المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ابن جريج

الصحابة وحكى عنه بعضهم وبعض التابعين، ويأتي بيان حاله

(1)

.

وأما‌

‌ ابن جُريج

فيأتي ص 148 أنه «الذي مات سنة 150» وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، وإنما هو من أتباع التابعين ولا شأن له بالإسرائيليات، وكأنَّ الدكتور

(2)

اغتر باسم «جريج» فحشره في زمرة هؤلاء، فجاء حاطب الليل فقال ص 148:(وممن كان يبثّ في الدين الإسلامي مما يخفيه قلبه ابن جريج الرومي الذي مات سنة 150 وكان البخاري لا يوثّقه، وهو على حقّ في ذلك). وهذا مخالف للواقع فلم يُعرف ابن جريج بالإسرائيليات إلا أن يروي شيئًا عمن تقدَّمه وهو إمام جليل يوثّقه ويحتجّ به البخاري وغيره. ولم يجد أبو ريَّة ما يحكيه عنه مما زعمه.

ومن العجائب قوله في حاشية ص 216: (ابن جريج كان من النصارى)

(3)

هكذا يكون العلم!

ثم قال ص 110: (

وتلقَّى الصحابة ومن تبعهم كل ما يلقيه هؤلاء الدهاة بغير نقد أو تمحيص معتبرين أنه صحيح لا ريب فيه).

أقول: وهذا مخالف للواقع، فقد علم الصحابة وغيرهم من كتاب الله عز وجل أن أهل الكتاب قد حرَّفوا كتبهم وبدَّلوا. ورووا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله: «لا

(1)

(ص 135 وما بعدها).

(2)

يعني أحمد أمين. فقد نقل عنه أبو ريَّة ولقّبه بذلك، وليس هو في حقيقة الحال من الحاصلين عليها! و «حاطب الليل» هو أبو ريَّة.

(3)

غيَّر أبو ريَّة هذا التعليق في الطبعات اللاحقة (ص 238 ــ ط 6) إلى: «هو عبد الملك

بن جريج الرومي» وهذا التغيير له ما وراءه، فقد ذكر (ص 162 ــ ط 6)«أن أصل ابن جريج رومي فهو نصراني الأصل» ! فانظر واعجب!

ص: 133

تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» كما في «صحيح البخاري»

(1)

عن أبي هريرة. وفيه

(2)

عن ابن عباس أنه قال: «كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحْدَث، تقرؤونه محضًا لم يُشَب، وقد حدَّثكم أن أهل الكتاب بدَّلوا كتابَ الله وغيَّروه» . وفيه

(3)

: أن معاوية ذكر كعبَ الأحبار فقال: «إن كان من أصدق هؤلاء المحدِّثين عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب» .

وكان عند عبد الله بن عَمرو بن العاص صحيفة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسمِّيها «الصادقة»

(4)

تمييزًا لها عن صحف كانت عنده من كتب أهل الكتاب.

وزعم كعبٌ أن ساعة الإجابة إنما تكون في السنة مرّة أو في الشهر مرّة، فردَّ عليه أبو هريرة وعبدُ الله بن سلام بخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها في كل يوم جمعة

(5)

.

وبلغ حذيفَة أنّ كعبًا يقول: إن السماء تدورعلى قطب كقطب الرحى، فقال حذيفة: «كذب كعب

»

(6)

.

(1)

(4485).

(2)

(7363).

(3)

(7361).

(4)

أخرجه الدارمي (513)، والخطيب في «تقييد العلم» (152).

(5)

انظر سنن النسائي في أبواب الجمعة. [المؤلف]. والحديث أخرجه أبو داود (1046)، والنسائي (1430)، والترمذي (491)، وأحمد (10303) وغيرهم. وصححه الترمذي، وابن حبان (2772).

(6)

ترجمة كعب من الإصابة [5/ 650]. [المؤلف]. وقال الحافظ: إن ابن أبي خيثمة أخرجه بسندٍ حسن، وأخرجه ابن منده في «التوحيد» (60) عن عبد الله بن مسعود بنحوه.

ص: 134

وبلغَ ابنَ عباس أنّ نوفًا البِكالي ــ وهو من أصحاب كعب ــ يزعم أن موسى صاحب الخضر غير موسى بن عمران، فقال ابن عباس: «كذب عدو الله

»

(1)

، ولذلك نظائر.

وأما ما رواه كعب ووهب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فقليل جدًّا، وهو مرسل؛ لأنهما لم يدركاه، والمرسل ليس بحجة، وقد كان الصحابة ربما توقف بعضهم عن قبول خبر بعض إخوانه من الصحابة حتى يستثبت، فما بالك بما يرسله كعب! فأما وهب فمتأخِّر. وأما ما روياه عن بعض الصحابة أو التابعين [ص 69] فإن أهل العلم نقدوه كما ينقدون رواية سائر التابعين، ويأتي لهذا مزيد.

قال ص 111: (كعب الأحبار

).

أقول: لكعب ترجمة في «تهذيب التهذيب»

(2)

، وليس فيها عن أحد من المتقدّمين توثيقه، إنما فيها ثناء بعض الصحابة عليه بالعلم، وكان المزّي عَلَّم عليه علامة الشيخين

(3)

، مع أنه إنما جرى ذكره في «الصحيحين» عَرَضًا لم يُسْنَد مِن طريقه شيء من الحديث فيهما. ولا أعرف له رواية يحتاج إليها

(1)

صحيح البخاري [122] تفسير سورة الكهف. [المؤلف].

(2)

(8/ 438).

(3)

الذي في «تهذيب الكمال» : (6/ 169) علامة (خ د ت س فق)، وليس فيه علامة مسلم، فتعقبه ابن حجر في «تهذيب التهذيب»:(8/ 438) بأنه قد وقع ذكر الرواية عنه في مواضع في مسلم في أواخر كتاب الإيمان، وفي حديث: «إذا أدّى العبدُ حقَّ الله

» ثم تعقبه بما ذكره المؤلف من أنه إنما جرى ذكره عرضًا في الكتب وليست له رواية.

ص: 135

أهل العلم. فأما ما كان يحكيه عن الكتب القديمة فليس بحجة عند أحد من المسلمين، وإن حكاه بعضُ السلف لمناسبته عنده لما ذُكِر في القرآن.

وبعد، فليس كلّ ما نُسِب إلى كعب في الكتب بثابت عنه؛ فإن الكذابين مِنْ بعده قد نسبوا إليه أشياء كثيرة لم يقلها. وما صحَّ عنه من الأقوال ولم يوجد في كتب أهل الكتاب الآن ليس بحجة واضحة على كذبه؛ فإن كثيرًا من كتبهم انقرضت نُسَخُها، ثم لم يزالوا يحرّفون ويبدّلون، وممن ذَكَر ذلك السيد رشيد رضا في مواضع من «التفسير»

(1)

وغيره.

واتهامه بالاشتراك في المؤامرة على قتل عمر لا يثبت، وكعب عربيُّ النسب، وإن كان قبل أن يسلم يهوديّ النحلة. وقول أبي ريَّة:(فاستصفاه معاوية وجعله من مستشاريه) مِن عنديّاته، والذي عند ابن سعد

(2)

وغيره أنه سكن حمص حتى مات بها سنة 32.

وذكر أبو ريَّة في الحاشية: (قال لقيس بن خرشة: ما من الأرض شبر

(3)

).

أقول: هذه الحكاية منقطعة، حاكيها عن كعب وُلِد بعده بنحو عشرين سنة

(4)

، وأول الحكاية: أنّ كعبًا مرَّ بصِفِّين فوقف ساعة ثم قال: «لا إله إلا

(1)

«تفسير المنار» : (3/ 329 ــ 332، 1/ 174، 195).

(2)

في «الطبقات الكبرى» : (9/ 449)، وانظر «تهذيب الكمال»:(6/ 170).

(3)

في كتاب أبي رية: «ما مِن شبر في الأرض» .

(4)

وهو يزيد بن أبي حبيب، فقد توفي سنة 128 هـ عن نحو ثمانين سنة، أي ولد نحو سنة 50 هـ بعد موت كعب بنحو عشرين سنة.

لذلك قال الحافظ في «الإصابة» : (5/ 465): «رجاله ثقات، لكن في السند انقطاع ورجل لم يسمّ» . وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» : (7/ 268): «مرسل» .

والأثر أخرجه الطبراني في «الكبير» : (18/ 346)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة»:(5/ 116 ــ 117)، والبيهقي في «الدلائل»:(6/ 476).

ص: 136

الله، ليُهراقنّ بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لا يُهراق ببقعة في الأرض

» وكان ذلك قبل وقعة صِفِّين بسنين، فهل يصدِّق أبو ريَّة هذا كما صدَّق بقية الحكاية؟ على أن فيها غريبة أخرى لا أراه يصدِّق بها

(1)

.

قال ص 112: (افتجَرَ هذا الكاهن لإسلامه سببًا عجيبًا

قد أخرج ابن سعد بسند صحيح

فقال: إن أُبيّ كتب لي كتابًا من التوراة

وختم على سائر كتبه

ففتحتها فإذا صفة محمد وأمته، فجئت الآن مسلمًا).

أقول: أما السند فليس بصحيح، فيه علي بن زيد وهو كما قال ابن حجر في «التقريب»:«ضعيف»

(2)

ولم يُخرج له أحد من الشيخين، إلا أن مسلمًا أخرج حديثًا عن حماد بن سلمة عن ثابت البُناني وعلي بن زيد، والاعتماد على ثابت وحده، [ص 70] لكن لما وقع في سياق السند ذِكْر عليّ بن زيد لم ير مسلم أن يحذفه. ولمسلم من هذا نظائر.

وأما القصة فلا أدري ما ينكر المسلم منها وهو يقرأ قول الله عز وجل في كتابه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} الآية

(3)

[الأعراف: 157]، وقوله سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ

(1)

وهي ــ فيما أحسب ــ طريقة موت قيس بن خَرَشة عندما أراد عبيد الله بن زياد أن يقتله، ففي الرواية: أنه لما نودي بصاحب العذاب مال قيس عند ذلك فمات.

