المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ حديث: «يلقى إبراهيم أباه - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ١٢

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ حديث: «يلقى إبراهيم أباه

إلا وفي سنده مجروح، أو خلل، فلذلك صاروا إذا استنكروا الحديثَ نظروا في سنده فوجدوا ما يبيّن وهنه فيذكرونه، وكثيرًا ما يستغنون بذلك عن التصريح بحال المتن، انظر «موضوعات ابن الجوزي» وتدبّرْ تجده إنما يعمد إلى المتون التي يرى فيها ما ينكره، ولكنه قلَّما يُصرِّح بذلك بل يكتفي غالبًا بالطعن في السند. وكذلك كتب العلل وما يُعَلُّ من الأحاديث في التراجم تجد غالب ذلك مما يُنكر متنُه، ولكن الأئمة يستغنون عن بيان ذلك بقولهم:«منكر» أو نحوه، أو الكلام في الراوي، أو التنبيه على خللٍ في السند كقولهم: فلان [ص 192] لم يلق فلانًا. لم يسمع منه. لم يذكر سماعًا. اضطرب فيه. لم يُتابَع عليه. خالفه غيره. يُروى هذا موقوفًا وهو أصح، ونحو ذلك.

وذَكَر‌

‌ حديث: «يَلْقى إبراهيمُ أباه

آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قَتَرة وغَبَرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأيُّ خِزْي أخزى من أبي الأبعد. فيقول الله تعالى: إني حرَّمتُ الجنة على الكافرين

»

(1)

. وذَكَر قول الإسماعيلي: «هذا حديث في صحته نظر، من جهة أن إبراهيم عالم بأن الله لا يخلف الميعاد، فكيف يجعل ما بأبيه خزيًا له مع إخباره أن الله قد وعده أن لا يخزيه يوم يبعثون، وأعْلَمه أنه لا خُلْفَ لوعده» .

أقول: عن هذا جوابان:

الأول: أن إبراهيم لم يجعل ما بأبيه حينئذٍ من القَتَرة والغَبَرة خزيًا، إنما جعل الخزي ما كان منتَظرًا من دخول النار كما يدل عليه إجابة الله تعالى له بقوله: إني حرَّمت الجنةَ على الكافرين، وكما يشهد له ما ذكره الله من قول

(1)

أخرجه البخاري (3350) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 362

عباده: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] فدعاؤه إنما هو استنجاز للوعد كما في: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 194]. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو في عريش بدر: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك»

(1)

. ومن هذا أو مما يأتي ما قَصَّه الله تعالى عن نوح من قوله: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45].

الثاني: أن المخلوق قد يتملَّكُه النظر من جهةٍ، فيناله ذهولٌ ما عن الجهة الأخرى، كما قَصَّهُ الله تعالى عن الملائكة من قولهم:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، ومِن قول زكريا بعد أن سأل الله تعالى أن يهب له وليًّا يرثه، فبشَّره الله بغلام:{رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [مريم: 8]. وقد بيّن الله تعالى لخليله أنّ الجنة محرَّمة على الكافرين، وبذلك لا يكون أبوه داخلًا في الوعد، بل ليس في دخول آزَرَ بكفره النارَ خزيٌ لإبراهيم، لكن هذه الحقيقة إنما تنكشف حقَّ الانكشاف لأهل الجنة بعد دخولها، وقد يكون في بقية الحديث ما يستفاد منه أن الله تعالى كشف لإبراهيم تلك الحقيقة حينئذ، فراجعه وتدبَّر ما مرَّ واعتبر به.

ثم ذكر أبو ريَّة فصولًا، إلى أن قال ص 307:(اختلافهم في الجرح والتعديل) وسمَّى جماعةً ينبغي مراجعة تراجمهم في كتب الرجال، وراجع (ص 189)

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (2915) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

(ص 357 ــ 358).

ص: 363

وقال ص 309: (وقال صاحب «العَلَم الشامخ»: قد اختلفت آراء الناس واجتهاداتهم في التعديل والتجريح، فترى الرجل الواحد تختلف فيه الأقوال حتى يوصف بأنه أمير المؤمنين وبأنه أكذب الناس، أو قريب من هاتين العبارتين).

[ص 193] أقول: قد تقدم (ص 189)

(1)

أن المختلَف فيهم قليل، ولا تبلغ كلمتان في رجل واحد هذا التفاوت الذي ذكره ولا ما يقاربه إلا قليلًا حيث يكون في إحداهما خلل، وللخلل أسباب وعلامات بسطتُ القولَ فيها بعضَ البَسْط في «التنكيل»

(2)

.

والناظرون في العلم ثلاثة: مخلص مستعجل يجأر بالشكوى، ومُتَّبع لهواه فأنَّى يهديه الله، ومخلص دائب فهذا ممن قال الله تعالى فيهم:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. وسُنَّة الله عز وجل في المطالب العالية والدرجات الرفيعة: أن يكون في نيلها مشقَّة؛ ليتمّ الابتلاء ويستحقّ البالغ إلى تلك الدرجة شَرَفَها وثوابَها، قال الله تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].

وذَكَر عن السيد رشيد رضا: «إن توثيقَ كلّ من وثَّقه المتقدمون وإن ظهر خلاف ذلك بالدليل يفتحُ بابَ الطعن في أنفسنا بنَبْذ الدليل

».

أقول: هذا حق، ولكن الشأن في الدليل الصحيح الذي [لا]

(3)

يعارضه ما هو أقوى منه.

(1)

(ص 357 ــ 358).

(2)

(1/ 104 - 124).

(3)

سقطت من (ط).

