المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الشهادات - فقه الإسلام = شرح بلوغ المرام - جـ ١٠

[عبد القادر شيبة الحمد]

الفصل: ‌ ‌باب الشهادات

‌باب الشهادات

ص: 80

1 -

عن زيد بن خالد الجهنى رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذى يأتى بالشهادة قبل أن يُسألَها" رواه مسلم.

[المفردات]

الشهادات: قال الحافظ فى الفتح: هى جمع شهادة وهى مصدر شهد يشهد، قال الجوهرى: الشهادة خبر قاطع، والمشاهدة المعاينة مأخوذة من الشهود أى الحضور لأن الشاهد مشاهد لما غاب عن غيره، وقيل: مأخوذة من الإِعلام اهـ وقال الشريف الجرجانى فى التعريفات: الشهادة هى فى الشريعة إخبار عن عيان بلفظ الشهادة فى مجلس القاضى بحق للغير على آجر. فالإِخبارات ثلاثة إما بحق للغير على آخر وهو الشهادة أو بحق للمخبر على آخر وهو الدعوى، أو بالعكس وهو الإِقرار اهـ.

ألا أُخْبِرُكم: أى ألا أُعلِمُكُم.

بخير الشهداء: أى بأفضل الشهداء والشهداء جمع شهيد بمعنى شاهد وهو من يحمل الشهادة ويؤديها.

ص: 80

الذى يأتى بالشهادة: أى خير الشهداء هو الذى يؤدى الشهادة.

قبل أن يُسْأَلها: أى قبل أن تُطْلَبَ منه الشهادة.

[البحث]

لفظ هذا الحديث عند مسلم: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذى يأتى بشهادته قبل أن يُسْأَلَها" ولا معارضة بين هذا الحديث، بين الحديث الثانى من أحاديث هذا الباب وهو حديث عمران بن حصين رضى اللَّه عنهما المتفق عليه المشعر بذم من يأتى بالشهادة قبل أن يُسْأَلها لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيه "يَشْهدُوْنَ ولا يُسْتَشْهَدُونَ ويخونون ولا يُؤْتَمنُونَ" أقول لا معارضة بين حديث زيد بن خالد الجهنى وحديث عمران بن حصين لأن حديث زيد بن خالد محمول على من كانت عنده شهادة لإِنسان بحق ولا يعلم ذلك الإِنسان أنه شاهد فيأتى إليه فيخبره بأنه شاهد له لأنها أمانة له عنده، فيساعده على الحق ويدفع عنه الظلم، كذلك شهادة الحسبة فى حقوق اللَّه تعالى، أما حديث عمران حصين فهو ما كان فى غير ما تقدم حيث يكون لصاحب الحق شهود غيره وقد يستضر بشهادة هذا الشاهد إذا تقدم للشهادة من غير طلب، مع أنه فى غِنًى عن شهادته، وسيأتى مزيد بحث لهذا فى الحديث الذى يلى هذا الحديث إن شاء اللَّه تعالى.

[المفردات]

1 -

استحباب المبادرة بأداء الشهادة فى الحسبة لإِعزاز شرع اللَّه.

2 -

استحباب المبادرة بأداء الشهادة إذا كان الشاهد يعلم أن عدم شهادته يُضَيِّعُ الحق حيث يكون المشهود له لا يعلم بهذا

ص: 81

الشاهد وليس له غيره.

3 -

حرص الإِسلام على حماية حقوق الناس.

ص: 82

2 -

وعن عمران بن حُصَينِ رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ خيركم قَرْنِى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم يَشْهدُونَ ولا يُسْتَشْهدُون، ويخونون ولا يُؤْتَمَنُون، وَينْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فيهم السِّمَنُ" متفق عليه.

[المفردات]

إن خيركم قرنى: أى إن أفضل المسلمين هم أهل زمنى المعاصرون لى.

ثم الذين يلونهم: أى فى يليهم فى الفضل والخيرية التابعون لهم بإحسان فهم فى الرتبة الثانية بعد مرتبة أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورضى اللَّه عنهم.

ثم الذين يلونهم: أى ثم يليهم فى الفضل والخيرية أتباع التابعين بإحسان فهم أصحاب المرتبة الثالثة فى الفضل والخيرية.

