(النهاية)(4/ 6) .

(5)

أي: نصفين، وانظر:(معالم السنن " للخطابي (6/62) .

ص: 156

يَصِفُها" (1) .

وعن أم علقمة بن أبي علقمة قالت: رأيت حفصة بنت عبد الرحمن بن

أبي بكر دخلت على عائشة وعليها خمار رقيق يشف عن جبينها، فشقته عائشة عليها وقالت:" أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور؟! ثم دعت بخمار فكستها"(2)

وعن هشام بن عروة: أن المنذر بن الزبير قدم من العراق فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر بكسوةٍ من ثياب مروية وقوهية (3) رقاق عتاق بعدما كف بصرها، قال فلمستها بيدها ثم قالت:"أف، ردوا عليه كسوته "، قال: فشق ذلك عليه"، وقال: "يا أمة إنه لا يشف "، قالت: "إنها إن لم تشف فإنها تصف" (4) .

وعن عبد الله بن أبي سلمة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كسا الناس القباطي، ثم قال:"لا تدرعها نساؤكم"، فقال رجل:"يا أمير المؤمنين قد ألبستها امرأتي، فأقبلت في البيت، وأدبرت، فلم أره يشف "، فقال عمر:"إن لم يشف فإنه يصف"(5) .

(1) رواه أبو داود (6/ 64)، حديث رقم (4116) في اللباس: باب في لبس القباطي للنساء، والبيهقي في "السنن "(2/ 234)، وقال المنذري: في إسناده عبد الله بن لهيعة، ولا يحتج بحديثه، وقد تابع ابن لهيعة على روايته هذه ابو العباس يحيى بن أيوب المصري، وفيه مقال، وقد احتج به مسلم، واستشهد به البخاري اهـ نقلاً

من "عون المعبود"(11/175)

(2)

أخرجه ابن سعد (8/ 49- 50) ، ومالك (3/ 103) بنحوه، والبيهقي (2/ 235) ومداره على أم علقمة مرجانة، ذكرها ابن حبان في (الثقات)(1/ 236) ،

وقال الذهبي: (لا تعرف)، قال الألباني: فمثلها لا يحتج بها، وإنما يستشهد بروايتها. اهـ من (الحجاب) ص (57) .

(3)

مروية: ثياب مشهورة بالعراق منسوبة إلى "مرو" قرية بالكوفة، و"قوهية" من نسيج "قوهستان" ناحية بخراسان كما في "الأنساب للسمعاني "(10/268) .

(4)

أخرجه ابن سعد (8/ 184) ، وصحح الألباني إسناده إلي المنذر.

(5)

رواه البيهقي في "السنن"(2/ 234- 235) ، وابن أبي شيبة في "المصنف" =

ص: 157

قال الألباني رحمه الله: وفي هذا الأثر والذي قبله إشارة إلى أن كون الثوب يشف أو يصف كان من المقرر عندهم أنه لا يجوز، وأن الذي يشف شر من الذي يصف، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها:"إنما الخمار ما وارى البشرة والشعر"(1)، وقالت شميسة:"دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها ثياب من هذه السَّيد (2) الصفاق (3) من درع وخمار ونقبة (4) قد لونت بشيء من عصفر"(5) .

من أجل ذلك كله قال العلماء: (ويحب ستر العورة بما لا يصف لون البشرة. . . من ثوب صفيق أو جلد أو رق (6) ، فإن ستر بما يظهر فيه لون البشرة من ثوب رقيق لم يجز فيه لأن الستر لا يحصل بذلك) (7) .

وقد عقد ابن حجر الهيتمي في "الزواجر" بابَا خاصُّا في لبس المرأة ثوبًا رقيقا يصف بشرتها وأنه من الكبائر، ثم استدل بحديث صنفان من أهل

= (195/8) بنحوه، ومعنى قوله "إن لم يشف فإنه يصف": أي: إن لم ير ما وراءه، فإنه يصف خلفها لرقته اهـ من "الفائق في غريب الحديث "(3/153)، وقال مالك رحمه الله: بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى النساء أنه يلبسن القباطي، قال: وإن كانت لا تشف، فإنها تصف، قال مالك: معنى تصف: أي تلصق بالجلد) اهـ من "المنتقى" للباجي (7/ 224) .

(1)

رواه البيهقي معلقًا، فقال: روينا عن عائشة أنها سئلت عن الخمار، فقالت، فذكره (2/ 235) .

(2)

كذا بالأصل، ولعلها:"سيراء" انظر: "نيل الأوطار"(2/95) .

(3)

ثوب صفيق: متين بَين الصفاقة، وثوب صفيق وسفيق: جيد النسيج، كذا في (لسان العرب) وفي (القاموس) :(وثوب صفيق ضد السخيف)(3/ 262)، والسخيف: هو القليل الغزل.