ص: 364

الصحابة رضي الله عنهم

ثم قال أبو ريَّة ص 310: (عدالة الصحابة

).

أقول: الآيات القرآنية في الثناء على الصحابة والشهادة لهم بالإيمان والتقوى وكلِّ خير معروفة، ومن آخرها نزولًا قول الله عزوجل:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 117 - 118].

ساعةُ العُسْرة: غزوة تبوك. وكلمة «المهاجرين» هنا تشمل السابقين واللاحقين ومَن كان معهم من غير الأنصار، ولا نعلمه تخلَّف ممن كان بالمدينة من هؤلاء أحدٌ إلا عاجزٌ أو مأمور بالتخلُّف مع شِدَّة حرصه على الخروج، وفي «الصحيح»

(1)

قول النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من تبوك: «إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم

حبسهم العذر».

وفي «الفتح»

(2)

: أن المهلَّب استشهد لهذا الحديث بقول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء: 95] وهو استشهاد متين، والمأمور بالتخلُّف أولى بالفضل. وفي هذا وآيات أخرى ثناء يعمّ المهاجرين ومَن لحق بهم لا نعلم ثَمَّ ما يخصِّصه.

فأما الأنصار فقد عمَّت الآيةُ مَنْ خرج معهم إلى تبوك والثلاثة الذين

(1)

البخاري (4423)، ومسلم (1911) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

(6/ 47). قال: فإنه فاضَلَ بين المجاهدين والقاعدين، ثم استثنى أولي الضرر من القاعدين، فكأنه ألحقهم بالفاضلين.

ص: 365

خُلِّفوا والعاجزين، ولم يبق إلا نفرٌ كانوا منافقين. وفي «الصحيح»

(1)

في حديث كعب بن مالك ــ وهو أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا ــ: «فكنت إذا خرجتُ في الناس بعدَ خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفتُ فيهم أحزنني أني لا أرى [ص 194] إلا رجلًا مغموصًا عليه النفاق، أو رجلًا ممن عَذَر اللهُ من الضعفاء» . وفي هذا بيان أن المنافقين قد كانوا معروفين في الجملة قبل تبوك، ثم تأكَّد ذلك بتخلُّفهم لغير عذر وعدم توبتهم، ثم نزلت سورة براءة فقَشْقَشَتْهم، وبهذا يتضح أنهم قد كانوا مشارًا إليهم بأعيانهم قبل وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأما قول الله عزوجل:{لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] فالمراد ــ والله أعلم ــ بالعلم ظاهره أي اليقين، وذلك لا ينفي كونهم مغموصين أي مُتَّهمين، غاية الأمر أنه يحتمل أن يكون في المتَّهمين مَنْ لم يكن منافقًا في نفس الأمر، وقد قال تعالى:{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] ونصَّ في سورة براءة وغيرها على جماعةٍ منهم بأوصافهم، وعيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم جماعةً منهم، فمن المحتمل أن الله عز وجل بعد أن قال:{لَا تَعْلَمُهُمْ} أعْلَمَه بهم

(2)

كلّهم.

وعلى كلِّ حال فلم يمت النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلا وقد عرفَ أصحابُه المنافقين يقينًا أو ظنًّا أو تهمة، ولم يبق أحد من المنافقين غير متهم بالنفاق. ومما يدل على ذلك، وعلى قِلَّتهم وذلّتهم وانقماعهم ونُفْرة الناس عنهم: أنه لم يحس لهم عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حراك. ولما كانوا بهذه المثابة لم يكن لأحد منهم مجال في أن يحدِّث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أن ذلك يُعرِّضه لزيادة التهمة ويَجُرُّ

(1)

البخاري (4418).

(2)

في (ط): «به» ، ولعلَّ الصواب ما أثبت.

ص: 366

إليه ما يكره. وقد سمَّى أهلُ السير والتاريخ جماعةً من المنافقين لا يُعْرَف عن أحدٍ منهم أنه حدَّث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وجميع الذين حدَّثوا كانوا معروفين بين الصحابة أنهم من خيارهم.

وأما الأعراب، فإن الله تبارك وتعالى كشف أمرهم بموت رسوله صلى الله عليه وسلم، فارتدَّ المنافقون منهم، فيتبيَّن أنه لم يحصل لهم بالاجتماع بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ما يستقرُّ لهم به اسم الصحبة الشرعية، فمن أسلم بعد ذلك منهم فحكمه حكم التابعين.

وأما مُسْلِمة الفتح، فإن الناس يغلطون فيهم يقولون: كيف يعقل أن ينقلبوا كلهم مؤمنين بين عشيَّة وضحاها، مع أنهم إنَّما أسلموا حين قُهروا وغُلبوا، ورأوا أنَّ بقاءهم على الشرك يضرّ بدنياهم، والصواب أن الإسلام لم يزل يعمل في النفوس منذ نشأته. ويَدُلُّك على قوة تأثيره أمور:

الأول: ما قَصَّه الله تبارك وتعالى من قولهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] وقولهم: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 42].

الثاني: ما ورد من صدِّهم للناس أن يسمعوا القرآن حتى كان لا يَرِدُ مكةَ واردٌ إلا حذّروه أن يستمع إلى [ص 195] النبي صلى الله عليه وسلم، ومن اشتراطهم على الذي أجار أبا بكر أن يمنعه من قراءة القرآن بحيث يسمعه الناس

(1)

.

الثالث ــ وهو أوضحها ــ: إسلام جماعة من أبناء كبار رؤسائهم ومفارقتهم آباءهم قديمًا، فمنهم عَمرو وخالد ابنا أبي أُحَيحة سعيد بن

(1)

أخرجه البخاري (2297).

