الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الزُّهْدِ والوَرَع
1 -
عن النعمان بن بشير رضى اللَّه عنهما قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه-: "إن الحلال بَيِّنٌ وإن الحرام بَيِّنٌ، وبينهما مُشْتَبِهَاتٌ لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتَّقَى الشبهات استبرأ لدينه وعِرْضِه، ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام، كالراعى يرعى حول الحِمَى يوشك أن يقع فيه، ألَا وإن لكل ملك حِمًى، إلا وإن حِمَى اللَّه محارمه، ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجسدُ كُلُّهُ، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب" متفق عليه.
[المفردات]
الزهد: هو عدم الحرص على التوسع فى الشهوات والتَّقَلُّلُ من الملذات، وأن يكون العبد بما عند اللَّه أوثق مما هو فى يديه.
والورع: هو تجنب الشبهات خوف الوقوع فى المحرمات.
وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه: أى مَدَّ النعمان رضى اللَّه عنه إصبعيه إلى أذنيه ليمسهما إشارة إلى توثقه وتيقنه من سماع هذا الحديث من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
إن الحلال بين: أى إن المباح من حيث الحكم واضح لا يضر تناوله
والناس يعرفون حكمه بما جاءهم فيه عن اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم أو عرف طيبه وانتفى خبثه وضرره.
وإن الحرام بين: أى وإن الممنوع شرعا واضح يضر تناوله، والناس يعرفون حكمه، بما جاءهم فيه عن اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم أو عرف خبثه وضرره.
وبينهما مشتبهات: أى وبين الحلال والحرام أمور مختلطات لم يأت فيها نص بالتحليل ولا بالتحريم فالنفس تتردد فيها أهى من الحلال أم من الحرام؟ لأنها لم يرد فيها نص ولم يعرف طيبها ولا خبثها.
لا يعلمهن كثير من الناس: أى لا يعلم حكم هذه المشتبهات كثير من الناس وهم الذين لا يتمكنون من استنباط الأحكام من الكتاب والسنة، وإنما يعرفها قليل من الناس وهم العلماء الذين يستطيعون استنباط الأحكام غير المنصوصة من الكتاب والسنة على حد قوله تعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وقد يشتبه على العالم إلحاق الشئ بالحرام أو بالحلال فيكون الورع تركه كالتمرة التى وجدها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى الطريق فقال: "لولا أنى أخاف أنها من الصدقة لأكلتها" فتركها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تورعا وهذا بخلاف
من لم تحرم عليه الصدقة فإنه لو وجد تمرة ساقطة فى الطريق فأكلها فإنه لا بأس عليه، ولذلك أثر أن عمر رضى اللَّه عنه سمع رجلا ينادى: يا من سقطت له هذه التمرة فى الطريق؟ فقال له عمر رضى اللَّه عنه: كُلْهَا يا صاحب الورع الكاذب.
فمن اتقى الشبهات: أى فمن اجتنب الأشياء التى لم يظهر أنها حلال وابتعد عنها.
استبرأ لدينه وعرضه: أى طلب البراءة من الذم شرعا وعرفا فَسَلِمَ له دِينُهُ وسلم له عِرْضُه أى شرفه وجانبه الذى يصونه من أن يُنْتَقصَ ويُثْلَبَ، فمن اجتنب الشبهات صان دينه وحمى عرضه من وقوع الناس فيه.
ومن وقع فى الشبهات: أى ومن هجم على الشبهات واستباحها.
وقع فى الحرام: أى أداه استباحة الشبهات إلى الهجوم على المحرمات وارتكابها دون أن يكون عنده شبهة فى تحريمها بل يعرف أنها حرام لا شبهة فى تحريمها.
كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه: أى ومثال ذلك أن الراعى الذى يرعى إبله أو غنمه لا ينبغى له أن يقترب مما حماه الملك ومنع الرعى فيه لأنه إذا رَعَى حول الحمى واقترب منه اندفعت مواشيه إلى الحمى نفسه فانتهكته ورعت فيه فاستجلب غضب الملك
فالحيطة والحذر أن لا يقترب من الحمى حتى لا يرتع فيه ولا تدخله مواشيه ولا يستجلب غضب الملك الذى انتهك حماه.
