الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
احتياطات الإسلام لسد ذرائع الفتنة بالمرأة
من حكمة الله سبحانه وتعالى أن ركب في الإنسان شهوة الفرج تركيبا قويا، وجعل لها عليه سلطانَا شديدَا، فإذا ثارت كانت أشد الشهوات عصيانًا على العقل، فلا تقبل منه صرفَا ولا عدلا، إلا من تحجزه التقوى، ويعصمه الله عز وجل بتوفيقه.
والدليل على شدة هذا الميل أن الإنسان يحتمل بكل الرضا مشاق وتكاليف الزوجية وتربية الأولاد، والكد والتعب من أجلهم، بحيث صار الإنسان مسوقا عن طريق تسليط هذه الشهوة إلى التناسل وعمارة الدنيا ليقضي الله أمرًا كان مفعولا.
إن المرأة من طبعها استهواءُ الرجل، والسيطرة على مشاعره، وامتلاك حسه ولبه، وفي سبيل إغوائه، ولفت نظره إليها قد تصنع من ألوان الفتن ما يجر إلى المنكر.
والإسلام يقدر ما رُكب في طبيعة النوعين من التجاذب الذي يؤدي إلى الافتتان والفساد، فإذا تُرِك الناس لدواعي أهوائهم فسدت الأعراض، وفثست الإباحية.
والله سبحانه وتعالى عليم بخلقه سواء منهم الرجل أو المرأة أو الشيطان، قال جل وعلا:(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك: 14] ، وقد نبهنا سبحانه إلى أن غاية الشيطان في هذا الباب أن يوقع النوعين في حضيض الفحشاء، لكنه يسلك في تزيينها، والإغراء بها مسلك التدرج والاستدراج عن طريق خطوات يقود بعضها إلى بعض،
أولها النظرة، ثم النظرة تولد خطرة تطرق القلب، فإن دفعها العبد استراح مما بعدها، وإن لم يدافعها قويت، فصارت وسوسة، فكان دفعها أصعب، فإن بادر ودفعها، وإلا قويت، وصارت شهوة، فإن عالجها، وإلا صارت إرادة، فإن عالجها، وإلا صارت عزيمة، ومتى وصلت إلى هذه الحال لم يمكن دفعها، وأقترن بها الفعل ولابد) (1) .
ولا ريب أن دفع مبادئ هذا الداء من أوله أيسر وأهون من استفراغه بعد حصوله إن ساعد القدر، وأعان التوفيق.
ومن هنا قال العليم الخبير: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)[النور: 21]، ولما أراد الله عز وجل أن ينهانا عن الفاحشة لم يقل:(ولا تزنوا)، ولكن قال:(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا)[الإسراء: 32] ، فهذا أبلغ؟ لأنه نهى عن مجرد الدنو منه عن طريق ذرائعه ومقدماته، وقال سبحانه:(تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَقْرَبُوهَا)[البقرة: 187] ، فا بالك بمن يتخطاها؟!
ومن أجل ذلك كله كان (الحفاظ على العرض) أحد المقاصد الأساسية العليا للشريعة الإسلامية، والتي تدور حولها جملة كبيرة من الأحكام، مَنْ تأمَّلَها وجد أنها كُلَّها تقود إلى هدفٍ واحد وهو:"منع وقع فاحشة الزنا"؛
- تعظيمًا لحرمات الله.
- وصيانة للأعراض.
- ومحافظة على النسل.
- وتطهيرا للمجتمع من الرذيلة.
واتخذت الشريعة في ذلك اتجاهين:
الأول: اتجاه وقائي يمنع وقوع الفاحشة عن طريق سد المنافذ المؤدية إليها سدًّا محكمَا.
(1)"التبيان في أقسام القرآن " ص (304) .
والثاني: اتجاه علاجي عن طريق فتح أبواب التعفف والحصانة على مصاريعها، وشق الطرق المعبدة الموصلة إلى ما أحَلَّه الله.
وهذا نفصله فيما يلي إن شاء الله تعالى.
أولاً- الإجراءات الوقائية:
تحريم الزنا وبيان أنه خراب للدنيا والدين
أجمعت الشرائع السماوية على تحريم الزنا، واعتبرته من أكبر الآثام، وأعظم الجرائم التي تدنس النفس البشرية، وتحول بينها وبس سعادتها وكمالها، ووضعت له أقصى عقوبة في باب العقوبات وأشنعها، وهي الرجم بالحجارة حتى الموت، وتوعدت فاعليها بالعقوبات العاجلة، والعذاب الأليم في الآخرة، واتفقت المذاهب الأخلاقية علي تحريم الزنا واستقبحته، وحكمت عليه بالشناعة القبيحة، وجعلته قب عداد الجرائم الكبرى، قال سبحانه وتعالى:(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا)[الإسراء: 32] ،
والقرآن الكريم يجعل الزنا قرين الشرك والقتل قال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا (70)) [الفرقان: 68 - 71] عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في صلاة الكسوف:
"يا أمة محمد، والله إنه لا احَدَ أَغْيَرُ مِنَ الله، يَزْنِي عَبْدَه، أو تزني أَمَتُهُ، يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم لضحِكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرا"، ثم رفع يديه
فقال: "اللهم هل بلغت"(1) .
(1) رواه البخاري رقم (1044)، كتاب الكسوف: باب الصدقة في الكسوف =
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولّا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن "(1) .
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان على رأسه كالظلَّة، فإذا أقلع رجع إليه "(2) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسول صلى الله عليه وسلم:" إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله "(3) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال رسول صلى الله عليه وسلم:"لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مَضَوْا"(4) .
= "فتح الباري "(2/ 615) ، ومسلم في كتاب الكسوف "شرح النووي "(6/201)
(1)
رواه البخاري (5/ 143) في الظالم: باب النهبى بغير إذن صاحبه، وفي الأشربة في فاتحته، وفي الحدود: باب الزنا وشرب الخمر، وفي المحاربين: باب إثم الزناة، ومسلم رقم (57) في الإيمان: باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن التلبس بالمعصية، وأبو داود رقم (4689) في السنة: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، والترمذي رقم (2627) في الإيمان: باب ما جاء لا يزني الزاني وهو مؤمن، والنسائي (8/ 64) في السرقة: باب تعظيم السرقة.
(2)
رواه بنحوه أبو داود رقم (4690) في السنة: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، والترمذي رقم (2627) في الإيمان: باب ما جاء لا يزني الزاني وهو مؤمن، وصححه الحاكم (1/122) ، ووافقه الذهبي.
(3)
رواه الحاكم (2/ 37)، وقال:"صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، "ورواه الطبراني، وأبو يعلى بإسناد جيد، انظر: "الترغيب " (3/194) ، "مجمع الزوائد" (4/118) .
(4)
قطعة من حديث رواه ابن ماجه رقم (4019) في الفتن: باب العقوبات (2/ 489) ، وأبو نعيم في الحلية" (8/33 -334)، والحاكم (4/540) وقال:
صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وحسنه الألباني لشواهده في "الصحيحة"
رقم (106)
وعن بريدة مرفوعا: "ما ظهرت فاحشة في قوم قط إلا سلط الله عز وجل عليهم الموت "(1) .
وبلغ التنفير من هذه الفاحشة وأهلها أن أم جرَيْج العابد دعت على
ابنها أن يعاقبه الله بأن "لا يموت حتى يرى وجوه المياميس "(2) كما جاء في الحديث، وقد ابتلي بذلك- رحمه الله في قصة معروفة، والشاهد منها أن مجرد وقوع العين على هؤلاء الفواحش عقوبة وشر.
ولقد جعل الله سبحانه وتعالى التعفف عن الزنا، والتصون منه من صفات المؤمنين المفلحين، قال تعالى:(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)) [المؤمنون: 1 - 8] ،.
وفي قصة يوسف عليه السلام أبلغ دليل على فضيلة العفة وحسن عاقبتها.
وفي السنة أحاديث كثيرة صحيحة في هذا المعنى:
ففي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:
فعَدَّ منهم رجلاً "دعته امرأة ذاتُ مَنْصب وجمال، فقال: إنى أخاف
الله " (3)
(1) قطعة من حديث رواه الحاكم (2/ 126) ، والبيهقي (3/ 346)، وقال الحاكم:"صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي.
(2)
انظر نص الحديث في البخاري (3/ 94) في كتاب العمل في الصلاة: باب إذا دعت الأم ولدها في الصلاة، وفي المظالم، والأنبياء، ومسلم في " صحيحه، كتاب البر والصلةْ باب تقديم الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها.
(3)
جزء من حديث ش رواه البخاري (2/168) في الأذان: باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة. وفي الزكاة، وفي الرقاق، وفي المحاربين، ومسلم رقم (1031) =
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من يضمنْ لي ما بين رجليه، وما بين لَحْيَيهِ أضمنْ له الجنة"(1) .
وفي حديث الثلاثة الذين أطبقت عليهم صخرة وهم في الغار، فلم يجدوا بُدًّا من التوسل إلى الله بصالح أعمالهم، فاستشفع أحدهم ببره لوالديه، واستشفع الثاني برده أجر عامل كان تركه عنده، فنماه له أضعافًا مضاعفة، واستشفع الثالث بأنه كانت له ابنة عمِّ يهواها، فما زال يراودها عن نفسها، حتى ألمّ بها قحط، فراودها، فخضعت له، فلما تمكن منها، قالت له: اتق الله، ولا تفضَّ الخاتمْ إلا بحقه، فإذا هو يرتعد من خشية الله، وينصرف عنها، ويترك لها الذهب الذي أعطاها ابتغاء وجه الله، فأزال الله الصخرة عن فم الغار بفضل أعمالهم الصالحة (2) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان فيمن كان قبلكم رجل اسمه الكِفْل، وكان لا ينزع عن شيء"- وفي رواية:" كان الكفْل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتى امرأة علم بها حاجه، فأعطاها عطاءً كثيرًا"- وفي رواية: "ستين دينارًا- فلما أرادها على نفسها- ارتعدت، وبكت، فقال؟ ما يُبكيك؟ قالت: لأن هذا عمل ما عمِلته قط، وما حملني عليه إلا الحاجة، فقال: تفعلين أنتِ هذا من مخافة الله؟ فأنا
= في الزكاة: باب فضل إخفاء الصدقة، والموطأ (2/ 952، 953) في الشعر: باب ما جاء في المتحابين في الله، والترمذي رقم (2392) في الزهد: باب ما جاء
في الحب في الله، والنسائي (8/ 222-223) في القضاء: باب الإمام العادل.