(2)

وكذلك ضعفه في «فتح الباري» : (1/ 373، 395، 2/ 563، 3/ 22) وغيرها وإن كان قد حسَّن سنده هذا في «الإصابة» : (5/ 648) ولعله عمدة أبي رية في تصحيحه.

(3)

انظر تفسير المنار 9: 230 - 300. [المؤلف].

ص: 137

اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} الآية [الفتح: 29]، وآيات أخرى معروفة، فلينظر المسلم مَن الأولى بأن يقال: فجر وافتجر؟

ثم ذكر حكاية عن «حياة الحيوان»

(1)

، وحَسْبها أنه لم يجد لها مصدرًا إلا «حياة الحيوان» ، على أن الحكاية نفسها ليس فيها ما ينكره المؤمن بالقرآن.

ثم قال ص 113: (ووهب بن منبه .. .. ).

أقول: قد قدمت شيئًا من حال وهب، وقد وثَّقه بعض الحفاظ وضعَّفه عَمرو بن علي الفلَّاس، أخرج البخاري

(2)

حديثًا من طريقه ثم قال: «تابعه مَعْمر» . وله في «صحيح مسلم»

(3)

شيء تابعه عليه مَعْمر أيضًا، ومعمر هو ابن راشد أحد الأئمة المجمع عليهم.

وقال: (روى عنه كثير من الصحابة، منهم أبوهريرة، وعبد الله بن عمرو، وابن عباس وغيرهم).

أقول: هذه من مجازفات أبي رية، وإنما ذكر أهلُ العلم أنَّ وهبًا روى عن هؤلاء، وإنما ولد سنة 34 كما مرَّ، وإنما اشتهر بعد وفاة هؤلاء.

(1)

(1/ 707 ــ ت إبراهيم صالح). والقصة بنحوها في «تاريخ دمشق» : (50/ 165) وسبق كلام المصنف (ص 72) أن ما تفرّد ابن عساكر بإخراجه فهو ضعيف.

(2)

(113).

(3)

أخرج مسلم لوهب بن منبه حديثًا واحدًا رقم (1038) عن أخيه همام عن معاوية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تلحفوا في المسألة

». ولم أجد متابعة معمر له.

ص: 138

قال: «أخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام ــ وهو أحد أحبار اليهود الذين أسلموا ــ إنه مكتوب في التوراة في السطر الأول: محمد رسول الله عبده المختار، مولده مكة ومهاجره طيبة. وأخرج كذلك: مكتوب في التوراة صفة النبي، وعيسى ابن مريم يدفن معه» .

أقول: لم أجد الخبر الأول في «جامع الترمذي»

(1)

، ولا ذكره صاحب «ذخائر المواريث» ، وسيأتي ما يتعلق به. وأما الثاني؛ ففي سنده عثمان بن الضحَّاك مجهول، ومحمد بن يوسف بن عبد الله، ولم يوثَّقا توثيقًا يُعتدُّ به، وقد ذكر البخاري في ترجمة محمد من «التاريخ» (1/ 1/263)

(2)

طرفًا من هذا الخبر وقال: «هذا لا يصح عندي، ولا يتابع عليه» .

قال أبوريَّة: (وهذا

قد أحكمه الداهية كعب، فقد روى الدارمي عنه في صفة النبيّ في التوارة قال: في السطر الأول: محمد رسول الله عبده المختار، مولده مكة ومهاجره طيبة وملكه بالشام. [ص 71] وقد بحثنا عن السطر الثاني من هذه الأسطورة حتى وجدناه في «سنن الدارمي» كذلك عن الداهية الأكبر كعب، فقد روى ذكوان عنه قال: في السطر الأول محمد رسول الله عبده المختار

، وهذا الكلام قد أورده ابن سعد في «طبقاته» عن ابن عباس في جواب لكعب. وقد امتدت هذه الخرافة إلى أحد

(1)

هو كما ذكر المصنف، والخبر عند الدارمي (7)، فالظاهر أنه تصحف على أبي رية «الدارمي» إلى «الترمذي» خاصة وأنه ينقل من «فتح الباري» وفيه «الدارمي». «الفتح»:(8/ 586 ــ السلفية).

وسيعزوه أبو رية إلى الدارمي بعد أسطر، وهذا من تخبطاته!

أقول: وفي سنده زيد بن عوف، متروك. انظر «التاريخ الكبير»:(3/ 404)، و «الجرح والتعديل»:(3/ 570). وأخرج الدارمي ما يشهد له برقم (5، 8).

(2)

في (ط): «1: 2631» خطأ.

ص: 139

تلاميذ كعب، عبد الله بن عمرو بن العاص، فقد روى البخاري عن عبد الله

(1)

بن يسار ..... وزاد ابن كثير: قال ابن يسار: ثم لقيت كعبًا الحبر فسألته فما اختلفا في حرف». قال أبو ريَّة: (وكيف يختلفان وكعب هو الذي علَّمه).

أقول: خبر عبد الله بن عمرو نَسَبه بعضُهم إلى عبد الله بن سلام كما ذكره البخاري

(2)

، وذكر ابن حجر

(3)

أنه لا مانع من صحته عنهما. وقد بحثتُ عن هذا الخبر بطرقه المذكورة هنا وغيره ونظرت في الأسانيد، فترجَّح عندي صحته عن عبد الله بن عَمرو، فأما نِسْبته إلى عبد الله بن سلام ففي صحتها نظر، وكذلك نِسبته إلى كعب، وبيان ذلك يطول، وهذا الذي ظهر لي هو الظاهر من صنيع البخاري

(4)

.

هذا وفي بعض روايات الخبر أنه من التوراة، فإن صحّ ذلك في الرواية فقد يراد به الكتب المنسوبة إلى موسى، وقد يُراد به ما يعمّ كتبه وكتب أنبياء بني إسرائيل، وهو ما يسمّى عند القوم «العهد القديم» ، وذلك إطلاق شائع كما يؤخذ من «إظهار الحق» (1: 38)

(5)

، وفي «تفسير ابن كثير» (7: 567)

(6)

:

(1)

الصواب عن هلال [عن عطاء بن يسار]. [المؤلف].

(2)

رقم (2125).

(3)

في «الفتح» : (4/ 343).

(4)

وفي خبر عبد الله بن عمرو: «أجل والله إنه لموصوف

» علق عليه أبو ريَّة: «هكذا يورطه أستاذه حتى يقسم بالله» ، وهذا من افتراء أبي ريَّة فإن عبد الله بن عمرو كان عنده جملة من صحف أهل الكتاب كما اعترف به أبو ريَّة، فإقسامه يدل على أنه شاهد تلك الصفة في تلك الصحف. [المؤلف].

(5)

(1/ 99 ــ ط الإفتاء).

(6)

(3/ 1487 ــ دار ابن حزم).

ص: 140

«يقع في كلام كثير من السلف إطلاق التوارة على كتب أهل الكتاب، وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا» .

وعلى كلِّ حال فالروايات تعطي وجود معنى تلك العبارة في بعض كتب أهل الكتاب، وأبو ريَّة يزعم أن الخبر «أسطورة، خرافة» ، فإنْ بَنَى ذلك على امتناع أن يكون في كتب الأنبياء السابقين أخبار بأمور مستقبَلَة كبعثة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته= فهذا تكذيب صريح للقرآن وتكذيب بكتب الله ورُسُله، فإن كان أبو ريَّة ينطوي على هذا فليجهر به حتى يُخاطَب بحسبه. وإن بنى على استبعاد صحة الخبر؛ لأنه لا يوجد في كتب أهل الكتاب الآن ما يؤدّي ذاك المعنى، ولم يكن موجودًا فيها منذ ألف سنة تقريبًا عندما شرع بعضُ علماء المسلمين يطّلعون عليها وينقلون عنها= فهذا يُنْبِئ عن جهل أو تجاهل بتاريخ كتب أهل الكتاب وأحوالهم فيها.

وأقتصرُ هنا على عبارات عن كتاب «إظهار الحق» للشيخ رحمة الله الهندي ففيه (1: 220)

(1)

عن الدكتور كني كات ــ وهو مِن أعظم محققي كتب العهدين ــ قال: «إنّ نُسَخ العهد العتيق التي هي موجودة كُتبت ما بين ألف وألف وأربعمائة

». وقال: «إن جميع النسخ التي كانت كتبت في المائة السابعة (الميلادية) أو الثامنة أُعدمت بأمر محفل الشورى لليهود؛ لأنها كانت تخالف مخالفةً كثيرة للنسخ التي كانت معتمدة عندهم» . وحكى عن (والتن) ما يوافق ذلك.

ويُعْلَم منه أن اليهود [ص 72] تتبعوا نسخ كتبهم التي كُتبت قبل الإسلام أو في صدر الإسلام إلى نحو مائتي سنة فأتلفوها لمخالفتها الكثيرة لما

(1)

(2/ 568 ــ ط الإفتاء).

ص: 141

يهوونه. وانظر «إظهار الحق» (1: 242 - 245) وفيه (1: 227 - 229)

(1)

: أن لأهل الكتاب نحو عشرين كتابًا مفقودة، وبعضها منسوب إلى موسى فيكون من التوارة الحقيقية عندهم. وقد تكون ثَمَّ كتب أخرى مفقودة لم يعثر المتأخرون على أسمائها. وذَكَر من شيوع التحريف القصدي في اليهود والنصارى قديمًا وحديثًا ما يجاوز الوصف.

