الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحث مع صاحب «المنار»
قال ص 339: (
…
بعد العلم القطعي لا مندوحة لنا عن أحد أمرين: إمّا الطعن في سند الحديث وإن صححوه؛ لأن رواية ما يخالف القطعي من علامات الوضع عند المحدّثين أنفسهم. وأقرب تصوير للطعن فيما اشتهر رواته بالصدق والضبط: أن يكون الصحابي أو التابعي منهم سمعه مِنْ مِثل كعب الأحبار. ونحن نعلم أنّ أبا هريرة روى عن كعب الأحبار، وكان يصدِّقه، ونرى الكثير من أحاديثه عَنْعنة
(1)
لم يصرح بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن القطعيِّ أنه لم يسمع الكثير منها من لسانه صلى الله عليه وسلم لتأخُّر إسلامه، فمن القريب أن يكون سمع بعضها من كعب الأحبار، ومرسل الصحابيّ إنما يكون حجة إذا سمعه من صحابيٍّ مثله، ومثل هذا يقال في ابن عباس وغيره ممن روى عن كعب الأحبار وكان يصدِّقه. وإما تأويل الحديث بأنه مرويّ بالمعنى، وأن بعض رواته لم يفهم المراد منه فعبَّر بما فهمه
…
).
أقول: عليه في هذا مؤاخذات:
الأولى: أن الأمرين اللذين ذكر أنه لا مندوحة عنهما، وهما الطعن والتأويل لا يتعيّنان، بل بقي ثالث وهو التوقّف، ويتعيَّن حيث لا يتهيَّأ للنّاقد تأويل مقبول ولا طعن معقول.
الثانية: أنه قدَّم الطعنَ على التأويل، والواجب ما دام النظر في حديثٍ ثابت في «الصحيحين» تقديم التأويل.
الثالثة: قوله: «إن مخالفة القطعيَّ من علامات الوضع» ، محلُّه إذا تحققت المخالفة، ولم يكن هناك احتمال للتأويل البتة.
(1)
كذا ولعلها: «معنعنة» .
الرابعة: الطعن المعقول هو الذي يتحرَّى أضعف نقطة في السند، فما باله عَمَد إلى أقوى مَنْ فيه وهو الصحابي؟ وهو أبو ذرّ الغفاري، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما أظلَّت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء مِنْ ذي لهجةٍ أصدق من أبي ذر»
(1)
. ثبتَ مِن حديث أمير المؤمنين عليّ وعدد من الصحابة.
الخامسة: أن أبا ذر لم يُنقل عنه إصغاء إلى كعب، ولا إلى مَن هو مثل كعب، بل جاء أنَّ كعبًا قال في مجلس عثمان: ما أُدِّيَتْ زكاتُه فليس بكنز. فضربه أبو ذرّ بعصاه، وقال: ما أنت وهذا يا ابن اليهودية؟ أو كما قال. وفي «المسند» (162: 5)
(2)
عنه: «لقد تركنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وما يتقلَّب في السماء طائر إلا ذكرنا منه علمًا» . وفي البخاري
(3)
عنه أنه قال في زمان عثمان: «لا والله لا أسألهم دُنْيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله عز وجل» . أفتراه يستغني عن إخوانه مِنْ جِلَّة الصحابة هذا الاستغناء ثم يأخذ عن كعب أو نحوه؟
[ص 216] السادسة: أن مَنْ سمع مِنْ الصحابة من كعب لم يسمعوا منه إلا بعض ما يخبر به عن صحف أهل الكتاب، ورواية أبي هريرة عن كعب قليلة وكلها من هذا القبيل، وراجع (ص 68 و 73)
(4)
.
السابعة: لم يذكر دليلًا على دعواه أنَّ أبا هريرة وابن عباس كانا يُصدِّقان كعبًا، ولا أعلم أنا دليلًا على ذلك، أما إخبارهما عنه ببعض ما يُخْبِر به عن
(1)
تقدم تخريجه (ص 206 ــ 207).
(2)
(21439).
(3)
(1408)، وهو في مسلم أيضًا (992).
(4)
(ص 132 و 139).
صُحُف أهل الكتاب فغايته أنهما كانا يميلان إلى عدم كذبه.