(4)

ثوب كالإزار يُشد كما تشد السراويل، كذا في (القاموس)(1/138) .

(5)

أخرجه ابن سعد (8/48) ، وصحح الألباني إسناده إلى شميسة. اهـ من (الحجاب) ص (58) .

(6)

بفتح الراء أو كسرها: جلد رقيق يُكتب فيه،

(7)

انظر (المهذب)(3/ 176) بشرح المجموع طبعة الشيخ زكريا على يوسف رحمه الله.

ص: 158

النار لم أرهما" الحديث، ثم قال: " وذكر هذا من الكبائر ظاهر لما فيه من الوعيد الشديد، لم أر من صرح بذلك، إلا أنه معلوم بالأولى مما مر في تشبههن بالرجال " اهـ (1) .

الشرط الرابع

أن يكون فضفاضا غير ضيق فيصف شيئا من جسمها

وذلك لأن الغرض من الثوب إنما هو رفع الفتنة، ولا يحصل ذلك إلا بالفضفاض الواسع! وأما الضيق فإنه وإن ستر لون البشرة، فإنه يصف حجم جسمها أو بعضه، ويصوره في أعين الرجال، وفي ذلك من الفساد والدعوة إليه ما لا يخفى، فوجب أن يكون واسعا.

وقد قال أسامة بن زيد رضي الله عنهما: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبطية كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، فقال:"مالك لا تلبس القبطية"؟ قلت: "كسوتها امرأتي "، فقال:"مُرها فلتجعل تحتها غلالة، فإني أخاف أن تصف حجم عظامها"(2) .

فقد أمر صلى الله عليه وسلم بأن تجعل المرأة تحت القبطية الثخينة كلالة - وهي شعار يلبس تحت الثوب -؛ ليمنع بها وصف بدنها (3) ، والأمر يفيد الوجوب كما تقرر في الأصول.

(1)"الزواجر"(1/ 156- 157) ، وانظر الأحاديث في ذلك ص (157) .

(2)

أخرجه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة" (1/ 441) ، والإمام أحمد في "المسند" (5/205) ، والطبراني في "الكبير" (1/160) ، والبيهقي (2/ 234) ،

وابن سعد في "الطبقات"(4/64- 65) ، ونقل في (الفتح الرباني) عن الهيثمي قوله وفيه عبد الله بن عقيل وحديثه حسن، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات" اهـ (17/301)

(3)

وذلك لأن الثوب - وإن كان ثخينا - قد يصف الجسم إذا كان من طبيعته الليونة والانثناء على الجسد، كبعض الثياب الحريرية والجوخ المعروفة في هذا العصر.

ص: 159

قال العلامة الألباني: (ومما يحسن إيراده هنا استئناسا ما روي عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر: أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: "يا أسماء إني قد استقبحت ما يُصنع بالنساء أن يُطرح على المرأة الثوب فيصفها"، قالت أسماء: "يا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أريكِ. شيئًا رأيتُه بالحبشة"؟ فدعت بجرائد رطبة، فحتتها، ثم طرحت عليه ثوبًا، فقالت فاطمة: "ما أحسن هذا وأجمله تُعْرَفُ به المرأة عن الرجل فإذا مت أنا فاغسليني أنتِ وعلي، ولا يدخل عَلَيَّ أحدٌ"، فلما توفيت غسلها علي وأسماء رضي الله عنهم (1) .

قال العلامة الألباني: فانظر إلى فاطمة بضعة النبي صلى الله عليه وسلم كيف استقبحت

أن يصف الثوب المرأة وهي ميتة، فلا شك أن وصفه إياها وهي حية أقبح وأقبح، فليتأمل في هذا مسلمات هذا العصر اللاتي يلبسن من هذه الثياب الضيقة، ثم ليستغفرن الله تعالى، "وليتبن إليه، وليذكرن قوله صلى الله عليه وسلم: "الحياءُ والإيمان قُرِنا جميعا، فإذا رُفِعَ-أحدُهما رُفع الآخر" (2)) اهـ (3) .

الشرط الخامس

أن لا يكون مبخرا مطيبا

وذلك لأحاديث كثيرة تنهى النساء عن التطيب إذا خرجن من بيوتهن؟ منها:

ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية"(4) .

(1) تقدم تخريجه.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

(حجاب المرأة المسلمة) ص (63) .

(4)

تقدم تخريجه، وانظر شرحه قي:"فيض القدير"(3/147) .

ص: 160

وعن زينب الثقفية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيبا"(1) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما أمرأة أصابت بخورا، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة"(2) .