وحقّ على من يُبتلى بسماع شبهات دعاة النصرانية والإلحاد أن يقرأ ذاك الكتاب «إظهار الحق» ليتضح له غاية الوضوح أن الفساد لم يزل يَعْتري كتبَ أهل الكتاب جملةً وتفصيلًا، ومحقِّقوهم حيارى ليس بيدهم إلا التظنّي والتمنّي والتحسُّر والتأسُّف، ومن ثَمَّ يتبين السرّ الحقيقي لمحاولتهم الطعن في الأحايث النبوية؛ لأن دهاتهم حاولوا الطعن في القرآن، فتبين لهم أنه ما إلى ذلكم من سبيل، فأقبلوا على النظر في الأحاديث، فوجدوا أنه قد رُوي في جملة ما رُوي كثيرٌ من الموضوعات، وحيَّرهم المجهود العظيم الذي قام به علماء الأمة لاستخلاص الصحيح، ونفي الواهي والساقط والموضوع، حتى قال بعضهم:«ليفتخر المسلمون بعلم حديثهم ما شاؤوا»

(2)

. ولكنهم اغتنموا انصرافَ المسلمين عن علم الحديث، وجهلَ السواد الأعظم منهم بحقيقته فراحوا يشكّكون ويتهجّمون، ولا غرابة أن يوقعهم الحسدُ في هذا وأكثر منه، وإنما الغرابة في تقليد بعض المسلمين لهم.

(1)

(2/ 582 ــ 587، ط الإفتاء).

(2)

عزا المؤلف هذا القول إلى المستشرق مرجيلوث وأحال على «المقالات العلمية» (ص 234، 253). انظر تقدمته لكتاب «الجرح والتعديل» (ص/ب).

ص: 142

نعم اتضح مِمَّا تقدم عن «إظهار الحق» أنه لا مانع من أنه كان في كتب أهل الكتاب عند ظهور الإسلام ما تواطؤوا بعد ذلك على تحريفه أو إسقاطه أو فَقْد ذاك الكتاب بإتلافهم عمدًا أو غيره. وقد كان اليهود في بلاد العرب منذ زمن طويل قبل الإسلام، فلا يستبعد أنه كان بقي عندهم مالم يكن عند النصارى

(1)

، وإذا لا مانع وقد صحَّت الرواية فالواجب تصديقها، ومن تدبَّر القرآن ومحاورات النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه لليهود، وما حُكي عنهم قبل البعثة وما حكاه مَنْ أسلم منهم= بان له صحة ما قلناه.

وقد صحت الروايةُ عن عبد الله بن عَمرو وهو صحابي فاضل، وقد كان عارفًا بكتب أهل الكتاب، ووقعت له عدة منها، فالظاهر أنه أخذ العبارة منها. وإن صحّت عن عبد الله بن سلام فالأمر أوضح، فإنه كان من أحبار اليهود، وأسلم مَقْدَمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان مِن خيار الصحابة، وشهد له النبيّ صلى الله عليه وسلم بالجنة، كما رواه كبار الصحابة

(2)

. وإن صحت عن كعب فالظاهر صدقه؛ لأنه إذا كان صادق الإسلام [ص 73] نقيًّا كما هو الظاهر ولم يتبيَّنْ خلافه فالأمر واضح، وإن كان كما زعمه بعضهم منافقًا مُصِرًّا في الباطن على اليهودية متعصِّبًا لها فليس مِن المعقول أن يَكْذِب للمسلمين بما يزيدهم ثباتًا على الإسلام وحَنَقًا على اليهود. وما يقال إن كعبًا كان يستدرج

(1)

ومن الهيّن جدًّا على اليهود حين قرَّروا إتلاف النسخ أن يتلفوا جميع ما كان تبقّى منها بأيدي المسلمين من أعقاب كعب ووهب وغيرهما لأنها تصير إلى مسلم لا يحسن قراءتها، وقد يكره بقاءها عنده فقد يتلفها وقد يعطيها يهوديًّا بغير ثمن أو بثمن بخس، ويتأكد ذلك عند سعي اليهود في جمعها، وحسبك برهانًا على ذلك وما في معناها: فَقْد النسخ من العالم سوى ما بأيدي اليهود من النسخ الحديثة. [المؤلف].

(2)

انظر ما سلف (ص 132).

ص: 143

المسلمين ليثقوا به ليس بشيء؛ لأنه يعلم أن غاية ما يفيده وثوقهم هو تصديقهم له في أنّ ما يحكيه عن كتب أهل الكتاب موجود فيها، وماذا يفيده هذا إن كان منافقًا، وقد علم أنهم يعتقدون أن كتب أهل الكتاب محرَّفة مبدَّلة، وقد تقدم إيضاح ذلك

(1)

. وما يزعمه أبو ريَّة من مكايد كعب لم يتحقق منها شيء. والله المستعان.

ثم ذكر ص 115 حكايات مُعضِلة لا تُعرف أسانيدها، ومثل ذلك لا يصح أن يُبْنَى عليه شيء.

* * * *

(1)

(ص 141 ــ 143).

ص: 144

مَكيدة مَهُولة

ثم قال: (لما قدم كعب إلى المدينة في عهد عمر وأظهر إسلامه أخذ يعمل في دهاء ومكر لِمَا أسلم من أجله من إفساد الدين وافتراء الكذب على النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

).

أقول: هذه مكيدة مَهُولة يُكَادُ بها الإسلام والسنّة، اخترعها بعض المستشرقين ــ فيما أرى ــ ومشت على بعض الأكابر وتبنَّاها أبو ريَّة وارتكب لترويجها ما ارتكب ــ كما ستعلمه ــ. وهذا الذي قاله هنا رَجْمٌ بالغيب، وتَظَنٍّ للباطل، وحَطٌّ لقوم فتحوا العالم ودبَّروا الدنيا أحكم تدبير إلى أسفل درجات التغفيل، كأنهم رضي الله عنهم لم يعرفوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ودينه وسنته وهديه، فقبلوا ما يفتريه عليه وعلى دينه إنسان لم يعرفه. وقد ذكر أبورية في مواضع حالَ الصحابة في توقف بعضهم عما يخبره أخوه الذي يتيقّن صدقه وإيمانه وطول صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، فهل تراهم مع هذا يتهالكون على رجل كان يهوديًّا فأسلم بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بسنين، فيقبلون منه ما يخبرهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مما يُفسد دينه؟

كان الصحابة رضي الله عنهم في غنى تامّ بالنسبة إلى سنة نبيهم، إن احتاج أحدٌ منهم إلى شيء رجع إلى إخوانه الذين صحبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وجالسوه، وكان كعب أعقل من أن يأتيهم فيحدّثهم عن نبيهم فيقولوا: مَنْ أخبرك؟ فإن ذَكَرَ صحابيًّا سألوه فيَبِين الواقع، وإن لم يذكر أحدًا كذَّبوه ورفضوه. إنما كان كعب يعرف الكتب القديمة، فكان يحدِّث عنها بآداب وأشياء في الزهد والورع أو بقصص وحكايات تناسب أشياء في القرآن أو السنة، فما وافق الحقَّ قبلوه، وما روأه باطلًا قالوا: مِنْ أكاذيب أهل الكتاب،

(1)

قوله: «على النبيّ صلى الله عليه وسلم» هذا أساس المكيدة المهولة الآتية. [المؤلف].

ص: 145

وما رأوه محتملًا أخذوه على الاحتمال كما أمرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم. ذلك كان فنُّ كعب وحديثُه. ولم يرو عنه أحد من الصحابة إلا ما كان من هذا القبيل.

نعم ذكر أصحاب التراجم أنه أرسل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عن عمر وصُهيب وعائشة. وعادتهم أن يذكروا مثل ذلك وإن كان خبرًا واحدًا في صحته عن كعب نظر [ص 74] فهذه كتب الحديث والآثار موجودة لا تكاد تجد فيها خبرًا يُروى عن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنْ وُجِد فلن تجده إلا من رواية بعضِ صغار التابعين عن كعب، ولعله مع ذلك لا يصح عنه. وكذا روايته عن عمر. وكذا روايته عن صُهيب وعائشة مع أنه مات قبلهما بزمان. وعامة ما روي عنه حكايات عن أهل الكتاب ومِنْ قوله.

قال: (ومما أغراه بالرواية أن عمر بن الخطاب كان في أول أمره يستمع إليه، فتوسّع في الرواية الكاذبة ما شاء أن يتوسّع، قال ابن كثير: لما أسلم كعب في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي الله عنه، فربما استمع له عمر، فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا ما عنده من غثٍّ وسمين)

(1)

.

أقول: الذي عنده هو الحكايات عن صحف أهل الكتاب وأشياء مِن

(1)

عزاه أبو ريَّة إلى تفسير ابن كثير 4: 17. ولم أجده هناك فلينظر. [المؤلف].

أقول: نظرت فوجدته فيه (7/ 2987 ــ دار ابن حزم) في تفسير سورة الصافات. ووجدت أبا ريَّة قد أسقط ما يخدم غرضه وهو قوله: «فجعل يحدث عمر رضي الله عنه [عن كتبه]» فأسقط أبو ريَّة ما بين المعكوفين؛ ليوهم القرّاء أن كعبًا كان يحدّث عمر بأحاديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ما سمّاه «الرواية الكاذبة» وتفطن له المؤلف. وانظر الصفحة الآتية في صنيعٍ له مثل هذا!

ثم تصرف في آخر كلام ابن كثير فنصّه: «ونقلوا عنه غثها وسمينها» أي: غثّ تلك الكتب وسمينها. وليس كما يوهمه تصرف أبي ريَّة.

ص: 146

قوله في الحكمة والموعظة، وقوله:(الرواية الكاذبة) لا ريب أنّ في صحف أهل الكتاب التي كان كعب يحكي عنها ما هو كذب، فمن صحفهم ما أصله من كتب الأنبياء ولكن حُرِّف وزِيد فيه ونُقص، ومنها ما هو منسوب إلى بعض الأنبياء كذبًا، وعندهم عدة كتب كذلك، ومنها ما هو من كتب أحبارهم. فأما أن يكون كعب كذب فهذا لم يثبت، وسيأتي الكلام فيه.

قال: (ثم لم يلبث عمر أن تفطَّن لكيده وتبيَّن له سوء دِخْلته، فنهاه عن الرواية عن النبي

(1)

، وتوعده إن لم يترك الحديث عن رسول الله أو ليلحقنَّه بأرض القِرَدة).