ص: 367

العاص، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وأبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل، وعبد الله وأبو جندل ابنا سُهَيل بن عَمرو وغيرهم. وآباء هؤلاء هم أكابر رؤساء قريش وأعزّهم وأغناهم، فارقهم أبناؤهم وأسلموا. فتدبَّر هذا، فقد جرت عادةُ الكُتَّاب إذا ذكروا السابقين إلى الإسلام ذكروا الضعفاء، فيتوهَّم القارئ أنهم أسلموا لضعفهم وسخطهم على الأقوياء وحبهم للانتقام منهم على الأقل؛ لأنه لم يكن لهم من الرياسة والعزِّ والغنى ما يصدّهم عن قبول الحق وتحمُّل المشاق في سبيله.

والحقيقةُ أعظم من ذلك كما رأيت، إلا أن الرؤساء عاندوا واستكبروا، وتابعهم أكثر قومهم مع شدَّة تأثرهم بالإسلام، فكان في الشُبَّان مَنْ كان قَوِيَّ العزيمة، فأسلموا وضَحَّوا برياستهم وعِزِّهم وغناهم، متقبِّلين ما يستقبلهم من مصاعب ومتاعب، وبقي الإسلام يعمل عمله في نفوس الباقين، فلم يزل الإسلام يفشو فيهم حتى بعد هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. ثم لما كان صُلح الحديبية وتمكَّنَ المسلمون بعده من الاختلاط بالمشركين، ودعوة كلِّ واحد قريبه وصديقه= فشا الإسلام بسرعة، وأسلم في هذه المُدَّة من الرؤساء: خالد بن الوليد، وعَمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة وغيرهم، والإسلام يعمل عملَه في نفوس الباقين.

ونستطيع أن نجزم أن الإسلام كان قد طرد الشرك وخرافاته من نفوس عقلاء قريش كلهم قبل فتح مكة، ولم يبق إلا العناد المحض يَلْفِظُ آخر أنفاسه، فلما فُتِحَت مكة مات العناد ودخلوا في الإسلام الذي قد كان تربَّع في نفوسهم من قبل. نعم بقي أثر في صدور بعض الرؤساء، فبسط لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم التأليف يوم فتح مكة وبعده، وآثرهم بغنائم حُنين، ولم يزل يتحرَّاهم

ص: 368

بحسن المعاملة حتى اقتلع البقيَّة الباقيةَ من أثر العناد.

ثم كان من معارضة الأنصار بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم لقريش في الخلافة واستقرار الخلافة لقريش غير خاصةٍ ببيتٍ من بيوتها، وخضوع العرب لها ثم العجم= ما أكّد حبَّ الإسلام في صَدْر كلّ قرشي. وكيف لا وقد جَمَع لهم إلى كلِّ شبرٍ كانوا يعتزّون به من بطحاء مكة آلاف الأميال، وجعلهم ملوك الدنيا والآخرة. ومما يوضِّح لك ذلك: أن الذين عاندوا إلى يوم الفتح كانوا بعد ذلك من أجدِّ الناس في الجهاد، [ص 196] كسُهَيل بن عَمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وعمه الحارث، ويزيد بن أبي سفيان.

فأما ما يذكره كثير من الكُتَّاب من العصبية بين بني هاشم وبني أمية فدونك الحقيقة:

شَمِل الإسلام الفريقين ظاهرًا وباطنًا، وكما أسلم قديمًا جماعةٌ من بني هاشم فكذلك من بني أمية، كابني سعيد بن العاص، وعثمان بن عفّان، وأبي حذيفة بن عُتبة، وكما تأخَّر إسلام جماعة من بني أمية فكذلك من بني هاشم، وكما عاداه بعضُ بني أمية فكذلك بعضُ بني هاشم، كأبي لهب بن عبد المطلب، وأبي سفيان بن الحارث بن المطلب. ونزل القرآن بذمِّ أبي لهب، ولا نعلمه نزل في ذمِّ أمويٍّ معيَّن. وتزوَّج النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنت أبي سفيان بن حرب الأموي ولم يتزوَّج هاشمية، وزوَّج إحدى بناته في بني هاشم، وزوَّج ثلاثًا في بني أمية. فلم يبق الإسلام في أحد الجانبين حتى يحتمل أن يستمرَّ هدفًا لكراهية الجانب الآخر. بل ألّف الله بَيْنَ قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانًا، وأصبح الإسلام يلُفُّهم جميعًا: يحبونه جميعًا، ويعظِّمونه جميعًا، ويعتزُّون به جميعًا، ويحاول كلٌّ منهم أن يكون حظّه منه أوفر.

ص: 369

ولم تكن بين فتح مكة وبين ولاية عثمان الخلافة نُفْرة ما بين العشيرتين، فلما كانت الشورى وانحصر الأمرُ في عليٍّ وعثمان، فاختير عثمان، وجدت الأوهامُ مَنْفذًا إلى الخواطر، ثم لما صار في أواخر خلافة عثمان جماعةٌ من عشيرته ــ بني أمية ــ أمراء وعمّالًا، وصار بعضُ الناس يشكوهم؛ أُشيعت عن عَليٍّ كلمات يُندِّد بهم ويتوعَّدهم بإنه إذا ولي الخلافة عَزَلهم وأخذَ أموالَهم وفَعَل وفَعَل، ثم كانت الفتنة، وكان لبعض من يُعدُّ من أصحاب عليٍّ إصبع فيها، حتى قُتِل عثمان وقام قَتَلتُه بالسعي لمبايعة عَليّ، فبويع له وبقي جماعةٌ منهم في عسكره.