(1)
رواه البخاري (11/ 314) في الرقاق: باب حفظ اللسان، وفي المحاربين: باب فضل من ترك الفواحش، والترمذي رقم (2410) في الزهد باب ما جاء في حفظ اللسان
(2)
انظر نص الحديث في "صحيح البخاري، (6/584) في الأنبياء: باب حديث الغار، وفي البيوع، وفي الإجارة، وفي الحرث والمزارعة، وفي الأدب، ومسلم رقم (2743) في الذكر: باب قصة أصحاب الغار الثلاثة، وأبو داود رقم
(3387)
في البيوع: باب في الرجل يتجر في مال الرجل بغير إذنه.
أحرى، اذهبي فَلَك ما أعطيتُكِ، ووالله لا أعصيه أبدا، فمات مِن ليلته، فأصبح مكتوب على بابه: إن الله تعالى قد غفر للكفل، فعجب الناس من ذلك، حتى أوحى الله تعالى إلى نبي زمانهم بشأنه " (1) .
وقد شدد الله عز وجل عقوبة الزاني الأثيم المادية والمعنوية، فالعقوبة المادية: العذابّ الأليم بالجلد أو الرجم، والمعنوية: أن لا نرأف به، ولا نشفق عليه حتى يبرأ من جريرته، ويتوب منها، قال تعالى:
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)) [النور: 2، 3] ،.
وقد زادت السنة الشريفة وهي الوحي الثاني بعد القرآن على الحكم بجلد الزاني البكر والزانية البكر مائه جلدة أن يغربا عامًا.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عنى، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر، جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم (2) ، ويؤخذ منه أن زنا الثيب أقبح من زنا البكر بدليل اختلاف حديهما.
قال أبن القيم رحمه الله:
وخَصَّ سبحانه حَدّ الزنا من بين سائر الحدود بثلاث خصائص:
(1) رواه بنحوه الترمذي رقم (2498) في صفة القيامة، باب رقم (49) ، ورواه ابن حبان رقم (2453- موارد)، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن " وهو عند الحاكم (4/ 254-255) ، وصححه ووافقه الذهبي.
(2)
رواه مسلم رقم (1690) في الحدود: باب حد الزنا، وأخرجه أحمد (5/ 318)، وأبو داود رقم (4415) في الحدود: باب في الرجم، والترمذي رقم (1434) في الحدود: باب ما جاء في الرجم على الثيب، والطبري رقم (8806) ، (8807) ، والبيهقي (8/ 210) .
أحدهما: القتل فيه بأشنع القتلات، وحيث خففه فقد جمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد، وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة (1) .
الثاني: أنه نهى عباده عن أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه، بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم.
الثالث: أنه سبحانه أمر أن يكون حَدُّهما بمشهد من المؤمنين، فلا يكون
في خلوة حيث لا يراهما أحد، وذلك أبلغ في مصلحة الحد، وحكمة الزجر (2) اهـ.
ويعذب الزناة في قبورهم إلى يوم القيامة على النحو الذي جاء في حديث رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم التي رأى فيها صورا من عذاب القبر، فقد ذكر صلى الله عليه وسلم أنه جاءه جبريل وميكائيل، قال:"فانطلقنا فأتينا على مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضَوْا- أي صاحوا من شدة حره- فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء هم الزناة والزواني " يعني من الرجال والنساء، فهذا عذابهم في القبر إلى يوم القيامة
(1) أجمع العلماء سلفًا وخلفا على أن الزاني المحصن يرجم لا محالة، وذهب جمهورهم إلى أن الواجب في حد الزاني المحصن هو الرجم فحسب، ومن هؤلاء الأئمة الأربعة، وذهب البعض إلى الجمع بين الرجم، والجلد، منهم علي رضي الله عنه، والحسن البصري، وإسحق بن راهويه، وداود، والظاهرية، واْجمع العلماء سلفَا وخلفا على وجوب الجلد على الزانيين غير المحصنين، ولم يعرف في ذلك مخالف، أما التغريب عاما وهو النفي من مكان الجريمة إلى مكان آخر، فقد اختلف فيه الفقهاء:
فذهب الجمهور إلى الجمع بينهما: الجلد، والتغريب، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال مالك والأوزاعي بالجمع بينهما بالنسبة إلى الرجال الأحرار، ولا نفي على النساء، وذهب أبو حنيفة ومن تابعه إلى عدم الجمع بين الجلد والنفي.
انظر: "الحدود في الإسلام، للعلامة الدكتور محمد أبو شهبة ص (150: 201) .
(2)
" الجواب الكافي لمن سال عن الدواء الشافي " ص (144) بتصرف.
نسأل الله العافية، وفي رواية:"فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته نارا، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة " وفي نهاية الحديث: "والذي رأيته في الثقب فهم الزناة"(1) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يلج الناسُ به النار، فقال:"الأجوفان الفم والفرج "(2) .
وعن أبي بَرزة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن أكثر ما أخاف عليكم شهوات الغَيّ، وبطونكم، وفروجكم، ومُضِلات الفتن"(3) .
والزنا له مراتب، فهو بأجنبية لا زوج لها عظيم، وأعظم منه بأجنبية
لها زوج، وأقبح منه: زوجة الجار:
عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: قا! ل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "ما تقولون في الزنا؟ " قالوا: حرام حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من
(1) رواه من حديث حمرة بن جندب رضي الله عنه البخاري (12/ 457-458) في التعبير: باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، وفي صفة الصلاة: باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، وكذا في التهجد، والجنائز، والبيوع، والجهاد، وبدء الخلق،
وا لأنبياء، وتفسير سورة براءة، والأدب، ومسلم رقم (2275) في الرؤيا: باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم والترمذي رقم (2294) في الرؤيا: باب ما جاء فى رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الميزان والدلو.
(2)
رواه الترمذي رقم (2004) كتاب البر: باب ما جاء في حسن الخلق، وقال: هذا حديث صحيح غريب (4/ 363) وابن ماجه رقم (4315) في الزهد: باب ذكر الذنوب (2/ 561) والإمام أحمد (2/ 291، 392، 442) .
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 420، 423) ، وكذا رواه البزار والطبراني في معاجمه الثلاثة
أن يزني بامرأة جاره " (1) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال؟ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أيّ؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك "، قلت: ثم أيّ؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك "(2) ، الحديث.
وعن بريدة رضي الله عنه مرفوعًا: " حُرمَةُ نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، ما من رجل من القاعدين يخلف وجلا من المجاهدين في أهله، فيخونه فيهم، إلا وقف له يوم القيامة، فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى"، ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"فما ظنكم؟ " وزاد النسائي قوله: "أترون يدع له من حسناته شيئًا؟ "(3) .
ثم إن زنا الشيخ- لكمال عقله- أقبح من زنا الشاب:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، ومَلِك كذاب، وعائل مستكبر"(4) .
(1) رواه الإمام أحمد (6/ 8) ، والبخاري فى (الأدب المفرد" رقم (103) ، وقال المنذري (3/195)، والهيثمي (8/ 168) :(رواه أحمد والطبراني في "الكبير" و "الأوسط " ورجاله ثقات) اهـ.
(2)
رواه البخاري (8/ 13) في تفسير سورة البقرة: باب قول الله تعالى: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 22] ، وفي تفسير سورة الفرقان، وفي الأدب، وفي المحاربين وفي الديات، وفي التوحيد، ومسلم رقم (86) في الإيمان. باب الشرك أعظم الذنوب، والترمذي رقم (3181) و (3182) في التفسير: باب ومن سورة الفرقان، والنسائي (7/ 89- 90) في تحريم الدم: باب ذكر أعظم الذنب، وأبو داود رقم (2310) في الطلاق: باب في تعظيم الزنا.
(3)
رواه مسلم رقم (1897) في الأمارة: باب حرمة نساء المجاهدين وإثم من خان فيهم، وأبو داود رقم (2496) في الجهاد: باب حرمة نساء المجاهدين على القاعدين، والنسائي (6/ 50 - 51) في الجهاد: باب من خان غازيًا في أهله.
(4)
رواه مسلم رقم (107) في الإيمان: باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، والمن =
ومن مفاسد الزنا وعواقبه الوخيمة:
أنه يعمي القلب، ويَطْمس نوره، وأنه يُحَقِّر النفسَ، ويقمعها، ويُسْقِطُ كرامة الإنسان عند الله وعند خلقه، وأنه يؤثر في نقصان العقل، وأنه يمحق بركة العمر، ويضعف في القلب تعظيم الله، ويوجب الفقر، ويكسو صاحبه سواد الوجه، وثوب المقت بين الناس، ومن خاصيته أيضًا أنه يشتت القلب، ويمرضه، ويجلب الهم والحزن والخوف، ويباعد صاحبه من الملك، ويقربه من الشيطان.
فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدة الزنا، ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها، ولو بلغ العبدَ أن امرأة من نسائه قُتِلَتْ لكان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زَنَت.
وبما أن الجزاء من جنس العمل، فقد ينتقم الله من الزاني بأن يسلط على عرضه من لا يتقي الله فينال منه، كما فعل هو بعرض غيره، قال الشاعر:
يا هاتكًا حرمَ الرجال وتابعا
…
طرقَ الفساد فأنت غير مكرمِ
من يَزْنِ في قوم بألفي دِرْهَم
…
في أهلهِ يُزْنَى بربع الدرهم
إن الزنا دَيْن أذا استقرضته
…
كان الوفا من أهل بيتك فاعلم (1)
وقد وصف بعضهم آثار هذه الفاحشة المدمرة فقال:
"عارُه يهدِمُ البيوتَ الرفيعة، ويطأطئ الرؤوسَ العالية، وُيسَوِّدُ الوجوهَ البيض، ويصبغ بأسودَ من القارِ أنصع العمائم بياضًا، ويُخْرِسُ الألسنةَ البليغة، وَيُبَدّلُ أشجع الناس من شجاعتهم جبنا لا يدانيه جبن، ويهوى
= بالعطية، وتنفيق السلعة بالحلف، والنسائي (6/ 86) في الزكاة: باب الفقير المحتال.