الثامنة: أن الذي عُرِف للصحابة في قول أحدهم: «قال النبي صلى الله عليه وسلم
…
» أنه إن لم يكن سماعًا له من النبي صلى الله عليه وسلم فهو سماعٌ له من صحابي آخر ثابت الصحبة كما تقدم (ص 115)
(1)
. وجميع ما ثبت عنهم جملةً وتفصيلًا مما فيه ذِكْر إرسالهم إنما هو هذا، و
(2)
الدليل الصريح الذي استدلوا به على أنَّ أبا هريرة قد يرسل: إنما هو حديثه في مَنْ أصبح جُنبًا فلا يصبح
…
(3)
، وقد بيّن أنه سمعه من صحابيين فاضِلَين وهما أسامة بن زيد والفضل بن عباس، مع أنه قلّما كان يذكر الحديثَ بل كان الغالب من حاله أن يفتي بذلك فتوى ولا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يُعْلَم أحدٌ من الصحابة قال في حديث: «قال النبي صلى الله عليه وسلم
…
» ثم بيّن أو ذَكَر مرةً أخرى أو تبيَّن بوجه من الوجوه أنه عنده عن تابعيّ عن صحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم. بل يعزّ جدًّا أَخْذ الصحابي عن تابعي عن صحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما توجد أمثلة يسيرة جدًّا لصغار الصحابة يُسْنِدونها على وجهها، راجع (ص 156 - 157)
(4)
.
وكان الصحابي إذا قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم
…
» كان محتملًا عند السامعين للوجهين كما مرَّ، فأما أن يكون إنما سمعه مِن تابعيّ عن صحابيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يكن عندهم محتملًا، وإذ لم يكن محتملًا فارتكاب الصحابي إياه
(1)
(ص 222 ــ 223).
(2)
(ط): «أو» .
(3)
تقدم (ص 226).
(4)
(ص 298 ــ 301).
كذب، وقد برَّأهم الله تعالى عن الكذب. وأبعد من ذلك أن يكون إنما سمعه من تابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبعد وأبعد أن يكون التابعي مثل كعب.
التاسعة: زعم ــ مع الأسف ــ أن هذا أقرب تصوير للطعن، وهو كما ترى أبعد تصوير، بل هو محض الباطل، ولو احتجتُ إلى الطعن في سند الخبر لأريتُك كيف يكون الطعن المعقول بشواهده من كلام الأئمة كابن المديني والبخاري وأبي حاتم وغيرهم، فإنَّ لهم عللًا ليست كلٌّ منها قادحة حيث وقعت، ولكنها تقدح إذا وقعت في خبر تحقَّق أنه منكر. وهذا من أسرار الفن
(1)
.
العاشرة: أن هذا الطعن يترتّب عليه من المفاسد مالا يعلمه إلا الله تعالى، وهي المَكِيدة التي مرَّت الإشارة إليها (ص 201)
(2)
، وإيضاحها قبل ذلك، وكلّ من التأويل ولو مستكرهًا والوقف أسلم من هذا الطعن [ص 217]. ولو غير السيد رشيد رضا قاله لذكرت قصة المرأة التي اشتكى طفلُها ولم تعلم ما شكواه، غير أنها نظرت إلى يافوخه يضطرب ــ كما هو شأن الأطفال ــ فأخذت سكينًا وبطَّت يافوخَه كما يُصنع بالدّمل
…
إلى آخر ما جرى.
الحادية عشرة: قوله في أبي هريرة: «من القطعي
…
لتأخر إسلامه». قد تقدم رده (ص 156)
(3)
.
(1)
انظر مقدمة تحقيق «الفوائد المجموعة» (ص 8 ــ 9) للمؤلف.
(2)
(ص 380). وانظر ما سبق (142 ــ 150 و 161 ــ 177 و 209 ــ 214 و 300 و 325 ــ 327).
(3)
(ص 298 ــ 299).
الثانية عشرة: لا يخفى حال ما ذكره أخيرًا وسمَّاه تأويلًا.
