الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِاهْتِدَاءِ أَمْثَالِهِمْ كَقَوْلِهِ: أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [سُورَة الشورى: 18] وَقَوْلِهِ: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ [سُورَة سبأ: 8] . وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فِي سُورَة النِّسَاء [116] .
[4]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : آيَة 4]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
إِذَا كَانَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ مُسْتَعْمَلَةً فِي ظَاهِرِهَا وَمُسَلَّطَةً عَلَى مُتَعَلِّقِي الْفِعْلِ الْمَقْصُورِ كَانَ قَصْرًا إِضَافِيًّا لِقَلْبِ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ رَدًّا عَلَى فَرِيقٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا:
هَلَّا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [سُورَة فُصِّلَتْ: 44] فَقَالَ: كَانُوا لِتَعَنُّتِهِمْ يَقُولُونَ: هَلَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ فِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرَيِّ» هُنَالِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْعَرَبَ قَالُوا ذَلِكَ.
ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ لُغَةَ غَيْرِ الْعَرَبِ مِثْلَ الْعِبْرَانِيَّةِ أَوْ السُّرْيَانِيَّةِ مِنَ
اللُّغَاتِ الَّتِي أُنْزِلَتْ بِهَا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، فَكَانَ مِنْ جملَة مَا موّت لَهُمْ أَوْهَامُهُمْ أَنْ حَسِبُوا أَن للكتب بالإلهية لُغَةً خَاصَّةً تُنَزَّلُ بِهَا ثُمَّ تُفَسَّرُ لِلَّذِينِ لَا يَعْرِفُونَ تِلْكَ اللُّغَةَ. وَهَذَا اعْتِقَادٌ فَاشٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعُقُولِ الضَّعِيفَةِ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعَالِجُونَ سِرَّ الْحَرْفِ وَالطَّلْسَمَاتِ يُمَوِّهُونَ بِأَنَّهَا لَا تكْتب إِلَّا بِاللُّغَةِ السُّرْيَانِيَّةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا لُغَةُ الْمَلَائِكَةِ وَلُغَةُ الْأَرْوَاحِ. وَقَدْ زَعَمَ السِّرَاجُ الْبَلْقِينِيُّ: أَنَّ سُؤَالَ الْقَبْرِ يَكُونُ بِاللُّغَةِ السُّرْيَانِيَّةِ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ فَقَالَ:
وِمِنْ عَجِيبِ مَا تَرَى الْعَيْنَانِ
…
أَنَّ سُؤَالَ الْقَبْرِ بِالسُّرْيَانِي
أَفْتَى بِهَذَا شَيْخُنَا الْبَلْقِينِي
…
وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ بِعَيْنِي
وَقَدْ كَانَ الْمُتَنَصِّرُونَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْمُتَهَوِّدُونَ مِنْهُمْ مِثْلَ عَرَبِ الْيَمَنِ تُتَرْجَمُ لَهُمْ بَعْضُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْوَحْيِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» ، فَاسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ جُمْلَةِ مَطَاعِنِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَكَانَ بِاللُّغَةِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْكُتُبُ السَّالِفَةُ. فَصَارَتْ عَرَبِيَّتُهُ عِنْدَهُمْ مِنْ وُجُوهِ الطَّعْنِ فِي أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ، فَالْقَصْرُ هُنَا لِرَدِّ كَلَامِهِمْ، أَيْ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ بِلِسَانٍ إِلَّا لِسَانِ قَوْمِهِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ لَا بِلِسَانِ قَوْمٍ آخَرِينَ.
فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ آيَةِ كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ بَيِّنُ الْمُنَاسَبَةِ.
وَتَقْدِيرُ النَّظْمِ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَأَنْزَلْنَاهُ بِلُغَةِ قَوْمِكَ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُخْرِجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
وَإِذَا كَانَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ جَارِيَةً عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَلَمْ يَكُنْ رَدًّا لِمَقَالَةِ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ يَكُنْ تَنْزِيلًا لِلْمُشْرِكِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ لَيْسُوا بِعَرَبٍ لِعَدَمِ تَأَثُّرِهِمْ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ، وَلِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَكَانَ مَنَاطُ الْقَصْرِ هُوَ مَا بَعْدَ لَامِ الْعِلَّةِ.