(1)
موارد الظمآن لدروس الزمان " (3/ 473) ، وانظر: "السلسلة الصحيحة" رقم (370) .
بأطول الناس أعناقا، وأسماهم مقامًا، وأعرقهم عِزا إلى هاوية من الذل والازدراء والحقارة ليس لها من قرار.
وهو أقدر أنواع العار على نزع ثوب الجاه مهما اتسع، ونباهة الذكر مهما بعدت، وإلباس ثوب من الخمول ينبو بالعيون عن أن تلفت إلى من كان في بيوتهم لفتة احترام، وهو- أي الزنا- لطخة سوداء إذا لحقت تاريخ أسرة غمرت كل صحائفه البيض، وتركت العيون لا ترى منها إلا سوادًا حالكًا.
وهو الذنب الظلوم الذي إن كان في قوم لا يقتصر على شَيْن مَنْ قارفته من نسائهم، بل يمتد شينه إلى من سواها منهم، فيشينهن جميعا شينا يترّك لهن من الأثر في أعين الناظرين ما يقضي على مستقبلهم النسوي، وهو العار الذي يطول عمره طولا، فقاتله الله من ذنب، وقاتل فاعليه " (1) . وقال ابن القيم رحمه الله:
ومفسدة الزنا مناقضة لصلاح العالم، فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار عل أهلها وزوجها وأقاربها، ونكست رؤوسهم بين الناس، وإن حملت من الزنا: فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل، وإن أبقته حملته على الزوج فأدخلت على أهلها وأهله أجنبيًا ليس منهم، فورثهم وليس منهم، ورآهم، وخلا بهم، وانتسب إليهم وليس منهم، وأما زنا الرجل فإنه يوجب اختلاط الأنساب أيضًا، وإفساد المرأة المصونة، وتعريضها للتلف والفساد، ففي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين " (2) .
عود لى بدء
يعتبر إصلاح القلب، وتطهيره، وتعميره بتقوى الله عز وجل ومراقبته
(1) السابق (3/ 454- 455)
(2)
انظر "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" ص (352- 363)
أعظم رادع عن المعاصي، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه "(1) الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم:"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب "(2) .
ومن هنا كانت التربية الإيمانية، والتوجيه الواعي، ولزوم الجماعة الصالحة، واجتناب صحبة الفاسقين والبطالين، من وسائل الإسلام في محاربة الرذيلة، واستئصال شأفتها.
غير أن الشريعة المطهرة لم تكلنا فقط إلى الضمائر التي قد تهن، والنفوس التي قد تضعف، ولكنها حددت إجراءات ترد هذه الضمائر إلى الاستقامة إذا نزعت إلى التمرد، ولم ترتدع بوازع الإيمان والتقوى، وتروض هذه النفوس إذا استشرفت للفتن، وتعيدها إلى الجادة، وقد ذكرنا طرفا من هذه الإجراءات، ونردف بجملة أخرى من الإجراءات الوقائية ضد الفاحشة، فمن ذلك:
أن الله سبحانه منع الزواج ممن عُرف- أو عرفت- بالفاحشة إذا لم يتب
فقال سبحانه: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)) [النور: 3] ، أخذَا بالحيطة؛ إذ من اعتاد الفاحشة لا يأمن أن يعاودها.
حرَّم البذاء، ومنع الفحش في القول، وكره التلفظ بالسوء:
قال عز وجل: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)[النساء: 148] ،
(1) رواه عن أنس بن مالك رضي الله عنه الإمام أحمد في "مسنده"(3/ 198)، وتتمته:"ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه ".
(2)
رواه البخاري (1/ 153) ، ومسلم (1599) ، وابن ماجه (3984) ، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
وقال: ليس المؤمن بالطعَّان، ولا باللعان، ولا الفاحش ولا البذيء" (1) .
* وحرم أن يُظَنَّ بمؤمن سوء.
وأوجب على المؤمن إذا سمع عن أخيه سوءًا أن يظن به البراء من الإثم، والطهارة من السوء كما هو طاهر وبريء، قال الله تعالى:(لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)) [النور: 12 - 14] ، والقصد من وراء هذا عدم السماح للفاحشة أن تظهر، ولو على ألسنة المتكلمين، أو في أذهان السامعين تركيزا للطهارة وتثبيتَا لها في جو البلاد والعباد، وفي هذا من معنى محاربة الفاحشة- بالوقاية مالا يخفى على عاقل.
* وحرم قذف المؤمن أو المؤمنة بالفاحشة، ووضع لذلك عقوبة زاجرة:
(الجلد ثمانين جلدهّ)، قال الله تعالى:(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 4، 5]
وعليه فمن قذف امرأة مؤمنة عفيفة اْو مؤمنًا عفيفَا بكلمة الفاحشة،
(1) رواه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه الترمذي رقم (1978) في البر: باب ما جاء في اللعنة، وقال:"حديث حسن غريب"، ورواه الإمام أحمد رقم (3839) ، وا بن حبان رقم (48- موارد) ، والبخاري في الأدب المفرد" رقم (312) ، والحاكم
في " المستدرك "(1/ 12) ، وصححه، ووافقه الذهبي.
(2)
وعلى هذا فمن حدثك أن فلانًا أو فلانة فعل كذا، وجب عليك أن ترد عليه قائلاً: هل تستطيع أن تأتي بأربعة شهداء؟ وإلا فهذا إفك مبين.
وجب عليه أن يحضر أربعة شهود على صحة ما قاله، أو يجلد حدا على ظهره ثمانين جلدة، مع إسقاط عدالته حتى يتوب توبة نصوحا.
وحرم مجرد حب إشاعة الفاحشة في البلاد والعباد:
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النور: 19] ، يردُّ على من يتصاغر هذا الأمر، ويقول في نفسه: كيف تعظم العقوبة لمجرد حب الفاحشة وظهورها وإن لم يعمل على ظهورها؟
فنبه إلى أن مجرد حب الفاحشة عمل على إيجادها وانتشارها، وإن الفاحشة البغيضة يجب أن تطارد من القلوب والنفوس قبل أن تطارد من العضلات والحركات.
ومن إجراءات الإسلام في هذا الشأن تحريم التحدث بما يكون بين الزوجين متعلقا بالوقاع ونحوه (2) .
* حظر على الرجل أن يغيب عن زوجه مدة طويلة.
قال تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)) [البقرة: 226 - 228] ،
فإذا حلف الرجل ألا يطأ زوجته أربعة أشهر فأكثر كان موليا، فإما أن يرجع في تلك المدة فيطؤها، ويكفر عن يمينه، وإلا تطلق منه بمجرد مضي المدة حتى لا تتضرر الزوجة.
ومن أعظم التدابير الوقائية في هذا الباب:
فرض الحجاب على النساء، واعتبار قرارهن في البيت هو الأصل
(1) انظر دور الصحافة في إشاعة الفاحشة في "معركة الحجاب والسفور" ص (135 – 142)
(2)
انظر: المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية" للمؤلف ص (169) .
الأصيل في دائرة عملهن، قال صلى الله عليه وسلم:"والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسئولة عن رعيتها"(1) ، وما عداه استثناء، ثم إن هي خرجت تخرج محجوبة، لا تخالط الرجال، وبشروط أخرى جِماعها: حمايتها، وحماية المجتمع من الافتتان بها.
* عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إنما النساء عورة، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها من بأس، فيستشرفها الشيطان، فيقول: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبتِهِ، وإن المرأة لتلبس ثيابها، فيقال: أين تريدين؟ فتقول: أعود مريضًا، أو أشهد جنازة، أو أصلي في مسجد، وما عبدت امرأة ربها مثل أن تعبده في بيتها"(2) .
* ومن ذلك أيضَا:
تحريم التبرج، وإظهار الزينة، والتجمل للفت نظر الأجانب، قال تعالى:(وَقَرن فِي بيُوتكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرجَّ الجاهِلِيَّةِ اَلأُولَى)[الأحزاب: 33] .
ء ومنها!: تشريع الاستئذان:
فقد حرم الله عز وجل الدخول إلى البيوت إلا بعد الإذن، قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا
(1) قطعة من حديث رواه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما البخاري (13/ 119) في الأحكام في باب وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وفي الجمعة،
والاستقراض، والعتق، والوصايا، والنكاح ومسلم رقم (1829) في الإمارة: باب فضيلة الإمام العادل، والترمذي رقم (1705) في الجهاد باب ما جاء في الإمام، وأبو داود رقم (2928) في الإمارة: باب ما يلزمه الإمام من حق الرعية.
(2)
تقدم تخريجه.
حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)[النور: 27-28] .
ووضحت السنَّة الهدف من الاستئذان، وهو خشية أن تقع عين آثمة على عورة غافلة، فتلد تلك النظرة الخاطفه فاحشة فاضحة، لا قِبَلَ بتحملها.
فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الاستئذان
من أجل البصر".
وعنه رضي الله عنه قال: اطَّلع رجل من ثقب في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه مِدْرَى- مشط كبير من حديد - يحك به رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو علمت أنك تنظر، لطعنت به عينيك، إنما جُعِل الإذن من أجل البصر"(1) .
وهذا المسلك يدل على مبلغ عناية الإسلام بصيانة البيوت، وحفظها من النظر إلى ما فيها، فقد يقع البصر على شيء يكره أهل البيت اطلاع أحد عليه، ولولا الاستئذان لتعرضت البيوت إلى انكشاف العورات.
* وهده طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستئذان:
* عق عبد الله بن بُسْر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ع ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر؟ فيقول: "السلام عليكم.. السلام عليكم "(2) ذلك أن الدُّور لم يكن عليها يومئذ ستور) .
