المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أبو هريرة من أئمة القراءات - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ١٢

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌أبو هريرة من أئمة القراءات

[ص 146] ثم قال أبو ريَّة ص 180: (ومن عجيب أمر الذين يثقون بأبي هريرة ثقة عمياء أنهم يمنعون السهو والنسيان عنه، ولا يتحرَّجون من أن ينسبوهما إلى النبيّ صلوات الله عليه

).

أقول: لم يمنع أحدٌ أن يسهو أبو هريرة أو ينسى، ولكننا تصديقًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم وإيمانًا به وببركة دعائه نقول: إن أبا هريرة لم ينس شيئًا من المقالة التي أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لن ينسى منها شيئًا، وأنه فيما عداها من الحديث كان من أحفظ الناس له. ومن الناس من فهم أن خبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعدم النسيان يعمّ ما سمعه أبو هريرة منه في مجلسه ذلك وبعده، وقد مرَّ النظر في ذلك. والخير والفضل والكمال في ذلك كله عائد إلى الله ورسوله، فأما ما عدا الحديث فلم يقل أحدٌ إن أبا هريرة لا يسهو ولا ينسى.

ثم قال ص 181: (

فلِمَ لم يحفظ القرآن؟).

أقول: ومن أين لك أنه لم يحفظه؟ غاية الأمر أنه لم يُذْكَر فيمن جمعَ القرآنَ في العهد النبويّ، والذين ذُكِرُوا أفرادٌ قليلون ليسوا من كبار الصحابة. و‌

‌أبو هريرة من أئمة القراءات

، وهو فيها أشهر شيخ للأعرج ولأبي جعفر القارئ، وهما أشهر شيوخ نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أشهر القرَّاء السبعة، وبهذا عُلِم حفظه للقرآن وإتقانه. انظر ترجمته في «طبقات القراء» رقم (1574)

(1)

.

قال: (وكذلك لو كان أبو هريرة قد بلغ هذه الدرجة

وهي عدم السهو والنسيان لاشتهر

).

أقول: قد علمتَ أنّ المتحقِّق هو أنه لم ينس ما حدَّث به النبيّ صلى الله عليه وسلم في

(1)

لابن الجزري. وانظر «معرفة القراء الكبار» : (1/ 21 ــ 22) للذهبي.

ص: 280

مجلس خاصٍّ قد مرَّ بيانه

(1)

، وكان فيما عدا ذلك مِنْ أحفظهم، وهذا لا يَرِدُ عليه شيء مما ذكر أبو ريَّة.

قال ص 182: (ولكن الأمر قد جرى على غير ذلك

).

أقول: أعاد أشياء قد تقدم النظر فيها، ويأتي باقيها.

ثم قال: (حفظ الوعاءين. أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: حفظت عن رسول الله وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقُطِع هذا البلعوم. وهذا الحديث معارض بحديث

عن علي رضي الله عنه فقد سئل: هل عندكم كتاب؟ فقال: لا إلا كتاب الله

أو ما في هذه الصحيفة. وكذلك يعارضه ما رواه البخاري عن عبد العزيز بن رُفَيع قال: دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس، فقال له شداد: أَتَرَكَ النبيّ صلى الله عليه وسلم من شيء؟ فقال: ما ترك إلا ما بين الدفّتين، ولوكان هناك شيء يؤثر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أحد خواصه

).

[ص 147] أقول: المنفيّ في خَبَرَي عليّ وابن عباس هو كتاب مكتوب غير القرآن، ولهذا استثنى عليٌّ صحيفتَه. ولم يقصد أبو هريرة ولا فهم أحدٌ من كلامه أن عنده كتابين أو كتابًا واحدًا، وإنما قصد وفهم الناسُ عنه أنه حفظ ضَرْبين من الأحاديث: ضرب يتعلّق بالأحكام ونحوها مما لا يخاف هو ولا مثله من روايته. وضرب يتعلّق بالفتن وذمِّ بعض الناس، وكلُّ أحدٍ من الصحابة كان عنده من هذا وهذا، وكانوا يرغبون عن إظهار ما هو من الضرب الثاني، وقد ذكر أبو ريَّة حذيفةَ وعلمَه بالفتن، وكان ربما حدّث منه بالحرف بعد الحرف، فينكره عليه إخوانه كسلمان وغيره

(2)

.

(1)

(ص 274 ــ 278).

(2)

كما في «سنن أبي داود» (4659) وغيره.

ص: 281

وقال ص 184: (ومَنْ هو أبو هريرة؟ فلا هو من السابقين الأوّلين، ولا المهاجرين).

أقول: قدمت (ص 103)

(1)

القولَ بأنه أسلم في بَلدِه قبل الهجرة، وبهذا يكون من السابقين إلى الإسلام، ولم يثبت ما يخالف ذلك. فأما من قال: أسلم عام خيبر، فإنما أراد هجرته، وقد ثبت في خبر هجرته أنه قَدِم مسلمًا. فأما الهجرة فهو مهاجر حتمًا وإن لم يكن من قريش ولا من أهل مكة، وإنما أسلمت قبيلتُه بعد أن هاجر بمدة، فقد ثبت أنه وجد النبيّ صلى الله عليه وسلم بخيبر عقب الوقعة، وثبت من شعر كعب بن مالك قوله قبيل غزوة الطائف، وذلك بعد خيبر بمدة

(2)

:

قضينا مِن تهامةَ كلّ ريبٍ

وخيبرَ ثمّ أجْمَمْنا السيوفا

نخيِّرها ولو نطقَتْ لقالت

قواطعُهنَّ دوسًا أو ثقيفًا

قال: (ولا من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم).

أقول: بل هو منهم، فقد غزا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم غزواته بعد خيبر.

وعلق أبو ريَّة في الحاشية: (أثبت التاريخ أنه فرَّ يوم مؤتة، ولما عيَّروه بذلك لم يُحِرْ جوابًا).

أقول: لقي المسلمون عدوَّهم بمؤتة وكان عددهم أكثر من نيّف وثلاثين ضعفًا، فكان القتال، ثم انحاز خالد بن الوليد بالمسلمين ورجع بهم، فكان بعض الناس يصيح فيهم: يا فُرَّار، فيقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «بل هم الكُرَّار إن شاء الله

(1)

(ص 197 ــ 198).

(2)

أخرجه عبد الرزاق (11/ 263)، والبيهقي في «الدلائل»:(5/ 151)، وهو في «السيرة»:(ق 2/ 4/479) لابن هشام.