فمن تدبَّر هذا وجد هذه الأسباب العارضة كافية لتعليل ما حدث بعد ذلك، إذن فلا وجه لإقحام ثارات بدر وأُحُد التي أماتها الإسلام، وما حُكي مما يُشعر بذلك لا صحةَ له البتة، إلا نزغة شاعر فاجر في زمن بني العباس، يصح أن تُعدّ من آثار الإسراف في النزاع لا من مؤثراته. وجرى من طلحة والزبير ما جرى، فأيُّ ثأر لهما كان عند بني هاشم؟

وبهذا يتضح جليًّا أن لا مساغ البتة لأن يُعلَّل خلاف معاوية بطلبه بثأر مَنْ قُتِل من آله ببدر، ثم يتذرَّعُ بذلك إلى الطعن في إسلامه، ثم في إسلام نُظَرائه!

فإن قيل: مهما يكن من حال الصحابة فإنهم لم يكونوا معصومين، فغاية الأمر أن يُحمَلوا على العدالة ما لم يتبين [ص 197] خلافها، فلماذا يُعدِّل المحدِّثون مَنْ تبيَّن ما يوجب جرحه منهم؟

فالجواب من أوجه:

الأول: أنهم تدبَّروا ما نُقِل من ذلك فوجدوه ما بين غير ثابت نقلًا أو

ص: 370

حكمًا أو زلَّة تِيبَ منها أو كان لصاحبها تأويل.

الوجه الثاني: أن القرآن جعل الكذب على الله كفرًا، قال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68] والكذب على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أمر الدين والغيب كذب على الله، ولهذا صرَّح بعضُ أهل العلم بأنه كفر، واقتصر بعضُهم على أنه من أكبر الكبائر

(1)

، وفرَّق شيخُ الإسلام ابن تيمية بين من يُخْبِر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا وساطة، كالصحابي إذا قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا، وبين غيره، فمال إلى أن تعمُّد الأول للكذب كفر وتردَّد في الثاني

(2)

. ووقوع الزلة أو الهفوة من الصحابي لا يسوِّغ احتمال وقوع الكفر منه. هب أن بعضهم لم يكن يرى الكذب على النبيِّ صلى الله عليه وسلم كفرًا، فإنه ــ على كل حال ــ يراه أغلظ جدًّا من الزلات والهفوات المنقولة.

الوجه الثالث: أن أئمة الحديث اعتمدوا فيمن يمكن التشكّك في عدالته من الصحابة اعتبار ما ثبت أنهم حدَّثوا به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أو عن صحابيّ آخر عنه، وعرضوها على الكتاب والسنة وعلى رواية غيرهم، مع ملاحظة أحوالهم وأهوائهم، فلم يجدوا من ذلك ما يوجب التهمة، بل وجدوا عامة ما رووه قد رواه غيرهم من الصحابة ممن لا تتجه إليه تهمة، أو جاء في الشريعة ما في معناه أو ما يشهد له، وراجع (ص 64)

(3)

.

(1)

انظر «الصارم المسلول» : (2/ 328 فما بعدها)، و «فتح الباري»:(1/ 202)، و «شرح النووي» (1/ 69).

(2)

انظر «الصارم المسلول» : (2/ 333).

(3)

(ص 125 ــ 126).

ص: 371

وهذا الوليد بن عُقبة بن أبي مُعَيط يقول المشنِّعون: ليس من المهاجرين ولا الأنصار، إنما هو من الطُّلَقاء. ويقولون: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل أبيه عقب بدر قال: يا محمد فمَن للصِبْيَة؟ يعني بنيه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لهم النار»

(1)

. ويقولون: إنه هو الذي أنزل الله تعالى فيه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}

(2)

[الحجرات: 6] فنصّ القرآنُ أنه فاسق يجب التبيُّن في خبره. ويقولون: إنه في زمن عثمان كان أميرًا على الكوفة فشهدوا عليه أنه شرب الخمر، وكلَّم عليٌّ عثمانَ في ذلك، فأمره أن يجلده فأمر عليٌّ عبد الله بن جعفر فجلده. ومنهم مَنْ يزيد: أنه صلى بهم الصبح سكران فصلى أربعًا ثم التفت فقال: أزيدكم؟

(3)

وكان الوليد أخا عثمان لأمه، فلما قُتِل عثمان صار الوليد ينشئ الأشعار يتّهم عليًّا بالممالأة على قتل عثمان ويحرِّض معاويةَ على قتال عليّ.

[ص 198] هذا الرجل أشدّ ما يشنِّع به المعترضون على إطلاق القول بعدالة الصحابة، فإذا نظرنا إلى روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم لنرى كم حديثًا روى في فضل أخيه، ووليِّ نعمته عثمان؟ وكم حديثًا روى في ذمِّ الساعي في جلده

(1)

أخرجه البزار: (5/ 319) عن ابن مسعود، وعبد الرزاق:(5/ 205) من مرسل إبراهيم التيمي.

(2)

أخرجه الطبراني في «الكبير» (3/ 442)، عن دينار المؤمن عن الحارث الخزاعي في قصة إسلامه. وأخرجه البيهقي في «الكبرى»:(9/ 54 ــ 55) عن ابن عباس، وأخرجه أيضًا من مرسل مجاهد.

(3)

خبر شربه الخمر وجلده، وصلاته الصبح أربعًا أخرجه مسلم (1707) من حديث حُضين بن المنذر قال: شهدت عثمان

الحديث.