ثم يكون قوم: أى ثم يوجد ناسٌ.

يَشْهدُون ولا يُسْتَشْهَدُونَ: أى يتقدمون لأداء الشهادة وهى لم تَطْلَبْ منهم.

ويخونون ولا يُؤْتَمَنُونَ: أى ويضيعون الأمانة، ولا يثق الناس بهم ولا يعتقدونهم أمناء، لظهور خيانتهم.

ص: 82

وينْذِرُونَ ولا يوفون: أى ويُلْزِمُونَ أنفُسَهُم بحقوق للَّه تعالى ولا يؤدونها بعد أن التزموا بها، وينذرون بفتح الياء كسر الذال، ويجوز ضمها.

وَيَظْهرُ فيهم السِّمَنُ: أى ويحبون التوسع فى المآكل والمشارب، وتفتح لهم الدنيا، فتكبر بطونهم وتكنز أجسامهم، وهذا يؤدى فى الغالب إلى الكسل عن العبادة. وقد تحقق ما أخبر به رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم.

[البحث]

أورد البخارى هذا الحديث فى كتاب الشهادات من طريق شعبة حدثنا أبو جمرة قال: سمعت زَهْدَمَ بن مُضَرِّبٍ قال: سمعت عمران ابن حصين رضى اللَّه عنهما قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: خيركم قرنى ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، قال عمران: لا أدرى أَذَكَرَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم بَعدُ قرنين أو ثلاثة، قال النبى صلى الله عليه وسلم:"إن بَعدَكُم قوما يخونون ولا يؤْتَمَنُونَ، ويشهدون ولا يُسْتَشْهدُونَ ويَنْذِرُونَ ولا يَفُونَ، ويظهر فيهم السِّمَنُ. وساقه فى فضائل أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم من طريق شعبة بنفس السند عن عمران بن حصين رضى اللَّه عنهما يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خير أمتى قرنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم قال عمران: فلا أدرى أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يُسْتَشْهدُونَ، ويخونون ولا يُؤْتَمَنُون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن. وأورده فى باب

ص: 83

إثم من لا يفى بالنذر من كتاب الأيمان والنذور بنفس السند وفيه: قال عمران: لا أدرى أذكر ثنتين أو ثلاثا بعد قرنه، ثم يجئ قوم ينذرون ولا يفون ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يُسْتَشْهدُونَ ويظهر فيهم السمن اهـ وقد ساقه مسلم من طريق شعبة بنفس سند البخارى إلى عمران رضى اللَّه عنه بلفظ: إن خيركم قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران: فلا أدرى أقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثة ثم يكون بعدهم قوم الخ الحديث باللفظ الذى ساقه المصنف وفى لفظ لمسلم: ولا يفون، وقد أخرج البخارى ومسلم واللفظ للبخارى من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينَه ويمينُه شهادته وفى لفظ لمسلم من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه عنه: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أى الناس خير؟ قال: قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجئ قوم تَبْدُرُ شهادة أحدهم يمينه وتَبْدُرُ يمينه شهادته، وفى لفظ لمسلم من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "خير أمتى القَرن الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم -واللَّه أعلم أذَكَرَ الثالث أم لا؟ - قال: "ثم يَخْلُفُ قومٌ يُحِبُّونَ السَّمانَةَ، يَشْهَدُونَ قبل أن يُسْتَشْهدُوا".

[ما يفيده الحديث]

1 -

كراهية التسرع فى أداء الشهادة من غير تثبت فيها أو حاجة إليها.

ص: 84

2 -

أن أفضل الأمة هم أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم التابعون لهم بإحسان ثم أتباع التابعين بإحسان.

3 -

معجزة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى وقوع ما أخبر بأنه سيكون، فكان على ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.

4 -

وجوب الوفاء بالنذر.

5 -

تحريم الخيانة والغدر.

6 -

لا ينبغى للمسلم أو المسلمة أن يحرص على السَّمانة.

7 -

الإِسلام جاء بخير الدنيا والآخرة.

ص: 85

3 -

وعن عبد اللَّه بن عمرو رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذى غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت" رواه أحمد وأبو داود.

[المفردات]

عبد اللَّه بن عَمرو: وقع فى بعض نسخ سبل السلام: عبد اللَّه ابن عمر وهو تحريف.

لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة: أى لا تقبل شهادة غير المعروفين بالأمانة والعدالة من الرجال أو النساء.

ولا ذى غمر على أخيه: أى ولا تقبل شهادة صاحب حقد على من يحقد عليه ومن عرفت بينهم العداوة والشحناء. والغَمَر بفتح الغين والميم هو الحقد والغل.

ص: 85

القانع: قيل هو الخادم الذى يكون فى خدمة أهل بيت فلا تقبل شهادته لهم يعنى لا تقبل شهادة الخادم لمخدومه، والقانع يطلق على المسكين المتعفف الذى لا يسأل ويطلق على السائل ومنه قوله تعالى:{وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرّ} وقد نقل ابن جرير فى تفسيره عن مجاهد: القانع: الطامع بما قِبَلَكَ ولا يسألك ثم قال ابن جرير: وقال آخرون: القانع هو السائل اهـ. ومن هذا قول الشماخ:

لَمَالُ المرء يُصْلِحُه فَيُغْنى

مفَاقِرَهُ أعَفُّ من القُنُوعِ

لأهل البيت: أى لأهل الدار الذين يحتاج لهم هذا القانع ويطمع فيما عندهم من عطاء.

[البحث]

هذا الحديث أخرجه أبو داود من طريق محمد بن راشد ثنا سليمان ابن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رَدَّ شهادة الخائن والخائنة وذى الغَمَر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت، وأجازها لغيرهم، ثم ساق أبو داود من طريق سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى بإسناده قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا زان ولا زانية، ولا ذى غَمر على أخيه. اهـ وسليمان بن موسى قال فى التقريب: قيه لين

ص: 86

وسند عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده تقدم مرارًا، وقد رواه ابن ماجه من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحجاج كثير التدليس وقد عنعنه وقال فى تلخيص الحبير: حديث: لا تقبل شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية، أبو داود وابن ماجه والبيهقى من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وسياقهم أتم، وليس فيه ذكر الزانى والزانية إلا عند أبى داود، وسنده قوى، ورواه الترمذى والدارقطنى والبيهقى من حديث عائشة وفيه يزيد بن زياد الشامى وهو ضعيف، وقال الترمذى: لا يعرف هذا من حديث الزهرى إلا من هذا الوجه، ولا يصح عندنا إسناده، وقال أبو زرعة فى العلل: منكر، وضعفه عبد الحق وابن حزم وابن الجوزى ورواه الدارقطنى والبيهقى من حديث عبد اللَّه بن عمرو وفيه عبد الأعلى وهو ضعيف، وشيخه يحيى بن سعيد الفارسى ضعيف، قال البيهقى لا يصح من هذا شئ عن النبى صلى الله عليه وسلم اهـ على أن عدالة الشهود قد نَبَّه عليها القرآن الكريم فى قوله عز وجل:{وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدلٍ منكم} فينبغى رد الشهادة عند وجود ما يقدح فيها. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 87

4 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه أنه سمع رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز شهادة بَدَوِىٍّ على صاحب قَريَةٍ" رواه أبو داود وابن ماجه.

[المفردات]

لا تجوز شهادة: أى لا تقبل شهادة.

ص: 87

بدوى: أى أعرابى من سكان البادية.

على صاحب قرية: أى على حَضَرَىٍّ يعنى من سُكَّان القرى والمدن، فالقرية قد تطلق على البلدة الصغيرة والمدينة العظيمة ومنه قوله تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} كقوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} ثم قال عز وجل: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} .

[البحث]

هذا الحديث رواه أبو داود من طريق أحمد بن سعيد الهمدانى أخبرنا ابن وهب أخبرنى يحيى بن أيوب ونافع بن يزيد عن ابن الهاد عن محمد بن عمرو بن عطاء بن يسار عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه وقال ابن ماجه: حدثنا حرملة بن يحيى ثنا عبد اللَّه بن وهب أخبرنى نافع ابن يزيد عن ابن الهاد عن محمد بن عمرو بن عطاء عن عطاء بن يسار عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه، قال البيهقى: هذا الحديث مما تفرد به محمد بن عمرو بن عطاء عن عطاء بن يسار اهـ وقال المنذرى: رجال إسناده احتج بهم مسلم فى صحيحه اهـ قال ابن رسلان: حملوا هذا الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو اهـ وقال الخطابى: يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو

ص: 88

لما فيهم من عدم العلم بإتيان الشهادة على وجهها ولا يقيمونها على حقها لقصور علمهم عما يغيرها عن وجهها اهـ ويبدو أن المراد بالبدوى هنا هو الذى لا يستقر بمكان فيصعب استحضاره لأداء الشهادة كما يصعب استحضار من يزكيه مع ما يغلب على مثله من الجهل بأحكام الشريعة وحقوق الشهادة قال ابن قدامة فى المغنى: إنَّ مَنْ قُبِلَتْ شهادته على أهل البدو قُبِلَتْ شَهادَتُهُ على أهل القرية كأهل القرى، ويحمل الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو، ونخصه بهذا لأن الغالب أنه لا يكون له من يسأله الحاكم فيعرف عدالته اهـ.

ص: 89

5 -

وعن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه أنه خطب فقال: إن أناسا كانوا يُؤْخَذُونَ بالوحى فى عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإن الوحى قد انقطع، وإنما نؤاخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم. رواه البخارى.

[المفردات]

إن أناسا: أى إن طائفة من الناس.

كانوا يؤخذون بالوحى فى عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أى كان يعرف صادقهم من كاذبهم بواسطة إعلام اللَّه تعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم عنهم بواسطة الوحى، الذى يأتى بأخبارهم فى زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وإن الوحى قد انقطع: أى كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد لحق بالرفيق الأعلى

ص: 89

فانقطع مجئ الملَكِ من عند اللَّه تعالى بأخبار الناس وَرُفِعَ الوحى.

وإنما نؤاخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم: أى وإن من أظهر منكم خيرا ظَنَنَّا به خيرا وأحبَبْنَاهُ عليه وحكمنا بعدالته، ومن أظهر لنا منكم شرا وسُوءًا ظنَنَّا به شرا وابغَضْنَاهُ عليه وحاسبناه به، وسرائركم بينكم وبين ربكم، فَلَنَا الظاهر واللَّه يتولى السرائر.

[البحث]

هذا الحديث أورده البخارى فى كتاب الشهادات فى باب الشهداء العُدُول وقول اللَّه تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} و {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد اللَّه بن عتبة قال: سمعت عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه يقول إن أناسا كانوا يُؤْخَذُونَ بالوحى فى عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كان الوحى قد انقطع، وإنما نَأخُذُكُم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمِنَّاه وَقربنَاه، وليس إلينا من سَرِيرَتِهِ شئ، واللَّه يحاسبه فى سريرته، وَمَنْ أظْهرَ لَنَا سُوءًا لم نَأمَنْهُ، وَلَم نُصَدِّقْهُ، وإن قال إن سريرته حسنة اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

قبول شهادة العدل الرضا.

2 -

رد شهادة الفاسق والمتهم.

ص: 90

3 -

أن مبنى العدالة هو ظهور استقامته وانعدام تهمته.

4 -

معاملة الناس بما يظهر منهم وترك سرائرهم للَّه عز وجل.

ص: 91

6 -

وعن أبى بكرة رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه عَدَّ شهادة الزُّور من أكبر الكبائر" متفق عليه فى حديث طويل.

[المفردات]

عَدَّ شهادة الزُّورِ من أكبر الكبائر: أى ذكر شهادة الزور وصَنَّفَهَا فى أكبر الكبائر وجعلها منها وهو حصى أكبر الكبائر وَيَعُدُّها، والزُّور: هو الكذب والباطل، ومادته تدور على التزويق والتحسين والميل والانحراف، وأكبر الكبائر هى أعظم المعاصى وأقبح الذنوب وأفحش السيئات وأخبثها، وقال فى لسان العرب: والزور شهادة الباطل وقول الكذب ولم يشتق من تزوير الكلام ولكنه اشتق من تزوير الصدر اهـ.