وعن موسى بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن امرأة مرت به تعصف ريحها، فقال: يا أمة الجبار، المسجد تريدين؟ قالت: نعم، قال: وله تطيبتِ؟ قال!: نعم، قال: فارجعي فاغتسلي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ما من امرأة تخرج إلى المسجد تعصف ريحها فيقبل الله منها صلاة حتى ترجع إلى بيتها فتغتسل"(3) .

قال الألباني رحمه الله: ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث على ما ذكرنا العمومُ الذي فيها، فإن الاستعطار والتطيب كما يستعمل في البدن، يستعمل في الثوب أيضَا لا سيما وفي الحديث الثالث ذكر البخور، فإنه بالثياب أكثر استعمالًا وأخص.

وسبب المنع منه واضح وهو ما فيه من تحريك داعية الشهوة، وقد اْلحق به العلماء ما في معناه، كحسن الملبس، والحلي الذي يظهر، والزينة

(1) رواه مسلم رقم (443) في "الصلاة،: باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج مطيبة (4/ 163- نووي) ، ورواه النسائي (8/

154-

155) في الزينة: باب النهي للمرأة أن تشهد الصلاة أذا أصابت بخورًا.

(2)

رواه مسلم رقم (444) في الصلاة: باب خروج النساء إلى المساجد، وأبو داود رقم (4175) في الترجل: باب في رد الطيب، والنسائي (8/ 154 في الزينة:

باب في النهي للمرأة أن تشهد الصلاة إذا أصابت من البخور.

(3)

أخرجه البيهقي (3/ 133- 246) ، وعزاه المنذري لابن خزيمة في "صحيحه "، انظر: الترغيب " (3/ 94)، وأخرج نحوه أبو داود رقم (4174) في الترجل:

باب في رد الطيب.

قال المنذري: وأخرجه ابن ماجه، وفي إسناده عاصم بن عبيد الله العمري، ولا

يُحتج بحديثه اهـ انظر "عون المعبود"(11/ 231) .

ص: 161

الفاخرة، وكذا الاختلاط بالرجال (1) .

وقال ابن دقيق العيد: وفي حرمة التطيب علي مريدة الخروج إلى المسجد

لما فيه من تحريك داعية شهوة الرجال، وأُلْحِقَ به حسن الملبس، والحلي الظاهر اهـ (2) .

قلت: فإذا كان ذلك حرامًا على مريدة المسجد فما يكون الحكم علي مريدة السوق والأزقة والشوارع؟ لا شك أنه أشد حرمة، وأكبر إثمَا، وقد ذكر الهيتمي في "الزواجر" أن خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة من الكبائر، ولو أذن لها زوجها (3) .

ثم إن هذه الأحاديث عامة تشمل جميع الأوقات، وإنما خص بالذكر العشاء الآخرة في الحديث الثالث لأن الفتنة وقتها أشد، فلا يتوهمن منه أن خروجها في غير هذا الوقت جائز) (4) .

وقال ابن الملك: والأظهر أنها خصت بالنهي لأنها وقت الظلمة وخلو الطريق، والعطر يهيج الشهوة، فلا تأمن المرأة في ذلك الوقت من كمال الفتنة، بخلاف الصبح والمغرب، فإنهما وقتان فاضحان، وقد تقدم أن مَس الطيب يمنع المرأة من حضور المسجد مطلقًا اهـ (5) .

الشرط السادس

أن يشبه لباس الرجل

وذلك لما ثبت من الأحاديث التي تتوعد المرأة إذا تشبهت بالرجل في

(1) انظر: "فتح الباري"(2/ 407) .

(2)

نقله عنه المناوي في "فيض القدير"(3/137) .

(3)

" الزواجر"(2/ 37) .

(4)

"حجاب المرأة المسلمة" ص (65) .

(5)

نقله عنه القاري في "المرقاة"(2/71) .

ص: 162

لباس أو غيره باللعن والطرد من رحمة الله، ومنها:

ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من الرجال"(1) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسَةَ المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل "(2) .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمرجلاتِ من النساء، وقال: "أخرجوهم من بيوتكم " قال: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانًا، وأخرج عمر فلانًا (3) . وفي لفظ: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال". وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق والديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديُّوث "(4) .

وعن ابن أبي مليكة- واسمه عبد الله بن عبيد الله- قال: قيل لعائشة

(1) أخرجه الإمام أحمد (2/ 199- 200) ، وأبو نعيم في "الحليه "(3/ 321) ، وصححه الألباني في "الحجاب "- ص (66- 67) .

(2)

أخرجه أبو داود رقم (4098) في اللباس: باب لباس النساء، وابن ماجة (1/588) ، والحاكم (4/ 194) ، والإمام أحمد (2/325)، وقال الحاكم:"صحيح"

على شرط مسلم"، وأقره الذهبي، وصححه النووي في "المجموع".