أقول: هذا مِن دَجَل أبي رية، لم يتبين لعمر من كعبٍ كيد ولا سوء دِخْلة، ولا كان كعب يروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وإنما كان يحكي عن صحف أهل الكتاب، فإن كان عمر نهاه فعن ذلك. والحكاية التي تشبَّث بها أبو رية عزاها إلى «البداية والنهاية» (8: 106)

(2)

وهي هناك: «وقال لكعب الأحبار: لتتركنَّ الحديث عن الأُوَل أو لألحقنك بأرض القردة» . قال: «عن الأُوَل» فأبدلها الشاطر أبو ريَّة بقوله: «عن النبيّ ــ عن رسول الله»

(3)

. ومعها في «البداية والنهاية» كلمة تتعلق بأبي هريرة ذكرها أبو ريَّة ص 163، وسيأتي

(1)

قوله: «عن النبيّ ــ عن رسول الله» هو أساس المكيدة كما مرت الإشارة إلى مثله ص 73 [145] يحاول أبو ريَّة أن يمكّنه. [المؤلف].

أقول: غيَّر أبو ريَّة العبارة في الطبعات اللاحقة إلى «فنهاه عن الحديث» بعدما كُشِفت حيلته.

(2)

(11/ 371 ــ دار هجر).

(3)

وهكذا يزوّر أبو ريَّة لتمكين أساس تلك المكيدة. [المؤلف].

أقول: أصلح أبو ريَّة النصَ في الطبعات اللاحقة بعدما تبين تغييره وتصرفه في النصوص لخدمة أهوائه.

ص: 147

هناك بيان سقوط هذه الرواية، مع الكشف عن بعض أفاعيل أبي ريَّة.

على أن كلام أبي ريَّة متناقض، فسيحكي قريبًا أن عمر لم يزل إلى آخر حياته معتدًّا بكعب. والصحيح أن كعبًا كان رجلًا عربيًّا ذا رأي، قد قرأ الكتب واستفاد منها أشياء في الحكمة والزهد والورع، وهذه كانت وسيلته إلى عمر. ويحكي الناسُ عنه أشياء من الأخبار عن الأمور المستقبلة مسندًا له إلى صحف [ص 75] أهل الكتاب، ولا أدري ما يصح عنه من ذلك.

قال: (على أن عمر ظلَّ يترقب هذا الداهية بحزمه وحكمته وينفذ إلى أغراضه الخبيثة بنور بصيرته كما نرى في قصة الصخرة).

أقول: قد سرّح عمر من المدينة إلى العراق نَصْرَ بن حجَّاج لغير ذنب إلا أنه كان بارع الجمال، وكان بالمدينة كثير من النساء يغيب أزواجهن في الجهاد، وقد ذكرتْ إحداهنَّ نصرًا في شعرٍ لها

(1)

. وجَلَدَ عمر صَبيغ بن عِسْل ونفاه إلى العراق، وكتب أَنْ لا يجالسه أحد لأمر واحد وهو أنه يُكثر من السؤال عن كلمات من القرآن لا تتعلق بالأحكام

(2)

. ونَصْر سُلَميّ، وصَبيغ تميميّ لم يكن لهما عِرْق في يهودية ولا نصرانية. وكعب حميريّ حديث العهد باليهودية لا مَنَعة له ولاحاجة بالمسلمين إليه، فهل يُعقل أن يشعر الفاروق منه بأن إسلامه مدخول وأنه داهية ذو أغراض خبيثة ثم يدعه معه بالمدينة يدخل إليه مع أصحابه ويتكلم في مجلسه وربما يستشيره لا

(1)

قصة نصر بن حجاج أخرجها ابن سعد في «الطبقات» : (3/ 285)، والخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 337 و 339). وصحح سنده الحافظ في «الإصابة»:(3/ 579).

(2)

أخرجه الدارمي (146، 150)، والبزار:(1/ 423)، واللالكائي:(4/ 635 ــ 636).

ص: 148

يَحْذَرُه ولا يحذِّر الناس منه؟

أما قصة الصخرة فرواها الإمام أحمد

(1)

من طريق حماد بن سلمة عن أبي سنان [عيسى بن سنان القَسْملي] عن عُبيد بن آدم قال: «سمعت عمر يقول لكعب: أين ترى أن أُصَلِّي؟ قال: إن أخذتَ عنّي صلَّيْتَ خلف الصخرة، وكانت القدس كلها بين يديك. فقال عمر: ضاهيت اليهودية، لا، ولكن أُصلِّي حيث صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

عُبيد

(2)

هذا لم يُذْكَر له راوٍ إلا أبو سنان، وأبو سنان

(3)

ضعَّفه الإمام أحمد نفسه وابن معين وغيرهما، وقال أبو زرعة:«مخلّط ضعيف الحديث» ، ولا ينفعه ذكر ابن حبان في «الثقات» لما عُرِف من تساهل ابن حبان، ولا قول العجلي:«لا بأس به» ؛ فإن العجلي قريب من ابن حبان أو أشد، عرفتُ ذلك بالاستقراء. ومع هذا فليس في القصة ما يُشعر بسوء دخيلة، عَرَف كعبٌ فضيلةَ بيت المقدس في الإسلام بنص القرآن، وعلم أنه كان قبلة المسلمين أَوّلًا فظنّ أنه الأفضل للمصلّي هناك أن يجعله كله بينه وبين الكعبة. ورأى عمر أن في هذا مضارعة أي مشابهة لليهودية، فيما عُلِم من الإسلام خلافه، وهو صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم. هذا على فَرْضِ صحة الرواية.

وذكر أبورية ص 126 - 127 روايةً أخرى عن «تاريخ الطبري»

(4)

. وهي في التاريخ منقطعة الأول والآخر، إنما قال: «وعن رجاء بن حَيْوَة عمن

(1)

(261).

(2)

ترجمته في «التاريخ الكبير» : (5/ 441)، و «الجرح والتعديل»:(5/ 401).

(3)

ترجمته في «تهذيب التهذيب» : (8/ 211 ــ 212).

(4)

(2/ 559 ــ دار الكتب).

ص: 149

شهد» والسند إلى «رجاء» مجهول، وشيخ «رجاء» مجهول، ومثل هذا لا يثبت به شيء.

قال أبو ريَّة: (فإن شدة دهاء هذا اليهودي غلبت على فطنة عمر وسلامة نيته).

كذا رجع أبورية فسلبَ عمرَ ما ذكره أَوّلًا بقوله: «بحزمه وحكمته وينفذ

بنور بصيرته»، وهذا شأن من يتظنّى الباطل

(1)

.

[ص 76] قال: (فظل يعمل بكيده في السر والعلن).

أقول: كلمة (العلن) هذه تأتي على بقية ما جعله لعمر سابقًا، وتبيَّن أن مقصوده بقوله:(سلامة نيته): الغفلة. قال: (حتى انتهى الأمر بقتل عمر بمؤامرة اشترك فيها هذا الدّهيّ).

ذكر بعد هذا ما حكى عن المِسْوَر بن مَخْرمة، وعزاها إلى تاريخي ابن جرير وابن الأثير

(2)

، والثاني مستمدّ من الأول، وأرى أن أحكيها كما هي عند ابن جرير في أخبار سنة 23 قال: «حدثني سلمة (الصواب: سَلْم) بن جُنادة قال: حدثنا سليمان بن عبد العزيز بن أبي ثابت [عمران] ابن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال: حدثنا أبي عن عبد الله بن جعفر عن أبيه عن المِسْور بن مَخْرمة

قال: خرج عمر بن الخطاب يطوف في السوق، فلقيه أبو لؤلؤة

قال [أبو لؤلؤة]: لئن سلمت لأعملنّ لك رحًى يتحدّث بها مَنْ بالمشرق والمغرب، ثم انصرف. فقال عمر: لقد توعَّدني العبدُ آنفًا. قال: ثم انصرف عمر إلى منزله، فلما كان من

(1)

والملجئ لأبي ريَّة إلى هذا هو محاولته التمكين لتلك المكيدة. [المؤلف].

(2)

«تاريخ الطبري» : (2/ 559)، و «تاريخ ابن الأثير»:(3/ 49 ــ 50).

ص: 150

الغد جاء كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين اعهد فإنك ميّت في ثلاثة أيام. قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله عز وجل التوراة. قال عمر: آلله أنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا، ولكن أجد صفتك وحليتك

فلما كان من الغد جاء كعب فقال:

بقي يومان. قال: ثم جاء مِن غَدِ الغد فقال:

بقي يوم وليلة وهي لك إلى صبيحتها

» وقال فيه: «فضُرِب عمر ستّ ضربات» وفي آخرها: «ثم توفي ليلة الأربعاء لثلاثٍ بقين من ذي الحجة» .

أقول: هل يسمع عمر هذا الوعيد الشديد مِن عبد كافر ثم لا يحترس منه، ولا يأمر بالقبض عليه وسجنه أو ترحيله من المدينة؟ أو على الأقل يضع عليه عيونًا تراقبه، فقد كان لعمر عيون على الناس ترقب أقلَّ من هذا، وكان له عيون على عُمّاله في البلدان البعيدة، أو ليس عمر هو الذي رجع عن بلد الطاعون فقال له أبو عبيدة: أفرارًا من قَدَرِ الله؟ فقال عمر: لو غيرك يا أبا عبيدة قالها. نعم نَفرُّ من قَدَر الله إلى قَدَر الله

(1)

. هب أن عمر لم يبال بنفسه، أفلم يكن بقاء ذلك العبد الكافر بين ظهراني المسلمين خطرًا عليهم، وقد جاهر الخليفة بالتوعُّد، فما عسى أن يكون حاله مع غيره؟ قد يقال: يمكن أن تكون وُضعت عليه عيون راقبته مدّة فلم يُرَ منه ما يُنكر، فتُرِك. لكن [ص 77] هذه الحكاية تجعل التوعّد يوم الجمعة 22 ذي الحجة سنة 23 والقتل بعد ذلك بأربعة أيام.

أضف إلى ذلك أنه قد ثبت أنّ عمر قال في خطبته في تلك الجمعة:

(1)

أخرجه البخاري (5729)، ومسلم (2219).