وذكر ص 340 الحكايات عن كعب ووهب وقال: (لم يكن يحيى بن معين وأبو حاتم وابنه وأمثالهم يعرفون ما يصح من ذلك وما لا يصح، لعدم اطلاعهم على تلك الكتب).
أقول: في هذا أمور:
الأول: أن الأئمة كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، فبذلك كانوا يعرفون حال كعب ووهب فيما نسباه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وثّقوهما فمعنى ذلك أنهم عرفوا صِدْقهما في هذا الباب، وهذا هو الذي يهمُّ المسلمين. فأما ما حكياه عن صُحُف أهل الكتاب فليس بحجة سواء أصَدَقا فيها أم كَذَبا.
الثاني: تقدم في فصل الإسرائيليات (ص 67 - 95)
(1)
ما يُعلم منه: أن غالب ما يُنسب إلى كعب لا يثبت عنه، ومرَّ (ص 91)
(2)
: أن في كتاب «فضائل الشام» سبع عشرة حكاية عن كعب لا تثبت عنه ولا واحدة منها. وعسى أن يكون حال وهب كذلك. فمَنْ أراد التحقيق فليتتبع ما يثبت عنهما صريحًا بالأسانيد الصحيحة، ثم ليعرضه على كتب أهل الكتاب الموجودة كلها، ويتدبَّر الأمر الثالث وهو ما تقدم (ص 69 - 72)
(3)
: مِن تتبُّع اليهود ما كان موجودًا في العالم ــ عند ظهور الإسلام وبعده إلى مدّة ــ مِن نُسَخ كتبهم في العالم كلّه وإتلافها لمخالفتها ما يرضونه من نُسَخ حديثة أبقوها، مع ما عُرف عنهم من استمرار التحريف عمدًا، وانقراض كثير من كتبهم البتة، ثم
(1)
(ص 130 ــ 184).
(2)
(ص 171).
(3)
(ص 134 ــ 140).
ليحكم.
قال: (وإننا نرى بعض الأئمة المجتهدين قد تركوا الأخذ بكثير من الأحاديث الصحيحة
…
).
أقول: قد تقدم النظر في هذا (ص 35 و 178)
(1)
.
وقال ص 341 في حكايات كعب ووهب: (وما كان منها غير خرافة فقد تكون الشبهة فيه أكبر، كالذي ذكره كعبٌ مِن صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم في التوراة).
أقول: قد مرَّ الخبر (ص 70 - 71)
(2)
وأنه ثابت عن عبد الله بن عَمرو بن العاص عن التوراة، ويُروى عن عبد الله بن سلام وعن كعب. [ص 218] فأما الشبهة التي أشار إليها فلا يكاد يوجد حقٌّ لا يمكن أن يحاول مُبْطِل بناء شبهة عليه، فمَنْ التزم أن يتخلَّى عن كلِّ ما يمكن بناء شبهة عليه أوْشَك أن يتخلى عن الحقِّ كلِّه.
وقال: (وإني لا أعتقد صحة سند حديث ولا قول عالم صحابي يخالف ظاهر القرآن، وإن وثَّقوا رجاله، فربَّ راوٍ يوثَّق للاغترار بظاهر حاله وهو سيء الباطن).
أقول: قد تقدم (ص 14)
(3)
ما نقله أبو ريَّة عن صاحب «المنار» قال: «النبي صلى الله عليه وسلم مبيِّن للقرآن بقوله وفعله، ويدخل في البيان التفصيل والتخصيص والتقييد، لكن لا يدخل فيه إبطال حكم من أحكامه أو نقض خبر من أخباره» . وأوضحتُ ذلك هناك، فإن أراد هنا بقوله:«يخالف ظاهر القرآن» ما لو صح لكان إبطالًا أو نقضًا فذاك، فأما البيان بالتفصيل والتخصيص
(1)
(ص 71 و 338 ــ 339).
(2)
(ص 137 ــ 140).
(3)
(ص 29).
والتقييد ونحوها فإنه يثبت بخبر الواحد بشرطه، وأدلةُ خبرِ الواحد ــ ومنها جَرَيان العمل به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعمل أهل العلم ــ تشمل هذا، ومنها ما هو نصٌّ فيه. راجع (ص 22 و 45 و 49)
(1)
.
