الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقه الإسلام
شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام للحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله
تأليف
عبد القادر شيبة الحمد
عضو هيئة التدريس بقسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة والمدرس بالمسجد النبوي الشريف
[الجزء العاشر]
باب الترغيب فى مكارم الأخلاق
1 -
عن ابن مسعود رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإن الصدق يَهدِى إلى البِرِّ، وإن البر يهدى إلى الجنة، وما يزال الرجلُ يَصْدُقُ ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اللَّه صديقا، وإياكم والكَذِبَ، فإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللَّه كذابا" متفق عليه.
[المفردات]
الترغيب فى مكارم الأخلاق: أى الحض على الاتصاف بمحاسن الصفات.
عليكم بالصدق: أى الزموا الصدق واحرصوا على الاتصاف به.
يهدى إلى البر: أى يسوق إلى الخير ويرشد إلى الفلاح.
وإن البر يهدى إلى الجنة: أى وإن الخير يوصل إلى الجنة.
وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق: أى وما يبرح الإنسان حريصا على مطابقة كلامه للواقع، ومجتهدا فى ملازمة الصدق والاتصاف به.
حتى يكتب عند اللَّه صديقا: أى حتى يجعله اللَّه عز وجل فى الصديقين عنده.
وإياكم والكذب: أى واحذروا الكذب واحرصوا على تجنب الاتصاف به.
فإن الكذب يهدى إلى الفجور: أى فإن الكذب يسوق إلى الخروج على طاعة اللَّه.
وإن الفجور يهدى إلى النار: أى وإن الخروج عن طاعة اللَّه يسوق إلى الجحيم.
وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب: أى وما يبرح الإنسان يكذب ويدرب نفسه على الكذب.
حتى يكتب عند اللَّه كذابا: أى حتى يجعله اللَّه عز وجل فى الكاذبين المستحقين لسخط اللَّه ومقته.
[البحث]
أورد البخارى هذا الحديث من طريق منصور عن أبى وائل عن عبد اللَّه رضى اللَّه عنه بلفظ: عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن الصدق يهدى إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا، وإن الكذب يهدى إلى الفجور وإن الفجور يهدى إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند اللَّه كذابا" أما مسلم رحمه الله فقد أخرجه من رواية منصور عن أبى وائل عن عبد اللَّه باللفظ الذى أورده به البخارى غير أنه قال: "حتى يكتب صديقا" وقال: "حتى يكتب كذابا" ثم أورده من طريق منصور عن أبى وائل عن عبد اللَّه بن مسعود بلفظ: قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن الصدق بر،
وإن البر يهدى إلى الجنة، وإن العبد ليتحرى الصدق حتى يكتب عند اللَّه صديقا، وإن الكذب فجور، وإن الفجور يهدى إلى النار، وإن العبد ليتحرى الكذب حتى يكتب كذابا" ثم ساقه من طريق الأعمش عن شقيق عن عبد اللَّه باللفظ الذى ساقه المصنف.
[ما يفيده الحديث]
1 -
الحرص على تحرى الصدق والاعتناء بالاتصاف به.
2 -
التحذير من الكذب والحرص على اجتنابه والابتعاد عن الاتصاف به.
3 -
الإِشارة إلى أن الأخلاق الكريمة يمكن اكتسابها.
4 -
وأن الأخلاق السيئة يمكن اكتسابها كذلك.
5 -
وأن الأخلاق الصالحة تهدى إلى الجنة
6 -
وأن الأخلاق السيئة تسوق إلى النار.
2 -
وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" متفق عليه.
[البحث]
تقدم هذا الحديث بلفظه قريبا وهو الحديث الثامن من أحاديث باب الترهيب من مساوئ الأخلاق وقد تم بحثه هناك.
[ما يفيده الحديث]
1 -
عدم اتهام الناس بالباطل يُعَدُّ من مكارم الأخلاق.
3 -
وعن أبى سعيد الخدرى رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إياكم والجلوس بالطرقات" قالوا: يا رسول اللَّه ما لنا بُدُّ من مجالسنا نتحدث فيها قال: "فأما إذا أبيتم فَأعْطُوا الطريق حقه" قالوا: وما حقه؟ قال: "غَضُّ البصر، كفُّ الأذى، ورَدُّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر" متفق عليه.
[المفردات]
إياكم والجلوس بالطرقات: أى احذروا القعود على مَمَرِّ الناس وصُعُدَاتهم، والطرقات حمع طرق والطرق جمع طريق.
ما لنا بُدٌّ من مجالسنا: أى ما لنا غِنًى عن الجلوس بالطرقات.
نتحدث فيها: أى نتكلم فى قضاء حوائجنا بها ونتذاكر فيها فى أمور ديننا ودنيانا.
فأما إذا أبيتم فأعطوا الطريق حقه: أى فأما إذا كان لا غنى لكم عنها فَأدُّوا لها حقها.