(9) رواه البخاري (12/ 253) في الديات: باب من اطلع في بيت قوم ففقؤوا عينه فلا دية له، وفي اللباس، والاستئذان، ومسلم رقم (2156) في الآداب: باب تحريم النظر في بيت غيره، والترمذي رقم (2710) في الاستئذان: باب من اطلع
في بيت قوم بغير إذنهم، والنسائي (7/ 60- 61) في القسامة: باب في العقول.
(2)
رواه أبو داود رقم (5186) في الأدب: باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان وفيه بقية بن الوليد، وهو صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، لكنه صرح هدا الحديث بالتحديث
وهذا ما صنعه الصحابة رضوان الله عليهم:
فقد ثبت أِن عمر رضي الله عنه قال لأُبي بن كعب رضي الله عنه: ما منعك أن تأتينا؟، فقال: أتيت فسلمت على بابك ثلاث مرات، فلم تردَّ عليّ، فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له، فليرجع "(1) .
* ولابد أن يُعَين المستأذِنُ اسمه، ليؤذن له أم لا، فربما يكون شخصا غير مرغوب فيه، أو ربما يكون أهل البيت على حالة لا تخول لهم استقبال الزائرين، فعن جابر رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدققت الباب، فقال:"من ذا؟ " فقلت: أنا، فقال:"أنا، أنا؟! " كأنه كرهها (2) .
- وتبلغ عناية الإسلام بأدب الاستئذان آفاقًا لا تُطاول، ودرجة من الخلق الكريم، الذي لم تعرف الدنيا له مثيلًا، فلم يخول للابن أن يدخل على أمه أو أخته دون استئذان.
رُوي في حديث عطاء بن يسار أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أسْتَأذِنُ على أمي؟ فقال: "نعم "، فقال: إني معها في البيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استأذن عليها"، فقال الرجل: إني خادمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"استأذن عليها، أتحب أن تراها عُريانة؟ "، قال: لا، قال: "فاستأذن
(1) رواه البخاري (11/ 29) في الاستئذان: باب التسليم والاستئذان ثلاثا، وفي البيوع والاعتصام، ومسلم رقم (2153) في الآداب: باب الاستئذان، والموطأ (2/ 963- 964) في الاستئذان: باب الاستئذان، وأبو داود أرقام (5180:
5184) في الأدب: باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان، والترمذي رقم (2691) في الاستئذان والآداب: باب ما جاء في الاستئذان ثلاثَا.
(2)
رواه بنحوه البخاري (11/ 37) في الاستئذان: باب إذا قال: من ذا؟ قال: أنا، ومسلم رقم (2155) في الآداب: باب كراهة قول المستأذن أنا إذا قيل: من هذا؟ وأبو داود رقم (5187) في الأدب: باب الرجل يستأذن بالدقِّ، والترمذي رقم (1712) في الاستئذان: باب ما جاء في التسليم قبل الاستئذان.
عليها" (1) .
فهذه الآداب تبرز لنا مدى عناية الإسلام بحرمة البيوت، وكيف أعطاها التشريع الإلهي من القداسة ما يجعلها في مأمن من الشكوك والريب، وفي حصانة من جراثيم الفساد، وعوامل الانهيار (2) .
* ومنها الأمر بغض البصر:
قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)[النور: 30، 31] الآيتان.
فالله سبحانه يعلم مدى تأثير النظرة المحرمة في القلب، وما تحدثه من تحويل النفس إلى بركان، وما تحركه من الاندفاع نحو المرأة، والواقع يصدق ذلك، فكم من نظرة محرمة أودت بصاحبها إلى الوقوع في المعصية، وفتنةِ الرجل بالمرأة، وفتنةِ المرأة بالرجل.
وقد قرن الله عز وجل الأمر بغض البصر بالأمر بحفظ الفرج لأن غض البصر هو السبيل لحفظ الفرج (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) .
(1) رواه في "الموطأ" في الاستئذان: باب الاستئذان، وإسناده منقطع، فإن عطاء بن يسار لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عبد البر:"مرسل صحيح، ولا أعلمه يستند من وجه صحيح ولا صالح اهـ من "الموطأ" ص (597) ط. الشعب.
(2)
وانظر: "الأدب الضائع " للمؤلف.
وقد تقع النظرة الخائنة دون أن يراها أحد، ومن ثم جاء ختام الآية بعلم الله تعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فقال عز وجل:(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) .
وقال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)[غافر 19]
،قال ابن عباس رضي الله عنهما:"هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم، وفيهم المرأة الحسناء أو تمر به، فإذا غَفَلوا لَحَظَ إليها، فإذا فطنوا غض بصره عنها، فإذا غَفَلوا لَحَظ، فإذا فطنوا غَضَّ "، وقد اطلع الله من قلبه أنه ود لو اطَّلع على فرجها وأن لو قدر عليها فزنى بها (1) .
وقال سفيان الثوري: الرجل يَكون في المجلس في القوم يسترق النظر إلى المرأة تمر بهم، فإن رأوه ينظر إليها اتَّقاهم فلم ينظر، وإن غَفَلوا نظر، هذا خائنة الأعين (وَمَا تخفِى ألصُدُورُ) قال: ما يجد في نفسه من الشهوة (2) .
وعنه رحمه الله تعالى أنه قال في قوله تعالى: (يَعلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ) وهي النظرة بعد النظرة (3) .
فإن النظرة، الأولى تكون وليدة المفاجأة فلا مؤاخذة عليها، وإذا وقعت
(1)"رواه ابن أبي حاتم، كذا في "الصارم المشهور" للتويجري ص (21) ،
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" عن محمد بن يزيد بن خُنَيس عنه. المصدر السابق، وقد قال الشيخ حمود التويجري حفظه الله تعالى:
وقد تضاءلت خائنة الأعين في زماننا، ولم تبق إلا عند الذين تستتر نساؤهم من المسلمين، وأما الذين فتنوا بتقليد طوائف الإفرنج والتزيّ بزيهم، فقد عُدمت فيهم خائنةُ الأعين، وحَل محلها تسريح النظر في محاسن النساء الأجنبيات، والتمتع بالنظر إليهن، ومضاحكتهن ومجالستهن، والتحدث معهن في الخلوة وغير الخلوة اهـ. من السابق " ص (21، 22)
(3)
"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (15/ 303) .
فعلى الناظر ألا يُعْقِبَها بأخرى، وعليه أن يُحَوّلَ بصره إلى الأرض، أو إلى جهة أخرى.
فعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة"(1) .
وعن جرير بن عبد الله قال: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري "(2) .
وعلى من يرى رجلًا يترصد امرأة لينظر إليها أن ينصحه، ويرشده إلى غض البصر.
فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كان الفضل ابن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر"(3) .
ومنها تحريم مس الأجنبية ومصافحتها:
وإذا كان الإسلام يطارد الحرام أنى وجد، ويترصد المنكر حيثما كان ليقضي عليه، فلمس المرأة باليد يحرك كوامن النفس، ويفتح أبواب الفساد، ويسهل مهمة الشيطان، من أجل ذلك توعد الله من يفعل ذلك بصارم عقابه، وشديد عذابه.
(1) رواه الترمذي رقم (2777) في الأدب: باب ما جاء في نظر الفجأة، وأبو داود رقم (2149) في النكاح: باب ما يؤمر به من غض البصر، والإمام أحمد (3/
353، 357) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب اهـ.
(2)
رواه مسلم رقم (2159) في الآداب: باب نظر الفجأة، وأبو داود رقم (48 1 2) قي النكاح: باب ما يؤمر من غض البصر، والترمذي رقم (2777! في الأدب: باب ما جاء في نظر الفجأة.
(3)
يأتي تخريجه إن شاء الله ص (418) .
* فعن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يطعن في
رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له " (1) ، وإذا كان هذا في مجرد المس إذا كان بغير شهوة، فما بالك بما فوقه؟!
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "كُتبَ على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة: فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجْلُ زناها الخطا، والقلب يهوي ويتمنى، وَيُصَدقُ ذلك الفرجُ ويكذبه"(2) والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: "واليد زناها البطش " وهو المس باليد بأن يمس امرأة أجنبية بيده.
ومن تساهل في مصافحة النساء، واحتج بطهارة قلبه، وسلامة نيته،
وأنه لا يتأثر بذلك، فإنه ينادي على نفسه بنقص الرجولة، وهو كذاب في دعواه طهارة قلبه وسلامة نيته، وهذا أطهر ولد آدم صلى الله عليه وسلم وأخوفهم لله، وأرعاهم لحدوده، يقول وهو المعصوم:"لا أمس أيدي النساء"(3)، ويقول:"إني لا أصافح النساء"(4) ، ويمتنع من ذلك حتى في وقت البيعة الذي يقتضي عادة المصافحة، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة النساء مع أن الشهوة فيهم غالبة، والفتنة غير مأمونة، والشيطان يجري منهم مجرى الدم؟! كيف وقد قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
(1)"رواه الطبراني والبيهقي، ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح كذا قال المنذري في "الترغيب " (3/ 66) .
(2)
رواه مسلم في كتاب القدر: باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره، "شرح النووي"(16/206) ، والإمام أحمد (2/317، 431)
(3)
رواه الطبراني في "الأوسط، عن عقيلة بنت عبيد، كما في صحيح الجامع الصغير"(6/ 123) رقم (7054) .
(4)
رواه عن أميمة بنت رقيقة "الموطأ"(2/ 982) في البيعة: باب ما جاء في البيعة، والنسائي (7/ 149) في البيعة، باب: بيعة النساء، وابن ماجه رقم (2874) في الجهاد: باب البيعة، والإمام أحمد (6/357) ، وصححه الحافظ ابن كثير في "تفسيره"(8/122)
حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا (21)) [الأحزاب 21] .
وعن عائشة رضي الله عنها: "وما مستا يَدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يَدَ امرأة إلا امرأة يملكها"(1) أي يملك نكاحها.
* ومن ذلك تحريم الخلوة بالأجنبية:
وحقيقة الخلوة أن ينفرد رجل بامرأة في غيبة عن أعين الناس.