ص: 282

تعالى»

(1)

.

قال: (ولا

ولا من المفتين).

أقول: بل هو من المفتين بلا نزاع، غير أنه لم يكن من المكثرين

(2)

؛ لأنه كان يتوقَّى ويحبُّ أن يكفيه الفتوى غيره كما تقدم (ص 123)

(3)

. وفي «فتوح البلدان» (ص 92 - 93)

(4)

: أن عمر لما ولَّى قُدامة بن مظعون إمارة البحرين بعث معه أبا هريرة على القضاء والصلاة، ثم ولَّاه الإمارة أيضًا. فتَرْكُ عمر تولَية قدامة القضاء والصلاة مع أنه من السابقين وأهل بدر، وتوليته ذلك أبا هريرة= شهادةٌ قاطعة بأن أبا هريرة من علماء الصحابة

(5)

، وأنه أعلم من بعض السابقين البدريين.

قال ص 185: (ولا من القُرَّاء الذين حفظوا القرآن).

[ص 148] أقول: قد تقدم رد هذا آنفًا (ص 146)

(6)

.

قال: (ولا جاء في فضله حديث عن الرسول) وعلَّق عليه: (روى البخاري

(1)

أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» : (4/ 374) من مرسل عروة بن الزبير.

(2)

انظر «الإحكام» : (5/ 92) لابن حزم.

(3)

(ص 236 ــ 237).

(4)

[ص 112]. ذكره عن أبي مخنف والهيثم، وليس ذلك بحجة، ولكنه يستأنس به حيث لا مخالف له. [المؤلف].

(5)

أقول: روى الواقدي عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن زياد بن ميناء قال: كان ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد وجابر مع غيرهم من الصحابة، يفتون في المدينة ويحدّثون، من لدن توفي عثمان رضي الله عنه وعنهم إلى أن توفوا، وإلى هؤلاء الخمسة صارت الفتوى. انظر «سير النبلاء»:(2/ 607).

(6)

(ص 280).

ص: 283

وغيره

في فضل طائفة كبيرة من أجلاء الصحابة لم نر فيهم أبا هريرة).

أقول: نعم، لم يعقد البخاريُّ لذكر أبي هريرة بابًا في فضل الصحابة، لكن عنده في «كتاب العلم» أبواب تخصّ أبا هريرة، كـ «باب حفظ العلم» و «باب الحرص على العلم»

(1)

، وغير ذلك، وله باب في «صحيح مسلم»

(2)

في كتاب فضائل الصحابة، وكذا في السنن و «المستدرك»

(3)

وغيرها. وقد مضى أثناء الترجمة أشياء من فضائله ويأتي غيرها.

وقال ص 185: (تشيُّع أبي هريرة لبني أمية).

أقول: أسرف أبو ريَّة في هذا الفصل سبًّا وتحقيرًا وتُهَمًا فارغة، وبِحَسْبي أن أقول: قد ورد أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما بعث العلاء بن الحضرمي على البحرين أَصْحَبَه أبا هريرة وأوصاه به خيرًا

(4)

. ومن ثَمَّ أخذت حال أبي هريرة المالية تتحسَّن، ولم يتحقق لي متى رجع، وبعد وفاة العلاء بن الحضرمي استعمل عمرُ مكانه أبا هريرة

(5)

. وقَدِمَ أبو هريرة مرَّة على عمر بخمسمائة ألف لبيت المال، فأخبره فاستكثر ذلك ولم يكد يصدِّق. وقدم مرَّة ــ لا أدري هذه أم بعدها ــ بمال كثير لبيت المال، وقَدِمَ لنفسه بعشرة آلاف

(6)

. وثبت عن ابن سيرين أنّ عمر سأل أبا هريرة فأخبره، فأغلظ له عمر وقال: فمن أين لك؟

(1)

«صحيح البخاري» : (1/ 35، 31 ــ السلطانية). ولفظ الصحيح: «

الحرص على الحديث».

(2)

رقم (2491 ــ 2493).

(3)

انظر «جامع الترمذي» (3834 ــ 3841)، و «المستدرك»:(3/ 506 ــ 514).

(4)

يأتي تحقيقه فيما بعد. [المؤلف].

(5)

يأتي تحقيقه فيما بعد. [المؤلف].

(6)

أو عشرين ألفًا كما يأتي بعد. [المؤلف].

ص: 284

فقال: خيل نَتَجَت، وغلَّةُ رقيقٍ لي، وأعطية تتابعت عليَّ

(1)

. قال ابن سيرين: «فنظروا فوجدوه كما قال. فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليستعمله فأبى أن يعمل له، فقال له: تكره العمل وقد طلبه مَنْ كان خيرًا منك؟ طلبه يوسف عليه السلام. فقال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي وأنا أبو هريرة

» انظر «البداية» (113: 8)

(2)

. وابنُ سيرين من خيار أئمة التابعين، والسند إليه بغاية الصحة. قال ابن كثير:«وذكر غيره أنّ عمر غرَّمه» وسيأتي ذلك.

فمَنْ كان له في عهد عمر خيلٌ تَناتج ورقيق يغلّ، مع عطائه في بيت المال كغيره من الصحابة، ومع ما كان الأئمة يتعهّدون به الصحابة من الأموال زيادةً على المقرَّر كل سنة بحسب توفّر المال في بيت المال، أقول: من كانت هذه حاله كيف يسوغ أن يقال: إنه إنما تموَّل في عهد بني أمية؟

ويزعم أبو رية ــ من وحي شيطانه ــ أن بني أمية أقطعوا أبا هريرة وبنوا مسكنه بالعقيق وبذي الحُلَيفة، ويجعلها أبو ريَّة قصورًا وأراضي! وأعجب من ذلك: زعمه أنهم زوَّجوه ابنة غزوان. وينعى على أبي هريرة أنه [ص 149] كان ممن نصر عثمان (وتلك شَكاةٌ ظاهر عنك عارُها)

(3)

.

ويزعم أنه مال

(1)

وفي رواية في طبقات ابن سعد 4/ 2/59 وفتوح البلدان ص 93: «ولكن خيلاً تناتجت وسهامًا اجتمعت» يريد سهامه من المغانم؛ لأنه كان مع العلاء بن الحضرمي في فتوحه. [المؤلف].

(2)

(11/ 386 ــ 387).

