المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الترهيب من مساوئ الأخلاق - فقه الإسلام = شرح بلوغ المرام - جـ ١٠

[عبد القادر شيبة الحمد]

الفصل: ‌باب الترهيب من مساوئ الأخلاق

‌باب الترهيب من مساوئ الأخلاق

ص: 225

1 -

عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" أخرجه أبو داود، ولابن ماجه من حديث أنس نحوه.

[المفردات]

الترهيب: أى التخويف والتحذير.

من مساوئ الأخلاق: أى من الأخلاق السيئة الرديئة المكروهة والخلق يطلق على الطبع والسَّجية والمروءة والدين والصفة التى يتصف بها الإِنسان ويعامل بها غيره.

إياكم والحسد: أى احذروا الحسد واجتنبوه ولا تتخلقوا به، والحسد هو تمنى زوال النعمة عن الغير.

فإن الحسد يأكل الحسنات: أى فإن الحسد لا يبقى لصاحبه حسنة من الحسنات.

كما تأكل النار الحطب: أى كما أن النار تقضى على الحطب إذا اشتعلت فيه فكذلك الحسد يقضى على حسنات الحاسد ويذهب بها.

نحوه: أى نحو حديث أبى هريرة عند أبى داود.

ص: 225

[البحث]

هذا الحديث أخرجه أبو داود من طريق عثمان بن صالح ثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، ثنا سليمان بن بلال عن إبراهيم بن أبى أسيد عن جده عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" أو قال العُشْبَ اهـ وجد إبراهيم بن أبى أسيد مجهول، أما حديث أنس عند ابن ماجه الذى أشار إليه المصنف فقد أخرجه ابن ماجه من طريق عيسى بن أبى عيسى الحناط عن أبى الزناد عن أنس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والصلاة نور المؤمن، والصيام جنة من النار" اهـ وعيسى بن أبى عيسى ضعيف على أنه قد جاء فى القرآن الكريم وصحيح السنة ذم الحسد، وأن ضرره كبير وشره مستطير وضرره على الحاسد أشد من ضرره على المحسود، فإن الحسد من أبرز أمارات مرض قلب صاحبه، وأنه معترض على ما أعطاه اللَّه للمحسود ولذلك يجب على العاقل أن يحاربه من نفسه إن أحس به فى قلبه وهو من أخطر الأمراض الاجتماعية.

ص: 226

2 -

وعنه رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصُّرعَةِ، إنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب" متفق عليه.

ص: 226

[المفردات]

وعنه: أى وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه.

ليس الشديد بالصُّرَعَةِ: أى ليس الإِنسان القوى هو الذى يَصْرَعُ الناس ويغلبهم، والصُّرعَةُ بضم الصاد وفتح الراء الذى يصرع الناس كثيرا، وأما الصُّرعة بسكون الراء فهو الذى يصرعه الناس كثيرا.

إنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب: أى إنما الإنسان القوى هو الذى يتحكم فى نفسه عند دواعى الغضب فلا يثور ولا يبطش بل يصبر ويحلم.

[البحث]

أورد البخارى ومسلم هذا الحديث بهذا اللفظ من طريق مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه وأورده مسلم من طريق إبراهيم التيمى عن الحارث بن سويد عن عبد اللَّه بن مسعود بلفظ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فما تَعُدُّونَ الصُّرعَةَ فيكم؟ " قال: قلنا: الذى لا يصرعه الرجال، قال: ليس بذلك، ولكنه الذى يملك نفسه عند الغضب" وفى لفظ لمسلم من طريق الزُّبَيْدِىِّ عن الزهرى أخبرنى حُميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: سمعت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس الشديد بالصُّرَعَةِ" قالوا فالشَّدِيدُ أيُّمَ هو يا رسول اللَّه؟ قال: "الذى يملك نفسه عند الغضب" وقد روى البزار بسند حسن من حديث أنس رضى اللَّه عنه

ص: 227

أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بقوم يصطرعون فقال: "ما هذا؟ " قالوا: فلان ما يصارع أحدا إلا صرعه، قال:"أفلا أدلكم على من هو أشد منه؟ رجل كلمه رجل فكظم غيظه فغلبه، وغلب شيطانه، وغلب شيطان صاحبه" وسيأتى مزيد بحث لهذا عند الكلام على الحديث الثانى عشر من أحاديث هذا الباب إن شاء اللَّه تعالى.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو.