ألا وإن لكل ملك حمى: أى ألا وإنه قد جرت العادة أن يكون لكل ملك حمى يحميه، ويمنع الرعاة أن يرتعوا فيه.
ألا وإن حمى اللَّه محارمه: أى ألا وإن اللَّه ملك السموات والأرض قد جعل حمًى وإن الذى حماه اللَّه هو محارمه التى منع عباده من انتهاكها لمصلحة معاشهم ومعادهم.
ألا وإن فى الجسد مضغة الخ: أى ألا وإن فى جسم الإِنسان قطعة لحم عليها مدار صلاحه وفساده فإن فسدت هذه المضغة واختلت قوانين استقامتها فسد الجسد كله، لأنه يصدر عنها، وإن صلحت هذه المضغة لسلامة قوانينها واستقامة أحوالها صلح الجسد كله ألا وإن هذه المضغة هى قلب الإِنسان، وسمى القلب قلبا لأنه محل الخواطر المختلفة وهو عمدة الإِنسان فى تقلبه، على حد قول الشاعر:
وما سمى الإِنسان إلا لنسيه
…
ولا القلب إلا أنه يَتَقَلَّبُ
وليس المراد بالقلب هنا خصوص قطعة اللحم
الصنوبرية الشكل الموجودة فى تجويف الصدر فإن هذه القطعة موجودة فى جميع الحيوانات الأليفة والمفترسة، بل المراد ما أودعه اللَّه تبارك وتعالى فى هذه المضغة من لطائفه حتى تكون مستعدة لاستقبال العلوم والمعارف، وإدراكا الخير والشر فإن صلحت كانت مبصرة، وإن فسدت عميت، على حد قوله تبارك وتعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .
[البحث]
إن سياق هذا الحديث النبوى يشعر بأن سعادة الإِنسان مبنية على طيب مطعمه ومشربه وملبسه ومسكنه، كما أن خسرانه مبنى على خبث مطعمه ومشربه وملبسه ومسكنه، كما أن طيب المطعم والمشرب والملبس والمسكن يؤثر فى القلب نورا وبصيرة، وسلامة، كما أن خبث المطعم والمشرب والملبس والمسكن يؤثر فى القلب ظلمة وعمى وفسادا ولذلك أرشد الإسلام إلى أنه لا يكون العمل صالحا متقبلا إلا إذا كان الإِنسان يأكل من الطيبات وفى ذلك يقول اللَّه عز وجل:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} وقد أشار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى أن آكل الحرام لا يتقبل اللَّه دعاءه وأن من رغب أن يكون مستجاب الدعوة فليحرص على أكل الحلال حيث يقول فيما رواه مسلم من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه "أيها الناس إن اللَّه طيب
لا يقبل إلا طيبا، وإن اللَّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يَمُدُّ يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِيَ بالحرام فأنى يستجاب لذلك" وكما أثر أنه لما قال له سعد بن أبى وقاص رضى اللَّه عنه: ادع اللَّه أن يجعلنى مستجاب الدعوة فقال له صلى الله عليه وسلم: "أطب مطعمك تستجب دعوتك" هذا وأما ما قد يحدث للإِنسان من وسواس ونحوه فإنه لا يكون من الأمور المشتبهات التى حذر منها هذا الحديث، ولذلك قال البخارى رحمه الله: (باب من لم ير الوساوس ونحوها من المشتبهات) وساق حديث عائشة رضى اللَّه عنها أن قوما قالوا: يا رسول اللَّه إن قوما يأتوننا باللحم لا ندرى أذكروا اسم اللَّه عليه أم لا؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سَمُّوا اللَّه عليه وكلوه".
[ما يفيده الحديث]
1 -
الحض على تناول الحلال الطيب.
2 -
التحذير من تناول الحرام الخبيث.
3 -
من رغب فى سلامة نفسه فليتق الشبهات.
4 -
تأثير الأطعمة على القلب والسلوك.
2 -
وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تَعِسَ عَبْدُ الدينار والدرهم والقطيفة، إن أُعْطِىَ رَضِىَ، وإن لم يُعْطَ لم يَرْضَ" أخرجه البخارى.