(3)

عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي، وصدره:

*وعيّرها الواشون أني أُحبّها*

انظر «ديوان الهذليين» : (1/ 21)، و «مقاييس اللغة»:(3/ 472). ونسبه في «الصحاح» : (2/ 731) إلى كثيّر.

ص: 285

إلى معاوية، وهذه من وحي الشياطين، وتقوُّلات الرافضة والقصَّاصين، ولا نثبت لأبي هريرة صلة بمعاوية إلا أنه وفد إليه بعد استقرار الأمر له كما كان يَفِدُ إليه بنو هاشم وغيرهم. وينعى علىه استخلاف مروان له على إمرة المدينة، وتقدَّم (ص 108)

(1)

أن ذاك الاستخلاف لم يزد أبا هريرة إلا تواضعًا وانكسارًا وتهاونًا بالإمارة، فإن كان لذلك أثر فهو إحياؤه كثيرًا من السنة، كما تقدم.

وأحاديث أبي هريرة في فضائل أهل البيت معروفة، وكذلك محبَّته لهم وتوقيره، وشدّة إنكاره على بني أمية لما منعوا أن يُدفَن الحسن بن عليّ مع جَدّه صلى الله عليه وسلم، وقوله لمروان في ذلك:«والله ما أنت بوالٍ، وإن الوالي لغيرُك، فدعه، ولكنك تدخل فيما لا يعنيك، وإنما تريد بهذا إرضاء من هو غائب عنك» يعني معاوية. راجع «البداية» (108: 8)

(2)

. ومن المتواتر عنه: تعوُّذه بالله من عام الستين وإمارة الصبيان

(3)

، كان يعلن هذا ومعاوية حيّ، وذلك يعني موت معاوية وتأمّر ابنه يزيد، وقد كان ذلك عام الستين بعد موت أبي هريرة بمدَّة.

قال أبورية ص 188: (روى البيهقي عنه: أنه لما دخل دار عثمان وهو محصور استأذن في الكلام، ولما أُذن له قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم ستلقون بعدي فتنة واختلافًا، فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله

أو ما تأمرنا؟ فقال:

(1)

(ص 209).

(2)

(11/ 374).

(3)

أخرجه أحمد (8319، 8320)، والبزار:(16/ 249) وغيرهم بلفظ «رأس السبعين» . وانظر حاشية المسند. وأخرجه الطبراني في «الكبير» (400)، و «الأوسط» (1397) من طريق آخر بلفظ:«رأس الستين» .

ص: 286

عليكم بالأمين وأصحابه، وهو يشير إلى عثمان. وقد أورده أحمد بسند جيد).

أقول: الحديث في «المستدرك» (99: 3) وفيه: «عليكم بالأمير» وهو الظاهر، وفي سنده مقال لكنه ليس بمنكر. وقول أبي هريرة:«وهو يشير إلى عثمان» يريد أنه يفهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أشار بقوله: «الأمير» إلى عثمان. ولو أراد أبو هريرة ــ وقد أعاذه الله ــ أن يكذب لجاء بلفظ صريح مؤكّد مشدّد.

قال: (ولما نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة فقال: أصبت ووُفّقت، أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

، قال فأعجب ذلك عثمان وأمر لأبي هريرة بعشرة آلاف. وهذا الحديث من غرائبه وهو ينطق ولا ريب بأنه ابن ساعته).

أقول: عزاه أبو ريَّة إلى «البداية» (216: 7)

(1)

وهو هناك من رواية الواقدي، وهو متروك مرميّ بالكذب، عن [أبي بكر بن عبد الله بن محمد] بن أبي سبرة، وهو كذَّاب يضع الحديث.

[ص 150] قال: «ومن غرائبه كذلك ما رواه البيهقي قال: أُصبت بثلاث مصيبات

» ذكر قصة المِزْوَد مطوَّلة، وأسرف أبو ريَّة في التندُّر والاستهزاء، وعزا الخبر إلى «البداية» (117: 6)

(2)

وهو مرويّ من طرق في أسانيدها ضعف، واللفظ الذي ساقه أبو ريَّة من رواية يزيد بن أبي منصور الأزدي عن أبيه عن أبي هريرة. وأبو منصور الأزدي مجهول ولا يُدْرَى أدرك أبا هريرة أم لا؟ وفيه: أن المِزْود ذهب حين قُتل عثمان.

قال أبو ريَّة: (وهذا الحديث رواه عنه أحمد ولكن قال فيه

وعلقه في سقف البيت

).

(1)

(10/ 394 ــ 395). وهو في «تاريخ ابن عساكر» : (39/ 244).

(2)

(8/ 661 ــ 662).

ص: 287

أقول: أما هذه الرواية فرجالها ثقات

(1)

، ولفظه:«أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من تمر فجعلته في مِكْتَل، فعلَّقناه في سقف البيت، فلم نَزَلْ نأكل منه حتى كان آخره أصابه أهلُ الشام حيث أغاروا على المدينة» يعني مع بُسْر بن أرطاة، وذلك بعد قتل عثمان بمدة

(2)

، وهذه الرواية الأخيرة ليس فيها ما يُنكَر، والظاهر أن الإعطاء كان في أواخر حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقد جاءت أحاديثُ كثيرة بمثل هذا مِنْ بركة ما يدعو فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى متواتر قطعًا، حتى كان عند الصحابة كأنه من قبيل الأمور المعتادة من كثرة ما شاهدوه. ومَن يؤمن بقُدرة الله عزوجل وإجابته دعاءَ نبيِّه وخَرْق العادة له لا يستنكر ذلك. نعم يَتوقَّف عما يرويه الضعفاء والمجهولون؛ لأنّ من شأن القُصَّاص وأضرابهم أن يطوِّلوا القضايا التي من هذا القبيل، ويزيدوا فيها، ويغيروا في أسانيدها، والله المستعان.

قال أبو ريَّة ص 189: (ومما [زعم المفتري أن أبا هريرة] وضعه في معاوية: ما أخرجه الخطيب عنه: ناول النبيّ صلى الله عليه وسلم معاوية سهمًا فقال: خذ هذا السهم حتى تلقاني به في الجنة).

أقول: في سنده وضَّاح بن حسّان عن وزير بن عبد الله ــ ويقال ابن عبد الرحمن ــ الجزري عن غالب بن عبيد الله العقيلي. وهؤلاء الثلاثة كلهم هَلْكَى مُتَّهمون بالكذب، ورابعهم أبو ريَّة القائل: إن أبا هريرة كيتَ وكيتَ. والخبر أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات»

(3)

، وقد تفنَّن فيه الكذابون فرووه من حديث جابر، ومن حديث أنس، ومن حديث ابن عمر، وغير

(1)

«مسند أحمد» (8299).

