الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك وعُلِم حُكمه مِمَّا مرَّ، وأما الترامي بالكفر فلم يثبت، بل الثابت خلافه. وما ذَكَر أنه رُوي عن عمَّار وابن مسعود لم يثبت، وعلى فرض أنه ثبت عن بعضهم كلمة يظهر منها ذاك المعنى، فهي فلتة لسان عند ثورة غضب، لا يجوز أخذها على ظاهرها لشذوذها ونفي جمهور الصحابة لما يوهمه
(1)
ظاهرها، فكيف وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تبشير عثمان بالشهادة والجنة؟
ثم قال ص 326: (الذين رووا أخبار هذه الفتن هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء، فما ينبغي أن نصدقهم حين يروون ما يروقنا، وأن نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا
…
وما ينبغي كذلك أن نصدق كل ما يُرْوَى أو نكذب كل ما يُرْوَى، وإنما الرواة أنفسهم ناس من الناس يجوز عليهم الخطأ والصواب، ويجوز عليهم الصدق والكذب، والقدماء أنفسهم قد عرفوا ذلك وتهيئوا له ووضعوا قواعد
…
فليس علينا بأس من أن نسلك الطريق التي سلكوها، وأن نضيفَ إلى القواعد التي عرفوها ما عرف المحدّثون من القواعد الجديدة
…
).
أقول: الرواة كما وصف، ولكن لا يجهل عاقل أن أحوالهم مختلفة: فمنهم المغفَّل المتساهل الذي يبني على التوهُّم فيكثر غلطُه، ومنهم الضابط المتقن المتثبِّت الذي يندر جدًّا أن يخطئ، وليس كلّ ما يصلح مستندًا للتوقف عن خبر الأول أو ردّه يصلح لمثل ذلك في خبر الثاني. فأما الصدق وتعمّد الكذب ولا سيما في الحديث النبوي فالأمر فيهما أعظم، و
للكذب دواعٍ وموانع، والناس متفاوتون
جدًّا في الانقياد للدواعي أو الموانع، فإني أعرف من الأغنياء الوجهاء من يساوم بالسلعة الخفيفة، فيقول له الدكَّاني: ثمنها ثلاثة قروش، فيقول كاذبًا: إن صاحب ذاك الدكَّان يبيعها بقرشين؛ يكذب هذه الكذبة طمعًا في أن يغرّ الدكَّانيَّ فيعطيه إياها بقرشين، مع علمه
(1)
(ط): «يزعمه» والظاهر أنه تحريف عما أثبتّ.
أن كذبه قد ينكشف عن قُرب، بل إذا نجح فأخذها بقرشين، قد يذهب فيخبر بالقصة متمدِّحًا بكذبه. وأعْرِفُ من المُقلّين من لا تسمح له نفسه بمثل هذا الكذب ولو ظنَّ أنه يتحصَّل به على مقدار كبير. فأما الحديث النبوي فالأمر فيه أشدّ، والمتديّنون من الكذب فيه أبعد وأبعد.
فإن قيل: قد ذكر أهلُ الحديث أنّ جماعةً صالحين كانوا يكذبون في الحديث عمدًا في المواعظ ونحوها [ص 207] وذكروا في الهيثم بن عدي ــ وهو ممن يكذبون ــ أنه كان يقوم عامة الليل يصلي، فإذا أصبح جلس يكذب.
قلت: أما صالحٌ يتعمَّد الكذب فلا يكون إلا شديد الجهل بالدين، ومثل هذا نادر لا يسوغ أن يُقاس به من عُرِف بالدين والعلم والصدق، ولو ساغ هذا لساغ أن يتَّهم كلُّ إنسان بكلِّ نقيصةٍ عُرفت لغيره، ولو عُرف بأنه من أبعد الناس عنها.
فأما الهيثم بن عدي؛ فتلك الحكاية إنما حكاها عباس الدّوري قال: «حدثنا بعضُ أصحابنا قال: قالت جاريةُ الهيثم بن عدي: كان مولاي
…
»
(1)
. والجارية لا يُعرَف حالها، والمُخْبِرُ عنها لا يُدرى مَن هو وما حاله، وإنما ذكروا هذه الحكاية على أنها نادرة مستطرفة؛ لأن مثل هذا نادر كما مرَّ، وإنما استندوا في تكذيب الهيثم إلى دلائل ثابتة.
