المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الدعاوى والبينات - فقه الإسلام = شرح بلوغ المرام - جـ ١٠

[عبد القادر شيبة الحمد]

الفصل: ‌باب الدعاوى والبينات

‌باب الدَّعَاوَى والبَيِّنَات

ص: 98

1 -

عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لو يُعْطَى الناسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى ناس دماء رجال وأموالَهُمْ، ولكن اليمين على المُدَّعَى عَلَيْه" متفق عليه، وللبيهقى بإسناد صحيح "البينة على المُدَّعِى واليمين على مَنْ أنكر".

[المفردات]

الدَّعَاوَى: جمع دعوى قال الشريف الجرجانى فى التعريفات: الدعوى مشتقة من الدعاء وهو الطلب، وفى الشرع قول يطلب به الإِنسان إثبات حق على الغير اهـ.

والبينات: جمع بينة وهى ما أظهر الحق وأثبته للمدَّعِى من شهادة أو قرائن ظاهرة.

لو يعطى الناس بدعواهم: أى لو أن كل من ادعى حقا على غيره أجيب إليه بلا حجة.

لَادَّعَى ناس دماء رجال وأموالهم: أى لاجترأ بعض الناس ممن لا يخافون اللَّه عز وجل فطلبوا إزهاق أرواح بريئة ونزع أموال من أيدى أهلها بغير حق.

ولكن اليمين على المدَّعَى عليه: أى ولكن لابد للمدعى من البينة فإذا لم يكن له بينة، وجه اليمين على المدَّعَى عليه

ص: 98

فإن حلف المدعى عليه سقطت دعوى المدعى.

وللبيهقى: أى من حديث ابن عباس رضى اللَّه عنهما.

واليمين على من أنكر: أى والحلف على المدعى عليه إن أنكر دعوى المدعى ونفى أن يكون للمدعى عنده ما يدعيه.

[البحث]

حديث ابن عباس أخرجه البخارى مختصرا فى الرهن فى باب "إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه فالبينة على المدعى واليمين على المدعى عليه" من طريق نافع بن عمر وهو (الجمحى) عن ابن أبى مليكة قال كتبت إلى ابن عباس فكتب إلىَّ: أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه، وساقه فى الشهادات من طريق نافع بن عمر بنفس هذا السند ولفظه، وساقه فى تفسير سورة آل عمران من طريق ابن جريج عن ابن أبى مليكة أن امرأتين كانتا تخرزان فى بيت وفى الحجرة فخرجت إحداها وقد أُنْفِذَ بإشْفَى فى كَفِّها فَادَّعَت على أخرى فرفع إلى ابن عباس فقال ابن عباس: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لو يُعْطىَ الناس بدعواهم لذهب دماء قوم وأموالهم" ذكروها باللَّه واقرءوا عليها، {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} فذكَّرُوها فاعترفت، فقال ابن عباس: قال النبى صلى الله عليه وسلم: "اليمين على المدعى عليه" اهـ وقوله فى الحديث (بِإشْفَى) قال فى القاموس: والإِشْفَى:

ص: 99

المِثْقَب والسِّرادُ يُخْرَزُ به اهـ وقال فى القاموس أيضا: السَّرْدُ: الخَرْزُ فى الأديم كالسِّرَادِ بالكسر والثَّقْبُ اهـ أما مسلم رحمه الله فقد أخرجه من طريق ابن جريج عن ابن أبى مليكة عن ابن عباس باللفظ الذى ساقه المصنف رحمه الله ثم أخرجه من طريق نافع بن عمر عن ابن أبى مليكة عن ابن عباس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه اهـ قال فى الفتح: وأخرجه البيهقى من طريق عبد اللَّه ابن إدريس عن ابن جريج وعثمان بن الأسود عن ابن أبى مليكة قال: كنت قاضيا لابن الزبير على الطائف فذكر قصة المرأتين فكتبت إلى ابن عباس فكتب إلىَّ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم ولكن البينة على المدعى واليمين على من أنكر" وهذه الزيادة ليست فى الصحيحين، وإسنادها حسن ثم ذكر الحكمة فى كون البينة على المدعى واليمين على من أنكر فقال: وقال العلماء: الحكمة فى ذلك لأن جانب المدعى ضعيف لأنه يقول خلاف الطاهر فكلف الحجة القوية وهى البينة لأنها لا تجلب لنفسها نفعا ولا تدفع عنها ضررا، فيقوى بها ضعف المدعى، وجانب المدعى عليه قوى لأن الأصل فراغ ذمته فاكتفى منه باليمين وهى حجة ضعيفة لأن الحالف يجلب لنفسه النفع ويدفع الضرر فكان ذلك فى غاية الحكمة اهـ هذا وقد كان أهل الجاهلية يثبتون الحق بأحد ثلاثة أشياء وهى البينة أو اليمين أو النِّفَار قال زهير بن أبى سلمى المزنى:

ص: 100

فإن الحق مقطعه ثلاث

يمين أو نِفَارٌ أو جَلَاء

قال فى لسان العرب: والجَلَاء بالفتح والمد: الأمر الجلى وتقول منه: جَلَا لى الخبر أى وضح ثم ساق بيت زهير هذا ثم قال: أراد البينة والشهود وقيل أراد الإِقرار اهـ وقال فى اللسان أيضا فى مادة (نفر) قال ابن سيده: وكأنما جاءت المنافرة فى أول ما استعملت أنهم كانوا يسألون الحاكم: أينا أعز نفرا؟ وساق بيت زهير المذكور ثم قال ابن منظور: والنُّفَارة ما أخذ النافر من المنفور وهو الغالب. وقيل: بل هو ما أخذه الحاكم اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن من ادَّعَى على أحد حقا فإنه لا يحكم له بمجرد دعواه بل لابد من إثباته بالبينة.

2 -

أنه إذا لم تكن للمدعى بينة استحلف المدعى عليه فإن حلف سقطت دعوى المدعى.

3 -

مطالبة المدعى بالبينة قبل توجيه اليمين على المدعى عليه.

4 -

أن الإِسلام ضبط نظام التحاكم ووضع أحسن القواعد وأيسرها لصيانة الحقوق.

ص: 101

2 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم عَرَضَ على قوم اليمينَ فَأسْرَعُوا فَأمَرَ أنْ يُسهم بينهم فى اليمين أيُّهُمْ يَحْلِفُ. رواه البخارى.

ص: 101

[المفردات]

عرض على قوم اليمين: أى طلب من قوم مُدَّعًى عليهم أن يحلفوا.

فأسرعوا: أى فتسابقوا إلى الحلف.

فأمران يسهم بينهم فى اليمين أيهم يحلف: أى فقضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأن يقترعوا فيمن يحلف ويستحق الشئ المُدَّعَى.

[البحث]

هذا الحديث رواه البخارى عن شيخه إسحاق بن نصر حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام عن أبى هريرة، ورواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق شيخ شيخ البخارى فيه بلفظ:"إذا أُكره الاثنان على اليمين واستحباها فَلْيَسْتَهِما عليها" قال الحافظ فى الفتح: قال الخطابى وغيره: الإكراه هنا لا يراد به حقيقته لأن الإِنسان لا يكره على اليمين وإنما المعنى: إذا توجهت اليمين على اثنين، وأرادا الحلف، سواء كانا كارهين لذلك بقلبهما وهو معنى الإكراه، أو مختارين لذلك بقلبهما وهو معنى الاستحباب، وتنازعا أيهما يَبْدَأُ فلا يُقَدَّمُ أحدُهما على الآخر بالتَّشَهِّى بل بالقرعة وهو المراد بقوله:"فَلْيَسْتَهِمَا" أى فليقترعا. وقيل سورة الاشتراك فى اليمين أن يتنازع اثنان عَينًا ليست فى يد واحد منهما ولا بينة لواحد منهما فيقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف واستحقها. ويؤيد ذلك ما روى أبو داود والنسائى وغيرهما من طريق أبى رافع عن أبى هريرة أن رجلين اختصما فى متاع ليس