إن الخلوة بالأجنبية من أعظم الذرائع، وأقرب الطرق إلى اقتراف الفاحشة الكبرى.
وقد صرح القرطبي رحمه الله تعالى بأن الخلوة بغير محرم من الكبائر،
(1) رواه البخاري (8/ 504) في تفسير سورة الممتحنة، باب: إذا جاءك المؤمنات مهاجرات، وفي الطلاق، وفي الأحكام، ومسلم رقم (1866) في الإمارة: باب كيفية بيعة النساء، والترمذي رقم (3303) التفسير، باب: ومن سورة الممتحنة.
تنبيه تمس الحاجة إليه:
يتعلق بتهاون بعض الناس بهذا الحكم - وهو تحريم مصافحة الأجنبية - بزعم أنهم يستحيون من إحراج من يمد يده للمصافحة غافلين عن أن هذا عجز وليس حياءً، قال القرطبي رحمه الله فيما نقله عنه المناوي في "الفيض":
(وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يأخذ نفسه بالحياء، وبأمر به، ويحث عليه، ومع ذلك
فلا يمنعه الحياء من حق يقوله، أو أمر ديني يفعله، تمسكًا بقوله في الحديث الآتي:
"إن الله لا يستحي من الحق " رواه النسائي وابن ماجه عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه وهذا هو نهاية الحياء، وكماله، وحسنه، واعتداله، فإن من فرطّ عليه الحياء حتى منعه من الحق، فقد ترك الحياء من الخالق، واستحيا من الخلق، ومن كان هكذا حُرم منافع الحياء، واتصف بالنفاق والرياء.
والحياء من الله هو الأصل والأساس، فإن الله أحق أن يستحيي منه، فليُحفظ
هذا الأصل، فإنه نافع اهـ. (1/ 487) . وانظر رسالة "أدلة تحريم مصافحة
الأجنبية " للمؤلف.
ومن أفعال الجاهلية (1) .
وقال مجاهد في قوله تعالى: (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعرُوفٍ) [الممتحنة:
12] ،: لا تخلو المرأة بالرجال، ذكره البغوي في تفسيره، وذكره أيضًا عن سعيد بن المسيب، والكلبي، وعبد الرحمن بن زيد أنهم قالوا: لا تخلو برجل غير ذي محرم، ولا تسافر إلا مع ذي محرم.
إن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية مدرجة الهلاك، وداعية الإثم والفجور، وكيف لا يكون ذلك، والفرصة سانحة، وقد مهدت الخلوة للغريزة ألن تستيقظ؟
وإذ كان الفعل يمر بمراحل ثلاث:
* مرحلة النزوع والرغبة في الفعل.
* ثم مرحلة الوجدان، فيجد الشخص، ويعزم علي الفعل.
* ثم تأتي المرحلة الثالثة والأخيرة، وهي مرحلة التنفيذ.
أما في هذا الباب، فالكائن البشري حين تتقد فيه نار الشهوة، ويستيقظ
فيه الحيوان، تراه يندفع إلى الفعل إن لم تحجزه التقوى والخوف من الله سبحانه وتعالى.
ومن ثم رأينا القرآن الكريم ينهى عن الاقتراب من أسباب الزنى، فيعالج
هذه الجريمة الخلقية بحجز النفس عن أسبابها، فيقول تعالى:(وَلَا تَقربُوأ الزِّنَى) الآية [الإسراء: 32] ،، بينما يعالج جريمة القتل بتوجيه النهي إلى الفعل نفسه، وهو جريمة بشعة؟ إذ ليس بعد الشرك بالله أعظم ولا أكبر من القتل،- ولكن النفس بطبيعتها تأباه وتنكره، قال عز وجل:(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الإسراء: 33] ) ،.
وهذا يرينا إلى أيِّ حَد يسد الإسلام على هذه الجريمة كل منفذ، ويحجز النفس عن أسبابها.
(1)"الجامع لأحكام القرآن "(18/ 74) .
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالأجنبية، وشدَّد في ذلك، والأحاديث في ذلك كثيرة منها:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: "لا يَخْلُوَنَّ رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم "(1) الحديث.
ومنها: حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان "(2) الحديث، وهذا يعم جميع الرجال ولو كانوا صالحين أو مسنين، وجميع النساء ولو كن صالحات أو عجائز.
ومنها: حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها، فإن ثالثهما الشيطان "(3) .
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندخل على المُغِيبات"(4) .
وعنه رضي الله عنه قال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندخل على النساء بغير إذن أزواجهن (5) .
(1) رواه البخاري (4/ 86) في الحج: باب حج النساء، وفي الجهاد: باب كتابة الإمام الناس، وفي النكاح: باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، ومسلم رقم (1341) في الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره.
(2)
رواه الإمام أحمد (6/ 446)، ورواه عن عمر رضي الله عنه الترمذي رقم (2165) في الفتن: باب ما جاء في لزوم الجماعة، والحاكم (1/ 114- 115) وقال: (صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(3)
رواه الإمام أحمد في "لمسند"(3/ 339) .
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/397) ، (4/ 196، 205) .
(5)
رواه الترمذي رقم (2780) في الأدب: باب ما جاء في النهي عن الدخول على النساء، وقال:"حسن صحيح"، والإمام أحمد في (المسند)(4/ 203) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان "(1) .
وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلجوا على المغيبات، فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم "(2) .
وقد تكون القرابة إلى المرأة أو زوجها سبيلًا إلى سهولة الدخول عليها أو الخلوة بها، كابن العم وابن الخال مثلا، ولذلك حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك لأنه من مداخل الشيطان، ومسارب الفساد.
فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والدخول على. النساء"، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت "(3) ، والحمو هو قريب الزوج الذي لا يحل للمرأة، فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يفسد الحياة الزوجية كما يفسد الموت البدن.
وقد حكى الإجماعَ كل تحريم الخلوة بالأجنبية غير واحد من العلماء منهم النووي، وابن حجر العسقلاني.
قال النووي رحمه الله: وكذا لو كان معهما من لا يستحيا منه لِصِغَره كابن سنتين، وثلاث، ونحو ذلك، فإن وجوده كالعدم، وكذا لو اجتمع رجال بامرأة أجنبية فهو حرام (4) اهـ.
(1) رواه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مسلم رقم (2173) في السلام: باب تحريم الخلوة بالأجنبية.
يقال: امرأة مُغِيبة: إذا كان زوجها غائبا.
(2)
رواه الترمذي وقم (1172) في الرضاع؟ باب رقم (17)، وقال:"هذا حديث غريب من هذا الوجه "(3/ 475) .
(3)
رواه البخاري (9/ 242) في النكاح: باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، ومسلم رقم (2172) في السلام: باب تحريم الخلوة بأجنبية والدخول عليها، والترمذي رقم (1171) في الرضاع: باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات.
(4)
"شرح النووي على صحيح مسلم (9/109) .
قال الأبي رحمه الله: لا تعرض المرأة نفسها بالخلوة مع أحد، وإن قل الزمن، لعدم الأمن لا سيما مع فساد الزمن، والمرأة فتنة إلا فيما جُبلت عليه النفوس من النفرة من محارم النسب (1) اهـ.
لا يأمنن على النساء أخ أخًا
…
مافي الرجال على النساء أمين
إن الأمين وإن تعفف جهده
…
لابد أن بنظرة سيخون
* ومن ذلك: أنه حَرَّم سفر المرأة بغير محرم:
فإن المرأة مظنة الشهوة والطمع، وهي لا تكاد تقي- نفسها، لضعفها ونقصها، ولا يغار عليها مثل محارمها، الذين يرون أن النيل منها نيل من شرفهم وعرضهم، وسفرها بدون محرم يعرضها إلى الخلوة بالرجال ومحادثتهم، وقد يطمع فيها من في قلبه مرض، وربما سهل خداع المرأة، وربما يعتريها مرض، وإذا سلمت من كل هذا فلن تسلم من القيل والقال إذا سافرت بدون محرم يصونها ويرعاها.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، يقول:"لا يخلون وجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم "(2)، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجَّة،
(1)"إكمال إكمال المعلم"(3/436) .
(2)
هكذا مطلقا، والعمل على هذا الحديث عند أكثر العلماء، قال النووي رحمه الله: كل ما يسمى سفرًا تنهي عنه المرأة بغير زوج أو محرم سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يومَا أو بريدًا أو غير ذلك لرواية ابن عباس رضي الله عنهما المطلقة: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرما، وهذا يتناول جميع ما يسمى سفرًا اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات اهـ.
وقال النووي أيضًا: ليس المراد من التحديد- أي الوارد في بعض الروايات- ظاهره بل كل ما يسمى سفرًا فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم، وإنما وقع التحديد عن أمر واقع، فلا يعمل بمفهومه اهـ.
وإني اكْتُتِبْتُ في غزوة كذا وكذا؟ قال: "انطلق فَحُجَّ مع امرأتك "(1) .
قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله: النساء لحم على وَضَم (2) إلا
ما ذُبَّ عنه، كُلُّ أحدٍ يشتهيهن وهن لا مدفع عندهن، بل ربما كان الأمر إلى التخلي والاسترسال أقرب من الاعتصام، فحض الله عليهن بالحجاب، وقطع الكلام، ومباعدة الأشباح، إلا مع من يستبيحها وهو الزوج، أو يمنع منها وهم أولو المحرمية، ولما لم يكن بدٌّ من تصرفهن أذن لهن فيه بشرط صحبة من يحميهن، وذلك في مكان المخالفة وهو السفر مقر الخلوة، ومعدن الوحدة (3) اهـ.
وقال النووي رحمه الله: المرأة مظنة الطمع فيها، ومظنة الشهوة ولو كبيرة، وقد قالوا:"لكل ساقطة لاقطة"، ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطتهم من لا يترفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته، وقلة دينه ومروءته وحيائه (3) اهـ.