وما حقُّه: أى وماذا علينا لحق الجلوس فى الطريق؟ والطريق يذكر ويؤنث.
غض البصر: أى خفض النظر وعدم امتداده لمن تمر من النساء بالطريق.
وكف الأذى: أى ومنع الأذى والضرر عن المارَّة فلا ينالهم منكم أذى بألسنتكم أو بأيديكم أو بشئ تضعونه فى
الطريق يعوق مشيهم فيه كإيقاف دوابكم أو (سياراتكم) مما يؤدى إلى إعاقة مرورهم.
ورد السلام: أى ومن كم فحيوه.
والأمر بالمعروف: أى والحض على فعل الخير.
والنهى عن المنكر: أى والتحذير من الوقوع فى الشر.
[البحث]
أورد البخارى ومسلم هذا الحديث من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد الخدرى رضى اللَّه عنه باللفظ الذى ساقه المصنف إلا أن عند البخارى: "فإذا أبيتم إلا المجلس" وعند مسلم: "إذا أبيتم إلا المجلس" وفى لفظ للبخارى: "إيكم والجلوس على الطرقات" فقالوا: ما لنا بُد إنما هى مجالسنا، نتحدث فيها، قال:"فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها" قالوا: وما حق الطريق؟ قال: "غض البصر وكف الأذى ورد السلام وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر" وقد أورد مسلم من حديث أبى طلحة رضى اللَّه عنه قال: كنا قعودا بالأفنية نتحدث فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقام علينا فقال: "ما لكم ولمجالس الصُّعُدَات؟ اجتنبوا مجالس الصعدات" فقلنا: إنما قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتذاكر ونتحدث، قال:"إما لا فأدُّوا حقها، غض البصر، ورد السلام وحسن الكلام".
[ما يفيده الحديث]
1 -
صيانة حقوق المرور بالطرقات.
2 -
حرص الإِسلام على سلامة الأنفس والأموال والأعراض.
3 -
الطرق إنما وضعت أصلا للمرور بها لا للجلوس عليها.
4 -
من حق الجلوس فى الطرقات: غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
4 -
وعن معاوية رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من يُرد اللَّه به خيرا يفقهه فى الدين" متفق عليه.
[المفردات]
من يرد اللَّه به خيرا يفقهه فى الدين: أى من يرد اللَّه هدايته وتوفيقه يشرح صدره للإسلام ويفهمه أحكام الشريعة ويعرفه أسرارها وحِكَمَهَا.
[البحث]
أخرج البخارى ومسلم هذا الحديث عن معاوية رضى اللَّه عنه قال: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد اللَّه به خيرا يفقهه فى الدين، وإنما أنا قاسم واللَّه يعطى، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر اللَّه لا يضرهم من خالفهم حتى يأتى أمر اللَّه" وفى لفظ لمسلم: "من يرد اللَّه به خيرا يفقهه فى الدين، ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من نَاوَأهُمْ إلى يوم القيامة".
[ما يفيده الحديث]
1 -
شرف العلم وفضله.
2 -
وأن من تفقه فى الدين لوجه اللَّه يُرجَى له حسن الخاتمة.
3 -
وأن طلب العلم من مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات.
5 -
وعن أبى الدرداء رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من شئ فى الميزان أثقل من حُسن الخُلُقِ" أخرجه أبو داود والترمذى وصححه.
[المفردات]
ما من شئ فى الميزان الخ: أى ما من عمل صالح عظيم يوضع فى ميزان العبد يوم القيامة فيثقل ويُرَجِّحُ كفة الحسنات مثل حسن الخُلق فإنه يزيد فى رجحان كفة الميزان على كل عمل صالح.
[البحث]
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسى وحفص بن عمر قالا ثنا ح وثنا ابن كثير أخبرنا شعبة عن عطاء عن القاسم بن أبى بزة الكيخارانى عن أم الدرداء عن أبى الدرداء عن النبى صلى الله عليه وسلم باللفظ الذى ساقه المصنف ثم قال أبو داود: قال أبو الوليد قال: سمعت عطاء الكَيْخَارانى اهـ وقال الترمذى: حدثنا ابن أبى عمر ثنا سفيان ثنا عمرو بن دينار عن ابن أبى مليكة، عن يعلى بن المملك عن أم الدرداء عن أبى الدرداء أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"ما شئ أثقل فى ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن فإن اللَّه تعالى يبغض الفاحش البذىَّ"
وفى الباب عن عائشة وأبى هريرة وأنس وأسامة بن شريك. هذا حدثنا حسن صحيح. حدثنا أبو كريب ثنا قبيصة بن الليث عن مطرف عن عطاء عن أم الدرداء عن أبى الدراء قال صلى الله عليه وسلم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من شئ يوضع فى الميزان أثقل من حسن الخُلُقِ، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة" هذا حدثنا غريب من هذا الوجه اهـ وعطاء الكيخارانى من الرابعة والقاسم بن أبى بزة من الخامسة والموصوف بالكيخارانى هو عطاء لا القاسم وكلاهما ثقة، ويعلى بن مَمْلَكَ المكى من الثالثة وهو مقبول، وأم الدراء هى هُجيمة وقيل جهيمة الأوصابية الدمشقية زوج أبى الدرداء رضى اللَّه عنه وهى أم الدرداء الصغرى قال فى التقريب: وأما الكبرى فاسمها خيرة ولا رواية لها فى هذه الكتب، والصغرى ثقة فقيهة من الثالثة ماتت سنة إحدى وثمانين اهـ.