ص: 102

لواحد منهما بينة فقال النبى صلى الله عليه وسلم: استهما على اليمين ما كان، أحبا ذلك أو كرها. وأما اللفظ الذى ذكره البخارى فيحتمل أن يكون عند عبد الرزاق فيه حديث آخر باللفظ المذكور، ويؤيده رواية أبى رافع المذكورة فإنها بمعناها، ويحتمل أن تكون قصة أخرى بأن يكون القوم المذكورون مُدَّعًى عليهم بعين فى أيديهم مثلا، وأنكروا، ولا بينة للمدَّعِى عليهم، فتوجهت عليهم اليمين فتسارعوا إلى الحلف، والحلف لا يقع معتبرا إلا بتلقين المحلف، فقطع النزاع بينهم بالقرعة، فمن خرجت له بدأ به فى ذلك، واللَّه أعلم اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أنه إذا كان المدَّعَى بين أكثر من إنسان ولا بينة للمدعى، وكل واحد من المدَّعَى عليهم ينكر أن يكون لغيره وتوجهت عليهم اليمين أجريت بينهم القرعة فمن خرجت له القرعة حلف واستحق المدَّعَى.

2 -

الحث على تطيب قلوب المتنازعين المتشاحين بإجراء القرعة عند انعدام البينة.

ص: 103

3 -

وعن أبى أمامة الحارثى رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب اللَّه له النار وحرَّم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول اللَّه؟ قال: "وإن كان قضيبا من أرَاكٍ" رواه مسلم.

ص: 103

[المفردات]

من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه: أى من استولى على قطعة من مال إنسان مسلم بغير حق وحلف باللَّه كاذبا أنها له، فقضى له القاضى بسبب يمينه الكاذبة.

أوجب اللَّه له النار: أى أثبت اللَّه عز وجل استحقاقه لعذاب جهنم.

وحرَّم عليه الجنة: أى وحجزه عن دخول الجنة.

وإن كان شيئا يسيرا؟ : أى وإن كان المحلوف عليه شيئا تافها حقيرا؟

وإن كان قضيبا من أراك: أى وإن كان المحلوف عليه غصنا من شجر الأراك يعنى سواكا فإنه يتخذ من شجر الأراك.

[البحث]

هذا الحديث من أحاديث الوعيد كحديث "من غشنا فليس منا" ونحوه، ويرى الكثير من أهل العلم أنها لا تُفسرَّ حتى يبقى الرادع القوى مسيطرا على نفوس الناس فيمتنعوا عن يمين الغموس الفاجرة ويرى بعض أهل العلم أن تُفَسَّر بأن المقصود من كان مستحلا لذلك ومات على ذلك فإنه يكفر ويخلد فى النار أو أنه مستحق للنار وللَّه أن يعفو عنه إذا شاء، أو نحو ذلك، على أن من مقررات مذهب أهل السنة والجماعة أن من ارتكب ذنبا دون الشرك ومات ولم يتب منه فأمره إلى اللَّه عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له على حد قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} هذا وقد أخرج مسلم رحمه الله حديث أبى أمامة هذا من

ص: 104

طريق معبد بن كعب السَّلَمِىِّ عن أخيه عبد اللَّه بن كعب عن أبى أمامة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب اللَّه له النار وحرَّم عليه الجنة" فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول اللَّه؟ قال: "وإن قضيبا من أراك" ثم ساقه من طريق محمد بن كعب أنه سمع أخاه عبد اللَّه بن كعب يحدث أن أبا أمامة الحارثى حدثه أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمثله اهـ وقوله فى الحديث: "وإن قضيبا من أراك" هو على تقدير: وإن كان ما اقتطعه قضيبا، أو: وإن اقتطع قضيبا من أراك.