ص: 372

الممالئ على قتل أخيه في ظنه عليٍّ؟ وكم حديثًا روى في فضل نفسه ليدافع ما لحقه من الشهرة بشرب الخمر؟ هالنا أننا لا نجد له روايةً البتة، اللهم إلا أنه رُوِيَ عنه حديث في غير ذلك لا يصح عنه، وهو ما رواه أحمد وأبو داود من طريق رجل يقال له: أبو موسى عبد الله الهَمْداني عن الوليد بن عقبة قال: «لما فتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رؤوسهم ويدعو لهم، فجيء بي إليه وأنا مطيَّب بالخَلُوق فلم يمسح رأسي، ولم يمنعه من ذلك إلا أن أمي خلَّقتني بالخَلُوق، فلم يمسني من أجل الخَلُوق»

(1)

.

هذا جميع ما وجدناه عن الوليد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنت إذا تفقَّدْتَ السند وجدتَه غير صحيح لجهالة الهَمْداني، وإذا تأملت المتن لم تجده منكرًا ولا فيه ما يمكن أن يُتّهم فيه الوليد، بل الأمر بالعكس فإنه لم يذكر أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا له، وذكر أنه لم يمسح رأسه، ولذلك قال بعضهم: قد علم الله تعالى حاله فحَرَمَه بركة يَدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ودعائه

(2)

. أفلا ترى معي في هذا دلالة واضحة على أنه كان بين القوم وبين الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم حِجْرٌ محجور؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «رده على الإخنائي» (ص 163)

(3)

:

(1)

أخرجه أحمد (16379)، وأبو داود (4181)، والحاكم:(3/ 100) وغيرهم.

(2)

نقل الحاكم في «المستدرك» : (3/ 100) عن الإمام أحمد قوله: «وقد روي أنه أسلم يومئذ. فتقذَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يمسّه، ولم يدعُ له، والخَلوق لا يمنع من الدعاء، لا جُرم أيضًا لطفل في فعل غيره، لكنه مُنع بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم لسابق علم الله تعالى فيه والله أعلم» اهـ. فلعلّ المصنف أراد هذا.

(3)

(ص 287 ــ دار الخرّاز).

ص: 373

«فلا يعرف مِن

(1)

الصحابة مَنْ كان يتعمَّد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان فيهم من له ذنوب، لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه».

قد ينفر بعض الناس من لفظ «العصمة» وإنما المقصود أن الله عز وجل وفاءً بما تكفَّل به مِنْ حِفْظ دينه وشريعته هيَّأ من الأسباب ما حفظهم به وبتوفيقه سبحانه من أن يتعمَّد أحدٌ منهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: فلماذا لم يحفظهم الله تعالى من الخطأ؟

قلت: الخطأ إذا وقع من أحدٍ منهم فإن الله تعالى يُهيّئ ما يوقَفُ به عليه، وتبقى الثقة به قائمة في سائر الأحاديث التي حدَّث بها مما لم يظهر فيه خطأ، فأما تعمُّد الكذب فإنه إن وقع في حديث واحد لزم إهدار الأحاديث التي عند ذاك الرجل كلها، وقد تكون عنده أحاديث ليست عند غيره. راجع (ص 20 - 21)

(2)

.

هذا، وفي كتاب أبي ريَّة ص 42 - 53: كلامٌ أَخَّرْتُ النظر فيه إلى هنا كما أشرت إليه (ص 52)

(3)

مِن كتابي هذا.

قال ص 42: (الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته

).

[ص 199] ثم ذكر ما رُوي عن ابن بُريدة عن أبيه بُرَيدة بن الحصيب قال: «كان حيٌّ من بني ليث على ميلين من المدينة، فجاءهم رجل وعليه حُلَّة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني هذه الحُلَّة وأمرني أن أحكم في دمائكم

(1)

(ط): «من من» والتصويب من «الرد على الإخنائي» .

(2)

(ص 41 ــ 44).

(3)

(ص 101).

ص: 374

وأموالكم بما أرى ــ وكان قد خطب منهم امرأةً [في الجاهلية] فلم يزوّجوه، فانطلق [حتى نزل] على تلك المرأة، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال:«كذب عدو الله» ، ثم أرسل رجلًا فقال:«إن وجدته حيًّا [ولا أراك تجده] فاضرب عنقَه، وإن وجدته ميتًا فحرِّقه بالنار» .

أقول: عزاه إلى «أحكام ابن حزم»

(1)

، ومنه أضفتُ الكلمات المحجوزة، وانظر لماذا أسقطها أبو ريَّة؟ ! وراويه عن ابن بريدة: صالحُ بن حيّان وهو ضعيف له أحاديث منكرة، وفي السند غيره. وقد رُويت القصة من وجهين آخرين بقريب من هذا المعنى وفي كلٍّ منهما ضعف

(2)

. راجع «مجمع الزوائد» (145: 1)

(3)

. وعلى فرض صحته فهذا الرجل كان خطب تلك المرأة في الشرك فردّوه، فلما أسلم أهلُها سوَّلَتْ له نفسه أن يُظهر الإسلام ويأتيهم بتلك الكذبة لعله يتمكَّن من الخلوة بها ثم يفر، إذ لا يعقل أن يريد البقاء وهو يعلم أنه ليس بينه وبين النبيِّ صلى الله عليه وسلم سوى ميلين، فأنكر أهلها أن يقع مثل ذلك عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فرأوا أن يُنْزِلوا الرجلَ محترسين منه، ويرسلوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يخبرونه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا أراك تجده» ظنٌّ منه أن عقوبة الله عز وجل ستعاجل الرجل. وكذلك كان، كما في الطُرُق الأخرى، وجَدَه الرسولُ قد مات، وفي رواية «خرج ليبول فلدغته حية فهلك» .