(3)

أخرجه البخاري (10/ 346) في اللباس: باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت، وفي المحاربين: باب نفي أهل المعاصي والمخنثين، وأبو داود رقم

(4930)

في الأدب: باب في الحكم في المخنثين، والترمذي رقم (2785)

و (2786) في الأدب، باب ما جاء في المتشبهات بالرجال من النساء، والدارمي (2/280- 281) ، والإمام أحمد رقم (1982، 2006، 2123) ، وابن ماجه

(1/589) .

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 163

رضي الله عنها: إن المرأة تلبس النعل؟ فقالت: "قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَةَ من النساء"(1) .

وفي هذه الأحاديث دلالهّ واضحة على تحريم تشبه النساء بالرجال، وعلى العكس، وهي عامة تشمل اللباس وغيره إلا الحديث الأول، فهو نص في اللباس وحده.

وقد قال أبو داود في "مسائل الإمام أحمد": سمعت أحمد سئل عن الرجل يُلْبِسُ جاريته القرطق: قال: لا يلبسها من زي الرجال، لا يشبهها بالرجال (2) .

وقد عد الهيتمي رحمه الله هذه المعصية من كبائر الذنوب، فقال:(عد هذا من الكبائر واضح لما عرفت من هذه الأحاديث الصحيحة وما فيها من الوعيد الشديد، والذي رأيته لأئمتنا أن ذلك التشبه فيه قولان: أحدهما: أنه حرام، وصححه النووي، بل صَوبه، وثانيهما: أنه مكروه، وصححه الرافعي في موضع، والصحيح، بل الصواب: ما قاله النووي من الحرمة، بل ما قدمته من أن ذلك كبيرة، ثم رأيت بعض المتكلمين على الكبائر عَده منها، وهو ظاهر)(3) .

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: قال الطبري: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس، وقال

(1) أخرجه أبو داود رقم (4099) في اللباس: باب لباس النساء، وفيه عنعنة ابن جريج، ويشهد له حديث أبي هريرة السابق، وقد صححه النووي رحمه الله في "المجموع "(4/307) .

(2)

"مسائل الإمام أحمد" للإمام أبي داود ص (261)(باب في اللباس) والقُرْطَقُ هو القَباء، ومنه حديث الخوارج في أبي داود في كتاب السنة باب رقم (28) :(كأني انظر إليه حبشي عليه قريطق) مصغرا، وانظر:(النهاية في غريب الحديث) (4/

42) .

(3)

"الزواجر عن اقتراف الكبائر"(1/ 155) .

ص: 164

الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: ظاهر اللفظ الزجر عن التشبه في كل شيء، لكن عرف من الأدلة الأخرى أن المراد التشبه في الزي وبعض الصفات والحركات ونحوها، لا التشبه في أمور الخير.

قال: والحكمة في لعن من تشبه: إخراجه الشيء عن الصفة التي وضعها عليه أحكم الحكماء، وقد أشار إلى ذلك في لعن الواصلات بقوله:"المغيرات خلق الله" اهـ (1) .

فثبت مما تقدم أنه لا يجوز للمرأة أن يكون زيها مشابهًا لزي الرجل،

فلا يحل لها أن تلبس رداءَه وإزاره ونحو ذلك، كما تفعله بعض بنات المسلمين في هذا العصر من لبسهن ما يعرف ب (الجاكيت) و (البنطلون) ، وإن كان هذا في الواقع أستر لهن من ثيابهن الأخرى الأجنبية، فاعتبروا يا أولى الأبصار!.

الشرط السابع

أن لا يشبه لباس الكافرات

وذلك لما ثبت من أن مخالفة الكفار، وترك التشبه بهم من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، ولما يترتب على التشبه بالكفار من آثار سيئة على عقيدهّ المسلمين وسلوكياتهم (2) .

(1) نقله عنه الحافظ في الفتح" (10/ 345) ، والحديث المشار إليه رواه البخاري (8/498- فتح) ، (10/384، 390، 391، 393) ، ومسلم رقم (2125) في اللباس (14/105 - 107- نووي) ، وأبو داود رقم (4169) في الترجل، والترمذي رقم (2783) في الأدب، والنسائي (8/ 146) فِى الزينة، وابن ماجه (1/640) ، والدارمي (2/ 279) ، والإمام أحمد (1/ 433، 454) ، وابن حبان (7/416) .

(2)

وانظر تفصيل ذلك في "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم"، الذي =

ص: 165

ومما ينبغي أن يعلم أن أدلة هذه القاعدة الجليلة كثيرة جدا في الكتاب

والسنة:

فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)) [الحشر: 19] ،.