[ما يفيده الحديث]

1 -

الوعيد الشديد لمن حلف باللَّه كاذبا.

2 -

أنه يخشى على من يحلف باللَّه وهو فاجر فى يمينه أن يختم له بالشقاء.

3 -

صيانة حقوق الناس فى الإِسلام.

ص: 105

4 -

وعن الأشعث بن قيس رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين يقتطع بها مَالَ امرئ مسلم هو فيها فاجر لَقِىَ اللَّه وهو عليه غضبان" متفق عليه.

[المفردات]

الأشعث بن قيس: هو أبو محمد الأشعث بن قيس بن

ص: 105

معد يكرب بن معاوية بن جبلة بن عدى بن ربيعة ابن معاوية الأكرمين بن ثور الكِندى وفد على النبى صلى الله عليه وسلم بسبعين رجلا من كندة، وكان من ملوك كندة وقد ارتد عن الإِسلام بعد موت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى الإِسلام فى خلافة أبى بكر رضى اللَّه عنه وزوجه أبو بكر رضى اللَّه عنه أخته أم فروة وشهد القادسية والمدائن ثم نزل الكوفة، وقد اختلف فى سنة وفاته فقيل مات فى آخر ستة أربعين بعد استشهاد على رضى اللَّه عنه بقليل، وقيل توفى سنة اثنتين وأربعين وصلى عليه الحسن بن على رضى اللَّه عنهما.

هو فيها فاجر: أى هو فى يمينه آثم كاذب متعمد فى ذلك عالم أنه غير محق.

لقى اللَّه وهو عليه غضبان: أى عُرِضَ على اللَّه تعالى يوم القيامة واللَّه تعالى ساخط عليه مُعْرِض عنه.

[البحث]

هذا الحديث أخرجه البخارى ومسلم واللفظ للبخارى من طريق أبى وائل عن عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى اللَّه وهو عليه غضبان" فأنزل اللَّه تصديق ذلك {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ

ص: 106

بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} إلى آخر الآية، قال: فدخل الأشعث بن قيس وقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ قلنا: كذا وكذا، قال: فِىَّ أنزلت، كانت لى بئر فى أرض ابن عمٍّ لى، قال النبى صلى الله عليه وسلم:"بَيِّنَتُكَ أو يمينه" فقلت: إذًا يحلف يا رسول اللَّه فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم وهو فيها فاجر، لَقِىَ اللَّه وهو عليه غضبان".

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن اليمين الفاجرة من أكبر الكبائر.

2 -

صيانة حقوق الإِنسان فى الإِسلام.

ص: 107

5 -

وعن أبى موسى رضى اللَّه عنه أن رجلين اختصما إلى النبى صلى الله عليه وسلم فى دابة ليس لواحد منهما بينة فقضى بها بينهما نصفين. رواه أحمد وأبو داود والنسائى وهذا لفظه وقال: إسناده جيد.

[المفردات]

اختصما: أى تحاكما وادعيا.

فى دابة: أى كل واحد منهما يدعى أنها له وهى ليست فى يد واحد منهما أو فى أيديهما جميعا.

ليس لواحد منهما بينة: أى ليس لأى واحد منهما شاهدان يشهدان له.

ص: 107

فقضى بها بينهما نصفين: أى فحكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن لكل واحد منهما نصفها.

[البحث]