فتبُّا لهؤلاء المستغربين، وسحقا سحقًا لعبيد المدنية الزائفة الذين أطلقوا لبناتهم ونسائهم العنان يسافرن دون محرم، ويخلون بالرجال الأجانب، مُدَّعين أن الظروف تغيرت، وأن ما اكتسبته المرأة من التعليم، وما أخذته من الحرية يجعلها موضع ثقة أبيها وزوجها، فما هذا إلا فكر خبيث دَلَفَ إلينا ليفسد حياتنا، وما هي إلا حجج واهية ينطق بها الشيطان على ألسنة هؤلاء الذين انعدمت عندهم غيرة الرجولة والشهامة فضلًا عن كرامة المسلم ونخوته.
وانظر: "إكمال الإكمال، للأبي (3/ 436) .
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
وَضَم: الوضم ما وقيت به اللحم عن الأرض من خشب وحصير اهـ. من "مختار القاموس" ص (661) .
(3)
نقله عنهما الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في "الرد القوي " ص (250- 251)
ومَثَل الذين يتهاونون في الخلوة والاختلاط الآثم بدعوى أنهم رُبّوا على الاستجابة لنداء الفضيلة ورعاية الخُلُق، مَثَلُ قوم وضعوا كمية من البارود بجانب نار متوقدة، ثم ادعوا أن الانفجار لا يكون لأن على البارود تحذيرًا من الاشتعال والاحتراق.. إن هذا خيال بعيد عن الواقع، ومغالطهْ للنفس، وطبيعة الحياة وأحداثها (1) .
* ومنها تحريم خروج المرأة متطيبة متعطرة:
فمن المعلوم أن من دواعي فتنة الرجل بالمرأة، ونزوعه إليها ما يشم منها من الطيب الذي يفوح شذاه فيجر إلى الفتنة، ويكون رسولًا من نفس شريرة إلى نفوس أخرى شريرة.
قال صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت، ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية"(2)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كل عين زانية، وإن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس، فهي كذا وكذا، يعني زانية"(3)، وقال صلى الله عليه وسلم:"إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا"(4) .
(1) "تحريم الخلوة بالأجنبية الفضيلة الشيخ الدكتور محمد بن لطفي الصباغ حفظه الله ص (29- 30) ، وانظر رسالة (يا بنتي ويا ابني) للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله.
(2)
رواه من حديث أبي موسى رضي الله عنه الإمام أحمد (4/ 414) ، والنسائي (8/ 153) في الزينة، باب ما يكره للنساء من الطيب، والحاكم (2/ 396)، وقال: (صحيح
الإسناد، ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي، وانظر "فيض القدير"(3/ 147) .
(3)
رواه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الترمذي- رقم (2787) في الأدب: باب ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطرة- واللفظ له، وأبو داود رقم (4174)، (4175) في الترجل: باب في المرأة تتطيب للخروج، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح ".
(4)
رواه من حديث زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنهما مسلم رقم (443) - واللفظ له - في الصلاة: باب خروج النساء إلى المساجد، والنسائي (8/ 154) في الزينة: باب النهي للمرأة أن تشهد الصلاة إذا أصابت بخورًا.
ولا ضير على المرأة أن تستعطر في بيتها ولزوجها، بشرط أن لا تغشى به مجالس الرجال؟ لأن الطيب من ألطف وسائل المخابرة والمراسلة، والحياء الإسلامي يبلغ من رقة الإحساس أن لا يحتمل حتى هذا العامل اللطيف الخفي.
خرجت امرأة في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه متطيبة، فوجد ريحَها، فعلاها بالدرة، ثم قال:"تخرجن متطيبات، فيجد الرجل ريحكن؟ وإنما قلوب الرجال عند أنوفهم، اخرجن تَفِلات "(1) .
* ومنها تحريم الخضوع بالقول:
فقد يكون صوت المرأة رخيمًا، يحرك النفوس المريضة، فيجرها إلى التفكير في المعصية، أو يوقعها ويوقع بها في بلية العشق، قال بشار:
يا قومِ أُذْني لبعضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ
…
والأذْنُ تَعْشَقُ قبلَ العينِ أحيانا
ومن هنا نهيت المرأة عن مخاطبة الأجانب بكلام فيه ترخيم كما تخاطب زوجها، وأمرت أن تتحرى الصوت الجاد العاري عن أسباب الفتنة، ولم يخول لها الإسلام إذا نابها شيء في الصلاة أن تسبح كالرجال، بل عليها أن تصفق، وهي في الحج لا ترفع صوتها بالتلبية، ولا يشرع لها أن تؤذن للصلاة في المسجد، ولا أن تؤم الرجال.
وقد سدَّ الإسلام على المرأة كل سبيل للتسيب في هذا الباب حينما جعل أمهات المؤمنين " محلا للقدوة، فلم يبق هناك عذر لمعتذر، قال تعالى:(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب: 32] ) ،
وقال صلى الله عليه وسلم: "والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام "(2) .
وفي رواية: "والأذن تزني، وزناهما السمع ".
(1) المصنف للإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني (4/ 370) .
(2)
تقدم تخريجه.
ومن أعظم وسائل الإسلام لتجفيف منابع الفتنة بالمرأة:
* تحريم الاختلاط المستهتر:
تعريف الاختلاط المستهتر: هو اجتماع الرجل بالمرأة التي ليست بمحرم له اجتماعًا يؤدي إلى ريبة، أو: هو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم في مكان واحد يمكنهم فيه الاتصال فيما بينهم بالنظر، أو الإشارة، أو الكلام، أو البدن من غير حائل أو مانع يدفع الريبة والفساد.
وقد حذر القرآن الكريم من هذا الاختلاط كما في قوله تعالى:
(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب: 33] ) ، فخير حجاب للمرأة بيتها، وقال تعالى:(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53] ) ، إلى غير ذلك من الآيات.
* وقال صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها"(1) .
وعن أبي أسيد مالك بن ربيعة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول- وهو خارج من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق:"استأخِرن، فليس لكن أن تَحْقُقْنَ (2) الطريق، عليكن بحافات الطريق "، فكانت المرأة تلصَقُ بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به (3) . وقد أفرد صلى الله عليه وسلم في المسجد بابا خاصا للنساء يدخلن ويخرجن منه، لا يخالطهن
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تحققن: أي تذهبن في حاق الطريق، وهو الوسط.
(3)
رواه أبو داود رقم (5272) في الأدب: باب في مشي النساء مع الرجال في الطريق (4/ 369) ، وسكت عنه المنذري، وله شاهد عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ:"ليس للنساء وسط الطريق " رواه ابن حبان في "صحيحه " رقم (1969)
موارد.
ولا يشاركهن فيه الرجال:
فعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو تركنا- هذا الباب للنساء؟ " قال نافع: فلم يدخل منه ابنُ عمر حتى مات (1) .
وعن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان عمر بن الخطاب
رضي الله عنه ينهى أن يُدْخَلَ المسجدُ من باب النساء" (2) .
ومن ذلك: تشريعه للرجال إمامًا ومؤتمين أن لا يخرجوا فور التسليم
من الصلاة إذا كان في الصفوف الأخيرة بالمسجد نساء، حتى يخرجن، وينصرفن إلى دورهن قبل الرجال، لكي لا يحصل الاختلاط بين الجنسين- ولو بدون قصد- إذا خرجوا جميعا.
قال أبو داود في "سننه": (باب انصراف النساء قبل الرجال من الصلاة) ثم ساق حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا سلم مكث قليلا، وكانوا يرون أن ذلك كيما يَنفُذَ النساء قبل
الرجال " (3) .
ورواه البخاري أيضًا وفيه: قال ابن شهاب: (فنُرى والله أعلم- لكي
ينفذ من ينصرف من النساء قبل أن يدركهن مَن انصرف من القوم) (4) أي
الرجال.
11) رواه أبو داود رقم (571) في الصلاة: باب التشديد في خروج النساء إلى المساجد، وفي رواية عن نافع قال: قال عمر، قال الجزري:"وهو أصح "، وقال الألباني:"صحيح على شرط الشيخين" اهـ من: هامش "المرأة المسلمة للبنا" ص (15-16) .
(2)
رواه أبو داود رقم (464) ، في الصلاة، وإسناده منقطع.
(3)
رواه أبو داود رقم (1040) في الصلاة: باب انصراف النساء قبل الرجال من الصلاة (1/ 273) .
(4)
رواه البخاري (2/ 389) - فتح) رقم (849) .
* وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كان يسلم فينصرفُ النساء فيدخلن بيوتهن من قبل أّن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروي النسائي: "أن النساء كن إذا سلمن قمن، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال "(2) .
قال الحافظ ابن حجر: (وفي الحديث
…
كراهة مخالطة الرجال للنساء
في الطرقات فضلًا عن البيوت) اهـ (3) .
* وعن أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، فقال:"قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي "(4) .
* وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتُهن خير لهن"(5) .
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها"(6) ، وهذا
(1) السابق رقم (850) .
(2)
عزاه الحافظ ابن حجر إلى النسائي- "فتح الباري"(2/336) .
(3)
"فتح الباري"(2/ 392) .
(4)
عزاه الحافظ في "الفتح " إلى الإمام أحمد والطبراني، وقال:"وإسناد أحمد حسن "، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود (2/350) ، وقد رواه أيضَا في صحيحيهما ابن خزيمة (3/ 94) ، وابن حبان (328- موارد) .
(5)
رواه أبو داود رقم (567) في الصلاة: باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد، والإمام أحمد (2/ 76) .
(6)
رواه مسلم رقم (440) في الصلاة: باب تسوية الصفوف وإقامتها، وأبو داود =
كله في حالة العبادة والصلاة التي يكون فيها المسلم أو المسلمة أبعد ما يكون عن وسوسة الشيطان وإغوائه.
* وعن عبد الرحمن بن عابس قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قيل له: أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولولا مكاني من الصغَر ما شهدتُه، حتى أتى العَلَم الذي عند دار كثير بن الصلت فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن، وذكَرهن، وأمرهن بالصدقة (1) الحديث.
