الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(412) باب مطل الغني ومشروعية الحوالة
3528 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "مطل الغني ظلم. وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع".
-[المعنى العام]-
رفع اللَّه بعض الناس على بعض في الرزق، فكان منهم دائنون ومدينون، أو قادرون ومحتاجون، فإن وجدت الأمانة بين الفريقين، وتحققت الثقة بينهم تعاونوا، وإن فقدت الثقة والأمانة تباعدوا، وتقاطعوا، وضاعت الألفة والمصالح، من هنا ترسم الشريعة الإسلامية الطريق الصحيح للعلاقة بين الدائن والمدين في جملتين: الأولى "مطل الغني ظلم" أي مماطلة القادر على السداد، وانتحاله الأعذار الكاذبة للتهرب من السداد ظلم منه للدائن، وظلم منه للمجتمع، لأنه سيخيف القادرين، وسيحول بينهم وبين مساعدة المحتاجين، لفقدان الثقة في السداد، وقديمًا قالوا: من أخذ ورد وسدد صار المال ماله. وليعلم من يعتزم المماطلة في سداد الديون، ويعتمدها أسلوب المعاملة أن الله سيعجزه عن السداد، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله".
تلك نصيحة المديونين، أما نصيحة الدائنين فقد مضى في الباب السابق نصحهم بإنظار المعسر، والتجاوز عن الموسر، وفي هذا الحديث نصيحة أخرى، مأخوذة من الجملة الثانية وهي أن يتعاون الدائنون والمدينون فيما بينهم على تحويل المديونات، فقد يكون الدائن لزيد مدينًا لعمرو، وقد يكون للدائن مصلحة في نقل دينه من مدين إلى مدين، وقد يكون للمدين مصلحة في أن يكون مدينًا لهذا بدلاً من ذلك، فشرعت الحوالة، تخفيفًا على الناس، وحفاظًا على ترابط التعامل بينهم، وكانت هذه النصيحة الهادفة، إذا أحال المدين الدائن على آخر غني، بدينه، فليقبل الحوالة، فقد يكون في ذلك حسن أداء، وحسن استيفاء، وعون من الله، وبركة للمتعاملين. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
-[المباحث العربية]-
(مطل الغني ظلم) أصل المطل - بفتح الميم وسكون الطاء - المد. يقال: مطلت
الحديدة أمطلها، إذا مددتها لتطول، وقيل: المطل المدافعة. والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر.
والغني مختلف في تقديره، وفي الباب السابق بيان له عند تفسير الموسر والمعسر، والمراد منه هنا من قدر على الأداء فأخره، ولو كان فقيرًا، وهل يتصف بالمطل من ليس عنده ما عليه، لكنه قادر على تحصيله بالكسب، فلم يتكسب؟ خلاف يأتي في فقه الحديث.
وفي رواية عند غير مسلم "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" واللي بفتح اللام وتشديد الياء هو المطل، والواجد الموسر.
(وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) المشهور في الرواية واللغة في "أتبع" ضم الهمزة وإسكان التاء وكسر الباء، مبني للمجهول، والأصل إذا اتبع المدين أحدكم، وأما "فليتبع" فالأكثر على التخفيف، سكون التاء وفتح الباء، فيكون مثل: إذا أخرج أحدكم فليخرج. وحكى القاضي عياض عن بعض المحدثين أنه يشدد التاء ويكسر الباء في "فليتبع". قال النووي: والصواب الأول، والمعنى إذا أحيل أحدكم بالدين الذي له على موسر فليحتل، أي فليقبل الحوالة، والمليء بالهمزة مأخوذ من الملاء، يقال: ملؤ الرجل - بضم اللام - أي صار مليًا، وقال الكرماني: الملي كالغني لفظًا ومعنى، فاقتضى أنه بغير همز، وليس كذلك، فقد قال الخطابي: إنه في الأصل بالهمز، ومن رواه بتركها فقد سهله.
وادعى الرافعي أن جملة "وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع" لا تعلق لها بالجملة الأولى. قال الحافظ ابن حجر: وزعم بعض المتأخرين أنه لم يرد إلا بالواو، وغفل عما في صحيح البخاري هنا، فإنه بالفاء في جميع الروايات، وهو كالتوطئة والعلة لقبول الحوالة، أي إذا كان المطل ظلمًا فليقبل من يحتال بدينه عليه، فإن المؤمن من شأنه أن يحترز عن الظلم، فلا يمطل، ومناسبة الجملة لما قبلها - على رواية الواو - أنه لما دل على أن مطل الغني ظلم عقبه بأنه ينبغي قبول الحوالة على المليء، لما في قبولها من دفع الظلم الحاصل بالمطل، فإنه قد تكون مطالبة المحال عليه سهلة على المحتال، دون المحيل، ففي قبول الحوالة إعانة على كفه عن الظلم.