قال النسائى: أخبرنا عمرو بن على قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا سعيد عن قتادة عن سعيد بن أبى بردة عن أبيه عن أبى موسى باللفظ الذى ساقه المصنف، وقال أبو داود: حدثنا محمد بن منهال الضرير ثنا يزيد بن زريع ثنا ابن أبى عروبة عن قتادة عن سعيد بن أبى بردة عن أبيه عن جده أبى موسى الأشعرى أن رجلين ادعيا بعيرا أو دابة إلى النبى صلى الله عليه وسلم ليست لواحد منهما بينة، فجعله النبى صلى الله عليه وسلم بينهما. حدثنا الحسن بن على ثنا يحيى بن آدم ثنا عبد الرحيم بن سليمان عن سعيد بإسناده ومعناه. وقال ابن ماجه: حدثنا إسحاق ابن منصور ومحمد بن مَعْمَر وزهير بن محمد قالوا: ثنا رَوْحُ بن عُبَادَةَ ثنا سفيان عن قتادة عن سعيد بن أبى بردة عن أبيه عن أبى موسى أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان بينهما دابة، وليس لواحد منهما بينة، فجعلها بينهما نصفين اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أنه إذا تداعى اثنان شيئا ولا معارض لهما ولا بينة عندهما فللقاضى أن يجعله بينهما نصفين.

ص: 108

6 -

وعن جابر رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على منبرى هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار" رواه أحمد وأبو داود والنسائى وصححه ابن حبان.

[المفردات]

من حلف على منبرى هذا: أى من أقسم عند منبر النبى صلى الله عليه وسلم بمسجده بالمدينة المنورة.

بيمين آثمة: أى بيمين كاذبة فاجرة.

تبوأ مقعده من النار: أى اتخذ وهيأ لنفسه مقعدا فى جهنم وأعد نفسه لينزله نعوذ بوجه اللَّه منها.

[البحث]

قال المزى فى تحفة الأشراف عند ذكر عبد اللَّه بن نِسْطَاس -من آل كثير بن الصلت- عن جابر: حديث "لا يحلف أحد على منبري هذا على يمين آثمة" الحديث، وفى الأيمان والنذور عن عثمان ابن أبى شيبة عن عبد اللَّه بن نمير - س فى القضاء عن محمد بن سَلَمة والحارث بن مسكين كلاهما عن ابن القاسم عن مالك - ق فى الأحكام عن عمرو بن رافع عن مروان بن معاوية وعن أحمد بن ثابت الجحدري عن صفوان بن عيسى - أربعتهم عن هاشم بن هاشم عنه به اهـ هذا وقد قال البخارى فى صحيحه:"باب يحلف المدَّعَى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف من موضع إلى غيره"

ص: 109

قضى مروان باليمين على زيد بن ثابت على المنبر، فقال: أحلف له مكانى فجعل زيد يحلف وأبى أن يَخلِفَ على المنبر، فجعل مروان يعجب منه، وقال النبى صلى الله عليه وسلم:"شاهداك أو يمينه" ولم يخص مكانا دون مكان اهـ قال الحافظ فى الفتح: (قوله على زيد بن ثابت باليمين على المنبر فقال: أحلف له مكانى الخ) وصله مالك فى الموطإِ عن داود بن الحصين عن أبى غطفان بفتح المعجمة ثم المهملة ثم الفاء -المُزِّى- بضم الميم وتشديد الزاى- قال: اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع -يعنى عبد اللَّه إلى مروان فى دار فقضى باليمين على زيد بن ثابت على المنبر فقال: أحلف له مكانى فقال مروان: لا واللَّه إلا عند مقاطع الحفوق، فجعل زيد يحلف أن حقه لحق وأبى أن يحلف على المنبر، وكأن البخارى احتج بأن امتناع زيد بن ثابت من اليمين على المنبر يدل على أنه لا يراه واجبا، والاحتجاج بزيد بن ثابت أولى من الاحتجاج بمروان. وقد جاء عن ابن عمر نحو ذلك فروى أبو عبيد فى كتاب القضاء بإسناد صحيح عن نافع أن ابن عمر كان وصِىَّ رجل فأتاه رجل بصك قد درست أسماء شهوده فقال ابن عمر: يا نافع، اذهب به إلى المنبر فاستحلفه فقال الرجل: يا ابن عمر أتريد أن تُسَمِّعَ بى؟ الذى يسمعنى ثَم يسمعنى هنا فقال ابن عمر: صدق، فاستحلفه مكانه اهـ وقال الحافظ فى الفتح أيضا: ورد التغليظ فى اليمين على المنبر فى حديثين: أحدهما حديث جابر مرفوعا: "لا يحلف أحد عند منبرى هذا على

ص: 110

يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار" أخرجه مالك وأبو داود والنسائى وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم واللفظ الذى ذكرته لأبى بكر بن أبى شيبة. ثانيهما: حديث أبى أمامة بن ثعلبة مرفوعا "من حلف عند منبرى هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين لا يقبل اللَّه منه صرفا ولا عدلا" أخرجه النسائى ورجاله ثقات اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أنه لا يجبر أحد على الحلف فى مكان معين.