قال الحافظ ابن حجر: قوله: "ثم أتى النساء" يشعر بأن النساء كن على حدة من الرجال غير مختلطات بهم، قوله:"ومعه بلال " فيه أن الأدب في مخاطبة النساء في الموعظة أو الحكم أن لا يحضر من الرجال إلا من تدعو الحاجة إليه من شاهدٍ ونحوه؟ لأن بلالا كان خادم النبي صلى الله عليه وسلم، ومتولي قبض الصدقة، وأما ابن عباس فقد تقدم أن ذلك اغتفر له بسبب صغره اهـ (2) .
* وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "شهدت الفطر مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم يصلونها قبل الخطبة، ثم يخطب بعد، خرج النبي صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يُجَلِّس بيده، ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساء"(3) الحديث.
وفي رواية مسلم: " يُجَلِّس الرجال بيده" وذلك كي لا يختلطوا بالنساء.
= رقم (678) في الصلاة: باب صف النساء وكراهية التأخر عن الصف الأول، والترمذي رقم (224) في الصلاة: باب ما جاء في فضل الصف الأول، والنسائي (2/93) في الإمامة: باب ذكر خير صفوف النساء، وشر صفوف
الرجال.
(1)
رواه البخاري رقم (977) في العيدين: باب العَلَم الذي بالمصلى.
(2)
"فتح الباري"(2/ 540) .
(3)
رواه البخاري رقم (979) في العيدين: باب موعظة الإمام النساء يوم العيد، ومسلم رقم (884) في العيدين في فاتحته.
* ولقد حرصت الصحابيات علي عدم الاختلاط حتى في أشد المساجد زحاما، وفي أشد الأوقات زحامًا، في موسم الحج بالمسجد الحرام:(فعن ابن جريج قال: أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساءَ الطوافَ مع الرجال، قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟) أي غير مختلطات بهن (قال: قلت: أَبَعْدَ الحجاب أو قبلُ؟ قال: أي لَعمري، لقد أدركتهُ بعد الحجاب، قال: قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يَكُنَّ يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف. حَجْرَةً) بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها راء أي ناحية، يقال: نزل فلان حجرة من الناس أي معتزلا، وفي رواية:"حجزة" بالزاي يعني مجوزًا بينها وبين الرجال بثوب (من الرجال، لا تخالطهم، فقالت امرأة: "انطلقي نستلم يا أم المؤمنين "، قالت: " انطلقي عنكِ "، وأبت، يخرجن متنكرات بالليل، فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن) أي وقفن حتى يدخلن حال كون الرجال مخرجين منه (حتى يدخلن، وأخْرِج الرجال)(1) .
ودخلت على عائشة رضي الله عنها مولاة لها، فقالت لها: يا أم المؤمنين، طفت بالبيت سبعا، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثًا، فقالت لها عائشة رضي الله عنها:"لا آجركِ الله، لا آجركِ الله، تدافعين الرجال؟! ألا كبرتِ ومررتِ؟! "(2) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: روى الفاكهي من طريق زائدة عن إبراهيم النخعي قال: نهى عمر أن يطوف الرجال مع النساء، قال: فرأى رجلا معهن فضربه بالدرة (3) .
(1) رواه البخاري رقم (1618) كتاب الحج: باب طواف النساء مع الرجال.
(2)
رواه الإمام الشافعي في (مسنده" ص (127) ط. دار الكتب العلمية- لبنان.
(3)
"فتح الباري"(3/ 561) .
ولقد حط الله عن النساء الجمعة، والجماعة، والجهاد، وجعل جهادهن لا شوكة فيه، وهو الحج المبرور.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال:"تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعْتَدي عند ابنِ أُمِّ مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، ولا يراك "(1) .
إلى أمثلة أخرى كثيرة كلها تؤكد حرص الإسلام على وضع وتثبيت حواجز الأسلاك الشائكة بين الرجال والنساء الأجنبيات.
ومن صور الاختلاط المنهي عنه:
1-
اختلاط الأولاد الذكور والإناث- ولو كانوا إخوة- بعد التمييز
في المضاجع، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتفريق بينهم في المضاجع.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع "(2) .
2-
اتخاذ الخدم الرجال، واختلاطهم بالنساء، وحصول الخلوة بهن، رُوِي في بعض الآثار أن فاطمة عليها السلام لما ناوَلَت أحَدَ ابنَيْها بلالًا أو أنسًا قال:"رأيت كفًا" يعني أنه لم يَرَ وجهًا (3) ، وقد كان أنس رضي الله عنه خادمًا خاصُّا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يعيش عنده كأحد أهله.
3-
اتخاذ الخادمات اللائي يبقين بدون محارم، ْ وقد تحصل بهن الخلوة. 4- السماح للخطيبين بالمصاحبة والمخالطة التي تجر إلى الخلوة، ثم إلى
(1) أخرجه مسلم (4/ 195) ، أبو داود (2284) ، والنسائي (2/ 74- 75) ، والبيهقي (7/ 432) ، وأحمد (6/412) .
(2)
رواه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أبو داود رقم
(495، 496) في الصلاة: باب متى يؤمر الغلام بالصلاة؟
(3)
"تكملة فتح القدير"(8/98) .
ما لا تحمد عقباه، فيقع العبث بأعراض الناس بحجة التعارف ومدارسة بعضهم بعضًا.
5-
استقبال المرأة أقارب زوجها الأجانب، وأصدقاءه- في حال غيابه ومجالستهم.
6-
الاختلاط في دور التعليم كالمدارس، والجامعات، والمعاهد، والدروس الخصوصية
7-
الاختلاط في الوظائف، والأندية، والمواصلات، والأسواق، والمستشفيات، والزيارات بين الجيران، والأعراس، والحفلات.
8-
الخلوة في أي مكان ولو بصفة مؤقتة كالمصاعد، والمكاتب، والعيادات، وغيرها.
فيا أولياء النساء والبنات والأزواج:
احذروا: "الخلوة، والاختلاط المستهتر، والتبرج "، فإنها والزنى رفيقان لا يفترقان وصنوان لا ينفصمان غالبا.
واعلموا: أن الستر والصيانة هما أعظم عون على العفاف والحصانة، وأن احترام القيود التي شرعها الإسلام في علاقة الجنسين هو صمام الأمن من الفتنة والعار، والفضيحة والخزي.
احذروا أجهزة الفساد السمعية منها والبصرية التي تغزوكم في عقر داركم، وهي تدعو نساءكم وأبناءكم إلى الافتتان، وتضعف منهم الإيمان، وقد قيل:"حسبك من شَر سماعه"، فكيف برؤيته؟!!
صونوا بناتكم وزوجاتكم، ولا تتهاونوا فتعرضوهن للأجانب فـ:
إن الرجال الناظرين إلى النساء
…
مثل السباع تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحومَ أسودُها
…
أُكلت بلا عِوّض ولا أثمَانِ
إن الأعراض إذا لم تصن بهذه الحصون والقلاع، ولم تحصن بالأسوار والسدود، فستسقط لا محالة- أمام هذه الهجمة الشرسة، ويقع
المحظور، ولا ينفع حينئذ بكاء ولا ندم، والتبعة كل التبعة، واللوم أولًا وأخيرا على ولي البنت الذي ألقى الحبل على غاربه، وأرخى لابنته العنان، فيداه أوكتا، وفوه نفخ:
نَعَبَ الغراب بما كرهـ
…
ـتَ، ولا إزالة للقدرْ
تبكي وأنت قتلتها!
…
اصبر، وإلا فانتحر
آخر:
أتبكي على لبنى وأنت قتلتها
…
لقد ذهبت لبنى فما أنت صانع (1) ؟!
* * *
فتش عن الثغرة
إن جعبة الباحثين والدارسين لظاهرة الاختلاط حافلة بالمآسي المخزية، والفضائح المشينة، التي تمثل صفعة قوية في وجه كل من يجادل في الحق بعد ما تبين.
وإن الإحصائيات الواقعية في كل البلاد التي شاع فيها الاختلاط ناطقة بل صارخة بخطر الاختلاط على الدنيا والدين، "لخصها العلامة أحمد وفيق باشا العثماني الذي كان سريع الخاطر، حاضر الجواب، عندما (سأله بعض عُشَرائه من رجال السياسة في أوربة، في مجلس بإحدى تلك العواصم قائلاً:
"لماذا تبقى نساء الشرق محتجبات في بيوتهن مدى حياتهن من غير أن يخالطن الرجال، ويغشين مجامعهن؟ ".
فأجابه في الحال قائلاً:
"لأنهن لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجَهن".
(1) انظر: "صون المكرمات برعاية البنات" بقلم جاسم الفهيد الدوسري- حفظه الله، ص (52) .
وكاد هذا الجواب كصب ماء بارد على رأس هذا السائل، فسكت على مضض كأنه ألقم الحجر) (1)
ولما وقعت فتنة الاختلاط بالجامعة المصريه، كان ما كان من حوادث يندى لها الجبين، ولما سئل "طه حسين " عن رأيه في هذا، قال:"لابد من ضحايا"!! ولكنه لم يبين. "بماذا" تكون التضحية؟ و "في سبيل ماذا" لابد من ضحايا (2) ؟
وأي ثمرة يمكن أن تكون أغلى وأثمن من أعراض المسلمين؟!!
والآن نستطيع- بكل قوة - أن نجزم بحقيقة لا مراء فيها، وهى أنك إذا وقفت على جريمةٍ فيها نُهِشَ العِرضُ، وذُبح العفافُ، وأُهْدِرَ الشرفُ، ثم فتشت عن الخيوط الأولى التي نسجت هذه الجريمة، وَسَهَّلت سبيلها، فإنك حاتمًا ستجد أن هناك ثغرةً حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة الإسلامية بين الرجال والنساء، ومن خلال هذه الثغرة. . . دخل الشيطان!!
وصدقِ الله العظيم: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)[النساء: 27 - 28] ) .
***
ثانيا: التدابير الإيجابية
بينا فيما مضى كيف أن الإسلام "يطارد" أسباب الفتنة حتى يقضي عليها، ويتتبع ذرائع المعصية، حتى يسد منافذها، ومنابع الفساد حتى
(1)"الفتن" للشيخ أحمد عز الدين البيانوني رحمه الله ص (214) . (2)"المرأة المسلمة" لوهبى غاوجي الألباني ص (241) ،
يجففها، ووسائل الفوضى حتى يجتثها من جذورها.