(2)

انظر «البداية والنهاية» : (10/ 682). وكان ذلك في سنة أربعين من الهجرة.

(3)

(814).

ص: 288

ذلك. راجع «اللآلي المصنوعة» (219: 1)

(1)

.

قال: (وأخرج ابن عساكر وابن عدي والخطيب البغدادي عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله ائتمن على وحيه ثلاثة أنا وجبريل ومعاوية .. ).

[ص 151] أقول: وهذا أيضًا من أحاديث «الموضوعات»

(2)

، راجع «اللآلي المصنوعة» (216: 1 - 218)

(3)

، وقد تلاعب به الكذابون فرووه تارة عن واثلة، وتارة عن أنس، وتارة عن أبي هريرة، ورووا نحوه في أمانة معاوية من حديث عليّ، وابن عباس، وعُبادة بن الصامت، وجابر، وابن عمر، وعبد الله بن بُسر. فإن لزم مِن نِسْبة الخبرَين إلى أبي هريرة ثبوتهما عنه لزم ثبوتهما عمن ذُكِرَ معه من الصحابة، بل يلزم في جميع الأحاديث الضعيفة والموضوعة ثبوتها عمن نُسِبت إليهم من الصحابة. ومعنى هذا أنَّ كلّ فرد من أفراد الرواة معصوم عن الكذب والغلط إلا الصحابة، ولا ريب أنَّ في الرواة المغفَّل والكذَّاب والزنديق، ولعل أبا ريَّة أن يكون خيرًا من بعضهم فيكون معصومًا، فلماذا لا يستغني بهذه العصمة ويطلق أحكامه كيف يشاء، ويريح نفسه وغيره من طول البحث والتفتيش في الكتب؟

قال: (ونظر أبو هريرة إلى عائشة بنت طلحة

، فقال:

والله ما رأيت وجهًا أحسن منك إلا وجه معاوية على منبر رسول الله).

أقول: عزاه إلى «العقد الفريد»

(4)

، والحكاية فيه بلا سند، وحاول

(1)

(1/ 419).

(2)

(807).

(3)

(1/ 418 ــ 419).

(4)

(6/ 109 ــ لجنة التأليف).

ص: 289

صاحب «الأغاني»

(1)

إسنادَها على عادته فلم يجاوز بها المدائني، وبَيْن المدائني وأبي هريرة نحو قرن ونصف، وهؤلاء سَمَريُّون إذا ظفروا بالنكتة لم يهمّهم أَصِدْقًا كانت أم كَذِبًا، والعلمُ وراء ذلك.

قال: (ولقد بلغ من مناصرته لبني أمية أنه كان يحث الناس على ما يطالب به عمالهم من صدقات، ويحذرهم أن يَسُبُّوهم. قال العجاج: قال لي أبو هريرة: ممن أنت؟ قلت: من أهل العراق. قال: يوشك أن يأتيك بقعان الشام فيأخذوا صدقتك، فإذا أتوك فتلقّهم بها، فإذا دخلوها فكن في أقاصيها وخلِّ عنهم وعنها، وإياك إن تَسُبَّهم فإنك إن سَبَبْتَهم ذهب أجرك وأخذوا صدقتك، وإن صبرت جاءت في ميزانك يوم القيامة).

أقول: عزاه إلى «الشعر والشعراء»

(2)

لابن قتيبة، والحكاية فيه بلا سند، فإنْ صحَّت فإنما هي نصيحة لا تدلّ إلا على النُّصْح لكلّ مسلم، والإسلام يقضي بوجوب أداء الصدقة إلى عُمّال السلطان إذا طلبها وبحُرْمة سبِّهم إذا أخذوها. ولو منع العَجاجُ الصدقةَ لأُهين وأُخِذت منه قهرًا، ولو سبّ قابضيها لأثم وضرَّ نفسه ولم يضرَّهم شيئًا. ويكاد أبو ريَّة ينقم على أبي هريرة قوله: لا إله إلا الله، ويبني على [ص 152] ذلك تهمة. قاتل الله اللَّجاج!

وقال ص 190: (وَضْعُه [بزعم المفتري] أحاديث على عليّ. قال أبو جعفر الإسكافي: إن معاوية حمل قومًا من الصحابة والتابعين على رواية أخبار قبيحة على

(1)

(11/ 197).

(2)

(2/ 591). وساق ابن قتيبة سنده في «عيون الأخبار» : (1/ 7) قال: «حدثنا الرياشي، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا القاسم بن الفضل، قال: حدثنا ابن أخت العجاج، عن العجاج

به.

قلت: الإسناد صحيح إلى ابن أخت العجاج، ولم أجد ترجمته.

ص: 290

عليّ تقتضي الطعنَ فيه والبراءةَ منه، وجعل لهم في ذلك جُعْلًا، فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عُروة بن الزبير).

أقول: قد تقدم النظر في ابن أبي

(1)

الحديد والإسكافي (ص 109)

(2)

، وهذه التهمة باطلة قطعًا، فأبو هريرة والمغيرة وعمرو ومعاوية صحابيون، وكلُّهم عند أهل السنة عدول، ثم كانت الدولة لبني أمية، فلو كان هؤلاء يستحلّون الكذبَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في عَيب عليٍّ لامتلأ «الصحيحان» فضلاً عن غيرهما بِعَيبه وذمِّه وشَتْمه، فما بالنا لا نجد عن هؤلاء حديثًا صحيحًا ظاهرًا في عيب عليٍّ ولا في فضل معاوية؟ راجع (ص 64)

(3)

.

وعروةُ من كبار التابعين الثقات عند أهل السنة، لا نجد عنه خبرًا صحيحًا في عيب عليّ. فأما الأكاذيب الموضوعات فلا دخل لها في الحساب، على أنك تجدها تُنْسَب إلى هؤلاء وغيرهم في إطراء عليّ أكثر جدًّا منها في الغضّ منه.

قال: (وروى الأعمش قال: لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه ثم ضرب صلعته مرارًا وقال: يا أهل العراق! أتزعمون أني أكذب على الله وعلى رسوله وأحرق نفسي بالنار؟ والله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن لكل نبي حَرَمًا، وإن حرمي المدينة ما بين عَيْر إلى ثَوْر، فمن أحدث فيها حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وأشهد بالله أن عليًّا أحدث فيها» فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة).