ص: 151

«رأيت ديكًا نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه إلّا حضور أجلي»

(1)

. وفي بعض الروايات أنه ذكر أن الرؤيا عبرت بأن رجلًا من الأعاجم يعتدي عليه. راجع «فتح الباري» (7: 50)

(2)

. هل يخبر عمر بهذه الرؤيا في اليوم الذي توعَّده فيه الأعجمي ثم لا يحترس ولا يقبض على ذاك الأعجمي؟

وفوق هذا تزعم الحكاية أنّ كعبًا جاء إلى عمر بعد الإخبار بالرؤيا وإيعاد الأعجمي بيوم واحد فقال لعمر ما تقدم. أفلم يكن في اقتران هذه الثلاثة ما يدعو إلى الاحتراس؟

أمر آخر: تقدم (ص 46)

(3)

تشديد عمر على أبي موسى لما أخبر بخبرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهل يُعقل أنّ عمر هذا الذي شدَّد على أخيه المؤمن الصادق المهاجر القديم للإسلام، لا يشدِّد على كعبٍ حديثِ العهدِ باليهودية ولا صحبة له ولا هجرة، مع أن خبره أَوْلَى وأحقّ بأن يُستنكر؟

أمر ثالث: عَهْدُنا بهذا الحميريّ داهيًا، فهل يعقل أن يكون واقفًا على المؤامرة ثم يقع منه ما حكته الحكاية؟ المعقول أن يسكت إن كان له هوًى في قتل عمر، وأن يخبره بالمؤامرة على وجهها إن لم يكن له هوًى في قتله. أما السكوت فخشية أن يؤدّي كلامه إلى حبوط المؤامرة، بأن يحترس عمر ويقبض على أبي لؤلؤة، وقد يجر إلى اكتشاف المؤامرة ووقوع كعب نفسه. وأما الإخبار بالمؤامرة على وجهها فلأنه بذلك يكون له يدٌ عند عمر

(1)

أخرجه مسلم (567).

(2)

(7/ 63).

(3)

(ص 89).

ص: 152

والمسلمين ينال بها جاهًا ومكانة. وكلا هذين الغرضين أهمّ وأعظم مِن حُبّه إيهام اطلاعه على بعض أمور المستقبل، على أنّ هذا قد كان حاصلًا في الجملة، فقد كانوا يعرفون معرفته بصحف أهل الكتاب ويعرفون أن فيها أشياء من ذلك.

ومَنْ قَابَلَ هذه الحكاية بالروايات الصحيحة وَجَدَ مخالفة: منها عدد الطعنات، اتفقت الروايات الصحيحة على أنها ثلاث فقط، ووقع في هذه الحكاية أنها ست. فأنت ترى أن النظر في متن هذه الحكاية يبين أنها مدخولة لا يمكن الاعتماد عليها في شيء، ويؤكِّد ذلك سقوطُ سندها، فإن سليمان مجهول لم نجد له ترجمة، وأبوه ساقط الحديث كما بيَّنه جمعٌ من الأئمة، وعبد الله بن جعفر لا بأس به، فأما أبوه جعفر بن المسور فلا يعرف برواية أصلًا، ولا يُدْرى أدرك أباه أم لا.

[ص 78] وقال ص 117: (ووقع في رواية أبي إسحاق عند ابن سعد: وأتى كعب عمر فقال: ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيدًا، وإنك تقول: من أين وإني في جزيرة العرب).

أقول: هي عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون. وأبو إسحاق مشهور بالتدليس ولم يذكر سماعًا. وروى غيره القصة عن عمرو بن ميمون كما في «صحيح البخاري»

(1)

وغيره بدون هذه الزيادة. ومع هذا فأيّ شيء فيها؟ أما الشهادة فقد كان عمر مُبَشَّرًا بها يقينًا، ففي «الصحيحين»

(2)

وغيرهما من حديث أنس: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صعد أُحُدًا وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم

(1)

(3700).

(2)

البخاري (3675)، ولم أجده في مسلم.

ص: 153

فقال: اثبت أُحُد، فإنما عليك نبي وصدِّيق وشهيدان». وصحّ معناه من حديث عثمان وبريدة وأبي هريرة وسهل بن سعد. راجع «فتح الباري» (7: 32)

(1)

.

وفي «الصحيحين»

(2)

وغيرهما سؤال عمر لحذيفة عن الفتنة، وقول حذيفة:«لا بأس عليك منها يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقًا» قال عمر: «يفتح الباب أو يكسر؟ » قال حذيفة: «لا بل يكسر» . قيل لحذيفة: «علم عمر بالباب؟ » قال: «نعم، كما أنّ دون غدٍ الليلة، إني حدَّثته حديثًا ليس بالأغاليط» ثم بيَّن حذيفة أن الباب هو عمر نفسه. فالمراد بقوله: «يفتح أو يكسر» : يموت أو يقتل.

وثَمَّ أخبار أخرى كرؤيا عوف بن مالك في عهد أبي بكر، وفيها في ذكر عمر «شهيد مستشهد»

(3)

. وفي «صحيح البخاري»

(4)

أن عمر قال: «اللهم ارزقني شهادةً في سبيلك وموتًا في بلد رسولك» وراجع «فتح الباري» (4: 86)

(5)

و (6: 446)

(6)

. ولا ريب أنّ كعبًا كان عارفًا بصحف أهل الكتاب وأن فيها أخبارًا عن المستقبل، وأنه كان يوجد في صحفهم في صدر الإسلام ما لا يوجد عندهم الآن، راجع ما تقدم (ص 72)

(7)

. وشأن عمر من

(1)

(7/ 38).

(2)

البخاري (525)، ومسلم (144).

(3)

أخرجه أحمد في «فضائل الصحابة» (351)، وابن سعد في «الطبقات»:(3/ 307)، وصحح ابن حجر سنده في «الفتح»:(4/ 101).

(4)

(1890).

(5)

(4/ 101).

(6)

لم أجد الإحالة إلى الصفحة، وانظر (6/ 10 ــ 11).

(7)

(ص 142 ــ 143).

ص: 154

أعظم الشؤون في العالم وأحقّها أن يبشِّر به الأنبياء السابقون عند تبشيرهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فليس في رواية أبي إسحاق ذكر التوراة، فقد يكون استند إلى تلك الأخبار الصحيحة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال أبو ريَّة: (وإليك خبرًا عجيبًا من أخبار ذلك الكاهن لعله يمتلخ منك عرق الشك في اشتراكه في هذه المؤامرة، فقد أخرج الخطيب عن مالك أن عمر دخل على أم كلثوم بنت علي، وهي زوجته فوجدها تبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: هذا اليهودي ــ أي كعب الأحبار ــ يقول: إنك على باب

(1)

من أبواب جهنم. فقال عمر: ما شاء الله. ثم خرج فأرسل إلى كعب، فجاءه فقال: يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة، فقال عمر: ما هذا؟ مرة في الجنة ومرة في النار! قال كعب: إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا فيها، فإذا متّ اقتحموا. وقد صدقت يمينه

فقد قتل عمر في ذي الحجة سنة 23 هـ).

[ص 79] أقول: ذكر ابن حجر في «فتح الباري»

(2)

هذه الحكاية في شرح حديث حذيفة الذي فيه وصفُ عمر بأنه باب مغلق دون الفتنة، وقد تقدم قريبًا. وفي «الفتح» أيضًا (2: 446)

(3)

حديثٌ فيه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أشار إلى عمر وقال: «هذا غلق الفتنة، لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغَلْق ما عاش» ، وأن أبا ذرٍّ قال لعمر:«يا غلق الفتنة»

(4)

. فغير منكر أن يكون في

(1)

«على باب» سقطت من (ط)، واستدركتها من كتاب أبي ريَّة.

(2)

(13/ 50).

(3)

(6/ 606). والإحالة في (ط) على المجلد الثاني من «الفتح» خطأ.

(4)

الذي في «الفتح» أن أبا ذرّ قال لعمر: «يا قفل الفتنة» . والذي قال له: «يا غلق الفتنة» هو عثمان بن مظعون.

ص: 155

صحف أهل الكتاب إشارة إلى هذا المعنى بنحو ما في الحكاية ــ إن صحت ــ وإنما الذي يُستنكر أن يكون فيها بيان وقت موت عمر على التحديد.

وقد كان عمر في شهر ذي الحجة سنة 23 حاجًّا، واتفق هناك علامات تُؤذِن بقرب موته، منها أنّ رجلًا ناداه: يا خليفة. فقال آخر من حُزاة العرب: إنا لله، ناداه باسم ميت. ثم لما كان يرمي الجمرة أصابت حصاةٌ جبهةَ عمر فأَدْمته، فقال ذاك الحازي: إنا لله، أُشْعِرَ أمير المؤمنين. والإشعار: تدمية البعير الذي يُهدى ليُنْحَر. وجاء عن عائشة أنها سمعت عقب ذاك الحج منشدًا ينشد:

أبعد قتيلٍ بالمدينة أظلمَتْ

له الأرضُ تهتزّ العِضاهُ بأسْؤق

عليك سلامٌ مِن إمام وباركت

يدُ الله في ذاك الأديم الممزَّق

الأبيات

ولما انصرف عمر من الحج دعا الله تعالى فقال: «اللهم كبرت سِنّي وضعفت قوَّتي وانتشرت رعيَّتي، فاقبضني إليك غير مضيّع ولا مفرّط»

(1)

. فلما قدم المدينة خطبَ الناسَ وقال في خطبته: «رأيتُ ديكًا نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه إلا حضور أجلي»

(2)

.

(1)

هذه الأخبار أخرجها ابن سعد في «الطبقات الكبرى» : (3/ 309 ــ 310، 347 ــ 348).

(2)

أخرجه مسلم (567) وقد تقدم.

ص: 156

فمن الجائز ــ إن صحت تلك الحكاية ــ أن يكون كعب استند إلى بعض هذه العلامات أو شبهها، وقد يكون مع ذلك وجد في صحفه إشارةً فَهِم منها بطريق الرمز مع النظر إلى القرائن والعلامات السابقة أن عمر لا يعيش بعد تلك السَّنَة.