ومما يزيده وضوحًا: أن دلالة العموم ونحوه كثيرًا ما تتخلَّف، وقد قيل: ما مِن عامّ إلا وقد خُصّ. وذهب بعضهم إلى أنه إذا خُصّ شيءٌ من العام سقطت دلالته على الباقي. وتخصيص العمومات ثابتٌ في قضايا لا تُحْصَى، فاحتمال القضية له أَبْيَنُ وأَوْضَح وأَوْلَى مِن احتمالٍ لا يمكنك أن تثبته في واقعة واحدة، وهو كَذِب راوٍ وثَّقه الأئمة المتثبِّتون وصحَّحوا حديثه محتجّين به، ولم يطعن فيه أحد منهم طعنًا بيِّنًا. أما كعب ووهب فليسا من هذا لوجهين: الأول: أنهما ليسا بهذه الدرجة، راجع (ص 69 - 70)
(2)
. الثاني: أنه لم يثبت ما نسبه إليهما من سوء الظن.
ثم قال أبو ريَّة ص 342: (جل أحاديث الآحاد لم تكن مستفيضة في القرن الأول). ونقل عبارةً للسيد رشيد رضا في مقدمته لـ «مغني ابن قدامة» .
وقد تقدَّم النظر فيها (ص 15)
(3)
، وعبارة السيد رشيد:«جلّ الأحاديث التي يحتجّ بها أهل الحديث على أهل الرأي والقياسيين من علماء الرواية» ، ثم قال صاحب «المنار»: «فعلم بذلك أنها ليست من التشريع العام الذي جرى عليه عمل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وليست مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الشاهد فيه الغائب
…
».
(1)
(ص 45 و 89 و 99).
(2)
(ص 135 ــ 138).
(3)
(ص 31).
أقول: قد تقدَّم دفع هذا (ص 28 - 35)
(1)
، وراجع (ص 20 - 21)
(2)
و (ص 52)
(3)
. [ص 219] ثم حكى كلمات عمن ليس قوله حجة، ولا ذَكَر حُجة، فأعرضتُ عنها، ومنها ما عزاه إلى كتاب ليس عندي
(4)
، فليراجع.
ثم ذكر ص 347 - 348: آيات من القرآن، وقد تقدّم ما يتعلق بذلك (ص 13)
(5)
.
ثم ذكر ص 348: قول ابن حجر في «الفتح»
(6)
في الكلام على حديث إيصاء النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن: «اقتصر على الوصية بكتاب الله لكونه أعظم وأهم، ولأن فيه تِبيان كلِّ شيء إما بطريق النصّ أو بطريق الاستنباط، فإذا تَبِعَ الناسُ ما في الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به» .
كذا صنع أبو رية! وآخر عبارة ابن حجر في «الفتح» (5: 268) هكذا: «
…
عملوا بكلِّ ما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم به؛ لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] الآية
…
».
وقال ص 349: (وعن أبي الدرداء مرفوعًا: ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وماحرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية
…
).
أقول: هذا يرويه إسماعيل بن عَيّاش، وهو صدوق، عن عاصم بن
(1)
(ص 56 ــ 69).
(2)
(ص 41 ــ 44).
(3)
(ص 102).
(4)
(ط): «عنده» والصواب ما أثبت.
(5)
(ص 27).
(6)
(5/ 361).
رجاء بن حَيْوَة، وهو صدوق يهم، عن أبيه رجاء، عن أبي الدرداء. ورجاء لم يدرك أبا الدرداء، فالخبر منقطع مع ما في سنده
(1)
، ولو صحَّ لما كان فيه ما يخالف الحجج القطعية، فقد حرَّم الله في كتابه معصية رسول الله والمخالفة عن أمره، وأمر بأخذ ما آتى، والانتهاء عما نهى. وراجع (ص 13)
(2)
.
ثم ذكر مرسل ابن أبي مُلَيكة، وقول عمر:«وعندنا كتاب الله حسبنا» . وقد تقدّم النظر فيهما (ص 36 و 39)
(3)
.
قال: (ولما سُئلت عائشةُ عن خُلق النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالت: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن).