ومنها قوله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)) [الجاثية: 18] ،

يخبر تعالى أنه جعل رسوله صلى الله عليه وسلم على شريعة من الأمر شرعها له، وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في "الذين لا يعلمون" كل من خالف شريعته، و"أهواؤهم " ما يهوونه، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك فهم يهوونه، وموافقتهم فيه: اتباع لما يهوونه، ولذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين لهم في بعض أمورهم، ويسرون بذلك، ويودون أن لو بذلوا مالا عظيمًا ليحصل ذلك.

وقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)) [الحديد: 16] ،.

قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: فقوله: "ولا يكونوا" نهي مطلق عن مشابهتهم، وهو خاص أيضا في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم، وقسوة القلوب من ثمرات المعاصي اهـ (1) .

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية اهـ (2) .

= هو من نفائس شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، ويجدر بكل مؤمن

في هذا الزمان أن يتدارسه بإتقان.

(1)

"اقتضاء الصراط المستقيم" ص (43) .

(2)

"تفسير القرآن العظيم"(4/ 310) .

ص: 166

وفي الباب آيات أخر كثيرة وفيما ذكرنا كفاية.

فتيين من هذه الآيات أن ترك هدي الكفار، والتشبه بهم في أعمالهم وأقوالهم وأهوائهم من المقاصد والغايات التي أسسها، وجاء بها القرآن الكريم، وقد قام صلى الله عليه وسلم ببيان ذلك وتفصيله للأمة، وحققته في أمور كثيرة من فروع الشريعة فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس منا من عمل سنة غيرنا"(1) ، حتى عرف ذلك اليهود الذين كانوا في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وشعروا أنه صلى الله عليه وسلم يتحرى أن يخالفهم في- كل شئونهم الخاصة بهم، فقالوا:"ما يريد هذا الرجلُ أن يَدَعَ من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه "(2) .

وهذا لا ينحصر في باب واحد من أبواب الشريعة المطهرة كالصلاة مثلا، وإنما تعداها إلى غيرها من العبادات، والآداب، والعادات، وسوف نقتصر هنا على إيراد ماله علاقة بموضوعنا إن شاء الله تعالى: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بعثت

بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم" (3) .

(1) عزاه السيوطي إلى الديلمي في "مسند الفردوس"، وعزاه الألباني إلى الطبراني في "الكبير"، وحسنه في "صحيح الجامع" رقم (5315)(5/ 102) ، وانظر شرحه

في "فيض القدير"(5/ 386- 387) .

(2)

قطعة من حديث رواه مسلم رقم (302) في الحيض: باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، وأبو داود رقم (258) في الطهارة، ورقم (2165) في النكاح، والترمذي رقم (2981) في التفسير، والنسائي (1/ 152) في الطهارة.

(3)

أخرجه الإمام أحمد (رقم 5114، 5115، 5667) ، وعلق البخاري في "صحيحه" بعضه (6/ 115)، وأخرج القطعة الأخيرة منه أبو داود (2/ 173) وقال شيخ الإسلام في "الاقتضاء":"إسناده جيد" اهـ (39) ، وصححه

العراقي في "المغني"(1/ 342) ، وحسنه الحافظ في (الفتح)(10/ 282) ، وذكر =

ص: 167

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَ ثوبين معصفرين فقال: "إن هذه من ثياب الكفار، فلا تلبسها"(1) .

وعن علي رضي الله عنه رفعه: "إياكم ولبوس الرهبان، فإنه من تَزَيا بهم أو تشبه، فليس مني "(2) .

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي مشيخة من الأنصار بيض لحاهم، فقال:"يا معشر الأنصار حَمروا أو صَفروا، وخالفوا أهل الكتاب "، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون، ولا يأتزرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تسرولوا، وائتزروا، وخالفوا أهل الكتاب"، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتخففون، ولا ينتعلون، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فتخففوا، وانتعلوا، وخالفوا أهل الكتاب"، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم (3) ، ويوفرون سبالهم (4)، فقال صلى الله عليه وسلم:"قصوا سبالكم، ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب"(5) .

= في "بلوغ المرام" أن ابن حبان صححه (4/239 - سبل السلام) .

(1)

أخرجه مسلم (6/ 144) ، والنسائي (2/ 298) ، والحاكم (4/ 190) ، والإمام أحمد (2/162، 164، 193، 207، 211)، وقال الحاكم:"صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".

(2)

قال الحافظ في "الفتح": أخرجه الطبراني في "الأوسط " بسند لا بأس به. اهـ (10/ 284) .

(3)

العثانين: جمع عثنون، وهي اللحية.

(4)

السبال: جمع سَبَلة، وهي الشارب.

(5)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 264) من طريق القاسم قال: سمعت أبا أمامة به، قال الهيثمي في "المجمع" (5/ 131) :"رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح خلا القاسم، وهو ثقة، وفيه كلام لا يضر" اهـ، والحديث حسنه الحافظ في "الفتح" (9/ 291) وقال:"وأخرج الطبراني نحوه من حديث أنس"، =

ص: 168

وفي كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عتبة بن فرقد رضي الله عنه: ".. وإياك والتنعم، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير.. "(1) .

الشرط الثامن

أن لا يكون لباس شهرة

وذلك لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لبس ثوب شهرة فى الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم ألهب فيه نارًا"(2) .

ولباس الشهرة هو كل ثوب يقصد به الاشتهار بين الناس، سواء كان الثوب نفيسَا يلبسه تفاخرًا بالدنيا وزينتها، أو خسيسا يلبسه إظهارًا للزهد والرياء، وقال ابن الأثير:(الشهرة ظهور الشيء، والمراد أن ثوبه يشتهر بين الناس لمخالفه لونه لألوان ثيابهم، فيرفع الناس إليه أبصارهم، ويختال عليهم بالعجب والتكبر)(3) .

وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث "ألبسه الله ثوب مذلة"

= وذكر الهيثمي له شاهدَا من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عند الطبراني، قال في آخره:"وخالفوا أولياء الشيطان بكل ما استطعتم".

(1)

رواه الإمام أحمد في "المسند" رقم (92) بتحقيق العلامة أحمد شاكر رحمه الله (1/ 194)، وقال:"إسناده صحيح".

(2)

أخرجه أبو داود رقم (4029) في اللباس: باب في لبس الشهرة، وابن ماجة (2/ 378- 379) رقم (3668)، (3669) في اللباس: باب من لبس شهرة من الثياب، وحسنه المنذري في "الترغيب"(3/ 112) ، وابن مفلح في "الآداب" كما

في "غذاء الألباب"(2/ 138)، وقال الشوكاني:"رجال إسناده ثقات" اهـ من

"نيل الأوطار"(2/ 125)، وقال في "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني":

"وسنده صحيح " اهـ (17/ 289) ، وحسنه الألباني في "الحجاب" ص (110) .

(3)

نقله عن الشوكاني في "نيل الأوطار"(2/126) .

ص: 169

قال ابن رسلان: لأنه لبس الشهرة في الدنيا ليعز، ويفتخر على غيره، ويلبسه الله يوم القيامة ثوبًا يشتهر بمذلته واحتقاره بينهم عقوبة له، والعقوبة من جنس العمل. اهـ (1) .

وقال المناوي: "ثم تلهب فيه النار" عقوبة له بنقيض فعله، والجزاء من جنس العمل، فأذله الله كما عاقب من أطال ثوبه خيلاء بأن خسف به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة اهـ (2) .

تنبيهات.

* الأول: ليس هذا الحديث مختصَّا بنفيس الثياب، بل قد يحصل ذلك ممن يلبس ثوبَا يخالف ملبوس الفقراء من الناس، ليراه الناس فيتعجبوا

من لباسه، ويعتقدوه، وإذا كان اللبس لقصد الاشتهار في الناس، فلا

فرق بين رفيع الثياب ووضيعها، والموافق لملبوس الناس والمخالف، لأن التحريم يدور مع الاشتهار، والمعتبر القصد، وإن لم يطابق الواقع) (3) ،

لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"(4) .

* الثاني: لعل الحكمة في تحريم أو كراهة لباس الشهرة؛ أنه يزري بصاحبه، وينقص مروءته.

وفي "الغنية" للشيخ عبد القادر رحمه الله: (من اللباس المنزََّه عنه كل لبسة يكون بها مشتهرًا بين الناس، كالخروج عن عادة بلده وعشيرته

(1) نقله عنه في "نيل الأوطار"(2/126) .

(2)

"فيض القدير"(6/ 219) .

(3)

"نيل الأوطار"(2/ 126) ، وراجع- لزاما - "مجموع الفتاوى"(22/ 137- 139) .

(4)

رواه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه البخاري (1/ 15) في بدء الوحي، والإيمان، والعتق، وغيرها، ومسلم رقم (1907) في الإمارة، وأبو داود رقم (2201) في الطلاق، والترمذي رقم (1647) في فضائل، الجهاد، والنسائي (1/95 -60) في الطهارة: باب النية في الوضوء.

ص: 170

فينبغي أن يلبس مما يلبسون لئلا يشار إليه بالأصابع، ويكون ذلك سببا إلى حملهم علي غيبته، فيشركهم في إثم الغيبة له) اهـ (1) .

ومن فعل ذلك خيلاء حرم كما هو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله،

أما لغير ذلك فقد رأي الإمام أحمد رجلًا لابسًا بردا مخططًا بياضًا

وسوادًا، فقال:"ضع هذا، والبس لباس أهل بلدك "، وقال:"ليس هو بحرام، ولو كنت بمكة أو المدينة لم أعب عليك "، يعني: لأنه لباسهم هناك (2) .

* الثالث: إذا تقرر أن المعتبر في الشهرة القصد والنية، فلا بأس حينئذ:

1-

بلبس المنخفض من الثياب كسرًا لسورة النفس الأمارة بالسوء التي

لا يؤمن عليها من التكبر إن لبست غالي الثياب، وتواضعَا لله عز وجل، واحتسابا للثواب الموعود علي ذلك، فعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يخيِّره من أي حُلَلِ الإيمان شاء يلبَسها"(3) .

2-

ولا بأس أيضًا بلبس الغالي من الثياب التي تحل شرعًا عند الأمن

علي النفس من التسامي المشوب بنوع عن التكبر، إذا نوى بذلك تحصيل مطالب دينية صالحة:

أ- كإظهار نعمة الله عليه، والتحدث بها امتثالا لقوله تعالى:(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)) [الضحى: 11] ، وليجمع بين الجمال الظاهر بالنعمة، والجمال الباطن، بالشكر عليها، ولموافقة ما يحبه الله، قال

(1) ، (2)"غذاء الألباب بشرح منظومة الآداب" للسفاريني (2/138 - 139) .

(3)

أخرجه الترمذي رقم (2483) في صفة القيامة: باب رقم (40)، وقال:"هذا حديث حسن"، ورواه الحاكم في "المستدرك "(4/ 184) ، وصححه، ووافقه الذهبي، ورمز له السيوطى بالصحة، وانظر شرحه في "فيض القدير"(6/101) .

ص: 171

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"(1) .

وعن أبي الأحوص عن أبيه مالك بن نضلة رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله

صلى الله عليه وسلم وعلي ثوبَ دُون فقال لي: "ألَك مال"؟، قلت: نعم، قال:"من أيّ المال"؟، قلت: من كل المال قد أعطاني الله: من الإبل، والبقر، والغنم، والخيل، والرقيق، قال:"فإذا آتاك الله مالًا فَلْيُر أثَر نعمةِ الله عليك وكرامتِهِ "(2) .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كُلْ ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سَرَف، ومخيلَة"(3) .

ب- أو ليتعرف على غناه الفقراءُ، فيقصدونه لطلب الزكاة والصدقات وقضاء الحاجات.

ج- أو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند من لا يلتفت إلا إلى ذوي الهيئات كلنا هو الغالب على عوام زماننا، وبعض خواصِّه (4) .

3-

يتميز العلماء بلباس خاص (5) حتى يستدل عليهم المستفتي وطالب العلم.

* الرابع: يدندن بعض ذوي الأغراض بدعوى أن التزام الحجاب فيه خروج عما ألفه المجتمع، واعتاده، وقد يشتبه الأمر على البعض فيتساءل:

(1) أخرجه- من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده- الترمذي (2819) في الأدب: باب ما جاء أن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته علي عبده، وقال:

"هذا حديث حسن" – وانظر "تحفة الأحوذي"(8/106 - 107) .

(2)

أخرجه النسائي (8/ 196) في الزينة: باب ذكر ما يستحب من لبس الثياب، وما يكره منها، والإمام أحمد في "المسند"(3/ 473) واللفظ له.

(3)

أخرجه البخاري تعليقا (10/ 265) في اللباس: في فاتحته، وقال الحافظ: "وصله ابن أبي شيبة في مصنفه، والدينوري في المجالسة، اهـ.

(4)

"نيل الأوطار"(2/ 125) .

(5)

انظر ص (202)

ص: 172

وهل يكون الحجاب حينئذ لباس شهرة؟

ولإزالة هذا التوهم نقول بتوفيق الله:

أولًا: إن هذا الأمر - أعني كون الحجاب نفسه لباس شهرة- محتمل في حالة واحدة فقط وهي: (مجتمع التزم نساؤه بكل شروط الحجاب، وشذت شرذمة منهن، فالتزمت كل شروط الحجاب ما عدا الشرط الأخير، وهو أن لا يكون لباس شهرة) ، وإلا فإن شروط الحجاب السابق ذكرها، والواجب توافرها مجتمعةً لا تتناقض.

ثانيًا: أما في مجتمع شاع فيه السفور والتبرج والتهتك، ثم التزمت فئة قليلة من نسائه بزيِّ يستوفي كل شروط الحجاب، غير أنهن قصدن من وراء ذلك الشهرة أو التكبر والتفاخر، ولم يقصدن طاعة الله سبحانه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فلهؤلاء النسوة حظ من الوعيد الوارد فيمن لبس ثوب شهرة؟ لأن المدار في اعتبار الثوب ثوبَ شهرة من عدمه إنما هو على النية والقصد، فالواجب هنا تصحيح النية، وتوجيهها خالصة لله عز وجل، لا مطالبة هؤلاء النسوة بخلع الحجاب موافقة للمجتمع الفاسد (1) .