وبعد، فسند الحكاية غير صحيح، تفرَّد بها عن مالك رجلٌ يقال له:«عبد الوهاب بن موسى» لا يكاد يُعْرَف، وليس من رجال شيء من كتب الحديث المشهورة، ولا ذُكِر في «تاريخ البخاري» ولا كتاب ابن أبي حاتم، بل قال الذهبيّ في «الميزان»

(1)

: «لا يُدْرَى مَن ذا الحيوان الكذَّاب» . وفي مقدمة «صحيح مسلم»

(2)

: «الذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرَّد به المحدِّث من الحديث: أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وُجِد كذلك، ثم زاد بعد ذلك شيئًا ليس عند أصحابه قُبِل منه

(3)

». وهذا الرجل لم يُمعن في المشاركة فضلًا عن أن يكون ذلك على [ص 80] الموافقة. لكن هذا الشرط لا يتقيَّد به بعضُ المتأخِّرين كابن حبان والدارقطني. ومن ثَمَّ ــ والله أعلم ــ وثَّق الدارقطنيُّ عبدَ الوهاب هذا، وزعم أن الخبر صحيح عن مالك. أما بقية سنده عن مالك فهو عن عبد الله بن دينار عن سعد الجاري، وسعد الجاري غير مشهور ولا موثَّق، ولا يُدرى أدركه عبد الله بن دينار أم لا.

(1)

(3/ 398). وانظر تعقب الحافظ ابن حجر للذهبي في «لسان الميزان» : (5/ 308 ــ 310).

(2)

(1/ 7).

(3)

في «الصحيح» : «قُبِلت زيادته» .

ص: 157

ومقطع الحق أن ليس بيد من يتَّهم كعبًا بالمؤامرة غير كلمات يُروى أن كعبًا قالها لعمر. وقد كان عمر والصحابة أعلم بالله ورسله وكتبه منَّا، وأعْلَم بعد أن طُعِن عمر بالمؤامرة وقد انكشفت وهو حيّ، وأعلم بحال كعب لأنه صَحِبَهم وجالسهم. والمعقول أنه لو كان في ما خطب به عمر ما يوجب اتهامه لاتهموه، وقد علمنا أنهم لم يتهموه لا قبل انكشاف المؤامرة ولا بعده، فوجب الجزم بأنه لم يقع منه ما يقتضي اتهامه.

قال أبو ريَّة ص 118: (حديث الاستسقاء

).

حكى أنّ كعبًا في عام الرمادة قال لعمر: «إن بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعَصَبة الأنبياء» .

أقول: لم يعزُ هذا إلى كتابٍ لينظر في سنده، ولا أراه إلا ساقطًا

(1)

.

قال: (ومما لا مراء فيه أن هذا اليهودي قد أراد بقوله هذا أن يخدع عمر عن أول أساس جاء

(2)

عليه الدين الإسلامي وهو التوحيد الخالص، ليزلقه إلى هوَّة التوسل الذي هو الشرك بعينه).

أقول: أما المسلمون الذي يعرفون الإسلام، فالذي لا مراء فيه عندهم أن أبا ريَّة مجازف، وأنه على فرض صحّة هذه الحكاية ليس فيها ما يدلّ على سوء طوية كعب، وأن استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما لا علاقة له بالشرك البتة، بل هو أمر يقره الشرع إجماعًا، ويؤيده الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ

(1)

ذكر الخبر ابنُ عبد البر في «الاستيعاب» : (2/ 814)، والعسكري في «الأوائل» (1/ 255 ــ 256) وأسنده إلى المدائني عن شيوخه، فالسند كما قال المؤلف.

(2)

كذا في (ط) والذي في كتاب أبي ريَّة: «قام» .

ص: 158

لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]»، وقال: سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون: 5]، وقال تعالى في يعقوب وبنيه:{قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف: 97 - 98].

وتواتر في السُّنة طلب الصحابة من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم بالسُّقيا وغيرها. وأمرنا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن نسلّم عليه في التشهد، وبالصلاة عليه والدعاء له عقب الأذان، وغير ذلك مما صورتُه طلب الدعاء.

ثم ذكر خبر أنس الذي في «صحيح البخاري»

(1)

أن عمر قال: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم[ص 81] فتسقينا، وإنا نتوسَّل إليك بعمّ نبينا فاسقنا» وزعم أنه لا يصح، وعارضه بروايات منها: عن خوَّات قال: «خرج عمر يستسقي بهم فصلّى ركعتين فقال: اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك، فما برح من مكانه حتى مُطِروا»

(2)

.

أقول: لا أدري ما سنده

(3)

، ولو صح فلا يعارض خبر أنس، فقد تكون واقعة أخرى، فإن عمر لبث خليفة عشر سنين، وقد تكون واقعة واحدة اختصر خوَّات في ذكرها.

(1)

(1010).

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «مجابو الدعوة» (43)، ومن طريقه اللالكائي في «كرامات الأولياء» (69).

(3)

في سنده عطاء بن مسلم الخفّاف متكلّم فيه من جهة حفظه، قال في «التقريب»:«صدوق يخطئ كثيرًا» . وفيه أيضًا شيخه عبد الله العمري، وهو ضعيف.

ص: 159

قال: (وعن الشعبي قال: خرج عمر يستسقي بالناس فما زاد على الاستغفار

).

أقول: الشعبي لم يدرك عمر، وعمر لبث خليفةً عشر سنين، فلم يكن استسقاؤه مرة واحدة

(1)

.

قال: (وقال الجاحظ: ولما صعد (عمر) على المنبر قابضًا على يد العباس

). فذكر نحو خبر الشعبيّ، وذكر أبو ريَّة أنّ الطبريّ أخرجه في «تفسيره»

(2)

، وأنّ ابنَ قتيبة ذكره في «الشعر والشعراء»

(3)

.

أقول: نعم، ولكن لم يقل أحد:«قابضًا على يد العباس» إلا الجاحظ، فأراه زادها توهّمًا.

قال: (قال معاوية لكعب

) عزا هذا إلى «تفسير ابن كثير» (3: 101). وإنما هو فيه (5: 323)

(4)

قال في سنده: «ابن لهيعة حدثني سالم بن غيلان عن سعيد بن أبي هلال: أن معاوية الخ» وابن لهيعة ضعيف، وسعيد بن أبي هلال وُلد بعد موت كعب بنحو أربعين سنة.

قال: (وذكر القرطبيُّ في تفسير سورة غافر عن خالد بن معدان عن كعب

).

أقول: قال القرطبي

(5)

: «قال ثور بن زيد عن خالد

» ولا أدري كيف السند إلى ثور، وخالد لم يدرك كعبًا.

(1)

خبر الشعبي أخرجه عبد الرزاق (4902)، وابن أبي الدنيا في «المطر» (84).

(2)

(23/ 294).

(3)

(2/ 702).

(4)

(5/ 2189 ــ ت البنا).

(5)

(15/ 192 ــ دار الكتب العلمية). ولم أجده مسندًا.

ص: 160

قال: (وفي التفسير أن عبد الله بن قلابة الخ).

أقول: عبد الله بن قلابة مجهول لا ذِكْر له إلا في هذه الحكاية، وفي السند إليه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف كثير التخليط

(1)

.

قال ص 121: (وأخرج أبو الشيخ في «العظمة» عن كعب

).

أقول: كتاب «العَظَمة» تكثر فيه الرواية عن الكذَّابين والساقطين والمجاهيل

(2)

.

قال: (وعن وهب بن منبه: أربعة أملاك يحملون العرش

).

أقول: وهذا أيضًا من كتاب «العَظَمة»

(3)

.

[ص 82] قال: (وقرأ معاوية الخ).

أقول: في سنده سعيد بن مَسْلَمة بن هشام، قال فيه البخاري:«منكر الحديث فيه نظر» ، وهذا من أشدِّ الجرح في اصطلاح البخاري. وفي سياق القصة ما يشعر بانقطاع آخرها.

قال ص 122: (وذكر الحافظ ابن حجر أنَّ كعب الأحبار روى أن باب السماء الذي يقال له: مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس، فأخذ منه بعض العلماء أن الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج ليحصل العروج مستويًا

). قال أبو ريَّة: (وهكذا تنفذ الإسرائيليات إلى معتقداتنا).

(1)

أخرج هذا الأثر في قصة إرم ذات العماد أبو الشيخ في «العظمة» : (4/ 1493 ــ 1502)، والثعلبي في «الكشف والبيان»:(10/ 197). وفي سندها أيضًا عبد الله بن صالح كاتب الليث وفيه ضعف.

(2)

والخبر في «العظمة» : (4/ 1384). وفي سنده عبد الله بن صالح أيضًا.

(3)

(2/ 600).

ص: 161

أقول: الحكاية عن كعب لا ندري ما سندها

(1)

، وذاك الأخْذُ إنما هو احتمال لا تثبت به عقيدة ولا تنتفي.

قال: (وقال ابن حجر بعد أن أورد تلك الخرافة

).

أقول: من أين لك أنها خرافة؟

قال: (وروى كعب: أن في الجنة مَلَكًا الخ).

أقول: ذكره بنحو ما هنا ابنُ القيم في «حادي الأرواح»

(2)

المطبوع مع «إعلام الموقعين» (1: 314) وهو من رواية شِمْر بن عطية عن كعب، وشِمْر لم يدرك كعبًا، وليس في الحكاية ما يستنكره المسلم.

قال: (ومما يدلُّك على أن الصحابة كانوا يرجعون إليه

(3)

حتى فيما هو من علمهم ــ وبخاصة عندما قال: ما من شيء إلا وهو مكتوب في التوراة ــ: أن أبا عبد الرحمن محمد بن الحسين النيسابوري ذكر أن عمر قال لكعب ــ وذكر الشعر ــ: يا كعب هل تجد للشعر ذكرًا في التوراة

).

أقول: عزاه إلى كتاب «العمدة»

(4)

لابن رَشيق، وابن رَشيق لم يلق النيسابوري، والنيسابوري ضعيف جدًّا حتى اتُّهِم بالوضع، تجد ترجمته في

(1)

ذكر الحافظ الخبرَ بمعناه في «فتح الباري» : (7/ 196)، وذكر نصه الآلوسي في «روح المعاني»:(8/ 14).