[البحث]

أورد البخارى هذا الحديث فى كتاب الشهادات فى باب ما قيل فى شهادة الزور من طريق الجُرَيْرِى عن عبد الرحمن بن أبى بكرة عن أبيه رضى اللَّه عنه قال: قال النّبى صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " ثلاثا، قالوا: بلى يا رسول اللَّه قال: الإِشراك باللَّه، وعقوق الوالدين" وجلس، وكان متكئا، فقال: "ألا وقول الزُّور"

ص: 91

قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. وساقه فى كتاب استتابة المرتدين من طريق سعيد الجُرَيْرِىِّ أيضا بنفس السند وبلفظ: قال النبى صلى الله عليه وسلم: "أكبر الكبائر الإِشراك باللَّه وعقوق الوالدين وشهادة الزور وشهادة الزور" ثلاثا أو قول الزور" فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت اهـ وساقه مسلم من طريق سعيد الجريرى أيضا بنفس سند البخارى عن أبى بكرة رضى اللَّه عنه قال: كنا جلوسا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " ثلاثا، "الإِشراك باللَّه وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور" وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت اهـ هذا وقد أخرج البخارى ومسلم نحو حديث أبى بكرة رضى اللَّه عنه من طريق شعبة عن عبيد اللَّه بن أبى بكر بن أنس بن مالك عن أنس بن مالك رضى اللَّه عنه. هذا وقد قرن اللَّه تبارك وتعالى شهادة الزور بالشرك باللَّه حيث قال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} .

[ما يفيده الحديث]

1 -

انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر وأن الكبائر متفاوتة فبعضها أكبر من بعض.

2 -

أن شهادة الزور من أكبر الكبائر.

3 -

صيانة حقوق الإِنسان فى الإِسلام.

ص: 92

7 -

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال الرجل: "ترى الشمس؟ " قال: نعم، قال:"على مثلها فَاشْهَدْ أو دَعْ" أخرجه ابن عدى بإسناد ضعيف، وصححه الحاكم فأخطأ.

[المفردات]

قال لرجل: أى قال لسائل مسألة عن الشهادة.

ترى الشمس: أى أتبصر الشمس بعينك وتشاهدها؟ .

قال: نعم: أى قال الرجل: نعم أنا أرى الشمس وأشاهدها.

على مثلها فاشهد: أى فلا تشهد إلا إذا كنت مشاهدا لما تشهد به كما تشاهد الشمس، يعنى لا تشهد إلا بما علمته واستيقنته.

أو دَعْ: أى أو اترك الشهادة إذا كنت شاكا فيها غير مستيقن لها.

فأخطأ: أى فلم يصب الحاكم فى تصحيح هذا الحديث.

[البحث]

قال فى تلخيص الحبير: حديث: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الشهادة فقال للسائل: "ترى الشمس؟ " قال: نعم، فقال:"على مثلها فاشهد، أو دع" العقيلى والحاكم وأبو نعيم فى الحلية وابن عدى والبيهقى من حديث طاوس عن ابن عباس، وصححه الحاكم، وفى إسناده محمد بن سليمان بن مسمول وهو ضعيف، وقال البيهقى:

ص: 93

لم يرو من وجه يعتمد عليه اهـ هذا وقد ترجم له ابن عدى فى الكامل فقال: محمد بن سليمان بن مسمول المسمولى المخزومى المكى، ثم قال: حدثنا يوسف بن عاصم الرازى نا سليمان الشاذكونى نا محمد بن سليمان المخزومى عن عبيد اللَّه بن سلمة بن وهرام عن أبيه عن طاوس عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: لا تشهد على شئ حتى تكون أضوأ من الشمس، وقال ابن عدى: عامة ما يرويه لا يتابع عليه متنا أو إسنادا اهـ وقال النسائى: مكى ضعيف، وقال أبو حاتم: ضعيف. وقال البخارى: سمعت الحميدى يتكلم فى محمد بن سليمان بن مسمول المسمولى المخزومى اهـ ومسمول بالسين المهملة لا بالشين المعجمة.

ص: 94

8 -

وعنه رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد، أخرجه مسلم وأبو داود والنسائى وقال: إسناده جيد.

[ما يفيده الحديث]

وعنه: أى وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما.

قضى: أى حكم فى قضية.

بيمين وشاهد: أى كان للمدعى شاهد واحد فأمره صلى الله عليه وسلم أن يحلف على ما يدعيه بدلا عن الشاهد الثانى وقضى بتحليف المدعى وقبول شهادة الشاهد الواحد مع هذا اليمين

ص: 94

من المدعى فتكون بينة كاملة يستحق بها المدعى ما ادعاه على المدعى عليه.