أقول: خلقه صلى الله عليه وسلم يشمل جميع أحواله وأفعاله وأقواله، فرأتُ عائشةُ أنه لا يمكنها تفصيل ما تعلم مِن ذلك كله لذلك السائل، وعلمَتْ أنه يقرأ القرآن وفيه تفصيل كثير من الأخلاق التي كانت من خُلُق النبيّ صلى الله عليه وسلم وإجمال الباقي فأحالته عليه، وقد عاد السائل فسألها عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في أعماله، فأخبرته. وفي ذلك وسائر أحاديث عائشة نفسها ذِكْر أشياء كثيرة جدًّا لا يفهمها الناس مِن نصِّ القرآن وإنما هي من بيانه
(4)
له بما فيه التفصيل والتخصيص والتقييد ونحو ذلك.
ثم قال أبو ريَّة: (وقال الأستاذ الإمام محمد عبده رضي الله عنه: إن المسلمين ليس
(1)
أخرجه البزار (4087)، والدارقطني:(3/ 59)، والحاكم:(2/ 375)، والبيهقي:(10/ 12) وغيرهم. وصحح إسناده الحاكم. وفيه النظر الذي ذكره المؤلف.
(2)
(ص 27).
(3)
(ص 72 و 78).
(4)
(ط): «بيان» .
لهم إمام في هذا العصر غير القرآن).
[ص 220] أقول: ها أنتم تلقِّبون الشيخ محمد عبده نفسه بهذا اللقب نفسه (الإمام) وتقتدون به، وتترضَّون عنه كما يُترَضَّى عن الصحابة، مع أنكم كثيرًا ما تذكرون النبيَّ صلى الله عليه وسلم فلا تصلّون عليه، وتسيئون القولَ في الصحابة رضي الله عنهم، وفي كتاب أبي ريَّة كثيرٌ من ذلك، فكأنكم أردتم له أن تسلبوا أئمة الحقِّ هذا اللقب وتخصّوه به.
أما القرآن فهو الإمام حقًّا، وهو نفسه يثبت الإمامةَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم كلّ راسخ في العلم والدين مُبلِّغ لأحكام الشرع فإنه إمام، إلا أنه كالمبلِّغ لتكبيرات إمام الصلاة، وإن بان وقوعُه في مخالفةٍ للإمام اتبعنا الإمامَ دونَه.
وقال: (لا يمكن لهذه الأمة أن تقوم ما دام هذه الكتب فيها).
أقول: إن أراد جميع الكتب غير القرآن فالواقع أنَّ فيها الحق والباطل، وكثير من الحق الذي فيها إذا فات لا يُعَوَّض، فأما الباطل فكما قيل: إن ذهب عَير، فعَير في الرباط، ومَن عَرف الحقَّ واتبعه فقد استقام، ولا يضره بعد ذلك أن يعرف أضعافَ أضعافِه من الباطل.
وذكر ص 350 أمورًا قد تقدَّم النظر فيها (ص 175 - 177)
(1)
وغيرها.
ثم قال: (
…
ومن عمل بالمتفق عليه كان مسلمًا ناجيًا).
أقول: تقدم تفنيد هذا، وبيان ما وقع فيه من الغلط (ص 15)
(2)
.
قال ص 351: (هذه هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إطلاقها على ما يشمل الأحاديث فاصطلاح حادث).
(1)
(ص 332 ــ 334).
(2)
(ص 31).
أقول: تقدم تفنيده (ص 12)
(1)
.
ثم قال: (أحاديث الآحاد التي لم يعمل بها جمهور السلف هي محل اجتهاد في أسانيدها ومتونها؛ لأن ما صح منها يكون خاصًّا بصاحبه).
أقول: إن أراد بقوله: (صاحبه) من عَرف صحّته، بمعنى أنه ليس له إلزام غيره فسيأتي قريبًا، وإن أراد به الصحابي الذي ورد فيه، فإنما يصح هذا حيث يثبت دليل على الخصوصية. وراجع (ص 28 - 35)
(2)
.
قال: (ومن صح عنده شيء منها روايةً ودلالةً عمل به، ولا تُجْعَل تشريعًا عامًّا تُلزمه الأمة إلزامًا تقليدًا لمن أخذ به).
أقول: على مَنْ صحّ عنده أن يُبيِّن ذلك لغيره ويعذره إن خالفه ولم يتبيَّن له عناده أو زيغه، وإلا لزمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الإمام أن يمنع من يتبيَّن له خطؤه من الإفتاء بذلك الخطأ، ويمنع الناس من الأخذ بفتواه، وفي سيرة عمر رضي الله عنه ما يبيّن هذا.
[ص 221] ثم ذكر أشياء قد تقدَّم النظر فيها، إلى أن قال:(وما كل مالم يصح سنده يكون متنه غير صحيح).
أقول: وجه ذلك أنه قد يثبت بسند آخر صحيح، لكن لا يخفى أن هذا الاحتمال لا يفيد المتنَ شيئًا من القوَّة، غايته أن يقتضي التريُّث في الجزم بضعفه مطلقًا حتى يبحث فلا يوجد له سند صحيح.
وذكر أشياء تقدَّم النظر فيها، إلى أن قال ص 352:(ولم يَظْهر البخاريُّ ولا غيره من كتب الحديث إلا بعد انقضاء خير القرون).
(1)
(ص 25).
(2)
(ص 56 ــ 69).
أقول: هذا مأخوذ من قدح بعض الملحدين في القرآن؛ بأن المصاحف لم تكن في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكما يقال لهذا: ليس المدار على المصاحف إنما المدار على ما فيها، وقد ثبت أنه القرآن الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، فكذلك نقول هنا: الأحاديث التي في «صحيح البخاري» ثبت أنها كانت معروفة عند خير القرون، وإنما رواها الثقات منهم وعنهم، بل ثبتت بالحجة الشرعية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال: (لم يقل أحدٌ من سلف الأمة وأئمة الفقه: إن معرفة الدين تتوقَّف على الإحاطة بجميع ما رواه المحدِّثون ولا بأكثرها).
أقول: لا ريب أن الأحاديث الضعيفة والواهية والمكذوبة لا تتوقّف معرفةُ الدين على الوقوف عليها، ومِن الصحيحة ما يُرْوَى من عِدّة طرق قد تبلغ المِئين، ويكفي لمعرفة الدين معرفة المتن من طريق صحيحة منها.
ومنها أحاديث يتفق العددُ منها في المعنى أو فيما هو المقصود، كأحاديث تحريم الربا وأحاديث التشهُّد، ويكفي لمعرفة الدين معرفة واحدٍ منها.
ومنها أحاديث يوجد في كتاب الله عز وجل ما يفيد معناها، ويكفي لمعرفة الدين معرفة تلك الدلالة من القرآن.
وبعد هذا كله، فمعرفة الدين ليست أمرًا لا يزيد ولا ينقص، وقد عَلِمْنا أنّ الشريعةَ لم توجب أن يكون كلّ مسلم عالمًا، وإنما أوجبت على الأمة أن يكون فيها علماء بقدر الكفاية يرجع إليهم العامّة في كلِّ ما يعرض لهم، ولم توجب على العالم أن يكون محيطًا بالدين، بل كما أن العامِّي يستكمل ما يحتاج إليه بسؤال العلماء، فكذلك العالم يستكمل ما يخفى عنه أو يُشْكِلُ
عليه بمراجعة غيره من العلماء. وراجع (ص 32 - 33)
(1)
.
قال: (قال البيضاوي في حديث: «لا وصية لوارث»: والحديث من الآحاد، وتلقي الأمة له بالقبول لا يلحقه بالمتواتر).
[ص 222] أقول: هذا رأي البيضاويّ، فإذا خالفه غيره فالمدار على الحجة. وهكذا كلّ ما يحكيه أبو ريَّة عن فلان وفلان. ومن تدبَّر آيات المواريث علم أنها تفيد معنى هذا الحديث.
ثم ذكر قضايا قد تقدَّم النظر فيها، إلى أن قال ص 353:(ربَّ راوٍ هو موثوق به عند عبد الرحمن بن مهدي ومجروح عند يحيى بن سعيد القطان، وبالعكس، وهما إمامان عليهما مدار النقد في النقل، ومِنْ عِندهما يُتلقَّى معظم شأن الحديث).