هذا وعلماء السنة لا يستندون في التصديق والتكذيب إلى أنَّ ذاك يروقهم وهذا لا يعجبهم، ولكنهم ينظرون إلى الرواة؛ فمَن كان من أهل الصدق والأمانة والثقة لا يكذِّبونه، غير أنهم إذا قام الدليل على خطئه
(1)
انظر «تاريخ بغداد» : (14/ 53)، و «السير»:(10/ 104).
خطَّأوه، سواء كان ذلك فيما يسوؤهم أم فيما يعجبهم. وأما مَن كان كذَّابًا أو متَّهمًا أو مغفَّلًا أو مجهولًا أو نحو ذلك فإنهم لا يحتجّون بروايته.
ومن هؤلاء جماعة كثيرة
(1)
قد رووا عنهم في كتب التفسير، وكثير من كتب الحديث والسِّيَر والمناقب والفضائل والتاريخ والأدب، وليست روايتهم عنهم تصديقًا لهم وإنما هي على سبيل التقييد والاعتبار، فإذا جاء دور النقد جَرَوا على ما عرفوه، فما ثبت مما
(2)
رواه هؤلاء برواية غيرهم من أهل الصدق قبلوه، وما لم يثبت فإنْ كان مما يقرُبُ وقوعه لم يروا بذكره بأسًا وإن لم يكن حجة، وإن كان مما يُسْتَبعْد أنكروه، فإن اشتدَّ البُعْد كذَّبوه. وهذا التفصيل هو الحقّ المعقول، ومعلوم أنّ الكذوب قد يصدُق، فإذا صدَّقناه حيث عرفنا صدقه واستأنسنا بخبره حيث يقرُب صدقُه لم يكن علينا ــ بل لم يكن لنا ــ أن نصدّقه حيث لم يتبيَّنْ لنا صدقه، فكيف إذا تبيَّنَ لنا كذبه؟
أما القواعد النظرية قديمها وحديثها فحقُّها أن تضاف ــ كما أشار إليه الدكتور ــ إلى القواعد السَّنَدية بعد دراسة الناقد لهذه دراسة وافية وإيفائها حقَّها. فأما الاقتصار على القواعد النظرية أو ترجيح غير القطعي الحقيقي منها على رواية الثقات الأثبات، أو الاستدلال به على صدق الحكايات الواهية فضرره أكثر من نفعه.
كثيرًا ما يبلغنا حدوثُ حادثةٍ في عصرنا هذا فنرى صحتها؛ لأننا نرى أن الأسباب تستدعيها وتكاد توجب وقوعَها، ثم يتبيّن أنها لم تقع. وتبلغنا واقعة فنرتاب فيها ونكاد نجزم بتكذيبها، ثم يتبيَّن أنها وقعت.
(1)
(ط): «كثير» .
(2)
(ط): «عما» .
[ص 208] فإن قيل: إنما ذلك لخطئنا في اعتقاد أن هذا سبب أو مانع، أو في تقدير قوَّته، أو لجهلنا بأسباب وموانع أخرى أقوى مما عرفناه؟ قلت: فإذا كان هذا جهلنا بزماننا ومكاننا وبيئتنا، فكيف بما مضى عليه بضعة عشر قرنًا؟
ومما يجب التنبّه له أنه قد يثبت من جهة السَّنَد نصٌّ يستنكره بعضُ النقَّاد، وحقّ مثل هذا أن لا يبادَرَ إلى ردِّه، بل يُمعنَ النظرُ في أمرين: الأول: معنى النص، فقد يكون المراد منه معنًى غير الذي استُنْكِرَ. الثاني: سبب الاستنكار، فكثيرًا ما يجيء الخلل من قِبَله.