[البحث]

هذا الحديث رواه مسلم من طريق زيد (وهو ابن حُبَاب) حدثنى سيف بن سليمان أخبرنى قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد. قال فى تلخيص الحبير: حديث ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين. مسلم وأبو داود وابن ماجه والحاكم والشافعى وزاد فيه عن عمرو بن دينار أنه قال: وذلك فى الأموال. قال الشافعى: وهذا الحديث ثابت لا يرده أحد من أهل العلم لو لم يكن فيه غيره مع أن معه غيره مما يشده، وقال النسائى: إسناده جيد، وقال البزار: فى الباب أحاديث حسان أصحها حديث ابن عباس، وقال ابن عبد البر: لا مطعن لأحد فى إسناده -كذا قال- وقد قال عباس الدورى فى تاريخ يحيى بن معين عنه: ليس بمحفوظ، وقال البيهقى: أعله الطحاوى بأنه لا يعلم قيسا يحدث عن عمرو بن دينار بشئ، قال: وليس ما لا يعلمه الطحاوى لا يعلمه غيره، ثم روى بإسناده حديثا من طريق وهب بن جرير عن أبيه عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار بحديث الذى وقصته ناقته وهو محرم، قال: وليس من شرط قبول الأخبار كثرة رواية الراوى عمن روى عنه، بل إذا روى الثقة عمن لا ينكر سماعه منه حديثا واحدا وجب قبوله، وإن لم يروه عنه غيره،

ص: 95

على أن قيسا قد توبع عليه، رواه عبد الرزاق عن محمد بن مسلم الطائفى عن عمرو بن دينار أخرجه أبو داود اهـ وقد روى نحوه عن جابر وأبى هريرة رضى اللَّه عنهما قال فى التلخيص: حديث أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين. الشافعى وأصحاب السنن وابن حبان قال ابن أبى حاتم فى العلل عن أبيه: هو صحيح، ورواه البيهقى من حديث مغيرة بن عبد الرحمن عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة، ونقل عن أحمد أن حديث الأعرج ليس فى الباب أصح منه اهـ وقال فى فتح البارى: ورجاله مدنيون ثقات اهـ هذا وقد نقل ابن قدامة فى المغنى أن العقوبات البدنية والنكاح وحقوقه لا تثبت بشاهد ويمين قولا واحدا اهـ هذا ولا معارضة بين حديث الباب وبين قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فإن السنة تخصص عموم الكتاب وتقيد مطلقه وتبين مجمله، وهذا من هذا الباب. واللَّه أعلم. هذا ويعتبر هذا الحكم استثناء من القاعدة التى دل عليها الحديث الأول من أحاديث (باب الدعاوى والبينات) الذى يقرر أن اليمين على المدعى عليه، واللَّه أعلم.

[ما يفيده الحديث]

1 -

يجوز للقاضى أن يحكم فى الأموال بيمين المدعى وشاهده الواحد إذا لم يكن له غيره.

2 -

أن الحدود والقصاص وسائر العقوبات البدنية والنكاح وحقوقه لا تثبت بشاهد ويمين.

3 -

أن السنة قد تقيد مطلق القرآن وتخصص عمومه وتبين مجمله

ص: 96

9 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه مِثْلُه. أخرجه أبو داود والترمذى وصححه ابن حبان.

[المفردات]

مِثْلُه: أى مثل حديث ابن عباس فى القضاء باليمين والشاهد.

[البحث]

تقدم فى بحث الحديث السابق ما ذكره الحافظ ابن حجر فى تلخيص الحبير عن حديث أبى هريرة هذا، وقد أخرجه أبو داود والترمذى من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردى عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن عن سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد. زاد الترمذى: الواحد وقال الترمذى: حديث حسن غريب.

[ما يفيده الحديث]

1 -

جواز القضاء بيمين المدعى وشاهده الواحد فى بعض القضايا كما تقدم فى الحديث السابق.

2 -

أن السنة قد تخصص عموم القرآن وتبين مجمله وتقيد مطلقه كما تقدم فى الحديث السابق.

ص: 97