[ما يفيده الحديث]
1 -
فضل حسن الخلق.
2 -
وأنه ينبغى لكل مسلم أن يكون خلقه حَسَنًا.
3 -
وأن يحارب من نفسه كل انحراف عن الخلق الحسن.
6 -
وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الحياء من الإِيمان" متفق عليه.
[المفردات]
الحياء: هو صفة تقوم بالإنسان تمنعه عن ارتكاب ما يعاب، وتجلب له الحشمة والوقار.
من الإِيمان: أى هو شعبة من شعب الإِيمان.
[البحث]
أخرج البخارى ومسلم من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مَرَّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه فى الحياء فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "دعه فإن الحياء من الإيمان" كما أخرج البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بِضْع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان" كما روى البخارى ومسلم من حديث عمران بن حصين رضى اللَّه عنهما قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: "الحياء لا يأتى إلا بخير" وفى لفظ للبخارى من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما: مَرَّ النبى صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يعاتب فى الحياء يقول: إنك لتستحى، حتى كأنه يقول: قد أضر بك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"دعه فإن الحياء من الإيمان" وفى لفظ لمسلم من حديث عمران رضى اللَّه عنه: "الحياء خير كُلُّه" وقد روى البخارى من حديث أبى سعيد رضى اللَّه عنه قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء فى خدرها.
[ما يفيده الحديث]
1 -
أن خُلُقُ الحياء من الأخلاق الحميدة.
2 -
التحذير من الطعن على الإِنسان المتصف بالحياء.
7 -
وعن ابن مسعود رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن مما أَدْرَكَ الناسُ من كلام النبوة الأولى: إذا لم تَسْتَحِ فاصنع ما شئت" أخرجه البخارى.
[المفردات]
إن مما أدرك الناس: أى إن مما بلغ الناس وعرفوه.
من كلام النبوة الأولى: أى من كلام الأنبياء السابقين المتقدمين.
إذا لم تَسْتَحِ فاصنع ما شئت: أى إذا لم تكن متصفا بصفة الحياء فإنه لا يَرْدَعُكَ شئ فافعل ما بدا لك، وستجد جزاء ما تفعله فى الدار الآخرة.
[البحث]
قوله "وعن ابن مسعود" هو هكذا فى نسخ بلوغ المرام وهو سبق قلم فإن هذا الحديث من رواية أبى مسعود رضى اللَّه عنه وقد أورد البخارى هذا الحديث فى الباب الأخير من أبواب كتاب أحاديث الأنبياء فقال: حدثنا أحمد بن يونس عن زهير حدثنا منصور عن ربعي بن حِراش حدثنا أبو مسعود عقبة قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة: إذا لم تستحى فافعل ما شئت" حدثنا آدم حدثنا شعبة عن منصور قال: سمعت رِبْعِى بنَ حِرَاش يحدث عن أبى مسعود قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة: إذا لم تَسْتَحْى فاصنع ما شئت" وأورده فى كتاب الأدب فى (باب إذا لم تستح فاصنع ما شئت) قال: حدثنا أحمد بن
يونس حدثنا زهير حدثنا منصور عن رِبْعِىِّ بن حِرَاش حدثنا أبو مسعود قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تَسْتَحِ فاصنع ما شئت" ويظهر أن الصنعانى لم يطلع على هذا الحديث فى كتاب الأدب من صحيح البخارى فقال: لفظ "الأولى" ليس فى البخارى بل فى سنن أبى داود اهـ واللَّه أعلم.
[البحث]
1 -
أن صفة الحياء تردع الإِنسان عن كثير من الشرور.
2 -
أن من فقد الحياء لا يرعوي عن شئ.
8 -
وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوى خير وأحب إلى اللَّه من المؤمن الضعيف وفى كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن باللَّه ولا تعجز، وإن أصابك شئ فلا تقل: لو أنى فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر اللَّه وما شاء فَعَل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" أخرجه مسلم.
[المفردات]
المؤمن القوى: أى ذو العزيمة القوية والجسم السليم الصحيح.
خير وأحب إلى اللَّه: أى أفضل وأقرب إلى اللَّه تعالى.
من المؤمن الضعيف: أى ذى العزيمة المتراخية والجسم غير الصحيح.
