الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلة القدوة المؤثرة
المجيب د. أحمد بن عبد العزيز الحليبي
رئيس قسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فيصل
التصنيف الفهرسة/ الدعوة الإسلامية/صفات الداعي ووظائفه
التاريخ 17/6/1423هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال أنس رضي الله عنه:"ما رأيت يوماً قط أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يوماً أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
إن الناظر في الأوساط التربوية اليوم ليلحظ فقدان القدوة المؤثرة في الوسط، السؤال: ما السبب في قلة القدوة المؤثرة إيجابياً في الوسط التربوي في نظركم؟ حبذا أن تكون الإجابة مختصرة.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
وبعد:
فإن الشكوى عن فقدان أثر القدوة في الوسط التربوي في الوقت الحاضر في ظلال حديث
أنس رضي الله عنه يمكن استيضاحه فيما يلي:-
أولاً- الحديث رواه الحاكم رقم (4281) عن أنس رضي الله عنه بلفظ قال:"شهدت يوم دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فلم أر يوماً أحسن ولا أضوأ منه"، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه، ورواه أحمد (3/287) عن أنس رضي الله عنه قال: فشهدته يوم دخل المدينة فما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه، وشهدته يوم مات فما رأيت يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه صلى الله عليه وسلم، ورواه الدارمي رقم (89) عن أنس رضي الله عنه:"شهدته يوم دخل المدينة فما رأيت يوماً قط كأن أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدته يوم موته فما رأيت يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ثانياً - الحديث يدل على حب أنس رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد فرح بقدومه صلى الله عليه وسلم المدينة، وعدّ يوم قدومه أحسن يوم في حياته وأضوأه، وحزن لوفاته صلى الله عليه وسلم، وعد يوم موته أقبح يوم على نفسه وأشده ظلمة.
ثالثاً: مشاعر أنس رضي الله عنه كانت مشاعر صادقة؛ لأن محبة الرسول -صلى الله عليه
وسلم- أصل من أصول الإيمان الذي لا يتم إلا به، قال صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن
أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" رواه البخاري (15) .
رابعاً: مشاعر الفرح والحزن عند أنس رضي الله عنه كانت جزءاً من مشاعر مشتركة غمرت نفوس الصحابة رضي الله عنهم، وفاضت شوقاً إلى لقياه في حياته وحزناً على فراقه، فيوم دخوله المدينة خرج أهلها لاستقباله فرحاً بقدومه وشوقاً إلى رؤيته، حتى العواتق كن يتراءينه من فوق البيوت، يقول أنس رضي الله عنه:"فما رأينا منظراً شبيهاً به" رواه
أحمد (13318)، ويقول البراء بن عازب رضي الله عنه:" قدم النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه البيهقي (9/10) ، ويوم وفاته كان مظلماً في نفوسهم حتى إنه لم يكد أحدهم يصدق النبأ من شدة حبهم له، وعظم مصاب فراقه صلى الله عليه وسلم على نفوسهم التي امتلأت حباً له؛ حتى إن عمر رضي الله عنه وهو من أعظم الصحابة رضي الله عنه إيماناً وأشدهم بأساً أول ما بلغه الخبر أنكر على من قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم".
خامساً: وراء مشاعر الفرح والحزن عند أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم حب صادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم حملهم على التأسي به واتباع أمره واجتناب نهيه رغبة في صحبته ومرافقته في الجنة، قال -تعالى-:"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً"[النساء:69] وفي الحديث "المرء مع من أحب" رواه البخاري (6168) .
سادساً: شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في إيمانه وعبادته وخلقه وتعامله مع غيره
وفي جميع أحواله كانت شخصية مثالية في الواقع، ومؤثرة في النفوس؛ لأنها شخصية اجتمعت فيها صفات الكمال وإيحاءات التأثير البشري، واقترن فيها القول بالعمل؛ ولا ريب أن الإيحاء العملي أقوى تأثيراً في النفوس من الاقتصار على الإيحاء النظري؛ لهذه العلة أرسل الله الرسل ليخالطهم الناس ويقتدوا بهداهم، وأرسل الله الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون للناس أسوة حسنة يقتدون به، ويتأسون بسيرته، قال -تعالى-:"لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم والآخر وذكر الله كثيراًَ"[الأحزاب:21]، وقد أمرهم صلى الله عليه وسلم بالتأسي به فقال:"صلوا كما رأيتموني أصلي" البخاري (631) ومسلم (674)، وقال صلى الله عليه وسلم:"لتأخذوا مناسككم" مسلم (1297) .