[المفردات]
تَعِسَ: التَّعْسُ هو الهلاك والعِثَارُ والسقوط والشر والبُعْدُ والانحطاط والمقصود هو الدعاء على عبد الدينار والدرهم والقطيفة بذلك.
عبد الدينار والدرهم والقطيفة: أى من استعبدته الدنيا فَعَبَدَ الدينار والدرهم والخميلة وبذل أقصى حبه وغاية قصده للدينار والدرهم والثوب.
إن أُعْطِىَ رضى: أى إن جاءه الدينار والدرهم والقطيفة سُرَّ وفَرِحَ.
وإن لم يُعْطَ لم يرض: أى وإن حُرِمَ ذلك سخط.
[البحث]
لفظ هذا الحديث فى البخارى فى كتاب الرقاق فى (باب ما يُتَّقَى من فتنة المال) عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعْطِىَ رضى، وإن لم يُعْطَ لم يرض" وأوده فى كتاب الجهاد فى (باب الحراسة فى الغزو فى سبيل اللَّه) من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة
إن أُعْطِىَ رضى وإن لم يُعْطَ لم يرض" وفى لفظ: تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أُعْطِىَ رضى وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه فى سبيل اللَّه" الحديث. وقال البخارى فى كتاب التفسير: باب "ومن الناس من يعبد اللَّه على حرف فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة -إلى قوله- ذلك هو الضلال البعيد" ثم ساق من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: "ومن الناس من يعبد اللَّه على حرف" قال: كان الرجل يَقْدَمُ المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونُتِجَتْ خَيْلُهُ قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته، ولم تُنْتَجْ خَيْلُهُ قال: هذا دِينُ سُوءٍ.
[ما يفيده الحديث]
1 -
أنه لا يليق بالمسلم أن يجعل الدنيا أكبر همه وغاية قصده.
2 -
أن المسلم الحق هو من إذا أُعْطِىَ شكر وإذا حُرِمَ صَبَرَ، وأنه راض بقضاء اللَّه على كل حال.
3 -
وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبَىَّ فقال: "كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" وكان ابن عمر يقول: إذا أمْسَيْتَ فلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وإذا أصْبَحْتَ فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لِسَقَمِكَ، ومن حياتك لموتك. أخرجه البخارى.
[المفردات]
أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبَىَّ: أى أمسك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبَىَّ، والمنكب هو مُجْتَمَعُ رأس الكتف والعضد وهو مُذَكَّر، وقد روى بالإفراد والتثنية.
كن فى الدنيا: أى صِرْ فى الدنيا.
كأنك غريب: أى كأنك نازل فى غير بلدك منقطع عن أهلك بعيد عنهم.
أو عابر سبيل: أى مسافر.
إذا أمسيت: أى إذا دخلت فى المساء.
فلا تنتظر الصباح: أى فَقَدِّرْ أنك قد تموت فى ليلتك هذه قبل مجئ الصباح.
وإذا أصبحت: أى وإذا دخلت فى الصباح.
فلا تنتظر المساء: أى فَقَدِّرْ أنك قد تموت فى يومك هذا قبل حلول المساء.
وخذ من صحتك لسقمك: أبى وَتَزَوَّدْ بالزاد النافع والعمل الصالح فى وقت صحتك قبل مجئ سقمك ومرضك وعجزك عن العمل والاكتساب.
ومن حياتك لموتك: أى وتزود فى وقت حياتك قبل مجئ موتك وضياع فرصة العمل.
[البحث]
فى هذا الحديث حض على المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إلى اكتساب الحسنات، واجتناب الحقد والحسد والمنازعات مع الناس لأن الإِنسان إذا أحسَّ أنه غريب حرص على عدم منازعة من حوله، وعمل على أن يتزود بالزاد الصالح الذى يوصله إلى أهله، على حد قول ابن القيم رحمه الله:
فحىَّ على جنات عدن فإنها
…
منازلنا الأولى وفيها المُخَيَّمُ
ولكننا سَبْىُ العدو فهل ترى
…
نعود إلى أوطاننا ونُسَلّم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى
…
وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأى اغتراب فوق غربتنا التى
…
لها أضحت الأعداء فينا تَحَكّم
قال البخارى رحمه الله: وقال على: ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل.