(2)

(1/ 424 ــ دار عالم الفوائد). والأثر أخرجه ابن أبي شيبة (35143)، وابن أبي الدنيا في «صفة الجنة» (223)، وأبو الشيخ في «العظمة» (2/ 751).

(3)

هذا من محاولات أبي ريَّة تمكين تلك المكيدة التي مرت ص 73 [143]. [المؤلف].

(4)

(1/ 8 ــ دار الخانجي).

ص: 162

«لسان الميزان» (5: 140)

(1)

. وبينه وبين عمر أكثر من ثلاثمائة سنة. وهب أنّ القصة صحّت فأيُّ شيء فيها يدلّ على تلك الدعوى الفاجرة؟ وما نسبه إلى كعب من قوله: «ما من شيء الخ» لم يعزه

(2)

.

قال: (وروى البيهقي في «الأسماء والصفات» بسند صحيح عن ابن عباس [قال]

في كل أرض نبيّ كنبيكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى).

أقول: أما هذا فليس سنده بصحيح؛ لأنه من طريق شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضُّحى عن [ص 83] ابن عباس، وشريك يخطئ كثيرًا ويدلِّس، وعطاء بن السائب اختلط قبل موته بمدَّة، وسماعُ شريك منه بعد الاختلاط. لكن أخرج البيهقي

(3)

عقب هذا بسندٍ آخر من طريق «آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن عَمْرو بن مرّة عن أبي الضُّحى عن ابن عباس في قوله عز وجل: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] قال: في كلِّ أرض نحو إبراهيم» . ثم قال البيهقي: «إسناد هذا عن ابن عباس صحيح، وهو شاذٌّ بمَرَّة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعًا» . وأخرجه ابن جرير

(4)

عن عَمْرو بن عليّ عن غُنْدَر عن شعبة فذكره بنحوه، وزاد «ونحو ما على الأرض

(1)

(7/ 92 ــ 93 ــ ت أبو غدة).

(2)

أخرجه الطبراني في «الكبير» (18/ 346)، ومن طريقه أبو نعيم في «معرفة الصحابة»:(4/ 116). قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» : (7/ 267 ــ 268): «مرسل» . وقد تقدم (ص 136 - 137). ولفظه في بعض المصادر: «ما من الأرض شيء إلا وهو مكتوب

»، وفي بعضها: «ما من الأرض شبر

».

(3)

«الأسماء والصفات» (832).

(4)

(23/ 78).

ص: 163

من الخلق».

وعلى هذا فالمعنى ــ والله أعلم ــ أنّ في كلِّ أرض خلقًا كنحو بني آدم، وفيهم مَن يَعْرف الله تعالى بالنظر في آياته كما عرف إبراهيم عليه السلام، وهذا القول قد يتوصَّل إليه بالنظر في الآية المذكورة وسياقها، وقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85]. وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وغيرها. على أن بعضهم قد فسر ما جاء في الرواية الأخرى التي قدَّمتُ أنها لا تصح، ففي «روح المعاني»

(1)

: «لامانع عقلًا ولا شرعًا من صحته، والمراد أنّ في كلّ أرض خَلْقًا يرجعون إلى أصلٍ واحد رجوع بني آدم في أرضنا إلى آدم عليه السلام، وفيهم أفراد ممتازون على سائرهم كنوح وإبراهيم فينا» .

أما ما في «البداية»

(2)

: «محمول إن صحّ نقله عنه على أنه أخذه ابن عباس رضي الله عنه عن الإسرائيليات» فغير مرضيّ، فابن عباس ــ كما مرَّ ويأتي ــ كان ينهى عن سؤال أهل الكتاب، فإنْ كان مع ذلك قد يسمع مِن بعض مَن أسلم منهم أو يسأله فإنما ذلك شأن العالم يسمع ما ليس بحجّة، لعله يجد فيه ما ينبّهه ويَلْفِتُ نظرَه إلى حجة. وسيأتي تمام هذا إن شاء الله

(3)

.

وقال ص 123: (وفي «تفسير الطبري»

(4)

أن ابن عباس سأل كعبًا عن سدرة

(1)

(28/ 143).

(2)

«البداية والنهاية» : (1/ 42 ــ 43 ــ دار هجر).

(3)

(ص 170، 183).

(4)

(22/ 33).

ص: 164

المنتهى. فقال: إنها على رؤوس حَمَلة العرش، وإليها ينتهي علم الخلائق، وليس لأحد وراءها علم، ولذلك سميت سدرة المنتهى لانتهاء العلم بها).

أقول: هو من طريق الأعمش عن شِمْر بن عطية عن هلال بن يساف قال: سأل ابنُ عباس كعبًا وأنا حاضر» كذا قال، والأعمش مشهور بالتدليس، وهلال بن يساف لم يدرك كعبًا.

قال أبو ريَّة: (هذا ما قاله لتلميذه الثاني، أما تلميذه الأول فهو أبو هريرة

).

أقول: لم يتعلَّما من كعب شيئًا، وإنما سمعا منه شيئًا محتملًا فحكياه، أو سألاه سؤالَ خبيرٍ ناقد لينظرا ما يقول، ولا يضرهما تهكُّم أبي ريَّة، كما لم يضر النبيَّ صلى الله عليه وسلم قول المشركين:{إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103].

[ص 84] قال: (ففي حديث له: أنها شجرة تخرج من أصلها أنهار الخ).

أقول: هذا رواه أبو جعفر الرازي

(1)

، وشكَّ فيه فقال:«عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة أو غيره» . وأبو جعفر والربيع فيهما كلام. وقال ابن حبان في الربيع: «الناس يتَّقون مِن حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه، لأن في أحاديثه عنه اضطرابًا كثيرًا»

(2)

.

قال: (وفي حديث المعراج: أنه لما فرض الله خمسين صلاة على العباد في النهار وفي الليل ولم يستطع أحد من الرسل جميعًا غير موسى أن يفقه استحالة أدائها على البشر، فهو وحده الذي فطن لذلك

وكأن الله سبحانه

كان لا يعلم مبلغ قوة احتمال عباده

وكذلك لا يعلم محمد

حتى بصَّره موسى. وهكذا ترى الإسرائيليات تنفذ إلى ديننا

ولا تجد أحدًا إلا قليلًا يزيفها

).

(1)

أخرجه من طريقه ابن جرير: (22/ 37).

(2)

«الثقات» : (4/ 228).

ص: 165

أقول: إن كانت الإسرائيليات تشمل عند أبي ريَّة كلَّ خبرٍ فيه فضيلة لموسى عليه السلام ففي القرآن كثير منها، بل في عدة آيات منه ذِكْر تفضيل بني إسرائيل على العالمين وغير ذلك. وإن كانت خاصة بما ألصق بالإسلام وليس منه من مقولات أهل الكتاب، فلم يزل أهل العلم يتتبعونها ويزيِّفونها. أما سكوتهم عن محاولة تزييف ما ثبت في أحاديث الإسراء فعذرهم واضح، وهو أنه لم يبلغ أحدٌ منهم في العلم والعقل والحياء مبلغ أبي رية. ودونك الجواب:

كانت الصلاة قبل الهجرة ركعتين ركعتين كما ثبت في «الصحيح»

(1)

، فخمسون صلاة مائة ركعة، وليس أداء مائة ركعة في اليوم والليلة بمستحيل، وفي الناس الآن من يصلي في اليوم والليلة نحو مائة ركعة، ومنهم من يزيد، وفي تراجم كثير من كبار المسلمين أنَّ منهم من كان يصلي أكثر من ذلك بكثير، بل إن أداء مائة ركعة في اليوم والليلة ليس بعظيم المشقَّة في جانب ما لله عز وجل من الحقّ وما عنده من عظيم الجزاء في الدنيا والآخرة، نعم قال الله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45 - 46]. وما وقع في كلام موسى: «إن أمتك لا تطيق» وفي رواية: «لا تستطيع» ليس معناه أن ذلك مستحيل، وإنما معناه أن ذلك يشقُّ عليها، ولهذا أطلق هذه العبارة بعد بيان رجوع الصلاة إلى خمس، قال موسى:«إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم» . وراجع «مفردات [ص 85] الراغب»

(2)

(طوع) و (طوف).

فأما الله تعالى فالفرض في عِلْمِه خمس صلوات فقط. ولكنه سبحانه

(1)

البخاري (350)، ومسلم (685) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

(ص 529 - 532 ــ دار القلم).

ص: 166

إذا أراد أن يرفع بعض عباده إلى مرتبةٍ هيّأ له ما يستحقّ به المرتبة، ومِن ذلك أن يهيئ ما يفهم منه العبد أنه مكلّف بعمل معيَّن شاقّ، فيقبل التكليف ويستعدّ لمحاولة الأداء، فحينئذ يعفيه الله تعالى من ذلك العمل، ويكتب له جزاءَ قبوله ومحاولةِ الوفاء به أو الاستعداد لذلك= ثوابَ مَنْ عَمِلَه. ومن هذا القبيل قصة إبراهيم في ذبح ابنه.

وأما محمد صلى الله عليه وسلم فكان يعلم أن الأداء ممكن كما مرَّ، وكان في ذلك المقام الكريم مستغرقًا في الخضوع والتسليم، ووفّقه الله عز وجل لقبول ما فهمه في فرض خمسين والاستعداد لأدائها، ليكون هذا القبول والاستعداد مقتضيًا لاستحقاق ما أراد الله عز وجل أن يعطيه وأمته من ثواب خمسين صلاة. وقبوله واستعداده عنه وعن أمته في حكم قبول الأمة، فإنها تَبَع له وكان هو النائب عنها، على أنه ما من مؤمن من أمته يطَّلع على الحديث ويراجع نفسه إلا رأى أنه لو كان المفروض خمسين صلاة لبذَلَ وُسعه في أدائها والوفاء بها. فأما المراجعة للتخفيف بعد مشورة موسى فإنما كانت بعد أن استقرَّ القبول والعزم على الأداء، وعلى وجه الرجاء إن خفف فذاك وإلا فالقبول والاستعداد بحاله.