وفى كل خير: أى وفى المؤمن القوى خير وفى المؤمن الضعيف خير لوجود الإِيمان فى كل منهما.
احرص على ما ينفعك: أى ابذل جهدك فى كل ما يجلب لك خير الدنيا وخير الآخرة، واستعمل الأسباب والوسائل التى يسَّرها اللَّه لك وأباحها.
واستعن باللَّه: أى واطلب العون من اللَّه على قضاء ما تريد وليكن اعتمادك عليه لا على ما تبذل من الأسباب.
ولا تعجز: أى ولا تتكاسل ولا تتواكل.
وإن أصابك شئ: أى وإن فاتك شئ مما بذلت السبب فى تحصيله أو نزل بك ضرر.
فلا تقل: لو أنى فعلت كذا كان كذا وكذا: أى فلا تتأسف على ما فاتك، ولا تقل: لو أنى فعلت سببا غير السبب الذى بذلت لتغير الحال ولحصلت على ما أريد.
ولكن قل: قدر اللَّه وما شاء فعل: أى ولكن قل: هذا الذى قضاه اللَّه، وما شاء اللَّه كان، وارضَ بقضاء اللَّه وقدره، وفَوِّضْ أمورك إليه عز وجل.
فإن لو تفتح عمل الشيطان: أى فإن قولك: لو يُدخلُ عليك وساوس الشيطان ويجر عليك شرا كثيرًا من عدم الرضا بقضاء اللَّه وقدره.
[البحث]
أورد مسلم هذا الحديث باللفظ الذى ساقه المصنف غير أن فى لفظ مسلم: "فلا تقل لو أنى فعلت كان كذا وكذا" وقد اختلف فى ضبط "قدر اللَّه" فضبطها بعضهم بفتح القاف والدال وضم الراء، أى هذا قضاء اللَّه وقدره، وضبطها بعضهم بفتح القاف والدال المفتوحة المشددة وفتح الراء أى قدَّر اللَّه وقضى فنفذ قضاؤه وقدره، وهذا الحديث أصل عظيم من الأصول التى يسير المسلم على منهجها والتى تفرق بين أحوال المسلمين وأحوال الكافرين، فالمسلم يبذل السبب ويعتمد على اللَّه فى نجاح مراده وتحصيل مقصوده، أما الكافر فإنه يبذل السبب ويعتمد على السبب وحده، ولا شك أن منهج المسلمين هو أكمل المناهج وأسعدها، وللَّه در القائل:
إذا كان عون اللَّه للعبد مُسْعِفًا
…
تَأَتَّى له من كل شئ مُرَاده
وإن لم يكن عون من اللَّه للفتى
…
فأول ما يقضى عليه اجتهاده
ولذلك أثر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول: يا حى يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام برحمتك أستغيث فأصلح لى شأنى كله، ولا تكلنى إلى نفسى طرفة عين، إنك إن وكلتنى إلى نفسى أو إلى أحد من خلقك وكلتنى إلى عجز وضعف وفاقة.
[ما يفيده الحديث]
1 -
الحض على بذل الأسباب المشروعة فى تحصيل منافع الدنيا والآخرة.
2 -
وجوب الاعتماد على اللَّه فى تحصيل المقصود.
3 -
وجوب الرضا بالقضاء والقدر وتفويض الأمور إلى اللَّه وحده.
4 -
لا يجوز للمسلم أن يتأسف على ما فاته ما دام قد بذل السبب.
5 -
حرص الشيطان على إدخال الشر على المسلم.
9 -
وعن عياض بن حِمَار رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه أوْحَى إلَىَّ أن تَواضَعُوا، حتى لا يَبْغِىَ أحد على أحد، ولا يَفْخَرَ أحد على أحد" أخرجه مسلم.
[المفردات]
أوحى إلىَّ: أى ألقى إلىَّ وأعلمنى عن طريق الوَحْى.
أن تواضعوا: أى أن آمركم بأن تتواضعوا أى لا يتعال بعضكم على بعض ولا يتكبر بعضكم على بعض، يقال: تواضع أى تذلل وتخاشع.
حتى لا يبغى أحد على أحد: أى حتى لا يتطاول إنسان على إنسان قال فى القاموس: وبغى عليه يبغى بَغْيًا علا وظلم وعدل عن الحق واستطال وكذب اهـ.
ولا يفخر أحد على أحد: أى ولا يتباهى أحد على أحد بنسب أو حسب أو حسب أو بلد أو جنس أو لون أو غير ذلك، فالكل لآدم وآدم من تراب.
[البحث]
أخرج الترمذى من حديث أبى بكرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من ذنب أجدر أو أحق من أن يعجل اللَّه لصاحبه العقوبة فى الدنيا مع ما يدخر له فى الآخرة من البغى وقطيعة الرحم" وقد صححه الترمذى، وقد أشار اللَّه تبارك وتعالى إلى تعجيل عقوبة البغى فى الدنيا مع ما يدخر له فى الآخرة حيث يقول:{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
[ما يفيده الحديث]
1 -
الحث على التواضع.
2 -
تحريم البغى.
3 -
أنه لا يليق بالمسلم أن يفخر على أحد بسبب لونه أو جنسه أو نسبه أو نحو ذلك.
10 -
وعن أبى الدرداء رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من ردَّ عن عِرض أخيه بالغيب ردَّ اللَّه عن وجهه النار يوم القيامة" أخرجه الترمذى وحسَّنه، ولأحمد من حديث أسماء بنت يزيد نحوه.
[المفردات]
من ردَّ عن عرض أخيه بالغيب: أى دافع عن شرف وكرامة أخيه
المسلم حالة كونه غائبا عن المجلس رد اللَّه عن وجهه النار يوم القيامة: أى دفع اللَّه النار عن وجهه فى الدار الآخرة.
أسماء بنت يزيد: هى أم عامر أو أم سلمة أسماء بنت يزيد بن السكن بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأشهلية الأنصارية رضى اللَّه عنها أسلمت وبايعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وروت عنه أحاديث وشهدت بعض المشاهد معه صلى الله عليه وسلم.
نحوه: أى نحو حديث أبى الدرداء عند الترمذى.
[البحث]
قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن الصباح ثنا ابن أبى مريم أخبرنا الليث قال: حدثنى يحيى بن سليم أنه سمع إسماعيل بن بشير يقول: سمعت جابر بن عبد اللَّه وأبا طلحة بن سهل الأنصارى يقولان: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من امرئ يخذل امرءا مسلما فى موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله اللَّه فى موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما فى موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره اللَّه فى موطن يحب نصرته" قال يحيى وحدثنيه عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر وعقبة بن شداد. قال أبو داود يحيى بن سليم هذا هو أبو زيد مولى النبى صلى الله عليه وسلم، وإسماعيل بن بشير مولى بنى مغالة وقد قيل عتبة بن شداد موضع عقبة اهـ وقد حض
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على نصرة المسلم فقد روى البخارى من حديث أنس رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" قالوا: يا رسول اللَّه هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: "تأخذ فوق يديه" كما روى مسلم من حديث جابر رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ولينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلوما فلينصره" وقد مر فى الحديث السادس عشر من أحاديث باب الترهيب من مساوئ الأخلاق قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله".
[ما يفيده الحديث]
1 -
الحض على الدفاع عن المسلم وحماية عرضه بظهر الغيب.
2 -
أن من دافع عن عرض مسلم وهو غائب دفع اللَّه النار عن وجهه يوم القيامة.
3 -
تحريم خذلان المسلم.
4 -
وجوب نصرة المظلوم.
11 -
وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما نَقَصَتْ صَدَقَة من مال، وما زاد اللَّه عبدا بعفو إلا عِزًّا، وما تواضع أحدٌ للَّه إلا رفعه اللَّه" أخرجه مسلم.
[المفردات]
ما نقصت صدقة من مال: أى ما أذهب إخراج الزكاة من المال شيئًا من ثمرة هذا المال وفائدته فلا يخسر المزكى شيئًا من المال بل إن المال الباقى بعد إخراج الزكاة يجعل اللَّه فيه بركة تزيد على مقدار ما أخذ منه للزكاة.
وما زاد اللَّه عبدا بعفو إلا عزا: أى ولا يظن مَنْ عفا عمن أساء إليه أنه يلحقه بذلك ذل وأن الانتصاف ممن ظلمه يجعله عزيزا مهابا بل إن عفوه عمن أساء إليه يزيده عزا فوق العز الذى كان يظنه لو انتصف من ظالمه.
وما تواضع أحد للَّه إلا رفعه اللَّه: أى وما أَلَانَ أحد جانبه للمسلمين ولا سيما الضعفاء منهم وخفض جناحه لهم ابتغاء وجه اللَّه إلا أعلى اللَّه درجته ورفع منزلته فى الدنيا والآخرة.
[البحث]
أشار اللَّه عز وجل إلى أن الشيطان يغرى الإِنسان بالشح، ويخوفه من الفقر ونقصان المال إن تصدق منه على الفقراء والمساكين، حيث يقول عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
وحض اللَّه تبارك وتعالى على التصدق والإِنفاق فى غير موضع من كتابه الكريم ووعد بأنه يخلف على المنفقين ما أنفقوا حيث يقول: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} كما وعد اللَّه عز وجل العافين عن الناس بجزيل المثوبة فى جنات النعيم حيث يقول: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وكما قال عز وجل: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وقد دلت التجارب على أن الإنسان لا يزداد بالعفو إلا عزا، كما دلت التجارب على أن المتواضعين يرفعهم اللَّه عز وجل، والحَب المزروع لا يثمر الثمرة الحسنة إلا إذا دفن فى الأرض فالمتكبرون فى أنفسهم صغار فى أعين الناس وقلوبهم.
[ما يفيده الحديث]
1 -
الحث على الصدقة.
2 -
الحث على العفو عن المسئ.
3 -
وعد اللَّه عز وجل للعافين عن الناس بالعز.
4 -
أن التواضع سبب للرفعة فى الدنيا والآخرة.
12 -
وعن عبد اللَّه بن سَلام رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس أفشُوا السلام، وَصِلُوا الأرحام، وأطعموا
الطعام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام" أخرجه الترمذى وصححه.
[المفردات]
أفشوا السلام: أى أشيعوا تحية الإسلام بينكم وأذيعوها وأظهروها وانشروها بالسلام على من عرفتم ومن لم تعرفوا.
وصلوا الأرحام: أى وأحسنوا إلى أقاربكم وأوصلوا لهم الخير والبر من جهتكم.
وأطعموا الطعام: أى وابذلوا من طعامكم للفقراء والمساكين وغيرهم.
وصَلَّوا بالليل والناس نيام: أى وقوموا للصلاة بالليل أثناء غفلة الناس ونومهم ليرتفع عملكم الصالح على حد قول الشاعر:
إذا نام غِرٌّ فى دُجى الليل فَاسْهَر
…
وقم للمعالى والعوالى وشَمِّر
تدخلوا الجنة بسلام: أى يسعدكم اللَّه عز وجل ويدخلكم جنات النعيم آمنين مصحوبين بالسلام وتحيات الملائكة الكرام.
[البحث]
قال البخارى رحمه الله فى كتاب الإِيمان (باب إطعام الطعام من الإسلام) ثم ساق من طريق أبى الخير عن عبد اللَّه بن عَمْرو رضى اللَّه عنهما أن رجلًا سأل النبى صلى الله عليه وسلم: أى الإسلام خير؟ قال: "تطعم
الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" ثم قال: (باب إفشاء السلام من الإسلام) وساق نفس هذا الحديث. وقال فى كتاب الاستئذان (باب السلام للمعرفة وغير المعرفة) وساقه. وقد تقدم الكلام على صلة الأرحام فى الحديث الأول من أحاديث باب البر والصلة، كما تقدم الكلام على إطعام الطعام فى الحديث الحادى عشر من أحاديث باب البر والصلة. وأما الصلاة بالليل والناس نيام فقد تقدم الكلام عليها فى باب صلاة التطوع.
[ما يفيده الحديث]
1 -
فضل إفشاء السلام وأنه من محاسن الصفات.
2 -
فضل إطعام الطعام وأنه من محاسن الصفات.
3 -
فضل صلة الأرحام وأنه من محاسن الصفات.
4 -
فضل الصلاة بالليل والناس نيام.
13 -
وعن تميم الدارمى رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" ثلاثًا قلنا: لمن يا رسول اللَّه؟ قال: اللَّه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" أخرجه مسلم.
[المفردات]
تميم الدارى: هو أبو رقية تميم بن أوس بن خارجة بن سُود بن جذيمة بن دارع بن عدى بن الدار بن هانئ بن
حبيب بن نُمارة بن لخم بن كعب الدارى، وفد على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومعه أخوه نعيم بن أوس فأسلما وأقطعهما رسول اللَّه أنْ حِبْرَى وبيت عَيْنُون بالشام، وصحب تميم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وغزا معه، وروى عنه وجع القرآن فى عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأم بالمسلمين فى صلاة القيام فى عهد عمر رضى اللَّه عنه وقد حدث عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المنبر بقصة الجساسة والدجال، وقد تحول تميم إلى الشام بعد مقتل عمان رضى اللَّه عنه، فعداده فى أهل الشام.
الدين النصيحة: أى إن عماد الدين وقوامه هى النصيحة قال الخطابى: النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له اهـ والناصح الخالص الذى لا غش معه يقال: رجل ناصح الجيب أى لا غش فيه، والناصح العسل الخالص.
ثلاثًا: أى قالها ثلاث مرات.
لمن يا رسول اللَّه: أى من يستحقها يا رسول اللَّه ومن الذى ننصح له؟ .
للَّه: أى النصيحة للَّه بالإِيمان به، وإخلاص العبادة له، وإعزاز دينه.
ولكتابه: أى والنصيحة للقرآن العظيم، بتحليل ما أحل وتحريم ما حرم، وتلاوته آناء الليل والنهار والإِيمان بأنه كلام اللَّه منه بدأ وإليه يعود.