أقول: الغالب اتفاقهما، والغالب فيما اختلفا فيه أن يستضعفَ يحيى رجلًا فيتركَ الحديثَ عنه، ويرى عبد الرحمن أنَّ الرجلَ وإن كان فيه ضعف فليس بالشديد، فيحدّث عنه، ويثني عليه بما وافق حاله عنده، وقد قال تلميذُهما ابنُ المَديني:«إذا اجتمع يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي على تَرْك رجل لم أُحدِّثْ عنه، فإذا اختلفا أخذت بقول عبد الرحمن لأنه أقْصَدُها وكان في يحيى تشدّد»
(2)
.
والأئمة الذين جاؤوا بعدهما لا يجمدون على قولهما بل يبحثون وينظرون ويجتهدون ويحكمون بما بان لهم. والعارفُ الخبيرُ الممارس لا يتعذَّر عليه معرفة الراجح فيما اختلف فيه مَن قبله، وعلى فَرْض أننا لم نعرف
(1)
(ص 64 ــ 67).
(2)
أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» : (10/ 243)، وانظر «تهذيب التهذيب»:(6/ 252).
مِنْ حال راوٍ إلا أن يحيى تركه وأن عبد الرحمن كان يُحدِّث عنه، فمقتضى ذلك أنه صدوق يهم ويخطئ، فلا يسقط ولا يحتجّ بما ينفرد به.
قال: (إن ما كان قطعيّ الدلالة في النصوص فهو الشرع العام الذي يجب على جميع المسلمين اتباعه عملًا وقضاء، وإن ما كان ظنّي الدلالة موكول إلى اجتهاد الأفراد في التعبّدات والمحرمات، وإلى أُولي الأمر في الأحكام القضائية. إن ما كانت دلالته على التحريم من النصوص ظنية غير قطعية لا يُجْعَل تشريعًا عامًّا تُطالب به كلّ الأمة، وإنما يعمل فيه كلّ أحد باجتهاده، فمن فهم منه الدلالة على تحريم شيء امتنع منه، ومن لم يفهم منه ذلك جرى فيه على أصل الإباحة).
أقول: قد تقدم النظر في نظرية «دين عام ودين خاص» (ص 9 و 14 - 15 و 28 - 34 و 100)
(1)
وقريبًا (ص 220 - 221)
(2)
، وكذلك حال الاجتهاد والمجتهد.
هذا، والأدلة القطعية تبيِّن أن الواجب على كلِّ مسلم طاعة الله ورسوله ما استطاع، فيما ثبت بدليل قطعيّ المتن والدلالة أو ظَنِّيِّهما، أو قطعيّ أحدهما ظنّي الآخر، وأنّ على [ص 223] العاميّ العملَ بما يعلمه من الشريعة قطعًا أو ظنًّا، والرجوعَ فيما يجهله إلى العلماء الموثوق بعلمهم ودينهم، فإذا أفتاه أحدُهم بأمر لزمه العمل به سواء أكان قطعيًّا أو ظنيًّا، فإن اختلف عالمان فقد قال الله تبارك وتعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فعلى العامّي أن يتحرَّى أقرب الأمرين إلى طاعة الله وطاعة رسوله، وإذا علم الله تعالى حرصه على طاعته سبحانه فلا بد أن يُهيّئ له مِنْ أمره رَشَدًا.
(1)
(ص 20 و 29 ــ 32 و 55 ــ 67 و 194).
(2)
(ص 415 ــ 418).
وعلى كلِّ مسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتأكَّد ذلك على الرّجل في أهله، وعلى كلِّ راعٍ في رعيته، وعلى كلِّ مَن عرف حكمًا بدليل قطعيّ أو ظنيّ أن يرشد من يراه من المسلمين يخالفه جهلًا به، وينكر على من يراه يعرض عنه على وجهٍ مُنكر. وليس له الإنكار على مَنْ يُعرض عنه على وجهٍ معروف. والوجه المعروف هو ما يسمى «اختلاف الاجتهاد» أو «اختلاف وجهة النظر» مع اتحاد القصد في طاعة الله ورسوله.