(1)

«أبي» سقطت من (ط).

(2)

(ص 210 ــ 211).

(3)

(ص 125 ــ 126).

ص: 291

أقول: هذا من حكاية ابن أبي الحديد (1/ 359)

(1)

عن الإسكافي، وراجع (ص 109)

(2)

ولا ندري سنده إلى الأعمش، وقد تواتر عن الأعمش رواية الحديث بنحو ما هنا: «عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خَطَبَنَا عليّ

» فذكر ما في صحيفته وذكر الحديث

(3)

، فهو ثابت من رواية عليّ نفسِه. ولا نعرف أنَّ أبا هريرة قَدِم مع معاوية، ولا أنَّ معاوية ولَّاه المدينة لا في ذلك الوقت ولا بعده، إنما استخلفه مروانُ على إمرتها بعد ذلك بزمان.

قال ص 191: (وعلى أن الحقّ لا يعدم أنصارًا

فقد روى سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمر بن عبد الغفار: أن أبا هريرة لمَّا قدم الكوفة مع معاوية

فجاء شابّ من أهل الكوفة [ص 153]

فقال: يا أبا هريرة أنشدك الله أَسَمِعْتَ رسول الله يقول لعلي بن أبي طالب: «اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه؟ » فقال: اللهم نعم. فقال: أشهد بالله لقد واليتَ عدوَّه وعاديتَ وليَّه. ثم قام عنه).

أقول: وهذا أيضًا عن ابن أبي الحديد عن الإسكافي

(4)

، ولا ندري ما سنده إلى الثوري؟ وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر من شيوخ الثوري

(5)

، فمَنْ عمر بن عبد الغفار؟ إنما المعروف عَمْرو بن عبد الغفار الفُقَيمي، صغير لم يدرك عبد الرحمن فكيف يروي عنه عبد الرحمن؟ مع أن عَمْرًا هالك مُتَّهَم بالوضع في فضائل لأهل البيت ومثالب لغيرهم

(6)

، وبينه

(1)

(4/ 67).

(2)

(ص 210 ــ 211).

(3)

أخرجه البخاري (3172)، ومسلم (1370).

(4)

«شرح النهج» : (4/ 68).

(5)

ترجمته في «تهذيب الكمال» : (4/ 457).

(6)

ترجمته في «الكامل» : (5/ 146 ــ 148)، و «لسان الميزان»:(6/ 215 ــ 217).

ص: 292

وبين الواقعة رجلان أو ثلاثة فمَنْ هم؟ يظهر أن هذا تركيب من بعض الجَهَلة بالرواة وتاريخهم، ولهذا ترى الإسكافي وأضرابه يُغَطُّون على جَهَلة مَن يأخذون عنه مفترياتهم بترك الإسناد، ويكتفون بالتناوش مِن مكان بعيد. ثم لو صحّ الخبر لكان فيه براءة لأبي هريرة (وهو بريء على كلِّ حال) فإنه لم يستجز كتمان الحديث في فضل عليّ رضي الله عنه فكيف يتوهّم عليه ما هو أشدّ؟

أما الموالاة فأيُّ موالاة كانت منه؟ سلَّم الحسنُ بن عليّ الأمرَ لمعاوية، وبايعه هو وإخوته وبنو عمه وسائر بني هاشم والمسلمون كلّهم وأبو هريرة.

ثم ذكر أبورية شيئًا من فضائل عليِّ رضي الله عنه، ولا نزاع في ذلك، وقد جاء عن أبي هريرة أحاديثُ كثيرة في فضائل أهل البيت تراها في «خصائص عليّ»

(1)

و «المستدرك»

(2)

وغيرهما، ولو لم يكن له إلا قصَّته عند وفاة الحسن بن علي؛ كان الحسن قد استأذن عائشة أن يُدْفَن مع جدِّه النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأذنت، فلما مات قام مروان ومن معه من بني أمية في منع ذلك، فثار أبو هريرة وجعل يقول: أتنفسون على ابن نبيّكم بتربة تدفنونه فيها، وقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«من أحبَّهما فقد أحبَّني ومن أبغضهما فقد أبغضني» (انظر «المستدرك» 171: 3)

(3)

. وجرى له يومئذ مع مروان ما جرى مما تقدم بعضه (ص 149)

(4)

وباقيه في «البداية» (108: 8)

(5)

.

(1)

ضمن «السنن الكبرى» : (7/ 407 ــ 483) للنسائي.

(2)

(3/ 107 ــ 146).

(3)

وقع في (ط): (71) خطأ.

(4)

(ص 286).

(5)

(11/ 374).

ص: 293

ثم قال أبورية ص 192: (سيرته وولايته: استعمل عمر أبا هريرة على البحرين سنة 21 ثم بلغه عنه أشياء تخلّ بأمانة الوالي العادل فعزله

واستدعاه وقال له:

).

أقول: قول أبي ريَّة (بلغه عنه الخ) من تظنِّي أبي ريَّة، وستعلم بطلانه. وأما ما ذكره بعد ذلك فلم يعزه إلى كتاب، وسأذكر ما أثبته المتحرُّون من أهل العلم، وأقدّم قبل ذلك مقدمة:

[ص 154] كان عمر رضي الله عنه يحبّ للصحابة ما يحبّ لنفسه، فكان يكره لأحدهم أن يدخل عليه مالٌ فيه رائحة شبهة، وله في ذلك أخبار معروفة في سيرته؛ كان معاذ بن جبل من خيار أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يأتي معاذ يوم القيامة أمام العلماء بِرَتْوة»

(1)

. وقال أيضًا: «وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل»

(2)

. وكان معاذ سَمْحًا كريمًا،

(1)

أخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1833)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة»:(4/ 187) من حديث عمر رضي الله عنه، وأخرجه الطبراني في «الأوسط» و «الصغير»:(1/ 335) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. قال الهيثمي: «وفيه مندل بن علي وهو ضعيف وقد وُثق» «مجمع الزوائد» : (9/ 243). وجاء من مرسل محمد بن كعب القرظي أخرجه الطبراني في «الكبير» : (20/ 30)، قال الهيثمي:«مرسل، وفيه محمد بن عبد الله بن أزهر الأنصاري، ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح» . «مجمع الزوائد» : (9/ 314).