2 -

أن من يملك نفسه عند الغضب يحميه اللَّه من شرور كثيرة مُفسِدَة للدين والدنيا.

3 -

أن الاندفاع وراء الغضب من مساوئ الأخلاق.

4 -

أن كظم الغيظ من محاسن الأخلاق.

ص: 228

3 -

وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الظلم ظُلُمَاتٌ يوم القيامة" متفق عليه.

[المفردات]

الظلم: أى تجاوز حد الاعتدال ووضع الأمور فى غير مواضعها، والاعتداء سواء كان على نفس أو عرض أو مال، وأعظم أنواع الظلم هو الشرك باللَّه عز وجل، على حد قوله تبارك وتعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وإنما يحدث الظلم بسبب ظلمة القلب

ص: 228

ظلمات يوم القيامة: الظلمات جمع ظلْمة، والظُّلْمَةُ ذهاب النور فيكون الظلم ظلمات على صاحبه لا يهتدى يوم القيامة سبيلا وقيل المراد بالظلمات الشدائد على حد قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أى من شدائدهما على ما ذهب إليه بعض أهل العلم من أهل التفسير والتأويل، وقيل: الظلمات هنا هى الأنكال والعقوبات التى يلقاها الظالمون يوم القيامة.

[البحث]

لقد وصف اللَّه تبارك وتعالى الحال الفظيعة التى يؤول إليها الظالمون يوم القيامة حيث يقول: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} وسيأتى مزيد بحث لهذا فى الكلام على حديث جابر الذى يلى هذا الحديث إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 229

[ما يفيده الحديث]

1 -

التحذير الشديد من الظلم بجميع أنواعه.

2 -

أن الظلم ظلمات يوم القيامة.

ص: 230

4 -

وعن جابر رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشُّحَّ فإنه أهلك من كان قبلكم" أخرجه مسلم.

[المفردات]

اتقوا الظلم: أى اجتنبوا التعدى على الحقوق.

فإن الظلم ظلمات يوم القيامة: أى لأن الظم يجعل الظالم فى ظلمات يوم القيامة.

واتقوا الشُّحَّ: أى واجتنبوا البخل وشدة الحرص.

فإنه أهلك من كان قبلكم: أى فإن الشح تسبب فى تدمير من كان قبلكم من الأمم الغابرة.

[البحث]

لفظ هذا الحديث عند مسلم عن جابر بن عبد اللَّه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشُّحَّ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حَمَلَهُمْ على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم" وقد وردت آيات كثيرة فى ذم البخل

ص: 230

والشح وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يكثر الاستعاذة من الشح، وقد أشار اللَّه عز وجل إلى عظيم مرتبة من يسلم من الشح حيث يقول:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

[ما يفيده الحديث]

1 -

وجوب الابتعاد عن سائر أنواع الظلم.

2 -

وجوب اجتناب الشح ومحاربته فى النفس.

3 -

الحض على الاستقامة والسخاء.

4 -

أن الشح يؤدى إلى مفاسد كثيرة.

ص: 231

5 -

وعن محمود بن لبيد رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن أخْوَفَ ما أخاف عليكم الشرك الأصغر: الرياء" أخرجه أحمد بإسناد حسن.

[المفردات]

إن أخوف ما أخاف عليكم: أى إن أخوف شئ أخاف أن تقعوا فيه.

الشرك الأصغر: أى أن تلاحظوا غير اللَّه وتدخلوه مع اللَّه فى عبادتكم.

