الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النصح للسلطان بين الإسرار والإعلان
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ الدعوة الإسلامية/فقه الدعوة
التاريخ 05/02/1426هـ
السؤال
هل النصح للسلطان من خلال عريضة أو صحيفة أو أي وسيلة من وسائل الإعلام، أو من خلال برلمان الدولة إذا كان بقصد الإخلاص في النصح ولفت انتباهه للمعروف، وتحذيره من المنكر- خطأٌ، وأنه لابد أن يكون بالسر كما قال صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينصح لسلطان فليأخذ بيده فيخلو به
…
إلخ" الحديث.. هناك من الناس من يقول إن الجهر للسلطان بالنصح والأمر بالمعروف من سبيل أهل الأهواء. فالمرجو بيان: هل المسألة خاضعة للاجتهاد والعرف السياسي؟ وهل الحديث المذكور حجة في ذلك؟ وما مدى صحة الحديث؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد:
النصيحة بمفهومها الشامل هي الدين، وتتسع مجالاتها فتشمل النصيحة لله، ولكتابه ورسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ووردت أحاديث بالأمر بالنصح لولاة الأمر خاصة، ففي مسند الإمام أحمد (8799) ، من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ
…
". وفي المسند (13350) ، من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رضي الله عنه، وغيرِه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ صَدْرُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ عز وجل، وَمُنَاصَحَةُ أُولِي الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ". قال الحافظ ابن رجب: وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم، وحب اجتماع الأمة عليهم، وكراهة افتراق الأمة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله عز وجل، والبغض لمن رأى الخروج عليهم، وحب إعزازهم في طاعة الله عز وجل. وقال: والنصيحة لأئمة المسلمين معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم في رفق ولطف، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق. وقال القرطبي: والنصح لأئمة المسلمين: ترك الخروج عليهم، وإرشادُهم إلى الحق، وتنبيههم فيما أغفلوه من أمور المسلمين، ولزوم طاعتهم والقيام بواجب حقهم.
ومن أدب نصيحة ولاة الأمور أن تكون سرًّا مع الرفق واللين؛ لأن هذا أدعى لقبول الحق والانقياد له، وأجدر في درء المفاسد والفتن، وتحقيق المصالح، ففي الصحيحين- البخاري (3267) ومسلم (2989) - من حديث أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قِيلَ لِأُسَامَةَ: لَوْ أَتَيْتَ فُلَانًا فَكَلَّمْتَهُ. قَالَ: إِنَّكُمْ لَتُرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ، إِنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ.
والرجل المذكور هو عثمان رضي الله عنه، قال القاضي عياض: مراد أسامة أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام؛ لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطف به وينصحه سرًّا فذلك أجدر بالقبول....
وفي المسند (15333) ، من حديث عِيَاضِ بْنِ غَنْم، أنه سمع الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ". قال الحافظ ابن رجب: كان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سرًّا. حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه، فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه. وقال الفضيل: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير. وسئل ابن عباس، رضي الله عنهما، عن أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر؟ فقال: إن كنت فاعلاً ولا بُدّ ففيما بينك وبينه.
وقد يجتهد العالم المتأهل للأمر والنهي في بعض الأحوال فيرى الإنكار على ولاة الأمر علانيةً، وذلك لظهور المصلحة مع أمن الفتنة، أو حدوث مفسدة أكبر، وربما كان ذلك بسبب خشية فوات الأمر، أو من أجل إظهار الحق، فقد يكون خافيًا على الناس، وقد أنكر عدد من الصحابة، رضي الله عنهم على بعض الأمراء علانية، ومن ذلك: إنكار عبادة بن الصامت على معاوية، رضي الله عنهما، ففي صحيح مسلم (1587)، من حديث أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، فَجَاءَ أَبُو الْأَشْعَثِ. قَالَ: قَالُوا: أَبُو الْأَشْعَثِ أَبُو الْأَشْعَثِ. فَجَلَسَ، فَقُلْتُ لَهُ: حَدِّثْ أَخَانَا حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. قَالَ: نَعَمْ، غَزَوْنَا غَزَاةً، وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوِيَةُ، فَغَنِمْنَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَكَانَ فِيمَا غَنِمْنَا آنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا أَنْ يَبِيعَهَا فِي أَعْطِيَاتِ النَّاسِ، فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَبَلَغَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، رضي الله عنه، فَقَامَ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى. فَرَدَّ النَّاسُ مَا أَخَذُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: أَلَا مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-أَحَادِيثَ قَدْ كُنَّا نَشْهَدُهُ وَنَصْحَبُهُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُ! فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَأَعَادَ الْقِصَّةَ، ثُمَّ قَالَ: لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ- أَوْ قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ- مَا أُبَالِي أَلَّا أَصْحَبَهُ فِي جُنْدِهِ لَيْلَةً سَوْدَاءَ.
ومثل موقف عبادة في الإنكار، ما حصل لأبي سعيد الخدري مع مروان بن الحكم حينما قدم الخطبة على الصلاة يوم العيد، ففي صحيح البخاري (956)، من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ، فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا قَطَعَهُ، أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ، فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمُصَلَّى إِذَا مِنْبَرٌ بَنَاهُ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَجَبَذْتُ بِثَوْبِهِ فَجَبَذَنِي، فَارْتَفَعَ فَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ لَهُ: غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ. فَقَالَ: أَبَا سَعِيدٍ، قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلَمُ. فَقُلْتُ: مَا أَعْلَمُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا لَا أَعْلَمُ. فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ. قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث إنكار العلماء على الأمراء إذا صنعوا ما يخالف السنة. وقال: وفي الحديث إنكار العالم على الحاكم ما يغيره من أمر الدين والموعظة بلطف وتدرج.
ومن الأمثلة أيضًا إنكار أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي على عمرو بن سعيد والي يزيد على المدينة، ففي الصحيحين- البخاري (104) ، ومسلم (1354) ، من حديث أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً
…
" الحديث. قال الحافظ ابن حجر: قوله: ائذن لي. فيه حسن التطلف في الإنكار على أمراء الجور ليكون أدعى لقبولهم.
ومن الأمثلة أيضًا ما أخرجه البخاري (522) ومسلم (611) ، من حديث ابن شهاب أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا وَهُوَ بِالْعِرَاقِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ..... الحديث. قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث من الفوائد: دخول العلماء على الأمراء وإنكارهم عليهم ما يخالف السنة....
وفي صحيح مسلم (1830) أن عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو- وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ". فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ. فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَقَال: َ وَهَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ! إِنَّمَا كَانَتْ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ وَفِي غَيْرِهِمْ، هذا والله أعلم.