(2)

أخرجه أحمد (13990)، والترمذي (3790)، وابن ماجه (154)، والنسائي في «الكبرى» (8242)، وابن حبان (7131) وغيرهم من طريق الحذاء عن أبي قلابة عن أنسٍ بن مالك رضي الله عنه. قال الترمذي:«حسن صحيح» . وصححه ابن حبان والحاكم والضياء. وأُعلّ بالإرسال، وأنه لا يصح موصولاً إلا ذكر أبي عبيدة. رجحه الدارقطني في «العلل» (12/ 248) والبيهقي والخطيب وغيرهم. انظر «المقاصد الحسنة» (ص 47 ــ 48).

ص: 294

فرَكِبَتْه ديون، فقسم النبيّ صلى الله عليه وسلم مالَه بين غرمائه، ثم بعثه على اليمن ليجبُرَه، فعاد بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه مال لنفسه، فلقيه عمر فأشار عليه أن يدفع المال إلى أبي بكر ليجعله في بيت المال، فأبى وقال: إنما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجبرني. ثم رأى رؤيا فسمحت نفسُه، فذهب إلى أبي بكر وبذل له المال، فقال أبو بكر: قد وهبته لك. فقال عمر: الآن حلَّ وطاب. يعني أنَّ الشبهة التي كانت فيه هي احتمال أن يكون فيه حق لبيت المال، فلما طيَّبه له أبو بكر ــ وهو الإمام ــ صار كأنه أعطاه من بيت المال، لاعتقاده أنه مستحق، فبذلك حلَّ وطاب. (انظر ترجمة معاذ من «الاستيعاب»

(1)

و «المستدرك» 272: 3).

فلما اسْتُخْلِف عمر جرى على احتياطه، فكان يُقاسم عمالَه أموالَهم، فيجعل ما يأخذه منهم في بيت المال، قال ابن سيرين:«فكان يأخذ منهم ثم يعطيهم أفضل من ذلك» كما سيأتي، وكان عمر يتخوَّف عليهم أن يكون الناس راعوهم في تجارتهم ومكاسبهم لأجل الإمارة، فكان يأخذ منهم ما يأخذ ويضعه في بيت المال لتبرأ ذممُهم، ثم يعطيهم بعد ذلك من بيت المال بحسب ما يرى من استحقاقهم، فيكون حِلًّا لهم بلا شبهة. وقد قاسَم مِن خيارهم سعد بن أبي وقاص وغيره، كما ذكره ابن سعد

(2)

وغيره.

وكان عمر رضي الله عنه للصحابة بمنزلة الوالد، يعطف ويشفق ويؤدِّب ويشدّد، وكان الصحابة رضي الله عنهم قد عرفوا له ذلك، وقد تناول بدِرَّته بعضَ أكابرهم كسعد بن أبي وقاص، وأُبيِّ بن كعب، ولم يزده ذلك عندهم

(1)

(3/ 1404 ــ 1405).

(2)

«الطبقات الكبرى» : (3/ 138).

ص: 295

إلا حُبًّا (انظر «سنن الدارمي»

(1)

: باب مَن كَرِه الشهرة والمعرفة. و «طبقات ابن سعد»

(2)

: ترجمة عمر).

فأهلُ العلم والإيمان ينظرون إلى ما جرى من ذلك نظرةَ غبطةٍ وإكبارٍ لعمر ولمن أدَّبه عمر. وأهل الأهواء ينظرون نظرةَ طَعْنٍ على أحد الفريقين كما صنعه أبو ريَّة هنا، وكما يصنعه الرافضة في الطعن على عمر، أو على الفريقين معًا كما ذكره أبو ريَّة ص 52 في ذكر عمر:(قلَّ أن يكون في الصحابة من سلم مِن لسانه أو يده).

أما أبو هريرة فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه مع العلاء بن الحضرميّ إلى البحرين وأوصاه به خيرًا [ص 155] فاختار أن يكون مؤذِّنًا، كما في «الإصابة»

(3)

و «البداية»

(4)

وغيرهما. ثم رجع العلاء في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم كما في «فتوح البلدان» (ص 92) ورجع معه أبو هريرة

(5)

، ثم بعث عمر سنة 20 أو نحوها قُدامةَ بن مظعون على إمارة البحرين وبعث معه أبا هريرة على الصلاة والقضاء، ثم جرت لقُدامة قضية معروفة

(6)

، فعَزَله عمر وولَّى أبا هريرة الإمارة أيضًا، ثم قَدِم أبو هريرة بمالٍ لبيتِ المال ومالٍ له، قال ابن كثير في «البداية» (8: 113)

(7)

: «قال عبد الرزّاق: حدثنا مَعْمر عن أيوب

(1)

(1/ 446 وما بعدها) وقصته مع أبيّ رقم (540).

(2)

(3/ 245 وما بعدها).

(3)

(7/ 439).

(4)

(11/ 386). والخبر عند ابن سعد في «الطبقات» : (5/ 241).

(5)

يأتي تحقيقه فيما بعد. [المؤلف]. وسبقت الإحالة «فتوح البلدان» (ص 112).

(6)

وهي قضية شربه الخمر متأوّلًا.

(7)

(11/ 386 ــ 387) وهي في «تاريخ دمشق» : (67/ 370).

ص: 296

عن ابن سيرين: أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقَدِم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرتَ بهذه الأموال

(1)

أيْ عدوَّ الله وعدوَّ كتابه؟ فقال أبو هريرة: لستُ بعدوِّ الله ولا عدوّ كتابه، ولكن عدوّ مَن عاداهما. فقال: فمِنْ أين هي لك؟ قال: خَيْلٌ نتجَتْ، وغلَّة رقيقٍ لي، وأعْطِيَة تتابعت عَلَيَّ، فنظروا، فوجدوه كما قال. فلما كان بعد ذلك دعاه ليستعمله، فأبى أن يعمل له، فقال له: تكره العمل وقد طلبه من كان خيرًا منك، طلبه يوسف عليه السلام؟ فقال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة ابن أميمة، وأخشى ثلاثًا واثنتين. قال عمر: فهلّا قلت: خمسة (؟ ) قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، أو يُضرب ظهري، ويُنتزع مالي، ويُشتم عرضي». والسند بغاية الصحة.

وفي «فتوح البلدان» (ص 93)

(2)

من طريق يزيد بن إبراهيم التستري عن ابن سيرين عن أبي هريرة: أنه لما قَدِم من البحرين

فذكر أول القصة نحوه، وفيه:«فقبضها منه» . والسند صحيح أيضًا. وأخرجه أيضًا من طريق أبي هلال الراسبي عن ابن سيرين عن أبي هريرة، فذكر نحوه إلا أنه وقع فيه:«اثنا عشر ألفًا» والصواب الأول؛ لأن أبا هلال في حفظه شيء. وفيه: «فلما صليت الغداة قلت: اللهم اغفر لعمر. قال: فكان يأخذ منهم ويعطيهم أفضلَ من ذلك» .

وفي «تاريخ الإسلام» للذهبي (338: 2)

(3)

: «همام بن يحيى حدثنا

(1)

في رواية في طبقات ابن سعد 4/ 2/60: «أَسَرَقْتَ مال الله» وذكرها أبو ريَّة بلفظ: «سرقت مال الله» . [المؤلف].

(2)

(ص 113).

(3)

(2/ 566 ــ ط بشار). والخبر في «الطبقات» : (5/ 252 ــ 253) لابن سعد. وفيه زيادة: «قال: أخذتَ شيئًا بغير حقه؟ قال: لا» .

ص: 297

إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة: أن عمر قال لأبي هريرة: كيف وجدت الإمارة؟ قال: بعثتني وأنا كاره، ونزعتني وقد أحببتها. وأتاه بأربعمائة ألف من البحرين، فقال: أظلمْتَ أحدًا؟ قال: لا. قال: فما جئت به لنفسك؟ قال: عشرين ألفًا. قال: من أين أصبتها؟ قال: كنت أَتَّجِر. قال: انظر رأس مالك ورزقك فخذه واجعل الآخر في بيت المال».

فكأنه قَدِم لنفسه بعشرين ألفًا، فقاسمه عمر كما كان يقاسم سائر عُمَّاله، فذكر ابن سيرين عشرة الآلاف المأخوذة لبيت المال.

[ص 156] فقد تحقق بما قدمنا من الروايات الصحيحة أن المال الذي جاء به أبو هريرة لنفسه من البحرين كان من خيله ورقيقه وأعطيته، وأَخْذُ عمر له أو لبعضه لا يدلّ إلّا على ما قدَّمْنَا من الاحتياط، ثم يعطيهم خيرًا منه. ومما يوضِّح براءة أبي هريرة في الواقع وعند عمر: إظهاره المال، وعزم عمر على توليته فيما بعد، وامتناع أبي هريرة من ذلك.

ثم قال أبو ريَّة ص 193: (وفاته. مات أبو هريرة سنة 57 أو سنة 58).

أقول: أو سنة 59 كما في «التهذيب»

(1)

وغيره، وهو قول الواقدي وابن سعد

(2)

.

قال: (عن ثمانين سنة).

أقول: المعروف «عن ثمانٍ وسبعين سنة» .

(1)

(12/ 266).

(2)

انظر «الطبقات» : (5/ 257).

ص: 298

قال: (وصلَّى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان يومئذ أميرًا على المدينة تكريمًا له).

أقول: هذا رواه الواقدي

(1)

بسند فيه نظر، ولكنها السنة التي كانوا يعملون بها: أن يكون الأمير هو الذي يصلِّي على الموتى بدون تفريق.

قال: (ولما كتب الوليد إلى عمه

أرسل

ادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم

وهكذا يترادف رفدهم له حتى بعد وفاته).

أقول: هذا رواه الواقدي

(2)

بسندٍ فيه نظر، وفيه:«فإنه كان ممن نصر عثمان وكان معه في الدار» . وإنما حذف أبو ريَّة هذا ليوهم غيره.

ثم ذكر أبو ريَّة كلمات لصاحب «المنار» قال في أبي هريرة: (

فأكثر أحاديثه لم يسمعها من النبيّ صلى الله عليه وسلم وإنما سمعها من الصحابة والتابعين).

أقول: فيه مجازفتان:

الأولى: زَعَم أنّ أكثر أحاديثه لم يسمعها من النبيّ صلى الله عليه وسلم. ونحن إذا

(3)

نظرنا إلى أحاديثه التي رواها عن غيره من الصحابة وجدناها يسيرة، ثم إذا نظرنا في أحاديثه التي يرويها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأسًا ولا يصرِّح بالسماع منه، قلّما نجد فيها ما يُعْلَم مِن مَتْنه أنه كان في المُدَّة التي لم يدركها أبو هريرة، مع أننا نجد عن غيره أحاديث كثيرة تتعلق بتلك المدة، فهذا مع ما تقدم (ص 106 و 118 - 119)

(4)

وغيرها، وما يأتي بعدُ من شهادة الصحابة له

(1)

انظر «الطبقات» : (5/ 257) لابن سعد.

(2)

انظر المصدر السابق.

(3)

(ط): «إذ» .

(4)

(ص 204 ــ 205 و 227 ــ 230).

ص: 299

يقضي بعكس الدعوى المذكورة.

[ص 157] المجازفة الثانية: زَعَم أنّ بعض أحاديثه سمعها من التابعين، إن أريد أحاديثه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإننا لا نعرف له حديثًا كذلك، ورواية الصحابي الذي سمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم كأبي هريرة عن تابعيّ عن صحابيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بغاية القِلّة، وإنما ذكروا من هذا الضرب حديثًا لسهل بن سعد وآخر للسائب بن يزيد، وقد تُوُفِّي النبيُّ صلى الله عليه وسلم وسهل ابن خمس عشرة سنة، والسائب ابن سبع سنين، وذكروا أن الحافظ العراقي تَتَبَّع ما يدخل في هذا الضرب فجمع عشرين حديثًا

(1)

، لعل منها ما لا يصح، وباقيها من أحاديث أصاغر الصحابة كالسائب.

قال: (وقد ثبت أنه كان يسمع من كعب الأحبار).

أقول: أيَّ شيء سمع منه؟ إنما سمع منه أشياء يحكيها عن صحف أهل الكتاب، وذلك فنّ كعب.

قال: (وأكثر أحاديثه عنعنة).

أقول: أما عنعنته فقد قدمنا (ص 114 - 117)

(2)

أنها تكون على احتمالين: إمّا أن يكون سمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإما عن صحابي آخر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. فأما الاحتمال الثالث: أن يكون إنما سمع من تابعي ــ كعب أو غيره ــ ومع ذلك رواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم = فهذا من أَبْطَل الباطل قطعًا، وراجع ما تقدم

(1)

ذكرها العراقي في «التقييد والإيضاح» : (1/ 392 ــ 406 ــ البشائر). وجمع فيها الخطيب البغدادي رسالة، ولخصها مع ترتيبها الحافظ ابن حجر في جزء سماه «نزهة السامعين في رواية الصحابة عن التابعين» مطبوع.

(2)

(ص 219 ــ 227).

ص: 300

(ص 73 - 75 و 82 و 89 و 94 و 99 و 109 - 110)

(1)

.

ولا أدري أين كان أهل العلم من الصحابة والتابعين وأتباعهم وهَلُمَّ جرًّا عن هذا الاحتمال حتى يُثَار في القرن الرابع عشر؟ بل أين كان وعد الله تبارك وتعالى بحفظ دينه وشريعته، فلم ينبّههم لهذا الاحتمال طوال تلك القرون؟ بل أين كان الشيطان عن هذا الاحتمال، فلم يوسْوِس به لأحد منهم؟ كلَّا، كانوا أعلمَ وأتقى من أن يطمع الشيطانُ أن ينصاعوا لوسوسةٍ مثل هذه. ومن تدبَّر ما تقدَّم (ص 114 - 117)

(2)

عَلِم أن هذا الاحتمال الثالث معناه اتهام الصحابيّ بالكذب، فإذا كانت الأدلة تبرِّئ أبا هريرة ونظراءه من الكذب فإنها تبرئهم من هذا.

قال: (على أنه صرح بالسماع في حديث: خلق الله التربة يوم السبت، وقد جزموا بأن هذا الحديث أخذه عن كعب الأحبار).

أقول: قد تقدّم النظرُ في هذا الحديث (ص 135 ــ 139)

(3)

بما يقتلع الشبهةَ من أصلها، ولله الحمد.

[ص 158] قال ص 194: (وقال: إنه يكثر في أحاديثه الرواية بالمعنى).

أقول: هذه مجازفة، وأبو هريرة موصوف بالحفظ كما مرَّ ويأتي.

قال: (وقال: إنه انفرد بأحاديث كثيرة

).

أقول: قد تتبَّع أبو ريَّة عامّة ذلك، وتقدم النظر في بعضها ويأتي الباقي.

(1)

(ص 143 ــ 150 و 161 ــ 163 و 173 ــ 175 و 183 ــ 185 و 192 ــ 193 و 209 ــ 213).

(2)

(ص 119 ــ 127).

(3)

(ص 260 ــ 269).

ص: 301

قال ص 95: (وقال وهو يبين أن بَطَلَي الإسرائيليات

هما كعب الأحبار ووهب بن منبه: وما يدرينا أن كل [تلك] الروايات ــ أو الموقوفة منها ــ ترجع إليهما

).

أقول: كلمة (تلك) ثابتة في مصدر أبي رية، والكلام هناك في رواياتٍ جاءت في قضية خاصة، فأهمل أبو ريَّة بيان ذلك وأسقط كلمة «تلك» ؛ ليُفْهِمك أنّ صاحب «المنار» يجيز أن تكون المرويّات الإسلامية كلها راجعة إلى كعب ووهب.

وأعاد ص 196 - 197 بعضَ دعاويه ومزاعمه، وقد تقدَّم ويأتي ما فيه كفاية.

ثم قال ص 198: (أمثلة مما رواه أبو هريرة: أخرج البخاري ومسلم عنه قال: أُرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، فلما جاءه صكّه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت. فردّ الله عليه عينه

(1)

، وقال: «ارجع فقل له يضع يده على متن ثور، فله بكلّ ما غطَّتْ يدُه بكل شعرة سنة. قال: أي ربّ ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. فسأل

(2)

الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الكثيب الأحمر. وفي رواية لمسلم. قال: فلطم موسى عين مَلَك الموت ففقأها).

أقول: القصة على ما ذكر هنا من كلام أبي هريرة. وإنما الذي من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله: «فلو كنت ثَمَّ

الخ» وليس فيه ما يُستشكل. فأما القصة فقد أجاب عنها أهل العلم، وسألخص ذلك.

(1)

في كتاب أبي ريَّة «عينيه» . [المؤلف].

(2)

فيه «فاسال» . [المؤلف].

ص: 302

ثبتَ بالكتاب والسنَّة أنّ الملائكة قد يتمثَّلون في صُوَر الرجال، وقد يراهم كذلك بعضُ الأنبياء فيظنهم من بني آدم، كما في قِصّتهم مع إبراهيم ومع لوط عليهما السلام ــ اقرأ من سورة هود الآيات 69 - 80، وقال الله تعالى في مريم عليها السلام:{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 17 - 18]. وفي السُّنة أشياء من ذلك، وأشهرها ما في حديث السؤال عن الإيمان والإسلام والإحسان. [ص 159] فمن كان جاحدًا لهذا كله أو مرتابًا فيه فليس كلامنا معه، ومن كان مصدِّقًا علم أنه لا مانع أن يتمثّل مَلَك الموت رجلًا ويأتي إلى موسى فلا يعرفه موسى.

الجسد المادي الذي يتمثّل به الملك ليس جسده الحقيقي، وليس مِن لازم تمثُّله فيه أن يخرج الملك عن مَلَكيته، ولا أن يخرج ذاك الجسم المادي عن مادِّيته، ولا أن تكون حقيقة الملك إلى ذاك الجسم كنسبة أرواح الناس إلى أجسامهم، فعلى هذا لو عرض ضربٌ أو طعن أو قطع لذاك الجسم، لم يلزم أن يتألم بها المَلَك، ولا أن تؤثِّر في جسمه الحقيقي. ما المانع أن تقتضي حكمة الله عز وجل أن يتمثَّل ملك الموت بصورة رجل ويأمره الله أن يدخل على موسى بغتةً ويقول له مثلًا: سأقبض روحك. وينظر ماذا يصنع؟ لتظهر رغبة موسى في الحياة وكراهيته للموت، فيكون في قَصِّ ذلك عبرة لمن بعده.

فعلى هذا فإن موسى لما رأى رجلًا لا يعرفه دخل بغتةً وقال ما قال، حمله حبُّ الحياة على الاستعجال بدفعه، ولولا شدّة حبِّ الحياة لتأنَّى وقال: مَن أنت وما شأنك؟ ونحو ذلك.

ووقوع الصّكَّة وتأثيرها كان على ذاك الجسد العارض، ولم ينل الملك بأس. فأما قوله في القصة:«فردّ الله عليه عينه» فحاصله أن الله تعالى أعاد

ص: 303