-[فقه الحديث]-
الحوالة عند الفقهاء نقل دين من ذمة إلى ذمة، واختلفوا: هل هي بيع دين بدين، رخص فيه للحاجة، فاستثنى من النهي عن بيع الدين بالدين؟ أو هي استيفاء، ولا بيع فيها؟ أي استيفاء حق كأن المحتال استوفى ما كان له على المحيل، وأقرضه المحال عليه، أو هي عقد إرفاق مستقل؟ ويشترط في صحتها رضا المحيل بلا خلاف، لأن له إيفاء الحق من حيث شاء، فلا يعين عليه بعض الجهات قهرًا، ورضا المحتال، عند الأكثرين، لأن حقه في ذمة المحيل، فلا ينفك عن ذمة المحيل إلا برضاه، كما أن الأعيان المستحقة للشخص لا تبدل إلا برضاه، أما رضا المحال عليه ففيه خلاف. إن كانت الحوالة على من عليه دين للمحيل فيشترط رضاه عند أبي حنيفة وبعض الشافعية، لأنه أحد
أركان الحوالة، والناس يختلفون في استيفاء حقوقهم، منهم السهل المسامح الذي يرتاح المدين إلى سماحته، ومنه الصعب الذي لا يحب المدين أن يكون الدين له، ولا يشترط رضاه عند مالك وأحمد وجمهور الشافعية، لأنه محل الحق للمحيل، ومن حق المحيل أن يستوفي حقه بنفسه، وبغيره، كما لو وكل في الاستيفاء وكيلاً.
وإن كانت الحوالة على من لا دين عليه للمحيل لم تصح دون رضاه، لأنا لو صححناها لألزمناه قضاء دين الغير قهرًا، وإن رضي ففي صحة الحوالة وجهان. وهناك تفريعات فقهية كثيرة تطلب من كتب الفروع، والذي يعنينا في هذا المقام أن قوله صلى الله عليه وسلم "وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع" ليس على إطلاقه، ومن هنا ذهب الشافعية والجمهور إلى أن المحتال يستحب له أن يقبل الحوالة على مليء، وحملوا الأمر في الحديث على الندب، وذهب بعض العلماء إلى أن قبول الحوالة مباح، لا مندوب، وذهب أهل الظاهر إلى الوجوب.
وتفرع عن هذا الأمر رجوع المحتال على المحيل إذا عجز المحال عليه، أو مات، فذهب أبو حنيفة إلى أنه يرجع على المحيل إذا أفلس المحال عليه مطلقًا، سواء عاش أو مات، ولا يرجع بغير الفلس، وقال مالك: لا يرجع إلا إن غره، كأن علم فلس المحال عليه، ولم يعلمه بذلك، وذهب قتادة والحسن إلى أنه لا يرجع إن كان المحال عليه يوم الإحالة مليًا، وعن الثوري يرجع بالموت، ولا يرجع بالفلس، وذهب الشافعي والجمهور إلى عدم الرجوع مطلقًا، على أساس أن الحوالة معناها إبراء المحيل، وتحويل الحق عنه، وإثباته على غيره، وقال الحسن وزفر: الحوالة كالكفالة، فيرجع على أيهما شاء. وقد تلحق بالحوالة الكفالة، الكفالة في القروض، والكفالة في الديون، والكفالة في الأبدان.
-[ويؤخذ من الحديث]-
1 -
يؤخذ من الجزء الأول من الحديث الزجر عن المطل، واختلف: هل يعد فعله عمدًا كبيرة؟ وهل يعتبر فاعله فاسقًا وإن صدر منه مرة واحدة؟ قيل: لا يعتبر فاسقًا إلا بالتكرار، والجمهور على أنه يعتبر فاسقًا دون تكرار، لأن منع الحق بعد طلبه، وانتحال العذر عن أدائه - دون عذر - يشبه الغصب، والغصب كبيرة وإن لم يتكرر، وتسميته ظلمًا يشعر بكونه كبيرة، والكبيرة لا يشترط فيها التكرار، نعم لا يحكم عليه بذلك إلا بعد أن يظهر عدم عذره. قالوا: ويدخل في المطل كل من لزمه حق للغير، كالزوج لزوجته، والحاكم لرعيته، وبالعكس.
2 -
واستدل بلفظ "الغني" على أن العاجز عن الأداء لا يدخل في الظلم.
3 -
واستنبط منه أن المعسر لا يحبس، ولا يطالب حتى يوسر، قال الشافعي: لو جازت مؤاخذته لكان ظالمًا، والفرض أنه ليس بظالم لعجزه.
4 -
واستدل به على ملازمة المماطل.
5 -
وإلزامه بدفع الدين.
6 -
والتوصل إليه بكل طريق.
7 -
وأخذه منه قهرًا.
8 -
وفيه الإرشاد إلى ترك الأسباب القاطعة لاجتماع القلوب، لأنه زجر عن المماطلة، وهي تؤدي إلى ذلك.