ولرسوله: أى والنصيحة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بتصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر ونشر سنته، والوقوف عند شريعته، فلا عقيدة ولا عبادة ولا معاملة إلا بما جاء من شرعه صلى الله عليه وسلم، والإيمان بأن الناس لو جاءوا من كل طريق واستفتحوا من كل باب لم يفتح لهم إلا إذا جاءوا من طريق شرع محمَّد صلى الله عليه وسلم.كما أثر فى الحديث القدسى أن اللَّه قال لرسوله صلى الله عليه وسلم:"وعزتي وجلالي لوجاءوا من كل طريق واستفتحوا من كل باب ما فتحت لهم إلا أن يجيئوا من طريقك" وقد أكمل اللَّه له الدين، وأتم به النعمة فشريعته شافية كافية تامة شاملة باقية إلى يوم القيامة، صالحة لكل عصر ومصر، وجيل وقبيل لا تنسخ حتى ينسخ الليل والنهار والشمس والقمر ويرث اللَّه الأرض ومن عليها.
ولأئمة المسلمين: أى والنصيحة لولاة أمر المسلمين بإعانتهم على الحق وطاعتهم فيه، وحضهم عليه، وتذكيرهم لحوائج العباد، ونصحهم فى الرفق والعدل وعدم
الخروج عليهم، والصلاة خلفهم، والجهاد معهم.
وعامتهم: أى والنصيحة لسائر المسلمين بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإرشادهم إلى مصالحهم فى دينهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم وتعليم جاهلهم والحرص على جلب الخير لهم ودفع التفسير عنهم.
[البحث]
هذا الحديث من الأحاديث التى عليها مدار الإسلام، وصدق الإيمان، وقد قال البخارى فى كتاب الإيمان من صحيحه:"باب قول النبى صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة للَّه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. وقوله تعالى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى عن إسماعيل قال: حدثنى قيس بن أبى حازم عن جرير بن عبد اللَّه قال: "بايعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم" وقد تقدم فى الحديث السادس والثلاثين من أحاديث كتاب البيوع قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من غش فليس منى".
[ما يفيده الحديث]
1 -
أن النصيحة من أبرز علامات صدق الإِيمان والإِسلام.
2 -
وأن النصيحة تسمى دينا وإسلاما.
3 -
وأنها تلزم كل مسلم على قدر طاقته.
4 -
وأنها من أكرم الصفات التى يجب أن يتحلى بها المسلم.
14 -
وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أكثر ما يُدْخِلُ الجنة تقوى اللَّه وحسن الخُلُق" أخرجه الترمذى وصححه الحاكم.
[المفردات]
أكثر ما يدخل الجنة: أى أكثر الأعمال سببا فى دخول الجنة.
تقوى اللَّه: أى الخوف من اللَّه واتباع أوامره واجتناب معاصيه وحسن المعاملة مع الخالق.
وحسن الخلق: أى وجمال المعاشرة ولطف المعاملة مع الخلق.
[البحث]
قال الترمذى: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء نا عبد اللَّه بن إدريس ثنى أبى عن جدى عن أبى هريرة قال: سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: "تقوى اللَّه وحسن الخلق" وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال: "الفم والفرج" هذا حديث صحيح غريب وعبد اللَّه بن إدريس هو ابن يزيد بن عبد الرحمن الأودى اهـ وقد تقدم فى الحديث الثالث من أحاديث باب الأدب أن البر حسن الخلق وقد بشر اللَّه عز وجل الأبرار بجنات النعيم حيث يقول: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} .
[ما يفيده الحديث]
1 -
وجوب تقوى اللَّه عز وجل.
2 -
أن حسن المعاملة ولطف المعاشرة من أعظم أسباب دخول الجنة.
15 -
وعنه رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنكم لا تَسَعُونَ الناس بأموالكم، ولكن لِيَسَعْهُمْ منكم بسط الوجه وحُسن الخلق" أخرجه أبو يعلى وصححه الحاكم.
[المفردات]
وعنه: أى وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه.
لا تَسَعُونَ الناس بأموالكم: أى إن أموالكم لا تكفى لِتَشْمَلَ الناس كلهم فالناس لا يحْصون وأموالكم محصاة.
ولكن ليسعهم منكم: أى ولكن ليشملهم منكم ولِيَعُمَّهُمْ.
بسط الوجه: أى طلاقة الوجه.
وحسن الخلق: أى وجمال المعاشرة.
[البحث]
تقدم فى الحديث العاشر من أحاديث باب البر والصلة قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" وقد أخرجه مسلم وتقدم بحث ما يتعلق به هناك.
16 -
وعنه رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المؤمن مرآة المؤمن" أخرجه أبو داود بإسناد حسن.
[المفردات]
وعنه: أى وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه.
المؤمن مرآة المؤمن: أى إن المؤمن لأخيه المؤمن كالمرآة التى ينظر فيها وجهه فيرى ما فيه من الحسن أو العيب، على معنى أن المؤمن يرشد أخاه المؤمن إلى ما فيه من خلق سئ فيحذره منه ويرشده إلى اجتنابه، ويرشده إلى ما فيه من خلق حسن ليحضه على مداومة الاستمساك به.