(1)

(2/ 211). وأخرجه أيضًا الطحاوي في «بيان مشكل الآثار» (378)، وابن عدي في «الكامل»:(4/ 53 ــ 54) ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (42).

(2)

وانظر «الموضوعات» : (1/ 50 ــ 53) لابن الجوزي.

(3)

(1/ 150).

ص: 375

وحدوث مثل هذا لا يصلح للتشكيك في صدق بعض من صحب النبيَّ صلى الله عليه وسلم غير متهم بالنفاق، ثمّ استمرَّ على الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. يراجع (ص 193)

(1)

فما بعدها، وتعجيل العقوبة القدرية لذلك الرجل يمنع غيره من أن تحدِّثه نفسه بكذبٍ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حياته، وكذا من باب أَوْلى بعد وفاته، فإن العقوبة القدرية لم تمهل ذاك مع أنه كان بصدد أن تناله العقوبة الشرعية، ولا يترتَّب على كذبه مفسدة، فكيف بمن يكذب حيث يخفى على الناس أمره ويترتب على كذبه المفاسد؟ ولهذا جاء في رواية: أن الصحابي بعده

(2)

صلى الله عليه وسلم ذكر حديثًا فاستثبته بعضُ الناس فحدَّث بالقصة ثم قال: «أتراني كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا؟» .

وذكر أبو ريَّة خبر المقنَّع التميمي، ويقال: المنقع، وسنده واهٍ جدًّا يشتمل على مجاهيل وضعفاء فلا أطيل به.

هذا ومن الحكمة في اختصاص الله تعالى أصحاب رسوله بالحفظ من الكذب عليه: أنه سبحانه كره أن يكونوا هدفًا لطعن من بعدهم؛ لأنه ذريعة إلى الطعن في الإسلام جملةً، وليس هناك سبب مقبول للطعن إلا أن يقال: نحن مضطرون إلى بيان أحوالهم ليُعرَف من لا يحتج بروايته منهم، فاقتضت الحكمة حسم هذا لقطع العذر عمن يحاول الطعن في أحدٍ منهم.

وقال ص 43: (الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته

فإن الكذب قد كثر عليه بعد وفاته

).

أقول: قد كان كذبٌ، لكن متى؟ وممن؟ لا شأن لنا بدعاوى أبي رية،

(1)

(ص 365 ــ 366).

(2)

(ط): «بعد» ولعل الصواب ما أثبت.

ص: 376

وإنما ننظر في شواهده:

[ص 200] ذكر قصة بُشَير (بالتصغير) بن كعب العدوي مع ابن عباس في مقدمة «صحيح مسلم»

(1)

وجعلها قصّتين وإنما هما روايتان. وبُشَير هذا غير بَشِير (بفتح فكسر) بن كعب بن أبي الحميري العامري الذي شهد اليرموك، بل هذا أصغر منه بكثير، وأخطأ من عدَّهما واحدًا، راجع «الإصابة»

(2)

. وهذا عراقيّ بصريّ له قصة مع عِمْران بن حُصَين في الحياء تدلّ أنه كان يقرأ صحف أهل الكتاب

(3)

، وقصته مع ابن عباس يظهر أنها كانت حوالي سنة ستين، فإن ابن عباس توفي سنة 68 أو بعدها وعاش بُشير بعد ابن عباس زمانًا.

روى مسلمٌ القصةَ من طريق طاووس ومجاهد، وحاصلها: أن بُشَيرًا جاء إلى ابن عباس فجعل يحدّث (زاد مجاهد: ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال طاووس: فقال له ابنُ عباس: عُدْ لحديث كذا وكذا، فعاد له. ثم حدَّثه فقال له: عُد لحديث كذا وكذا، فعاد له، فقال له: ما أدري أعرفتَ حديثي كلّه وأنكرتَ هذا، أم أنكرتَ حديثي كلَّه وعرفتَ هذا؟ فقال ابن عباس: إنَّا كُنَّا نُحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن يُكذَب عليه، فلمَّا رَكِبَ الناسُ الصعبَ والذّلول تركنا الحديث عنه. (وفي رواية عن طاووس هي أثبت من الأولى، قال: إنما كنا نحفظ الحديث والحديث يُحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما إذ ركبتم كلَّ صعبٍ وذلول فهيهات). ولفظ مجاهد: فجعل ابن عباس لا يأذَنُ لحديثه ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس مالي لا

(1)

(1/ 12 ــ 13).

(2)

(1/ 345).

(3)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «مكارم الأخلاق» (88)، والبيهقي في «الآداب» (146).

ص: 377

أراك تسمع لحديثي

فقال ابن عباس: إنا كنا مرَّة إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتَدَرَتْه أبصارُنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناسُ الصعبَ والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف».

عَرَف ابنُ عباس أن بُشيرًا ليس بصحابي، ومع ذلك لم يدرك كبار الصحابة، ولعله مع ذلك لم يكن يُعرف بالثقة، وفوق ذلك كان يرسل. لا جَرَم لم يصغ إلى أحاديثه. فأما استعادته بعضها فكأنَّ المستعاد كان أحاديث يعرفها ابن عباس، فأراد أن يصحِّحها لبُشَير إن كان عنده فيها خطأ.

كانت القصة حوالي سنة ستين كما مرَّ، وقد ظهر الكذب بالعراق قبل ذلك كما يُؤخَذ مما يأتي، وبُشير عراقيّ، فليس في القصة ما يخدش في صدق الصحابة رضي الله عنهم، ولا ما يدلّ على ظهور الكذب بعد وفاة النبيِّ بمدّة يسيرة، وقوله في إحدى روايتي طاووس:«تركنا الحديث عنه» يريد تركنا أخذ الحديث عنه إلا من حيث نعرف.