سابعاً: شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم كانت شخصية حية أمام أصحابه في حياته
وأمام أتباعه بعد وفاته، وكانت نموذجاً بشرياً متكاملاً في جميع المراحل وفي جميع جوانب الحياة العملية، ونموذجاً عملياً في صياغة الإسلام إلى واقع مشاهد يعرف من خلال أقواله وأفعاله وسيرته فيتبع؛ لذا اصطفى -الله العليم بدواخل النفوس التي خلقها- رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ليسهل على الناس امتثال أوامره والعمل بشرعه، وجعل اتِّبَاعَه دليلا على صدق محبته -سبحانه-، قال -تعالى-:"قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"[آل عمران:31] .
ثامناً: شخصية الصحابة والصالحين والعلماء والدعاة وأهل الفضل والتقى على مر العصور خلفت شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في عطائها وإيحائها وتأثيرها؛ لأنهم ورثة الأنبياء، يقتدي بهم الناس في اتباع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته، وبقيت سيرهم بعد وفاتهم نبراساً يضيء طريق محبيهم إلى الخير، ويرغبهم في السير على منهج الحق والهدى.
تاسعاً: هذه الشخصيات اختفت عن العيون إلا أن سيرها العطرة المدونة لا تزال بقراءتها تفوح مسكاً وطيباً، وتؤثر في صياغة النفوس واستقامتها على الهدى والصلاح.
عاشراً: القدوة لا تزال مؤثرة وستبقى مؤثرة في النفس الإنسانية، وهي من أقوى الوسائل التربوية تأثيراً في النفس الإنسانية وإيحاء لها لأمرين:
1-
لأن النفس الإنسانية مشغوفة بالإعجاب بمن هو أعلى منها كمالاً، ومهيأة للتأثر بشخصيته واستهواء فكره وسلوكه ومحاولة محاكاته.
2-
لأنها تمنح الآخرين قناعة بأن التكاليف والفضائل ممكنة التطبيق، وأنها في قدرة الإنسان، وأن لها عائداً عليه في الدنيا والآخرة، ولا ريب أن شاهد الحال أقوى من شاهد المقال.
الحادي عشر: القدوة الصالحة المؤثرة في المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر قليلة رغم كثرة أهل العلم والتقوى والصلاح، وهذا يعود إلى الأمور التالية:-
1-
عدم توافر جميع الصفات التالية في كثير من الأشخاص الذين هم محل للاقتداء:-
أ- الاستعداد الذاتي المتمثل في طهارة القلب وسلامة العقل واستقامة الجوارح؛ ذلك أن الإنسان لا يكون قدوة لغيره إلا إذا كانت نفسه طاهرة من الآثام، مهيأة لفعل الخير، حريصة عليه، وسلوكه مستقيماً لا يعرف عند أحد بباطل ولا كذب، ويدل مظهره عليه. ب- التكامل في الشخصية أو في جانب منها بحيث يكون الشخص محلاً للإعجاب وتقدير الآخرين ورضاهم، مع سلامة في الدين وحسن الخلق.
ت- حب الخير للآخرين والشفقة عليهم والحرص على بذل المعروف وفعله والدعوة إليه، فمن كان على هذه الصفة أحبه الناس وقدروه وتأسوا به، ومن فقد هذه الصفة لم يلتفتوا
إليه.
2-
عدم تسديد النقص أو القصور الذي قد يعتري من هم محل للاقتداء كالآباء والمعلمين وأهل العلم في صفة من تلك الصفات مما يصرف الناس عن التأسي بهم، وهذا يرجع إلى عدم
إدراك هؤلاء للواجب، أو عدم تصورهم لأثر القدوة في التربية والإصلاح، أو لضعف شخصي ناتج عن استجابة لضغط المجتمع المشوب، أو لسلبية عندهم نحو المشاركة في تربية
الناشئة وإصلاح أفراد المجتمع.
3-
مزاحمة القدوات المزيفة المصطنعة للتلبيس على الناس وإضلالهم عن الهدى وتزيين السوء في أعينهم، وصرفهم عن أهل الخير وخاصة الله، فقد أسهم الإعلام المنحرف والمشوب في صناعة قدوات فاسدة أو تافهة، وسلط عليها الأضواء ومنحها من الألقاب والصفات والمكانة الاجتماعية ما جعلها تستهوي البسطاء من الناس أو ضعاف النفوس والذين في قلوبهم مرض، وتوحي بزخرف القول الذي يزين لهؤلاء تقليدهم ومحاكاتهم، هذا والله أعلم.