[البحث]
تقدم فى الحديث الثالث عشر من أحاديث هذا الباب أن الدين النصيحة، ووجوب النصح لكل مسلم قال أبو داود:(باب فى النصيحة) حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن ثنا ابن وهب عن سليمان يعنى ابن بلال عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبى هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه" وسليمان بن بلال مولى القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق ثقة كثير بن زيد هو أبو محمد الأسلمى المدنى ابن ما فَنَّه بفتح الفاء وتشديد النون قال فى التقريب: صدوق يخطئ والوليد بن رباح الدوسى المدنى قال فى التقريب: صدوق.
[ما يفيده الحديث]
1 -
وجوب النصح للمسلم.
2 -
تحريم غشه وخيانته.
17 -
وعن ابن عمر رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذى يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذى لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن وهو عند الترمذى إلا أنه لم يُسَمِّ الصحابى.
[المفردات]
يخالط الناس: أى يجتمع بهم ويداخلهم.
ويصبر على أذاهم: أى ويحبس عن نفسه الجزع بما قد يصيبه ويلحقه من بعض الضرر بسبب نصحهم وإرشادهم.
خير من المؤمن: أى أفضل من المؤمن.
الذى لا يخالط الناس: أى لا يداخلهم ولا يجتمع بهم بل ينزوى عنهم وينفر من مجالستهم.
ولا يصبر على أذاهم: أى ولا يتحمل ما يصيبه منهم من أذى.
وهو عند الترمذى الخ: أى وحديث ابن عمر هذا قد أخرجه الترمذى لكن لم يذكر اسم الصحابى الذى رواه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
[البحث]
الإِنسان مدنى بالطبع غير أن بعض الناس يكون "انزوائيًا" وبعضهم يكون "اجتماعيا" وقد أشار هذا الحديث إلى أن المسلم "الاجتماعى" أفضل من المسلم "الانزوائى" وليس معنى كون الإِنسان اجتماعيا
أن يختلط بكل ما هب ودب بل عليه أن يختار الجليس الصالح، وأن يبتعد عن جليس السوء ولا يمنعه ذلك من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى بعض الأماكن التى قد يتساهل أهلها فى إقامة شعائر الدين.
18 -
وعن ابن مسعود رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: اللهم كما حَسَّنْتَ خَلْقِى فَحَسِّنْ خُلُقِى" رواه أحمد وصححه ابن حبان.
[المفردات]
حَسَّنْتَ خلْقى: أى جَمّلْتَ صُورتى كمَّلْتها.
فَحَسِّن خلُقِى: أى فاجعل أخلاقى حسنة جميلة.
[البحث]
لقد جمع اللَّه تبارك وتعالى لنبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم أحسن وأجمل وأحلى صورة بشرية مع أحسن خُلُق إنسانى، ولقد نوه القرآن العظيم بخلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حيث يقول اللَّه عز وجل لحبيبه ورسوله وسيد خلقه محمَّد صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وأما حسن خَلقه صلى الله عليه وسلم فقد روى البخارى ومسلم من حديث أنس رضى اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير ولا بالأبيض الأمهق. وليس بالآدم، وليس بالجعد القَططِ ولا بالسَّبط" وفى لفظ:"كان ربعة من القوم" كما روى البخارى ومسلم من حديث البراء رضى اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا، وأحْسَنَهُ خَلْقًا ليس بالطويل البائن ولا بالقصير وفى لفظ للبخارى من طريق
أبى إسحاق قال: سئل البراء أكان وجه النبى صلى الله عليه وسلم مثل السَّيْف؟ قال لا، بل مِثْلَ القمر، وفى لفظ للبخارى من حديث لأبى جحيفة قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهى فإذا هى أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك وفى لفظ للبخارى من حديث كعب بن مالك رضى اللَّه عنه: وكان رسول اللَّه أنْ: إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر. وقد وصفته أم معبد عاتكة بنت خالد الخزاعية لما مر بخيمتها فى طريق هجرته فقد أثر عنها أنها قالت أكحل أزج أقرن فى صوته صَحَل وفى عنقه سطع لا تشنؤه العين من طول ولا تقتحمه من قصر غصن بين غصنين فهو أحسن الثلاثة منظرا، له رفقاء يحفون به ويجلونه إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا لأمره، محفود، محشود، لا عابس ولا مفند" وقولها فى صوته فصل، أى إذا تحدث كأن قطعا من الحلوى تتناثر مع حديثه وقولها: وفى عنقه سطع أبى إذا رفع رأسه كأن قطعا من الفضة تتلالأ فى عنقه وفى لفظ للبخارى ومسلم من حديث أنس رضى اللَّه عنه قال: مَا مَسِسْتُ حريرا ولا ديباجا ألين من كف النبى صلى الله عليه وسلم، ولا شَمِمْتُ ريحا قط أو عَرْفًا قط أطيب من ريح أو عَرفِ رسول اللَّه صلوات اللَّه وسلامه وتحياته وبركاته عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.