يبقى أن ننبه إلى أنه في مقابل ذلك فتح للنكاح أبوابه على مصاريعها، وقضى على العقبات التي تعترضه بكل قوة، وهاك بعض وسائله في ذلك: علم س بالضرورة من دين الإسلام الترغيب في الزواج المشروع والحث عليه، وأنه من سنن الهدى، وجادة الإسلام.
ودلت نصوص الشريعة على النهي عن التبتل والرهبانية (1) ، وأنها مولود مبتدع في الديانة النصرانية شدَّد الله النكير على فعلتها، فليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، وحديث الرهط نص في ذلك كما ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه (2) ، ولهذا قَرَنَ في حديث آخر بين الأمر بالزواج، والنهي عن الرهبانية، وذلك فيما رواه أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى"(3)
وذكر الذهبي في "السير": أن طاوسا رحمه الله قال: "لا يتم نسك
(1) راجع "المرأة بين تكريم الإسلام، وإهانة الجاهلية" ص (161- 163) .
(2)
ونص الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم: فلما أخبروا كأنهم تقالوها، قالوا: فأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟
قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر، ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء، ولا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال:"أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
والحديث رواه البخاري (5/9) في النكاح: باب الترغيب في النكاح، ومسلم رقم (1401) فيه: باب استحباب النكاح، والنسائي (6/60) في النكاح أيضا باب النهي عن التبتل.
(3)
رواه البيهقي، وساقه الحافظ قي "الفتح "(9/ 13) ، وسكت عليه.
الشاب حتى يتزوج "، وقال لإبراهيم بن ميسرة: تزوج أو لأقولن لك ما قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لأبي الزوائد: "ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور" اهـ (1)
وقال المرُّوذي قال أبو عبد الله - يعني أحمد بن حنبل- ليس العزوبة من أمر الإسلام في شيء، النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أربع عشرة، ومات عن تسع، ولو تزوج بشر بن الحارث لتم أمره، ولو ترك الناس النكاح لم يكن غزو ولا حج، ولا كذا ولا كذا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح وما عندهم شيء، ومات عن تسع، وكان يختار النكاح ويحث عليه، ونهى عن التبتل، فمن رغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو على غير الحق
ويعقوب في حزنه قد تزوج وَوُلِدَ له.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "حببَ إلي النساء"(2)
قلت له: فإن إيراهيم بن أدهم يحكى عنه أنه قال: "لَروعة صاحب العيال "، فما قدرت أن أتم الحديث (3)، حتى صاح بي وقال: وقعنا في بنيات الطريق، انظر- عافاك الله - ما كان عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم قال: لبكاء الصبي بين يدي أبيه يطب منه خبزا أفضل من
(1)"سير أعلام النبلاء"(5/47 – 48) .
وإنما أراد أمير المؤمنين رضي الله عنه أن يثير حفيظته ليسعى إلى التزوج، إذ رأى أبا الزوائد، وقد تقدمت به السن، ولم يتزوج، وانظره في "الفتح"(9/ 13) ، و "الإحياء"(2/ 23) ، و "المحلى"(9/ 44) ، و"موسوعة فقه عمر رضي الله عنه"(643) .
(2)
رواه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه النسائي (7/ 61) في عشرة النساء: باب حب النساء، بلفظ:"حُببَ إلي الطيبُ، والنساء، وجعلَ قرةُ عيني في الصلاة"، وكذا رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 128، 199، 285) ، والحاكم (2/
160) ، والبيهقي، وغيرهم، وقال الحاكم:"صحيح على شرط مسلم"، ووافقه
الذهبي وقال الحافظ العراقي، "إسناده جيد"، وقال ابن حجر:"حسن".
(3)
تتمته كما في "الإحياء": (أفضل من جميع ما أنا فيه) اهـ.
كذا وكذا، أنى يلحق المتعبد المتعزبُ المتزوجَ؟! انتهى كلامه (1) .
وعن عثمان بن خالد قال: قال شداد بن أوس: (زَوِّجوني فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن لا ألقى الله عزبًا" (2) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لو لم يبق من أجلي سوى عشرة أيام أعلم أني أموت بعدهن، ولي طَول النكاح فيهن لتزوجت مخافة الفتنة"(3) .
* إن جمهور فقهاء الإسلام يقررون أن النكاح سنة مؤكدة، وقال بعض الفقهاء من السلف وغيرهم:"إنه واجب"، بناء على الأوامر الإلهية، والخطابات النبوية الكثيرة، وقد اتفقوا جميعَا على أن من خاف العنت أو الزنا على نفسه وجب عليه أن يبادر إلى النكاح ليقي نفسه من الحرام، وإن لم يستطع فعليه بالصوم يكثر منه، كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه لى وجاء"(4) .
وحسب شبابنا لفهم هذه الأهمية أن العلماء بينوا أن النكاح أفضل عن التفرغ للعبادة.
ولو سأل سائل فقال: "إني رجل مستطيع النكاح، ولا أخاف على
(1)"روضة المحيين" لابن القيم ص (214) .
(2)
"تلبيس إبليس" طبعة المدني، ص (414) .
(3)
انظر: "الإحياء"(1/ 685) .
(4)
رواه البخاري (4/142) في الصوم: باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة، وفي النكاح: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من استطاع منكم الباءة فليتزوج، وباب من
لم يستطع الباءة فليصم، ومسلم رقم (1400) في النكاح: باب استحباب النكاح
لمن تاقت إليه نفسه، وأبو داود رقم (2046) في النكاح: باب التحريض على النكاح، والترمذي رقم (1081) ، في النكاح؟ باب ما جاء في فضل التزويج والحث عليه، والنسائي (4/ 169) في الصوم: باب فضل الصيام، (6/56،
57) في النكاح: باب الحث على النكاح.
نفسي الحرام لو لم أتزوج، وأريد أن أظل عزبا ليكفيني أقل مال وعمل لكسب معيشتي، وسأشغل وقّتي كله بالعبادات النافلة من صلاة وصوم وذكر وقرآن.. إلخ" لقال العلماء لهذا الرجل "الزواج مع أداء العبادات المفروضة والسننْ الراتبة أفضل " (1)
ومن تشريعات الإسلام في هذا الباب:
* الترخيص لمن لم يقدر على نكاح الحرائر أن ينكح الإماء، قال تعالى:(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء: 25] ) ،
* ومنها: وجوب تعاون المسلمين على تزويج عزابهم من نساء ورجال حتى لا يبقى في القرية أو الحي عَزَبٌ تخشى فتنته، قال تعالى:(وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور: 32] ) ، والأيامى جمع أيم، وهو من ليس متزوجًا من ذكر أو أنثى، فالرجل أيّم، والمرأة أيّم إذا لم يكن لها زوج.
قال ابن مسعود رضي الله عنه:"التمسوا الغنى في النكاح "، وتلا هذه الآية، وقال عمر رضي الله عنه: "عجبي ممن لا يطلب الغنى في النكاح، وقد قال الله تعالى:(إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)(2) .
وبين هذا المعنى قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "حق على الله عونُ من نكح التماس العفافِ عما حَرمَ الله. (3) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة حق على الله تعالى عونهم: المجاهد في سبيل الله،
(1) راجع "المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية ص (161 – 173) ، (234- 235) ، (259)
(2)
"الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/241)
(3)
رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ابن عدي وابن منيع والديلمي أفاده المناوي في الفيض (3/ 93) وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع"(3/93)
والمكاتَب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف " (1) .
وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تيسير النكاح وتذليل عقباته، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "خير النكاح أيسره "(2) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "خير الصداق أيسره"(3) .
* ومنها: أَمْرُ مَنْ لم يجد النكاح بالاستعفاف:
قال عز وجل: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور: 33] ) .
* * *
(1) رواه الترمذي رقم (1655) في فضائل الجهاد: باب ما جاء في المجاهد والناكح والمكاتب وعون الله وإياهم، وحسنه، والنسائي (6/ 61) في النكاح: باب معونة
الله الناكح الذي يريد العفاف، ورواه أيضَا الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وصححه.
(2)
رواه أبو داود رقم (2117) في النكاح: باب فيمن تزوج ولم يسم صداقًا حتى مات، وابن حِبان، والحاكم (2/ 182) ، وصححه، ووافقه الذهبي.
(3)
انظر تخريجه في "المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية" ص (180) .
وبعد
فهكذا نظم الإسلام الحياة الاجتماعية للناس تنظيما دقيقا، ووضع لهم التشريعات التي تكفل سعادتهم واستقامتهم، وقد تبين لنا من هذا الباب كيف أن الشريعة الإلهية عندما تحرم شيئا فإنها لا تكتفي بتحريمه فحسب،
بل إنها تنادي في الوقت ذاته بتحريم كل ما يرغب الناس في إتيانه، أو يهيئ لهم فرصه، أو ما يكرههم عليه من الأسباب والدواعي.
فها هي الشريعة المطهرة عندما تحرم الجريمة تحرم معها أسبابها وذرائعها ووسائلها، حتى تستوقف المرء على مسافة بعيدة قبل أن يفضي إلى حدود الجريمة الأصلية.
ولا ترتضي الشريعة المحكمة حين تحرم شيئًا من الجرائم أن تلقي في روع الناس أن العقوبة قد وجدت لمجرد التنكيل بهم، ومحاسبتهم فقط، بل تشعرهم بأنها ناصحة لهم، ومصْلِحَة لمفاسدهم، ومُذَلِّلَةٌ لمشاكلهم، فتستخدم كل ما يؤثر فيهم من التدابير الوقائية الممكنة، وكذا الإجراءات العلاجية التي توصد باب الفتنة، وتعين على اجتناب الموبقات.
وقد بان لك موقع الحجاب الشرعي من هذه الإجراءات، وكيف أن فرضيته تتواءم مع مقاصد الشريعة التي منها: المحافظة على النسل والعرض.
* * *