مثال ذلك: رجل هاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام، لا يقصد وجه

الله عز وجل، وإنما هاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، هل نكلفه بالبقاء فى دار الكفر، أم نأمره بتصحيح النية، ونذكره بقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الإعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " الحديث (2) .

فأين يا عباد الله من يلبس الثوب ليباهي به الناس، ويختال عليهم، ويشار إليه فيهم بالبنان عِزُّا وتعظيمًا، ويخالف زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لباس الشهرة، أين هذا من نساء مسلمات عفيفات، يتجشمن المشاق

(1) بل من الواجب أيضًا دعوة المتبرجات إلى اتباع سبيل المؤمنات، وتغيير هذا العرف الفاسد حتى يعود موافقَا للشرع المطهر.

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 173

لاستمساكهن بحبل الله المتين، ويعانين من أذى السفهاء وأعوان الشياطين، ويقاسين الغربة في أوطانهن وبين الأهلين؟!

ثالثا: أن الشرع - وإن اعتبر موافقة لباس أهل البلدة، وعَدَّ مخالفتهم شهرة- إلا أن هذا مشروط بأن يكونوا مستقيمين على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما إذا فسدت فطرتهم، وانحرفوا عن الجادة، بحيث صار المعروف عندهم منكرًا، والمنكر معروفَا، فليس ذلك العرف الكاذب مسوغا لأن نجاريهم في ضلالهم بحجة عدم الاشتهار (1) .

فإن واجبنا حينئذ ألا نقصد الاشتهار، بل نقصد التمسك بقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) الآية [المائدة: 105] ، أما الزعم بان مخالفة أزياء قوم قد أسرفوا في محاكاة المشركين رجالا ونساءً ولم يرفعوا بآيات الله تعالى، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسًا، هو من الشهرة لشذوذه عما ألفه المجتمع، فهذا من أعجب الأشياء! إذ كيف يكون التمسك بالآيات القرآنية والنصوص النبوية شذوذًا؟!

وهل يستقيم أن يكون اتباع سبيل الإفرنج المجرمين في التبرج والسفور استقامة واعتدالًا، واتباع سبيل المؤمنين في التستر والصيانة شذوذَا واعوجاجا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ"(2) ، وإذا كان الأمر كذلك فأين تقع الأحاديث الشريفة التالية

(1) وقد أشار إلى هذا المعنى سَيّد العُبادِ في زمانه محمد بن واسع رحمه الله لما دخل على بلال بن أبي بردة أمير البصرة، وكان ثوبه إلي نصف ساقيه، فقال له بلال: ما

هذه الشهرة يا ابن واسع؟، فقال له ابن واسع: أنتم شهرتمونا، هكذا كان لباس

من مضى، وإنما أننم طوَّلتم ذيولكم، فصارت السنة بينكم بدعة وشهرة اهـ، وقد عزاها ابن الحاج رحمه الله في "المدخل"(1/ 131) إلى الإمام أبي بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي في كتابه "سراج الملوك والخفاء"، وراجع ص (403) .

(2)

رواه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها البخاري تعليقا بصيغة الجزم (4/ 416) في البيوع: باب النجش، ووصلة في الصلح (5/ 221) ، ومسلم =

ص: 174

موقعها؟ وهي.

* ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء"(1) .

* وما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده يقول: "طوبى للغرباء"، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "ناس صالحون في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم "(2) .

* وما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي علي الناس زمان، الصابر فيه على دينه، كالقابض على الجمر"(3) .

أين تقع هذه النصوص موقعها من الترغيب، إن لم يكن التمسك بالكتاب والسنة هو المتعين؟!

* * *

= رقم (1718) في الأقضية، وأبو داود في السنة (2/ 506) ، وابن ماجه رقم (14) في المقدمة.

(1)

رواه مسلم رقم (145) في الإيمان: باب بيان أن الإسلام بدأ غريبَا.

(2)

رواه ابن المبارك في "الزهد" رقم (775) ، والإمام أحمد (2/ 177، 222)، قال الألباني رحمه الله: إسناده جيد، رجاله كلهم ثقات من رجال "الصحيح" غير ابن لهيعة، وهو ثقة صحيح الحديث إذا روى عنه أحد العبادلة، ومنهم عبد الله بن المبارك، وهذا الحديث من روايته عنه كما ترى اهـ من "الصحيحة" رقم (1619) .

(3)

رواه الترمذي رقم (2261) في الفتن. باب رقم (73) ، وفي سنده عمر بن شاكر البصري، وهو ضعيف، وقال الترمذي:"هذا حديث غريب من هذا الوجه "،

وله شواهد يتقوى بها، ذكرها الألباني في "السلسلة الصحيحة" رقم (957) .

ص: 175