2 -

الوعيد الشديد على من حلف بيمين وهو يعلم أنه كاذب.

3 -

أن اليمين الغموس من الكبائر.

4 -

أن من حلف كاذبا فى الأماكن المقدسة كان أعظم ذنبا وأشد إثما.

ص: 111

7 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف باللَّه لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها وفَى، وإن لم يعطه منها لم يَفِ" متفق عليه.

ص: 111

[المفردات]

ثلاثة: أى ثلاثة أصناف من الناس.

لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة: أى لا يكلمهم اللَّه كلام لطف بهم.

ولا ينظر إليهم: أى ويحجبهم عنه جل وعلا.

ولا يزكيهم: أى ولا يطهرهم من الذنوب ولا يثنى عليهم بل يأمر بهم إلى النار.

ولهم عذاب أليم: أى ولهم عقاب موجع فى جهنم.

رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل: أى إنسان فى المفازة والصحراء عنده ماء زائد عن حاجته وكفايته يمنع المسافر المنقطع فى البردة عن الشرب منه.

ورجل بايع رجلا بسلعة: أى وإنسان أراد أن يبيع على رجل متاعا.

بعد العصر: أى بعد صلاة العصر وإنما خص هذا الوقت لأنه وقت اجتماع الناس للبيع غالبا فيشهدون فجوره فى اليمين كما يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار الذين يتلاقون عند صلاة العصر فيكون الكاذب فى اليمين وقتئذ أعظم فجورا.

فحلف باللَّه لأخذها بكذا وكذا: أى فحلف الراغب فى البيع للراغب فى الشراء أنه قد اشترى هذه السلعة بكذا وكذا أى بقيمة هى كذا وكذا.

فصدقه وهو على غير ذلك: أى فصدق الراغبُ فى الشراء

ص: 112

الراغبَ فى البيع فى يمينه ودعواه أنه اشتراها بما ذكر له وهو فى الواقع كاذب فى قوله.

ورجل بايع. إماما لا يبايعه إلا للدنيا: أى وإنسان عاهد إمام المسلمين وأعلن التزامه بطاعته، وهو فى الواقع لا يزيد من بيعته مصلحة الجماعة وإنما هو حريص على استغلال هذه البيعة لِحَظِّ دنياه فقط.

فإن أعطاه منها وَفَى: أى فإن أعطاه الإِمام ما يريد من حطام الدنيا رضى عنه.

وإن لم يعطه منها لم يف: أى وإن لم يعطه الإمام ما يشتهيه من حطام الدنيا سخط وسعى فى تفريق كلمة المسلمين.

[البحث]

ليس المراد من قوله "ثلاثة لا يكلمهم اللَّه" الخ الحديث حصر هذا الوعيد فى هؤلاء الثلاثة، فإن الإِخبار عن حال هؤلاء لا ينفى أن يكون هناك غيرهم بهذه المثابة لأن التخصيص بعدد لا ينفى ما زاد عليه وقد روى البخارى من حديث عبد اللَّه بن أبى أوفى رضى اللَّه تعالى عنهما أن رجلا أقام سِلْعَةً فى السوق فحلف فيها لقد أعْطِىَ بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إلى آخر الآية، كما روى مسلم من حديث أبى ذر رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة

ص: 113

لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" قال: فقرأها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول اللَّه؟ قال: "المسبل والمنَّان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" وفى لفظ: "المنان الذى لا يعطى شيئا إلا مَنَّهُ والمنفق سلعته بالحلف الفاجر والمسبل إزاره" كما ساق مسلم من طريق وكيع وأبى معاوية عن أبى حازم من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة ولا يزكيهم. قال أبو معاوية: "ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم، شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر" وقد ساق مسلم حديث الباب من طريق الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة باللفظ الذى ساقه المصنف ثم ساق من طريق عمرو عن أبى صالح عن أبى هريرة قال: أراه مرفوعا قال: "ثلاثة لا يكلمهم اللَّه ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم، رجل حلف على يمين بعد صلاة العصر على مال مسلم فاقتطعه" وباقى حديثه نحو حديث الأعمش اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن منع فضل الماء عن ابن السبيل بالفلاة من الكبائر.

2 -

تحريم النجش.

3 -

أن اليمين الغموس من أكبر الكبائر.

4 -

أن من اجترأ على اليمين الغموس عند المحافل العظيمة كان الأكثر إثما أكبر ذنبا.

5 -

وجوب الوفاء ببيعة الإِمام فى السراء والضراء.

ص: 114

6 -

أن نقض بيعة الإِمام من أكبر الكبائر.

7 -

صيانة الإِسلام لحقوق الإِنسان.

8 -

أن تفريق كلمة المسلمين من الكبائر.

ص: 115

8 -

وعن جابر رضى اللَّه عنه أن رجلين اختصما فى ناقة فقال كل منهما: نُتِجَتْ عندى، وأقاما بينة، فقضى بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمن هى فى يده.

[المفردات]

اختصما فى ناقة: أى تنازعا وتداعيا وتحاكما إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى شأن ناقة يدعيها كل واحد منهما.

نُتِجَتْ عندى: أى وَلَدَتْ عندى.

وأقاما بينة: أى وأحضر كل واحد منهما شاهدين يشهدان بأنها نُتِجَتْ عنده.

فقضى بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمن هى فى يده: أى فحكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالناقة للذى هى عنده لما تعارضت البينتان ورجح جانب وضع اليد عليها.

[البحث]

قال الدارقطنى: نا الحسين بن إسماعيل ومحمد بن جعفر المطيرى وأبو بكر أحمد بن عيسى الخواص قالوا: نا محمد بن عبد اللَّه

ص: 115

ابن منصور أبو إسماعيل الفقيه نا يزيد بن نعيم ببغداد نا محمد بن الحسن نا أبو حنيفة عن هيثم الصيرفى عن الشعبى عن جابر أن رجلين اختصما إلى النبى صلى الله عليه وسلم فى ناقة، فقال كل واحد منهما: نُتِجَتْ هذه الناقة عندى، وأقام بينة، فقضى بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للذى هى فى يده اهـ قال الشيخ محمد شمس الحق العظيم آبادى فى التعليق المغنى على الدارقطنى:(قوله يزيد بن نعيم) رأيت فى بعض الهوامش المعتمدة أن ابن القطان قال: لا يعرف حاله، واللَّه أعلم، وأما الذهبى فما ذكره فى الميزان اهـ وقد ضعف المصنف إسناده فى البلوغ وقال فى تلخيص الحبير: حديث أن رجلين تداعيا دابة وأقام كل واحد منهما بينة أنها دابته، فقضى بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للذى هى فى يده. الدارقطنى والبيهقى من حديث جابر، وإسناده ضعيف اهـ.

ص: 116

9 -

وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم ردَّ اليمين على طالب الحق. رواهما الدارقطنى وفى إسنادهما ضعف.

[المفردات]

رد اليمين: أى أرجع اليمين.

على طالب الحق: أى على المدعى يعنى إذا نكل المدعى عليه وامتنع من الحلف.

رواهما الدارقطنى: أى روى هذا الحديث والذى قبله الدارقطنى.

وفى إسنادهما ضعف: أى وفى إسناد هذا الحديث والذى قبله ضعف.