وذكر ص 44 ما في مقدمة «صحيح مسلم»

(1)

أيضًا عن ابن أبي مُلَيكة: «كتبتُ إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتابًا ويُخْفي عنّي، فقال: ولدٌ ناصح، وأنا أختار له الأمور اختيارًا وأُخْفي عنه، قال: فدعا بقضاء عليّ رضي الله عنه [ص 201] فجعل يكتب منه أشياء ويمرُّ به الشيء فيقول: والله ما قضى بهذا عليّ، إلا أن يكون ضلّ» .

أقول: أورد مسلم بعد هذا: «عن طاووس قال: أُتي ابن عباس بكتاب فيه قضاء عليّ

»، ثم أورد:«عن أبي إسحاق قال: لما أحدثوا تلك الأشياء بعد عليّ رضي الله عنه قال رجل من أصحاب عليّ: قاتلهم الله أيَّ علمٍ أفسدوا» .

(1)

(1/ 13).

ص: 378

التفّ حَوْلَ عليّ رضي الله عنه بالكوفة نفرٌ ليس لهم علم ولا كبير دين، وذاك الكتاب جمع من حكاياتهم وحكايات غيرهم عن قضاء علي، وجيء إلى ابن عباس بنسخة منه. وذكر مسلم

(1)

أيضًا ونقله أبو ريَّة عن المغيرة بن مِقْسم قال: «لم يكن يَصْدُق على عليٍّ رضي الله عنه في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود» .

وذلك أن ابن مسعود كان بالكوفة في عهد عمر وبعده، فكان له أصحاب طالت صحبتهم له وفقهوا، فلما جاء عليّ إلى الكوفة أخذوا عنه أيضًا وكانوا أوثق أصحابه. وهذه الآثار إنما تدل على فشوِّ الكذب بالكوفة بعد عليّ رضي الله عنه.

* * * *

(1)

(1/ 14).

ص: 379

درجات الصحابة

وقال أبو ريَّة ص 45: (درجات الصحابة

).

ثم قال ص 47: (رواية الصحابة بعضهم عن بعض، وروايتهم عن التابعين

).

وعاد يبدئ ويعيد لتأكيد تلك المكيدة الجهنَّمية التي سبق الكشف عنها (ص 72 - 75 و 82 و 89 - 90 و 109 - 110 و 157 و 171)

(1)

.

ثم قال ص 49: (نقد الصحابة بعضهم لبعض

).

أقول: ذكر أشياء معروفة مع أجوبتها في كتب الحديث، وحاصلها: أنَّ أحدهم كان إذا سمع من أخيه حديثًا يراه معارضًا لبعض ما عنده توقّف فيه، وظنَّ أو جوّز أن أخاه أخطأ، مع تبرئة بعضهم لبعض عن تعمّد الكذب.

وذكر فيها ص 52: (ولما بلغها ــ يعني عائشة ــ قول أبي الدرداء: من أدرك الصبح فلا وتر عليه. قالت: لا، كذب أبو الدرداء، كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح فيوتر).

أقول: الخبر في «سنن البيهقي» (479: 2) ولفظه: «فلا وتر له» وراويه عن أبي الدرداء وعائشة أبو نَهيك الأزدي الفراهيدي، قال ابن القطان:«لا يُعرف» يعني أنه مجهول الحال

(2)

، ولا يُخْرجه عن ذلك ذِكْر ابن حِبّان له في «الثقات»

(3)

، وفوق ذلك لا يُعلَم له إدراك لأبي الدرداء وعائشة، بل الظاهر عدمه، فالخبر منقطع، ويعارضه ما في «الصحيحين»

(4)

وغيرهما

(1)

(ص 142 ــ 150 و 161 ــ 177 و 209 ــ 214 و 300 و 325 ــ 327).

(2)

انظر «تهذيب» : (7/ 142 و 12/ 234).

(3)

(5/ 582).

(4)

البخاري (996)، ومسلم (745).

ص: 380

عن عائشة: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم «انتهى وتره إلى السَّحَر» . وعلى فرض صحة الحكاية فإنما قال أبو الدرداء من قِبَلِ نفسه لم يذكر رواية، فكلمة [ص 202]«كذَب» بمعنى «أخطأ» كما هو معروف عنهم راجع (ص 51)

(1)

.

قال: (وقالت عن أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري: ما عِلْمُ أنس بن مالك وأبي سعيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإنما كانا غلامين صغيرين).

أقول: يُنظر في صحة هذا عنها، فقد كانا في مثل سنها أو أكبر منها، وكانا ممن يلزم النبيَّ صلى الله عليه وسلم ولا سيما أنس

(2)

.

قال: (وكانت عائشة تردُّ ما رُوي مخالفًا للقرآن).

أقول: راجع (ص 14)

(3)

؛ لتعرف ما هو الخلاف الذي يقتضي الردّ.

قال: (وتحمل رواية الصادق من الصحابة على خطأ السمع وسوء الفهم).

أقول: كلُّهم ــ بحمد الله ــ كان صادقًا عندها.

ثم حكى عن أحمد أمين عن بعض الزيدية كلمةً فيها: أن الصحابة تكلَّم بعضهم في بعض وقاتل بعضُهم بعضًا، ونحو هذا. والجواب عن ذلك مبسوط في كتب أهل العلم، وموضوعنا هنا بيان صدقهم في الحديث

(1)

(ص 101 ــ 102).