وقد تقتضي
(1)
القرائنُ وقوعَ أمر سكتتْ عنه الروايات الصحيحة، وتَرِدُ رواية واهية السند فيها ما يؤدِّي ذاك الأمر في الجملة، فيبادر الناقد إلى تثبيتها، وفي هذا ما فيه. ألا ترى أنه قد يجيئك شخص ضَرَبَه آخر فتسأله: لِمَ ضَرَبك؟ فيقول: بلا سبب، فترتاب في صدقه، فإذا جاء خصمه فقال: إنما ضربته لأنه سبَّني سبًّا شنيعًا، قال: كيت وكيت، ظننتَ أنه صادق في الجملة، أي أنه قد كان سبٌّ، ولكنه قد يكون دون ما ذكره الضاربُ بكثير. فالصواب أن تذكر الرواية وأنها واهية السند، ثم يقال: ولكن القرائن تقتضي أنه قد كان شيء من ذاك القبيل. هذا هو مقتضى التحقيق والأمانة.
ثم قال أبو ريَّة ص 328: (طالب الحديث بغير فقه
…
).
أقول: قال أبو ريَّة ص 46: وروى البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن مَثَل ما بعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشْبَ الكثير، وكان منها أجادب
(1)
(ط): «تقضي» ، وستأتي على الصواب في آخر الفقرة.
أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب بها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسكُ ماءً ولا تُنبت كلأً»
(1)
.
إذا طُبّق هذا الحديث على أهل الحديث فثقاتهم كلّهم داخلون في الفرقتين الأوليين المحمودَتَين، راجع «فتح الباري» (161: 1)
(2)
. وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الترمذي وغيره: «نضَّر الله امرءًا سمع منَّا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربّ حامل فقه ليس بفقيه»
(3)
. فشمل الدعاء كما ترى من حَفِظ وبَلَّغ وإن لم يكن فقيهًا.
وذَكَر عن الثوري: «لو كان الحديث خيرًا لذهب كما ذهب الخير» .
أقول: لم يقصد نفيَ الخير عن الحديث نفسه، كيف والقرآن خير كلُّه ولم يذهب، ولا عن طلب الحديث جملة [ص 209]، فإن المتواتر المعلوم قطعًا عن الثوري خلاف ذلك، وإنما قَصَد أنّ كثيرًا من الناس يطلبون الحديث لغير وجه الله، وذلك أنه رأى أن الرغبة في الخير المحض لم تزل تَقِلّ؛ كانت في الصحابة أكثر منها في التابعين، وفي كبار التابعين أكثر منها في صغارهم، وهلُمَّ جرًّا، وفي جانب ذلك رأى رغبةَ الناس في طلب الحديث لم تنقص، فرأى أنها ليست خيرًا على الإطلاق، يعني أن كثيرًا ممن
(1)
أخرجه البخاري (79) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2)
(1/ 198).
(3)
أخرجه أحمد (21590)، وأبو داود (3660)، والترمذي (2656)، وابن ماجه (230) وغيرهم من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن، وصححه ابن حبان (680)، وله شواهد من حديث جماعة كثيرة من الصحابة. انظر «موافقة الخُبر الخَبر»:(1/ 363 ــ 393).
يطلب الحديث يطلبه ليُذْكَر ويَشْتَهِر ويقصده الناس ويجتمعوا حوله ويعظِّموه.
وأقول: إنّ العليم الخبير أحكم الحاكمين كما شرع الجهاد في سبيله لإظهار دينه، ومع ذلك يسّر ما يُرَغِّب فيه من جهة الدنيا، فكذلك شَرَع حفظَ السنّة وتبليغها، ومع ذلك يسَّر ما يرغِّب في ذلك من جهة الدنيا؛ لأنه كما يحصل بالجهاد عن الإسلام وإن قلَّ ثواب بعض المجاهدين، فكذلك يحصل بطلب الحديث وحفظه حفظ الدين ونشره وإن قَلَّ أجر بعض الطالبين.
وذكر أبو ريَّة ص 330 كلمات لبعض المحدِّثين في ذمِّ أهل الحديث يَعْنُون طلابه، التقطها من كتاب «العلم» لابن عبد البر، وقد قال ابن عبد البر هناك (125: 2)
(1)
: «وهذا كلامٌ خرج على ضَجَر، وفيه لأهل العلم نظر» .