[ما يفيده الحديث]
1 -
ينبغى للمسلم أن لا يركن إلى الدنيا وأن يتهيأ للرحيل إلى الدار الآخرة.
2 -
أنه لا يليق بالمسلم أن يتزود فى رحلته بغير ما يُرْضِى اللَّه عز وجل.
4 -
وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من تَشَبَّهَ بقوم فهو منهم" أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان.
[المفردات]
تَشَبَّهَ بقوم: أى مَاثَلَهُمْ وَحَاكَاهُمْ فيما هو من خواصهم متأسيا بهم.
فهو منهم: أى فقد لحق بهم وعُدَّ منهم.
[البحث]
قال أبو داود: حدثنا عمان بن أبى شيبة حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الرحمن بن ثابت حدثنا حسان بن عطية عن أبى منيب الجُرَشى عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" قال السخاوى: فيه ضعف ولكن له شواهد اهـ وقد أخرج الترمذى من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من تشبه بغيرنا" الحديث. قال أبو عيسى: هذا حديث إسناده ضعيف وروى ابن المبارك هذا الحديث عن ابن لهيعة فلم يرفعه اهـ هذا ولو صح هذا الحديث لاعتبر من أحاديث الوعيد التى تقدم الكلام عنها أكثر من مرة، وقد قال حسان بن ثابت رضى اللَّه عنه لوفد بنى تميم عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
فإن كنتموا جئتم لحفظ دمائكم
…
وأموالكم أن تقسموا فى المغانم
فلا تجعلوا للَّه ندا وأسلموا
…
ولا تلبسوا زيا كزي الأعاجم
5 -
وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: كنت خَلْفَ النبى صلى الله عليه وسلم يوما، فقال:"يا غلام احفظ اللَّه يَحْفَظُكَ احفظ اللَّه تجده تُجَاهَكَ، وإذا سألت فاسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعن باللَّه" رواه الترمذى وقال: حسن صحيح.
[المفردات]
خلف النبى صلى الله عليه وسلم: أى رديف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على دابته.
يا غلام: قال فى القاموس: والغلام الطَّار الشارب والكهل ضد أو من حين يولد إلى أن يشب اهـ
احفظ اللَّه يحفظك: أى حافظ على حدود اللَّه وأوامره ونواهيه يصنك اللَّه عز وجل ويحفظك فى نفسك ودينك ودنياك وأخراك.
تُجاهَك: أى تلقاء وجهك قريب الإجابة لدعوتك وقضاء حاجتك على حد قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} .
وإذا سألت فاسأل اللَّه: أى وإذا أرت سؤال أحد ليقضى لك حاجتك فاجعل سؤالك للَّه وحده ولا تسأل غيره فإن بيد اللَّه خزائن السموات والأرض.
وإذا استعنت فاستعن باللَّه: أى وإذا أردت طلب العون من أحد
ليعينك على ما تريد من عمل لدنياك وأخراك فاطلب العون من اللَّه وحده ولا تستعن بغيره ولا تعتمد على أحد سواه على حد قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
[البحث]
أخرج الترمذى هذا الحديث من طريق قيس بن الحجاج عن حنش الصنعانى عن ابن عباس قال: كنت خلف النبى صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: يا غلام إنى أعلمك كلمات احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهَكَ، إذا سألت فاسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعن باللَّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه اللَّه لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشئ لم يضروك إلا بشئ قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف. ثم قال الترمذى هذا حديث حسن صحيح اهـ.
[ما يفيده الحديث]
1 -
أن المحافظة على حدود اللَّه وأوامره ونواهيه تجلب للعبد خير الدنيا والآخرة.
2 -
وأن من رغب فى أن تستجاب دعوته فليحرص على طاعة اللَّه تعالى.
3 -
وأن الخير للإِنسان أن يقتصر فى سؤاله على اللَّه وحده.
4 -
وأن الخير للإنسان أن يجعل استعانته باللَّه وحده.
5 -
وأن من يستعن باللَّه يُعِنْهُ.
6 -
وعن سهل بن سعد رضى اللَّه عنه قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم: فقال: يا رسول اللَّه دُلَّنى على عمل إذا عملته أحبنى اللَّه وأحبنى الناس؟ فقال: "ازهد فى الدنيا يُحبّك اللَّه، وازهد فيما عند الناس يُحبّك الناس" رواه ابن ماجه وغيره وسنده حسن.
[المفردات]
دلنى على عمل: أى أرشدنى إلى خُلُق وسلوك.
إذا عملته أحبنى اللَّه وأحبنى الناس: أى إذا أنا أديت هذا العمل وتخلقت به رضى عنى ربى ورضى عنى الناس.
ازهد فى الدنيا: أى قَلِّلْ رغبتك فى عَرَض الدنيا الفانى.
يحبك اللَّه: أى يرض اللَّه عز وجل عنك.
وازهد فيما عند الناس: أى لا تعلق قلبك بما فى أيدى الناس من حطام الدنيا.
يحبك الناس: أى يرض عنك الناس.
وغيره: أى وغير ابن ماجه أيضا.
[البحث]
قال ابن ماجه: حدثنا أبو عبيدة بن أبى السفر ثنا شهاب بن عَبَّاد ثنا خالد بن عمرو القرشى عن سفيان الثورى عن أبى حازم عن سهل بن سعد الساعدى قال: أتى النبى صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول اللَّه، دلنى على عمل إذا أنا عملته أحبنى اللَّه وأحبنى الناس فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ازهد فى الدنيا يحبّك اللَّه، وازهد فيما فى أيدى
الناس يحبك الناس" اهـ وفى إسناد هذا الحديث خالد بن عمرو وهو ضعيف متفق على ضعفه، واتهم بالوضع، وأورد له العقيلى هذا الحديث وقال: ليس له أصل من حديث الثورى. وقد أخرجه أبو نعيم فى الحلية من طريق مجاهد عن أنس وهو منقطع لأنه لم يثبت سماع مجاهد من أنس رضى اللَّه عنه كما روى مرسلا.
7 -
وعن سعد بن أبى وقاص رضى اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن اللَّه يحب العبد التقى الغَنِىَّ الخَفِىَّ" أخرجه مسلم.
[المفردات]
يحب العبد: أى يرضى عن الإنسان.
التقى: أى المتبع لأوامر اللَّه، المجتنب لنواهيه، الخائف من اللَّه عز وجل، المستمسك بشريعة اللَّه.
الغنى: أى الذى لا يحتاج إلى الناس، المكتفى بما فى يده.
الخفى: بالخاء المعجمة أى الذى لا يأبه له الناس، وضبطه بعض رواة مسلم بالحاء المهملة أى اللطيف بالناس الحريص على مصالحهم وما ينفعهم.
[البحث]
هذا الحديث ظاهر الدلالة على أن اللَّه تبارك وتعالى يحب من
عبده أن يكون غنيا عن عباده، وهو يرشد إلى أن الإسلام يكره من المسلم أن يكون عالة على غيره ولذلك كانت اليد العليا خيرا من اليد السفلى وقد جاء فى لفظ لمسلم من طريق أبى الأحوص عن عبد اللَّه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:"اللهم إنى أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى" كما جاء فى لفظ الصحيح من حديث سعد بن أبى وقاص رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له: "إنك أن تذر ذريتك أغنياء خير من أن تذرهم فقراء يتكففون الناس" هذا وحقيقة الغنى ليست كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس.
[ما يفيده الحديث]
1 -
حب اللَّه للمتقين.
2 -
محبة اللَّه لمن يستغنى عن الناس.
3 -
كراهية الإسلام لمن يحرص على الشهرة.
8 -
وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" رواه الترمذى وقال: حسن.
[المفردات]
من حسن إسلام المرء: أى من صلاح إسلام الإنسان وسلامة دينه.
تركه ما لا يعنيه: أى عدم اشتغاله بما لا يهمه.
[البحث]
قال الترمذى: حدثنا أحمد بن نصر النيسابورى وغير واحد قالوا: نا أبو مُسْهِر عن إسماعيل بن عبد اللَّه بن سماعة عن الأوزاعى عن قرة عن الزهرى عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبى سلمة عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه. ثنا قتيبة نا مالك بن أنس عن الزهرى عن على بن الحسين قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" هكذا روى غير واحد من أصحاب الزهرى عن الزهرى عن على بن الحسين عن النبى صلى الله عليه وسلم نحو حديث مالك اهـ وبهذا يتضح أن قول المصنف (رواه الترمذى وقال: حسن) إما سبق قلم أو أنه اطلع على نسخة فيها هذا التحسين، واللَّه أعلم.
9 -
وعن المقدام بن معد يكرب رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "ما ملأ ابن آدم وِعَاءً شَرًّا من بطْن" أخرجه الترمذى وحسنه.
[المفردات]
ما ملأ ابن آدم وعاء: أى ما أتْرَعَ الإنسان ظَرْفًا من الظروف.
شرا من بطن: أى أشد ضررا عليه من ملء بطنه.
[البحث]
قال الترمذى: حدثنا سويد نا عبد اللَّه بن المبارك نا إسماعيل بن عياش ثنى أبو سلمة الحمصى وحبيب بن صالح عن يحيى بن جابر الطائى عن مقدام بن معد يكرب قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ما ملأ آدَمِىٌّ وعاءً شرًّا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلُثٌ لطعامه، وثُلُثٌ لشرابه، وثلُثٌ لِنَفَسِهِ" حدثنا الحسن بن عرفة نا إسماعيل بن عياش نحوه وقال المقدام بن معد يكرب عن النبى صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر سمعت النبى صلى الله عليه وسلم. هذا حديث حسن صحيح اهـ.
[ما يفيده الحديث]
1 -
أن من أكبر أسباب سلامة الجسم من الأمراض هو عدم الإفراط فى الطعام والشراب.
2 -
الترغيب فى الاقتصاد فى الطعام والشراب.
3 -
شمول تعاليم الإسلام لما يسعد الناس فى أبدانهم وأرواحهم ودنياهم وأخراهم.
10 -
وعن أنس رضى اللَّه عنه قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كل بنى آدم خَطَّاءٌ، وخير الخَطَّائين التَّوَّابُون" أخرجه الترمذى وابن ماجه وسنده قوى.
[المفردات]
كل بنى آدم: أى جميع بنى آدم يعنى من المكلفين، وقد دل الدليل على استثناء الأنبياء من هذا العموم فهم معصومون.
خطاء: أى يقع منه ما يخالف الصواب بكثرة، وأفرد خطاء لمراعاة لفظ كل، وروى:"خطاءون" بالجمع لمراعاة معنى كل.
وخير الخطائين: أى وأفضل الذين يقعون فى الخطأ.
التوابون: أى الراجعون إلى اللَّه، المستغفرون لذنوبهم، الذين لا يصرون على خطيئتهم.
[البحث]
قول المصنف رحمه الله: (وسنده قوى) فيه نظر فقد وصفه الترمذى بالغرابة فقال بعد سياقه: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث على بن مسعدة عن قتادة اهـ كما أن الذهبى اعترض على الحاكم فى تصحيحه وقال: بل فيه لين اهـ وقد أخرجه ابن ماجه من طريق على بن مسعدة أيضا عن قتادة عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" اهـ. على أن اللَّه تبارك وتعالى قد رغَّبَ عباده فى التوبة وحضهم عليها، ونهاهم عن القنوط من رحمته حيث قال:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وقد صحت الأخبار عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن اللَّه
يفرح بتوبة العبد فرحا عظيما، وقد قال اللَّه تبارك وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} .
11 -
وعن أنس رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الصمت حكمة وقليل فاعله" أخرجه البيهقى فى الشُّعَبِ بسند ضعيف وصَحَّح أنه موقوف من قول لقمان عليه السلام.
[المفردات]
الصمت: أى السكوت.
حكمة: أى فقه وإدراك ومعرفة بالحقائق.
وقليل فاعله: أى وقَلَّ من الناس من يتمكن منه ويتلبس به.
فى الشعب: أى فى كتابه شعب الإِيمان.
لقمان: المراد به هو لقمان الحكيم المذكور فى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} الآيات، وقد اختلف فى نبوته. وقد قيل: هو من السودان، واللَّه أعلم.
[البحث]
لقد وضع اللَّه تبارك وتعالى أفضل المناهج للسان حتى يكون نطقه حكمة وسكوته حكمة حيث يقول: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أو مَعْرُوفٍ أو إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} .