أما القضاء، فالفرض فيه أن يكون بما أنزل الله يقينًا أو ظنًّا، وذلك يشمل الأدلة الشرعية كلَّها، فإذا كان القاضي مجتهدًا فذاك، وإلَّا أخذ بما يتبيّن له رُجحانُه مِنْ أقوال أهل العلم.
ثم ذكر قضايا تقدم النظر فيها (ص 175 و 202 و 218)
(1)
.
ثم ذكر عن السيد رشيد رضا: «
…
ونحن نجزم بأنَّا نسينا وضيَّعنا من حديث نبينا صلى الله عليه وسلم حظًّا عظيمًا لعدم كتابة علماء الصحابة كلّ ما سمعوه، ولكن ليس منه ما هو بيان للقرآن أو من أمور الدين، فإنّ أمور الدين معروفة في القرآن ومُبيَّنة بالسنة العملية، وما دُوِّن من الأحاديث فهو مزيد هداية وبيان».
أقول: قد تكفَّلَ الله عز وجل بحفظ دينه، فمحالٌ أن يذهب منه ما يقتضي نَقْصَه، والمؤسف حقًّا أن يجمع بعضُنا بين التحسُّر على ما لم يُحْفَظ، والتجنِّي على ما حُفظ، ومحاولة حطِّه عن درجته. راجع (ص 14 - 50)
(2)
.
ثم قال أبو ريَّة: (قال الإمام أبو حنيفة: ردّي على كلِّ رجل يحدِّث عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
(ص 332 و 381 و 411).
(2)
(ص 29 ــ 100).
بخلاف القرآن ليس ردًّا على نبي الله صلى الله عليه وسلم ولا تكذيبًا له، ولكنه ردّ على من يحدِّث عنه بالباطل، والتهمة دخلت عليه، ليس على نبي الله صلى الله عليه وسلم، وكل شيء تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، قد آمنا به وشهدنا أنه كما قال، ونشهد أنه لم يأمر بشيء يخالف أمر الله، ولم [ص 224] يبتدعْ ولم يتقوَّلْ غير ما قاله الله ولا
(1)
كان من المتكلّفين).
أقول: هذه العبارة من كتاب «العالم والمتعلم» ، وفي نِسْبته إلى أبي حنيفة ما فيها
(2)
، والكلامُ هناك في مسائل اعتقادية ومخالفة يراها مناقضة. فأما تبيين السنة للقرآن بما فيه التفصيل والتخصيص والتقييد ونحوها كما مرَّ (ص 14 و 218)
(3)
فثابت عند الحنفية وغيرهم، سوى خلاف يسير يتضمّنه تفصيلٌ مذكور في أصولهم، يتوقّف فهمه على تدبّر عباراتهم ومعرفة اصطلاحاتهم، وبعض مخالفيهم يقول: إنهم أنفسهم قد خالفوا ما انفردوا به هناك في كثير من فروعهم ووافقوا الجمهور. بل زاد الحنفية على الشافعية فقالوا: إن السنة المتواترة تنسخ القرآن، وإن الحديث المشهور أيضًا ينسخ القرآن، وكثير من الأحاديث التي يطعن فيها أبو ريَّة هي على اصطلاح الحنفية مشهورة.
ثم ختم أبو ريَّة كتابه بنحو ما ابتدأه من إطرائه وتقديمه إلى المثقفين
(4)
، والبذاءة على علماء الدين، ثم الدعاء والثناء، وأنا لا أثني على كتابي، ولا أُبرِّئ نفسي، بل أَكِلُ الأمرَ إلى الله تبارك وتعالى، فهو حسبي ونعم الوكيل،
(1)
(ط): «ولو» والتصحيح من كتاب أبي رية.
(2)
تكلم المؤلف عليه بالتفصيل في «التنكيل» : (1/ 663 - 665).
(3)
(ص 29 و 411).
(4)
انظر تعليق المؤلف على هذا الثناء (ص 7 ــ 8). وأما البذاءة فقد حذفها أبو ريَّة من الطبعات اللاحقة ترويجًا لكتابه، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه.
انتهى بعون الله تعالى جَمْع هذا الكتاب في أواخر شهر جمادى الآخرة سنة 1378. والحمد لله ربّ العالمين.