ولم يذكر في الحديث أن أحدًا من الرسل اطلع على فرض الصلاة وإنما فيه أنه لما مرَّ محمد بموسى عليهما السلام سأله موسى فأخبره فقال موسى: «إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جرَّبتُ الناسَ قبلك وعالجت بني إسرائيل أشدَّ المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك»

(1)

. واختصَّ موسى بالعناية لأنه أقرب الرسل حالًا إلى محمد؛ لأن كلًّا منهما رسول منزل عليه كتاب تشريعي سائسٌ لأمة أُرِيدَ لها

(1)

أخرجه البخاري (349)، ومسلم (162) في حديث الإسراء الطويل.

ص: 167

البقاء لا أن تصطلم بالعذاب، وقُضي لمحمد أن تطول معالجتُه لأمته كما طالت معالجة موسى لأمته، ووجوه الشبه كثيرة؛ ولهذا أتى القرآن بذكر موسى في مواضع كثيرة، منها عقب آية الإسراء، قال الله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} [الإسراء: 1 - 2].

هذا، وحديث الإسراء ثابت مستفيض من رواية جماعة من الصحابة، وعليه إجماع الأمة، ولايضرّه أن يجهل بعض الناس حِكْمة عالم الغيب والشهادة في بعض ما اشتمل عليه، ولا أن يكفر به من يكفر. والله الموفق.

[ص 86] قال أبو ريَّة ص 124: (هل يجوز رواية الإسرائيليات؟)

أقول: المعلوم دينًا وعقلًا أن الأخبار إنما تُحْظَر روايتها إذا ترتَّبت عليها مفسدة، وقد كثر في القرآن والسنة حكاية ما هو حق من الإسرائيليات وحكاية ما هو باطل مع بيان بطلانه، فدلّ ذلك على جواز ما كان من هذا القبيل، وبقي المحتمل، وما لا تظهر مفسدة في روايته على أنه محتمل.

قال أبو ريَّة: (روى أحمد عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبيّ صلى الله عليه وسلم فغضب وقال: أمتهوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتَّبعني. وفي رواية: فغضب وقال: جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فيخبروكم بحقّ فتكذّبوا به أو بباطل فتصدّقوا به).

أقول: هذا من رواية مُجالد عن الشعبي عن جابر

(1)

، ومجالد ليس

(1)

أخرجه أحمد (14631)، وأبو يعلى (2135)، والبيهقي:(2/ 10 ــ 11).

ص: 168

بالقوي، وأحاديث الشعبي عن جابر أكثرها لم يسمعه الشعبي من جابر كما مرَّ (ص 38)

(1)

. وعلى فرض صحته فالغضب من المجيء بذاك الكتاب كان لسبببين:

الأول: إشعاره بظنِّ أن شريعتهم لم تُنسخ، ولهذا دفع ذلك بقوله:«لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني» .

والثاني: أنه قد سبق للمشركين قولهم في القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] وفي اعتياد الصحابة الإتيان بكتب أهل الكتاب وقراءتها على النبيّ صلى الله عليه وسلم ترويج لذاك التكذيب. والسببان منتفيان عمن اطلع على بعض كتبهم بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن عَمرو.

أما قوله: «لا تسألوا الخ» فقد بيَّن أن العلة هي خشية التكذيب بحق أو التصديق بباطل، والعالم المتمكِّن مِن معرفة الحق من الباطل ومن المحتمل بمأمَنٍ من هذه الخشية، يوضّح ذلك: أن عمر رضي الله عنه ــ وهو صاحب القصة ــ كان بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم يسمع من مسلمي أهل الكتاب وربما سألهم، وشاركه جماعة من الصحابة ولم ينكر ذلك أحد.

قال: (وروى البخاري عن أبي هريرة: لا تصدقوا الخ).

أقول: الذي في «صحيح البخاري»

(2)

: «عن أبي هريرة قال: كان أهلُ الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال

(1)

(ص 75).

(2)

(4485).

ص: 169

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم الخ» [ص 87] فلم يَنْهَ عن السماع والاستماع، وإنما نهى عن التصديق والتكذيب. ولا ريب أن المنهيّ عنه هو التصديق المبنيّ على حُسن الظنّ بصحفهم، والتكذيب المبنيّ على غير حجة، فلو قامت حجة صحيحة وجب العمل بها.

قال: (وروى البخاري

عن ابن عباس أنه قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على رسول الله أحدث الكتب تقرؤونه محضًا لم يُشَبْ، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدَّلوا كتابَ الله وغيروه الخ).

أقول: هذا مِن قول ابن عباس، وقد علمنا أنه كان يسمع ممن أسلم من أهل الكتاب، وقد رُوي أنه سأل بعضهم، وأبو ريَّة يُسْرِف في هذا حتى يرمي ابنَ عباس بأنه (تلميذ لكعب)، وبالتدبُّر يظهر مقصوده، ففي بقية عبارته:«لا والله ما رأينا رجلًا منهم يسألكم عن الذي أنزل إليكم» فدلّ هذا أن كلامه في أهل الكتاب الذين لم يُسْلموا، فأما الذي أسلموا فعَمَل ابن عباس يقتضي أنه لا بأس للعالم المحقق ــ مثله ــ أن يسأل أحدهم.

قال ص 125: (وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود قال: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يَهدوكم وقد ضلوا. إما أن تكذِّبوا بحق أو تصدّقوا بباطل»).

أقول: في سنده نظر

(1)

، فإن صحّ فقد تقدَّم معناه في حديث جابر وأثر ابن عباس

(2)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق (10162)، وابن جرير (18/ 423) من طريق الأعمش عن عمارة بن عمير عن حريث بن ظهير به. وأخرجه ابن أبي شيبة (26952) من طريق الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد به. وسنده كما قال المؤلف، ففيه حريث بن ظهير قال الذهبي: لا يُعرف، وقال الحافظ: مجهول.

(2)

تقدّما قريبًا.

ص: 170

قال: (ولكن ما لبث الأمر أن انقلب بعد أن اغترَّ بعض المسلمين بمن أسلم من أحبار اليهود خدعة (؟) فظهرت أحاديثُ رفعوها إلى النبيّ تبيح الأخذ وتنسخ ما نهى عنه، فقد روى أبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» ).

أقول: صحَّ هذا من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عَمرو وأبي سعيد الخدري، وليس بمخالف لما تقدم، كيف والحجة مما تقدم إنما هي في حديث أبي هريرة، فأما حديث جابر فلم يصح، وأثر ابن عباس مِنْ قوله، وقد بيَّنه سياقُه وفِعْلُه، وأثر ابن مسعود ــ إن صحّ ــ فقد تقدم حمله، ولو كان مخالفًا لكان رأي صحابيّ قد خالفه غيره، فالحجة في حديث أبي هريرة فقط، وهو بيِّن في الإذن بالسماع والاستماع، ولم ينه إلا عن التصديق أو التكذيب بلا حجة. والرواية إما في معنى السماع والاستماع، فيدلّ الحديث على الإذن فيها، وإما مسكوتٌ عنها، فتبيّن أن حديث:«حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»

(1)

غير مخالف لحجة، ولو كان مخالفًا فأيُّما أولى أن يؤخذ به؟ أدلةُ المنع قد عرفتَ حالها، أما أدلة الجواز فصنيع القرآن والسنن الثابتة، وحديثٌ صحيح صريح يرويه جماعة من الصحابة، وعَمَل عمر وعثمان وجماعة من الصحابة.

قال: (وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو من تلاميذ كعب الأحبار).

أقول: لم يتعلّما من كعب شيئًا وإنما سمعا منه شيئًا من الحكايات ظنَّا أو جوَّزا صحتها فنقلاها، والذي يصح عنهما من ذلك شيء يسير. وكأنَّ أبا ريَّة يريد أنهما لمّا سَمِعا من كعب أحبَّا أن يرويا عنه، فخافا أن ينكر الناسُ عليهما، فافتريا ــ والعياذ بالله ــ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ذاك الحديث يدفعان به إنكار

(1)

أخرجه البخاري (3461).

ص: 171

الناس، وساعدهما على ذلك غيرهما من الصحابة كأبي سعيد الخدري. كأنَّ أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم جماعة من اللصوص لا يَزَعهم دين ولا حياء، وكأنَّ صُحبتهم له ومجالستهم، وحفظهم للقرآن والسنن، ومحافظتهم على الطاعة طول عمرهم لم تُفِدْهم في دينهم وأخلاقهم شيئًا بل زادتهم وبالًا، فقد كانوا في جاهليتهم يتحاشَون من الكذب. ولا ريب أنَّ مِثْل هذا لا يقوله مسلم عاقل يعرف محمدًا صلى الله عليه وسلم ويؤمن بالقرآن وما فيه من الثناء البالغ على الصحابة، ويعرفُ الصحابةَ أنفسَهم. ولو أريد من ثلاثة معروفين من أصحاب السيد رشيد رضا أن يتَّفقوا على الكذب عليه لغرضٍ من الأغراض لعزَّ ذلك، مع الفارق العظيم بين هذا وذاك من وجوه عديدة.

هذا، وسبيل المؤمنين الذي جرى عليه العمل في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي عهد أصحابه: قبول خبر الصحابي الواحد، فإن عَرَض احتمال خطأ أو نحوه

(1)

فقام صحابيّ آخر فأخبر بمثل ذاك لم يبق إلا القبول، كما يروى في خبر محمد بن مَسْلمة بمثل ما أخبر به المغيرة في ميراث الجدّة فأمضاه أبو بكر، وكشهادة أبي هريرة لحسَّان بإنشاده الشعر في المسجد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم فأقرَّه عمر، وكخبر أبي سعيد الخدري بمثل خبر أبي موسى في الاستئذان فاطمأنّ إليه عمر، وقد قال الله تبارك وتعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

قال أبو ريَّة: (وقد جاءت الأخبار بأن الثاني وهو عبد الله بن عمرو بن العاص أصاب يوم اليرموك زاملتين من علوم أهل الكتاب، فكان يحدّث منهما بأشياء كثيرة من

(1)

(ط): «أو نحو» .

ص: 172