وإيضاحُ ذلك: أنَّ الرغبةَ في طلب الحديث كانت في القرون الأولى شديدة، وكان إذا اشتهر شيخٌ ثقة معمّر مكثر من الحديث قَصَده الطلابُ من آفاق الدنيا، منهم من يسافر الشهر والشهرين وأكثر ليدرك ذاك الشيخ، وأكثر هؤلاء الطلاب شُبَّان، ومنهم مَنْ لا سَعَة له من المال، إنما يستطيع أن يكون معه من النَّفَقة قدرٌ محدود يتقوّت منه حتى يرجع، أو يلقى تاجرًا من أهل بلده يأخذ منه الشيء، وكان منهم مَنْ كُلُّ نفقته جِراب يحمله، فيه خبزٌ جافّ يتقوَّت كلَّ يومٍ منه كسرة يبلّها بالماء ويجتزئ بها، ولهم في ذلك قَصَص عجيبة
(2)
.
(1)
(2/ 1016).
(2)
انظر طائفة منها في «تقدمة الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم، وفي كتاب «الرحلة في طلب الحديث» للخطيب.
فكان يجتمع لدى الشيخ جماعةٌ من هؤلاء، كلّهم حريص على السماع منه، وعلى الاستكثار ما أمكنه في أقلِّ وقت، إذ لا يمكنه إطالة البقاء هناك لقلَّة ما بيده من النفقة، ولأنه يخاف أن يموت الشيخُ قبل أن يستكثر من السماع منه، ولأنه قد يكون شيوخ آخرون في بلدان أخرى يريد أن يدركهم ويأخذ عنهم. فكان هؤلاء الشباب يتكاثرون على الشيخ ويُلحُّون عليه ويُبْرِمونه، فيتعب ويضيق بهم ذرعًا، وهو إنسان له حاجات، وأوقات يجب أن يستريح فيها، وهم لا يَدَعُونه، ومع ذلك فكثير منهم لا يرضون أن يأخذوا من الشيخ سلامًا بسلام، بل يريدون اختباره ليتبيَّن لهم أضابط هو أم لا؟ فيورِدون عليه بعض الأسئلة التي هي مظنَّة الغلط ويناقشونه في [ص 210] بعض الأحاديث، ويطالبونه بأن يُبرز أصلَ سماعه. وإذا عثروا للشيخ على خطأ أو سقط أو استنكروا شيئًا من حاله، خرجوا يتناقلون ذلك بقصد النصيحة، فكان بعض أولئك الشيوخ إذا ألحَّ عليه الطلبة وضاق بهم ذرعًا أطلق تلك الكلمات:«أنتم سخنة عين. لو أدركنا وإياكم عمر بن الخطاب لأوجعنا ضربًا. ما رأيت علمًا أشرف ولا أهلًا أسخف من أهل الحديث. صرت اليوم ليس شيء أبغض إليّ من أن أرى واحدًا منهم. إن هذا الحديث يصدّكم عن ذِكْر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون. لأنا أشدُّ خوفًا منهم من الفساق» ؛ لأنهم يبحثون عن خطئه وزلله ويشيعون ذلك.
والغريب أنَّ أولئك الطلاب لم يكونوا يَدَعون هذه الكلمات تذهب، بل يكتبونها ويروونها فيما يروون، فيذكرها من يريد عتاب الطلاب وتأديبهم كابن عبد البر، ويهتبلها أبو ريَّة ليعيب بها الحديثَ وأهلَه جملةً.
فأما قول الثوري: «أنا في هذا الحديث منذ ستين سنة، وَدِدْتُ أني خرجتُ منه كفافًا لا عليَّ ولا لي»
(1)
. فهذا كلام المؤمن الشديد الخشية، تتضاءل عنده حسناتُه الكثيرة العظيمة، ويتعاظم في نظره ما يخشى أن يكون عَرَضَ له من تقصير أو خالطه من عُجْب، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نحو هذا فيما كان له بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمل
(2)
، وإنما كان عمله ذلك جهادًا في سبيل الله، وإعلاء دينه، وتمكين قواعده، وإقامة العدل التام، وغير ذلك من الأعمال الفاضلة. وقد كان فيها كلها أبعد الناس عن حظِّ النفس، بل كان يبالغ في هضم نفسه وأهل بيته. وكلُّ عارفٍ بالإيمان وشأنه يعرف لكلمة عمر حقَّها، ولكن الرافضة عكسوا الوضع، وقفاهم أبو ريَّة في كلمة الثوري وما يشبهها!
وعلَّق أبو ريَّة على كلمة: «لو أدركنا وإياكم عمر بن الخطاب الخ» ما تقدَّم تفنيده في مواضع.
(1)
أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» : (2/ 1025).
(2)
أخرجه أحمد في «الزهد» (ص 124)، وبنحوه في «الرقة والبكاء» (145) لابن أبي الدنيا.
خاتمة أبي رية
قال ص 331: (خاتمة
…
).
ذكر عبارات لابن خَلْدون تتلخص في أمور:
الأول: ذَكَر من الدواعي إلى الكذب: التشيُّع للمذاهب، والتزلّف إلى ذوي المراتب.
فأقول: قد عرف المحدّثون هذا وعدّةَ أسباب أخرى أشاروا إليها في البواعث على الوضع، وإنما الفرق بينهم وبين بعض مَنْ يتعاطى النقدَ في عصرنا أنَّ المحدّثين علموا أنّ هذين الداعيين مثلًا لا يدعوان إلى الكذب لأنه كذب، وإنما يدعو الأول إلى ذِكْر ما يؤيّد المذهب، والثاني إلى ذكر ما يرضي ذا المرتبة، [ص 211] وإنَّ كُلًّا من التأييد والإرضاء ليس وقفًا على الكذب، بل يمكن أن يقع بما هو صدق. إذن فالمخبر بما يؤيّد مذهبه أو يرضي رئيسه يجوز ــ مع صرف النظر عن الأمور الأخرى ــ أن يكون صادقًا وأن يكون كاذبًا، فالحكم بأحدهما لوجود الداعي غير سائغ، بل يجب النظر في الأمور الأخرى ومنها الموانع، فإذا وُجِد داعٍ ومانع وانحصر النظرُ فيهما تعيَّن الأخذُ بالأقوى، وكلّ من الدواعي والموانع تتفاوت قُوَّتُه في الأفراد تفاوتًا عظيمًا، فلابد من مراعاة ذلك.
ومن تدبَّر هذا علم أنّ الحقَّ لا ريب فيه، وأنه يرى شواهده في نفسه وفي مَنْ حواليه، وعلم أن ما يسلكه بعضُ متعاطي النقد من أهل العصر في اتهام بعض أفاضل المتقدِّمين بالكذب لوجود بعض الدواعي عندهم في الجملة تهوُّرٌ مؤسف. أمّا أئمة الحديث فقد عرفوا الرواةَ وخَبَروهم، وعرفوا
أحوالهم وأخبارهم، واعتبروا مروياتهم كما تقدم في مواضع منها (ص 55 و 62)
(1)
. فمن وثّقه المتثبِّتون منهم فمحاولة بعضِ العصريين اتهامه لأنه كان ــ مثلًا ــ يتشيّع أو يخالط بني أمية أو نحو ذلك لغوٌ لا يرتضيه العارف البتة. هذا حُكم يقبله علماء السنة لهم وعليهم، ألا ترى أن مسلمًا صحَّح حديث أبي معاوية عن الأعمش عن عديّ بن ثابت عن زِرٍّ قال:«قال عَلِيّ: والذي فَلَق الحَبّة وبرأ النَّسَمة إنه لَعَهد النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم إليّ: أن لا يُحبَّني إلا مؤمن ولا يبغضَني إلامنافق»
(2)
. ولا أعلم أحدًا طعن فيه، مع أن عديَّ بن ثابت معروف بالتشيُّع بل وصفه بعضُهم بالغلوِّ فيه، وكان إمامَ مسجد الشيعة وقاصَّهم، والبخاريّ وإن لم يخرج هذا الحديث فقد احتجَّ بعدي بن ثابت في عدة أحاديث، ولو كان يتَّهمه بكذبٍ ما في الرواية لما احتجَّ به البتة
(3)
.