(2)

قول عائشة أخرجه الطبراني في «الكبير» (711) من طريق هشام بن عروة قال: قالت عائشة

قال الهيثمي في «المجمع» : (9/ 163): «هشام لم يدرك عائشة، ورجاله رجال الصحيح» . وذكره ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» : (2/ 1100) معلقًا عن علي بن مسهر عن هشام عن أبيه عن عائشة. يبقى النظر في إسناد ابن عبد البر إلى علي بن مسهر. وأخشى أن يكون قوله: «عن أبيه» مقحمًا في إسناد ابن عبد البر.

(3)

(ص 29).

ص: 381

النبوي، وقد أثبتناه ولله الحمد.

قال: (وإنما اتخذهم العامة أربابًا بعد ذلك).

أقول: أما أهل السنة فلم يتخذوا أحدًا من الصحابة ربًّا، وإنما أولئك غُلاة أصحابك الشيعة

(1)

!

قال: (من أساء منهم ذممناه، ومن أحسن منهم حمدناه).

أقول: أنت وهواك، أما نحن فنقول:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

وذكر أبو ريَّة ص 311 كلامًا للذهبي ذكر فيه ما حكى ابن وضّاح قال: «سألت يحيى بن معين عن الشافعي، فقال: ليس بثقة» ، ثم قال الذهبي:«وكلام ابن معين في الشافعي إنما كان من فَلَتات اللسان بالهوى والعصبية، فإن ابنَ معين كان من الحنفية وإن كان محدّثًا» .

أقول: هذه من فَلَتات القلم، وقد برَّأ الله ابنَ معين من اتباع الهوى والعصبية، وإنما كان يأخذ بقول أبي حنيفة فيما لم يتضح له الدليل بخلافه،

ص: 382

وعدم ميله إلى الشافعي كان لسبب آخر، وثَمَّ عللٌ تقدح في صحة هذه الكلمة:«ليس بثقة» عنه، وقد أوضحتُ ذلك في «التنكيل»

(1)

.

[ص 203] ثم ذكر أبو ريَّة ص 312 - 322 كلامًا للمقبليّ

(2)

، والمقبليّ نشأ في بيئة اعتزالية المعتقد، هادوية الفقه، شيعية تشيعًا مختلفًا، يَغْلُظ في أناس ويخفّ في آخرين، فحاولَ التحرُّر فنجح تقريبًا في الفقة، وقارب التوسُّط في التشيُّع، أما الاعتزال فلم يكد يتخلّص إلا من تكفير أهل السنة مطلقًا.

وكلامه هنا

(3)

يدور حول قضايا الاعتزال، كالقَدَر، ونفي رؤية المؤمنين ربّهم في الآخرة، والقول بخلق القرآن، والدفاع عن عَمرو بن عُبيد أحد قدماء المعتزلة، وهذه المسائل معروفة مدروسة، والمقبليُّ لم يسبر غورَها، ولا حقَّق ما كان عليه الأمر في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بإحسان، فلذلك أخذ يلوم أحمد وينسبه إلى الإفراط في التشدّد، ولعلّه لو عَلِم ما عَلِم أحمد لنَسَبه إلى التسامح.

(1)

(1/ 413 ــ 415). وقد طعنوا في رواية ابن وضّاح بأنه يخطئ كثيرًا، وأنهم رأوا في أصله الذي كتبه بالشرق: سألت يحيى بن معين عن الشافعي فقال: ثقة. وأن أصحاب ابن معين كثيرون وهم أَعْرف به وألزم له، وأثبت في النقل وأحرص= ولم ينقلوا ما نقله هذا المغربي.

أقول: وكلام الذهبي في كتابه «معرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد» (ص 47).

(2)

هو: صالح بن مهدي بن علي المقبلي اليماني (1038 ــ 1108)، من العلماء المجتهدين. ترجمته في «البدر الطالع»:(1/ 273)، و «الأعلام»:(3/ 197).

(3)

في كتابه «العَلَم الشامخ» .

ص: 383

وذكر ص 315 ما رُوي عن أحمد في شأن ابن عُلَيّة ومحمد بن هارون. والإمام أحمد وإن رجا المغفرةَ للأمين فلم يزد في ابن عُلية على إنكار قوله تنفيرًا للناس عن الباطل، واستمرَّ أحمد على الرواية عن ابن عُلية، والاحتجاج به، والثناء عليه بالثبت.

وذكر ص 316 مسألة الرؤية، فخَلَط بين رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم ربَّه ليلة الإسراء، وهي التي أنكرَتْها عائشةُ ومَن معها، وبين الرؤية في الآخرة.

وقال أيضًا: (لكن المحدثون لم يعرفوا مقدار الخطأ في الكلام لأنه غير صنعتهم).

أقول: بل أنت لم تعرف مقدار الخطأ في العقيدة الإسلامية الحقَّة، ولا عرفتَ غَور القضايا المخالفة لها.

وقال ص 317: (وقال يحيى بن معين في عتبة بن سعيد بن العاص بن أمية: ثقة، وهوجليس الحجاج

بل روى له البخاري ومسلم).

أقول: إنما هو عَنْبسة بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، له عند البخاريِّ خبر واحد ذكَرَه في الجهاد والمغازي

(1)

مع روايته من طريق غيره، راجع «فتح الباري» (30: 6) و (376: 7)

(2)

. وعند مسلم خبر واحد جاء ذِكْرُه فيه عَرَضًا، والاعتمادُ هناك على رواية أبي قِلابة الجَرْمي الثقة المأمون، وذلك في قصة العُرَنيين

(3)

، وقد أخرجها أيضًا من رواية

(1)

رقم (2827، 4237)، وجاء ذكره عرضًا في الحديث رقم (4193، 6899).

(2)

(6/ 41 و 7/ 491). وانظر أيضًا (12/ 241).

(3)

(1671).

ص: 384