وَالْمَعْنَى: مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا لِتُبَيِّينَ لَهُمْ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُبَيِّنَ لِقَوْمِهِ، وَكَانَ قَوْلُهُ:
إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ إِدْمَاجًا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِ الْقَصْرُ أَوْ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ لِيُبَيِّنَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ بِلِسَانِهِمْ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُبَيِّنَ لِقَوْمِهِ بِلِسَانِهِمْ، فَمَا لِقَوْمِكَ لَمْ يَهْتَدُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ وَهُوَ بِلِسَانِهِمْ، وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ مُوقِعُ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
وَاللِّسَانُ: اللُّغَةُ وَمَا بِهِ التَّخَاطُبُ. أُطْلِقَ عَلَيْهَا اللِّسَانُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ بِهِ، مِثْلَ: سَالَ الْوَادِي.
وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، فَلُغَةُ قَوْمِهِ مُلَابِسَةٌ لِكَلَامِهِ وَالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِ لِإِرْشَادِهِمْ.
وَالْقَوْمُ: الْأُمَّةُ وَالْجَمَاعَةُ، فَقَوْمُ كُلِّ أَحَدٍ رَهْطُهُ الَّذِينَ جَمَاعَتُهُمْ وَاحِدَةٌ وَيَتَكَلَّمُونَ بِلُغَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَوْمُ كُلِّ رَسُولٍ أُمَّتُهُ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِمْ، إِذْ كَانَ الرُّسُلُ يُبْعَثُونَ إِلَى أَقْوَامِهِمْ، وَقَوْمُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هُمُ الْعَرَبُ، وَأَمَّا أُمَّتُهُ فَهُمُ الْأَقْوَامُ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِمْ وَهُمُ النَّاسُ كَافَّةً.
وَإِنَّمَا كَانَ الْمُخَاطَبُ أَوَّلًا هُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ وَنَزَلَ الْكِتَابُ بِلُغَتِهِمْ لِتَعَذُّرِ نُزُولِهِ بِلُغَاتِ الْأُمَمِ كُلِّهَا، فَاخْتَارَ اللَّهُ أَنْ يكون رَسُوله- عليه الصلاة والسلام مِنْ أُمَّةٍ هِيَ أَفْصَحُ الْأُمَمِ لِسَانًا، وَأَسْرَعُهُمْ أَفْهَامًا، وَأَلْمَعُهُمْ ذَكَاءً، وَأَحْسَنُهُمْ اسْتِعْدَادًا لِقَبُولِ الْهُدَى وَالْإِرْشَادِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِرَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ فِي حَيَاتِهِ عَدَدٌ مِنَ النَّاسِ مِثْلَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ فَقَدْ عَمَّ الْإِسْلَامُ بِلَادَ الْعَرَبِ وَقَدْ حَجَّ مَعَ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ نَحْوَ خَمْسِينَ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ. وَقِيلَ مِائَةُ أَلْفٍ وَهْمُ الرِّجَالُ الْمُسْتَطِيعُونَ.
وَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ إِلَيْهِمْ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، لِأَنَّهَا أَصْلَحُ اللُّغَاتِ جَمْعَ مَعَانٍ، وَإِيجَازَ عِبَارَةٍ، وَسُهُولَةَ جَرْيٍ عَلَى الْأَلْسُنِ، وَسُرْعَةَ حِفْظٍ، وَجَمَالَ وَقْعٍ فِي الْأَسْمَاعِ، وَجُعِلَتِ الْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ هِيَ المتلقية للْكتاب بادىء ذِي بَدْءٍ، وَعُهِدَ إِلَيْهَا نَشْرُهُ بَيْنَ الْأُمَمِ.
وَفِي التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: لِيُبَيِّنَ لَهُمْ إِيمَاءٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْرِيعِ الْبَيَانَ كَانَتْ أَقْرَبُ اللُّغَاتِ إِلَى التَّبْيِينِ مِنْ بَيْنِ لُغَاتِ الْأُمَمِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ هِيَ اللُّغَةُ الَّتِي هِيَ أَجْدَرُ بِأَنْ يَأْتِيَ الْكِتَابُ بِهَا، قَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [سُورَة الشُّعَرَاء: 195] . فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مَطَاوِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِهَا الرَّدُّ عَلَى طَعْنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَةٍ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا كِتَابٌ قَبْلَهُ اقْتَصَرَ فِي رَدِّ خَطَئِهِمْ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُهِمُّهُمْ.