الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْإِحْصَاءُ: ضَبْطُ الْعَدَدِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَصَا اسْمًا لِلْعَدَدِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنَ الْحَصَى، وَهُوَ صِغَارُ الْحِجَارَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُونَ الْأَعْدَادَ الْكَثِيرَةَ بِالْحَصَى تَجَنُّبًا لِلْغَلَطِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الْمُسْتَعْمَلِ فِي تَحْقِيقِ تَبْدِيلِ النِّعْمَةِ كُفْرًا، فَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ عَنْهَا.
وَالْمُرَادُ بِ الْإِنْسانَ صِنْفٌ مِنْهُ، وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ وَتَأْكِيدِهَا،
فَالْإِنْسَانُ هُوَ الْمُشْرِكُ، مِثْلَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [سُورَة مَرْيَم: 66] ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَصِيغَتَا الْمُبَالغَة فِي لَظَلُومٌ كَفَّارٌ اقْتَضَاهُمَا كَثْرَةُ النِّعَمِ الْمُفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها، إِذْ بِمِقْدَارِ كَثْرَةِ النِّعَمِ يَكْثُرُ كُفْرُ الْكَافِرِينَ بِهَا إِذْ أَعْرَضُوا عَنْ عِبَادَةِ الْمُنْعِمِ وَعَبَدُوا مَا لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَا يَجْحَدُونَ نِعَمَ اللَّهِ وَلَا يعْبدُونَ غَيره.
[35، 36]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (14) : الْآيَات 35 إِلَى 36]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [إِبْرَاهِيم: 28] فَإِنَّهُمْ كَمَا بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا أَهْمَلُوا الشُّكْرَ عَلَى مَا بَوَّأَهُمُ اللَّهُ مِنَ النِّعَمِ بِإِجَابَةِ دَعْوَةِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام، وَبَدَّلُوا اقْتِدَاءَهُمْ بِسَلَفِهِمُ الصَّالِحِ اقْتِدَاءً بِأَسْلَافِهِمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ، وَبَدَّلُوا دُعَاءَ سَلَفِهِمُ الصَّالِحِ لَهُمْ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ كُفْرًا بِمَفِيضِ تِلْكَ النِّعَمِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِأَنِ انْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِ النِّعَمِ الْعَامَّةِ لِلنَّاسِ الَّتِي يَدْخُلُ تَحْتَ مِنَّتِهَا أَهْلُ مَكَّةَ بِحُكْمِ الْعُمُومِ إِلَى ذِكْرِ النِّعَمِ الَّتِي خَصَّ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ مَكَّةَ. وَغَيَّرَ الْأُسْلُوبَ فِي الِامْتِنَانِ بِهَا إِلَى أُسْلُوبِ الْحِكَايَةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ لِإِدْمَاجِ التَّنْوِيهِ بِإِبْرَاهِيمَ- عليه السلام وَالتَّعْرِيضِ بِذُرِّيَّتِهِ من الْمُشْركين.
(وَإِذا) اسْمُ زَمَانٍ مَاضٍ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ شَائِعِ الْحَذْفِ فِي أَمْثَالِهِ، تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ، زِيَادَةً فِي التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي مَرَّ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً، فَمَوْقِعُ الْعِبْرَةِ مِنَ الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ.
ورَبِّ مُنَادَى مَحْذُوفٌ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ. وَأَصْلُهُ (رَبِّي) ، حُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى الْيَاءِ.
وَالْبَلَدُ: الْمَكَانُ الْمُعَيَّنُ مِنَ الْأَرْضِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَرْيَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْبَلَدَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ لِأَنَّهُ مَعْهُود الْحُضُور. والْبَلَدُ بَدَلٌ مِنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَحِكَايَةُ دُعَائِهِ بِدُونِ بَيَانِ الْبَلَدِ إِبْهَامٌ يَرِدُ بَعْدَهُ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
[سُورَة إِبْرَاهِيم: 37] ، أَوْ هُوَ حَوَالَةُ عَلَى مَا فِي عِلْمِ الْعَرَبِ مِنْ أَنَّهُ مَكَّةُ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ. وَالتَّعْرِيفُ هُنَا لِلْعَهْدِ، وَالتَّنْكِيرُ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ تَنْكِيرُ النَّوْعِيَّةِ، فَهُنَا دَعَا لِلْبَلَدِ بِأَنْ يَكُونَ آمِنًا، وَفِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ دَعَا لِمُشَارٍ إِلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ مِنْ نَوْعِ الْبِلَادِ الْآمِنَةِ، فَمَآلُ الْمُفَادَيْنِ مُتَّحِدٌ.
وَاجْنُبْنِي أَمْرٌ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ، يُقَالُ: جَنَّبَهُ الشَّيْءَ، إِذَا جَعَلَهُ جَانِبًا عَنْهُ، أَيْ بَاعَدَهُ عَنْهُ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: جَنَّبَهُ بِالتَّضْعِيفِ أَوْ أَجْنَبَهُ بِالْهَمْزِ.
وَجَاءَ الْقُرْآنُ هُنَا بِلُغَةِ أَهْلِ نَجْدٍ لِأَنَّهَا أَخَفُّ.
وَأَرَادَ بِبَنِيهِ أَبْنَاءَ صُلْبِهِ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ، فَهُوَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْجَمْعِ فِي التَّثْنِيَةِ، أَوْ أَرَادَ جَمِيعَ نَسْلِهِ تَعْمِيمًا فِي الْخَيْرِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ فِي الْبَعْضِ.
وَالْأَصْنَامُ: جَمْعُ صَنَمٍ، وَهُوَ صُورَةٌ أَوْ حِجَارَةٌ أَوْ بِنَاءٌ يُتَّخَذُ مَعْبُودًا وَيُدْعَى إِلَهًا.
وَأَرَادَ إِبْرَاهِيمُ- عليه السلام مِثْلَ وَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ، أَصْنَامِ قَوْمِ نُوحٍ.
وَمِثْلَ الْأَصْنَامِ الَّتِي عَبَدَهَا قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ.
وَإِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لِإِنْشَاءِ التَّحَسُّرِ عَلَى ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ تَعْلِيلٌ لِلدَّعْوَةِ بِإِجْنَابِهِ عِبَادَتَهَا بِأَنَّهَا ضَلَالٌ رَاجَ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَحَقٌّ لِلْمُؤْمِنَ الضَّنِينِ بِإِيمَانِهِ أَنْ يَخْشَى أَنْ تَجْتَرِفَهُ فِتْنَتُهَا، فَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِمَا يُفِيدُهُ حَرْفُ (إِنَّ) فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ مَعْنَى التَّعْلِيلِ.
وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ أُورَ الْكَلْدَانِيِّينَ إِنْكَارًا عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، فَقَالَ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [سُورَة الصافات: 99] وَقَالَ لِقَوْمِهِ:
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سُورَة مَرْيَم: 48] . فَلَمَّا مَرَّ بِمِصْرَ وَجَدَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ ثُمَّ دَخَلَ فِلَسْطِينَ فَوَجَدَهُمْ عَبْدَةَ أَصْنَامٍ، ثُمَّ جَاءَ عَرَبَةَ تِهَامَةَ فَأَسْكَنَ بِهَا زَوْجَهُ فَوَجَدَهَا خَالِيَةً وَوَجَدَ حَوْلَهَا جُرْهُمَ قَوْمًا عَلَى الْفِطْرَةِ وَالسَّذَاجَةِ فَأَسْكَنَ بِهَا هَاجَرَ وَابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ- عليه السلام. ثُمَّ أَقَامَ هُنَالِكَ مَعْلَمَ التَّوْحِيدِ. وَهُوَ بَيْتُ اللَّهِ الْكَعْبَةُ بَنَاهُ هُوَ وَابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ، وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ مَأْوَى التَّوْحِيدِ، وَأَقَامَ ابْنُهُ هُنَالِكَ لِيَكُونَ دَاعِيَةً لِلتَّوْحِيدِ. فَلَا جَرَمَ سَأَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَلَدًا آمِنًا حَتَّى يَسْلَمَ سَاكِنُوهُ وَحَتَّى يَأْوِيَ إِلَيْهِمْ مَنْ إِذَا آوَى إِلَيْهِمْ لَقَّنُوهُ أُصُولَ التَّوْحِيدِ.
فَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، أَيْ فَمَنْ تَبِعَنِي مِنَ النَّاسِ فَتَجَنَّبَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فَهُوَ مِنِّي، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ أَبُوهُ وَقَوْمُهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ ذُرِّيَّتُهُ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَصْلُحُ لِلْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنِّي اتِّصَالِيَّةٌ. وَأَصْلُهَا التَّبْعِيضُ الْمَجَازِيُّ، أَيْ فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِي اتِّصَالَ الْبَعْضِ بِكُلِّهِ.