الأمر الثاني: ذَكَر من أسباب الكذب خطأً: أن يخطئ المخبر في معرفة حقيقة ما عاين أو سمع، وينقل الخبر بحسب ما اعتقد.
أقول: قد عرف المحدّثون هذا، ولذلك شرطوا في الراوي أن يكون ضابطًا متثبتًا عارفًا بمعاني الكلام إذا روى بالمعنى، ويختبرون حاله في ذلك باعتبار حديثه كما تقدم (ص 55 و 62)
(4)
وغيرهما.
الأمر الثالث: ذَكَر من أسباب تلقّي الراوي الصدوق خبر الكاذب ونقله له: حُسْن الظن بالمخبر، وموافقة الخَبَر لرغبة الراوي وضعف تمحيصه.
(1)
(ص 108 ــ 109 و 121 ــ 122).
(2)
أخرجه مسلم (78).
(3)
ترجمته في «تهذيب التهذيب» : (7/ 165 ــ 166).
(4)
(ص 108 ــ 109 و 121 ــ 122).
أقول: وهذا قد عرفه أئمة الحديث، ولذلك لم يَعُدُّوا رواية الثقة لخبر عن رجل تصحيحًا ولا توثيقًا.
[ص 212] الأمر الرابع: ذَكَر أن الحكم بصحة الخبر لا ينبغي أن يُكتفى فيه بثقة الراوي، بل ينبغي أن يتقدم ذلك النظر في طبيعة الخبر وعَرْضه على أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ويقاس الغائب على الشاهد، فإذا عرف أنه ممكن نظر في حال الرواة، قال:«أما إذا كان مستحيلًا فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح» .
أقول: وهذا قد عرفه الأئمة، وقدَّروا كلَّ شيء من هذا قَدْرَه. راجع (ص 191)
(1)
.
وقال ص 334 عن ابن خلدون: (فأبو حنيفة رضي الله عنه يقال: بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثًا).
أقول: هذه مجازفة قبيحة وتفريط شائن، أفما كان ابن خلدون يجد عالمًا يسأله؟ الأحاديث المروية عن أبي حنيفة تُعدّ بالمئات، ومع ذلك لم يُرْو عنه إلا بعض ما عنده، لأنه لم يتصدَّ لإسماع الحديث. راجع (ص 34)
(2)
.
قال: (ومالك رحمه الله إنما صحَّ عنده ما في كتاب الموطأ).
أقول: وهذه مجازفة أخرى، لم يقصد مالك أن يجمع حديثَه كلَّه ولا الصحيح منه في «الموطأ» ، إنما ذكر في «الموطأ» ما رأى حاجةَ جمهورِ
(1)
(ص 360 ــ 362).
(2)
(ص 67 ــ 68).
الناس داعيةً إليه.
قال: (وغايتها ثلاث مائة حديث أو نحوها).
أقول: هذه مجازفة ثالثة، انظر كتاب أبي ريَّة ص 271 حيث ذكر عن الأبهري: أنها ستمائة، فأما ما ذكره هناك أن «الموطأ» كان عشرة آلاف حديث فلم يزل مالك ينقص منه، فقد فنَّده ابن حزم في «أحكامه» (137: 2)
(1)
.
وقال أيضًا: (إن الصحابة لم يكونوا كلهم أهل فتيا، ولا كان الدين يُؤخذ عن جميعهم)
(2)
.
أقول: قال الإمام الشافعي: «أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كلّهم ممن له أن يقول في العلم» . راجع ما تقدم (ص 42)
(3)
.
ثم قال أبو ريَّة ص 334 - 338: (أعظم ما رزئ به الإسلام. قال الأستاذ الإمام محمد عبده
…
) فذكر أمورًا قد تقدَّم النظر فيها.
وذَكَر ص 336 قول يحيى القطان: «ما رأيتُ الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث» . ففسَّر الصالحين بالمرائين، والمعروف عند أهل الحديث أنهم أُناس استغرقوا في العبادة والتقشُّف وغَفَلوا عن ضبط
(1)
(2/ 136 ــ 137). وانظر مقدمة د. محمد مصطفى الأعظمي لطبعته من «الموطأ» : (1/ 96 ــ 118) فقد فنّد هذا القول وبسط الردّ عليه، وفاته كلام ابن حزم على أهميته.
(2)
علّق أبو ريَّة على هذا قوله: «من أجل ذلك لم يأخذ أبو حنيفة بما جاء عن أبي هريرة وأنس بن مالك وسمرة
…
» وقد تقدم إبطال هذا ص 126 [242]. [المؤلف].
(3)
(ص 81) وسبق عزو النص إلى «الأم» .
الحديث، فصاروا يُحدِّثون على التوهُّم، كأبان بن أبي عياش، ويزيد بن أبان الرَّقاشي، وصالح المرّي وغيرهم.
وفي آخر ص 337: (أما أخبار الآحاد فإنما يجب الإيمان بما ورد فيها على من بلغته وصدّق بصحة روايتها).
أقول: ومَنْ لم يصدّق فمدار الحكم فيه على المانع له من التصديق، فمن الموانع ما لا يمنع إلا الزائغ، وراجع (ص 56)
(1)
.
[ص 213] وقال ص 338: (هل كل من وثَّقه جمهور المتقدمين يكون ثقة؟ ) وذكر في هذه الصفحة إلى ص 344: كلمات لصاحب «المنار» ، منها كلام في كعب الأحبار ووهب بن منبه، وقد تقدّم النظر في ذلك (ص 67 - 70)
(2)
وغيرها.
ومنها في نقد المتون (ومن تعرض له منهم كالإمام أحمد والبخاري لم يُوَفِّه حقه كما تراه فيما يورده الحافظ ابن حجر في التعارض بين الروايات الصحيحة له ولغيره).
أقول: من أنعم النظر في الرواة والمرويات ومساعي أئمة الحديث في الجمع والتنقيب والبحث والتخليص والتمحيص عَرَف كيف يثني عليهم، وأبقى الله لمن بعدهم ما يتمّ به الابتلاء وتُنال به الدرجات العُلَى، ويمتاز هؤلاء عن هؤلاء. وقد أسلفتُ (ص 161 و 188)
(3)
: أن الاستشكال لا يستلزم البطلان، بدليل استشكال كثيرٍ مِن الناس كثيرًا من آيات القرآن، وذكرتُ في (ص 172)
(4)
: أن الخلل في ظن البطلان أكثر جدًّا من الخلل
(1)
(ص 109 ــ 110).
(2)
(ص 132 ــ 139).
(3)
(ص 307 و 356).
(4)
(ص 327).
في الأحاديث التي يصححها الأئمة المتثبِّتون.
قال: (ومنه ما كان يتعذّر عليهم العلم بموافقته أو مخالفته للواقع؛ لظاهر حديث أبي ذر عند الشيخين وغيرهما: «أين تكون الشمسُ بعد غروبها»، فقد كان المتبادر منه للمتقدّمين أن الشمس تغيب عن الأرض كلها وينقطع نورها عنها مدة الليل، إذ تكون تحت العرش تنتظر الإذن لها بالطلوع ثانية).
أقول: للحديث روايات:
إحداها: رواية وكيع عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر: سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] قال: «مستقرّها تحت العرش» أخرجاه في «الصحيحين»
(1)
.
الثانية: في «الصحيحين»
(2)
أيضًا من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال: «دخلتُ المسجدَ ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فلما غابت الشمس قال: «يا أبا ذرّ هل تدري أين تذهب هذه؟ » قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذَن لها. وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلُع من مغربها» ، قال: ثم قرأ في قراءة عبد الله: (وذلك مستقرّ لها) لا أدري من القارئ؟ ولعله إبراهيم التيمي. وظاهر اختلاف سياق الروايتين أنهما حديثان كلٌّ منهما مستقلّ عن الآخر، وليس في المرفوع من هاتين الروايتين ذِكْر أنها حين تغرب تكون تحت العرش أو في مستقرّها.
(1)
البخاري (4802)، ومسلم (159).
(2)
البخاري (4803)، ومسلم (159).
وهناك رواية ثالثة للبخاري
(1)
عن الفريابي عن الثوري عن الأعمش بنحو رواية أبي معاوية إلا أنه قال: «تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن
…
». ونحوه بزيادة في روايةٍ لمسلم
(2)
من وجهٍ آخر عن إبراهيم التيمي وقال: «حتى تنتهي إلى مستقرِّها تحت العرش فتخرّ ساجدة
…
».
فقد يقال: لعلّ أصل الثابت [ص 214] عن أبي ذر الحديثان الأولان، ولكن إبراهيم التيميّ ظنَّ اتفاق معناهما فجمع بينهما في الرواية الثالثة. وقد يقال: بل هو حديث واحد اختصره وكيع على وجه وأبو معاوية على آخر. فالله أعلم.
هذا، وجَرْي الشمس هو ــ والله أعلم ــ هذا الذي يحسّه الناس، فإنه على كلِّ حال هو الذي تُطْلِق عليه العرب:(جري الشمس) تدبر
(3)
، وبحسب ذلك يُفهم الحديث. وقال الله تبارك وتعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18]. ومهما يكن هذا السجود فإنه يدل على الانقياد التام، والشمس منقادة لأمر ربها أبدًا، وانحطاطها في رأي العين إلى أسفل أجدر بأن يسمَّى سجودًا، والمأمور يعمل إذا انقاد، وشأنه الانقياد دائمًا، فشأنه عند توقّع أن يُؤمر بتركه أن يستأذن.
فأما طلوعها آخر الزمان من مغربها، فرأيت لبعض العصريين
(4)
كلامًا
(1)
(3199).
(2)
(159).
(3)
كذا في (ط).
(4)
لم أتبيَّن مَن هو.
سأذكره ليُنْظَر فيه: ذكر أنه يحتمل أن يُحْدِث الله عز وجل ما يعوق هذه الحركة المحسوسة الدائرة بين الشمس والأرض، فتبطئ تدريجًا كما يُشْعِر به ما جاء في بعض الأخبار: أن الأيام تطول آخر الزمان، حتى تصل إلى درجة استقرار، ويكون عروض هذا الاستقرار بعد غروبها عن هذا الوجه من الأرض الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تنعكس الحركة فتطلع على أهل هذا الوجه من مغربهم. قال: وذاك الموضع
(1)
الذي سوف تستقر فيه مُعيَّن بالنسبة إلى موضعها من الأرض، فيصح أن يكون هو المستقر. قال: وكان الظاهر ــ والله أعلم ــ أن يقال: «تحت الأرض» أي بالنظر إلى أهل الوجه، لكنه عَدَل إلى «تحت العرش» لأوجه:
منها: كراهية إثارة ما يستغربه العرب حينئذ من هيأة الخلق مما يؤدي إلى شكِّ وتساؤل واشتغال الأفكار بما ليس من مهمَّات الدين التي بُعِث لها الرسل، وقد ذكر بعضُهم نحو هذا في قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
ومنها: أنه وإن كان تحت الأرض عند أهل هذا الوجه فهو فوقها عند غيرهم، أما العرش فذاك الموضع والعالم كله تحته، راجع «الرسالة العرشية»
(2)
لشيخ الإسلام ابن تيمية.
ومنها: أنه لما ذكر أنه موضع سجودها كانت نسبة السجود إلى كونه تحت العرش أَوْلَى.
(1)
(ط): «الموضوع» خطأ.
(2)
(ص 33 وما بعدها).
أقول: فلم يلزم مما في الرواية الثالثة من الزيادة غيبوبة الشمس عن الأرض كلها، ولا استقرارها عن الحركة [ص 215] كل يوم بذاك الموضع الذي كُتِب عليها أن تستقر فيه متى شاء ربُّها سبحانه.
* * * *