ص: 116

[البحث]

قال الدارقطنى: نا أبو هريرة الأنطاكى محمد بن على بن حمزة بن صالح نا يزيد بن محمد نا سليمان بن عبد الرحمن نا محمد بن مسروق عن إسحاق ابن الفرات عن الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق اهـ قال فى تلخيص الحبير: حديث ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق. الدارقطنى والحاكم والبيهقى وفيه محمد بن مسروق لا يعرف وإسحاق بن الفرات مختلف فيه، ورواه تمام فى فوائده من طريق أخرى عن نافع اهـ.

ص: 117

10 -

وعن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: دخل علىَّ النبىُّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسرورا، تَبْرُقُ أسَارِيرُ وَجْهِه، فقال:"ألم تَرَىْ إلى مُجَزِّز المُدْلِجِىِّ؟ نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: هذه الأقدام بعضها من بعض" متفق عليه.

[المفردات]

ذات يوم: أى فى يوم من الأيام.

مسرورا: أى فَرِحًا.

تبرق أسارير وجهه: أى تضئ وتستنير من الفرح والسرور، والمراد بالأسارير خطوط الجبهة.

ألم تَرَىْ إلى مُجَزِّز المُدْلِجِىِّ: أى ألم تسمعى ما قال مجزز المدلجى؟

ص: 117

قال الحافظ فى الفتح: والمراد من الرؤية هنا الإِخبار أو العلم اهـ ومجزز بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الزاى المكسورة بعدها زاى وهو مجزز بن الأعور بن جعدة بن معاذ بن عتوارة بن عمرو بن مُدْلِجٍ بن مرة بن عبد مناف بن كنانة المدلجى الكنانى. وقد ذكره أبو عُمرَ فى الاستيعاب وأغفله جمهور من ألَّف فى الصحابة رضى اللَّه عنهم، وقد ذكر فيمن شهد فتوح مصر وقد كان مجزز من العارفين بالقيافة، والقائف هو الذى يعرف شبه الرجل بأبيه وأخيه وغيرهما ويميز الأثر، وسمى بذلك لأنه يقفو الأشياء أى يتتبعها. وكانت القيافة فى بنى مدلج وبنى أسد يعترف لهم بها العرب، وإن كانت قد توجد فى غيرهم أيضا. واللَّه أعلم.

آنفا: أى قريبا أو الآن.

إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد: يعنى إلى أقدام زيد بن حارثة وأسامة بن زيد رضى اللَّه عنهما وكانا مضطجعين قد تغطيا بقطيفة ولم يظهر منها سوى أقدامهما وكان زيد رضى اللَّه عنه شديد البياض كأنه قطن، وكان أسامة شديد السواد، وقد نزع إلى أمه أم أيمن رضى اللَّه عنها وقد كانت حبشية.

ص: 118

فقال: أى مجزز المدلجى القائف.

هذه الأقدام بعضها من بعض: أى هذه الأقدام سلالة واحدة وإن اختلفت ألوانها.

[البحث]

أخرج البخارى ومسلم من طريق سفيان عن الزهرى عن عروة عن عائشة قالت: دخل علىَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو مسرور فقال: "يا عائشة ألم تَرَى أن مجززا المدلجى دخل فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غَطَّيَا رءوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض" وفى لفظ للبخارى ومسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهرى عن عروة عن عائشة قالت: دخل قائف ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شاهد وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة مضطجعان فقال: إن هذه الاقدام بعضها من بعض فَسُرَّ بذلك النبى صلى الله عليه وسلم وأعجبه وأخبر به عائشة.

[ما يفيده الحديث]

1 -

الاستفادة من القرائن التى قد تؤكد الحق لصاحبه.

2 -

الفرح بما يزيل الريبة عن أنساب المسلمين.

3 -

كراهية الإِسلام للطعن فى الأنساب.

4 -

جواز الشهادة على المنتقبة والاكتفاء بمعرفتها من غير رؤية الوجه.

ص: 119