الرياء: أى إن الشرك الأصغر هو الرياء، وحقيقة الرياء أن يعمل الإنسان عملا صالحا ليراه الناس ويثنوا

ص: 231

عليه، فمقصوده الشهرة وإذاعة الصيت أما إذا عمل الإِنسان عملا صالحا يبتغى به وجه اللَّه وتحدث الناس عنه بلا قصد منه فإن هذا لا يضره وثوابه عند اللَّه.

[البحث]

تقدم فى ص 12 أن الشرك نوعان: شرك أكبر وشرك أصغر فمن وقع فى الشرك الأكبر خرج من الملة واعتبر مرتدا عن الإسلام وبانت منه زوجته المسلمة، ولا توارث بينه وبين قرابته من المسلمين، وإن مات على شركه هذا لا يصلى عليه، ولا يدفن فى مقابر المسلمين، وفيه يقول اللَّه عز وجل:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} والشرك الأكبر هو اتخاذ نِدٍّ للَّه عز وجل فى ألوهيته أو ربوبيته أو أسمائه الحسنى وصفاته العلى كعبادة الأصنام والأوثان وكالقول بأن اللَّه ثالث ثلاثة، وسؤال غير اللَّه بما لا يقدر عليه إلا اللَّه، والسجود لغير اللَّه وخوف السر من سواه والاستغاثة بالموتى، واعتقاد حلول اللَّه فى بعض الأشخاص أو اتحاده بهم أو وحدته معهم. وأما الشرك الأصغر فكالحلف بغير اللَّه وقول القائل: ما شاء اللَّه وشئت والرياء ويسمى الشرك الخفى فمن وقع فى الشرك الأصغر لا يخرج من الملة فلا تبين منه زوجته المسلمة، وإن مات صلى عليه ويدفن فى مقابر المسلمين، ولا ينتفى التوارث بينه وبين قرابته المسلمين ولا يخلد فى النار لكنه مع ذلك أكبر من الزنا والقتل والسرقة وشرب الخمر، ولا يغفره اللَّه تعالى إلا بالتوبة منه كالشرك الأكبر حيث يقول عز وجل:

ص: 232

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} ويقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} هذا وحديث محمود بن لبيد الذى ذكره المصنف هنا قد أخرجه أحمد رحمه الله فى المسند فقال: ثنا يونس ثنا ليث عن يزيد يعنى ابن الهاد عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول اللَّه؟ قال: "الرياء، يقول اللَّه عز وجل لهم يوم القيامة إذا جَزَى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون فى الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟ " ثم ساق من طريق إبراهيم بن أبى العباس ثنا عبد الرحمن بن أبى الزناد عن عمرو بن أبى عمرو عن عاصم بن عمر الظفرى عن محمود بن لبيد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم" فذكر معناه، ثم ساق من طريق إسحاق بن عيسى ثنا عبد الرحمن بن أبى الزناد عن عمرو بن أبى عمرو عن عاصم ابن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" قالوا: يا رسول اللَّه وما الشرك الأصغر؟ قال: "الرياء" إن اللَّه تبارك وتعالى يقول يوم يجازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون بأعمالكم فى الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟ " وقد أخرج المنذرى حديث محمود بن لبيد هذا فى الترغيب والترهيب ثم قال: رواه أحمد بإسناد جيد اهـ.

ص: 233

[ما يفيده الحديث]

1 -

أَن الشرك ينقسم إلى شرك أكبر وشرك أصغر.

2 -

وأن الرياء من الشرك الأصغر.

3 -

وأن شرك الرياء هو أشد ما يُخاف على هذه الأمة.

4 -

وأنه يجب الحذر من الوقوع فى الرياء وأن يحاربه الإِنسان فى نفسه.

ص: 234

6 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أخْلَفَ، وإذا اؤتُمِنَ خَانَ" متفق عليه، ولهما من حديث عبد اللَّه بن عمرو "وإذا خَاصَمَ فَجَرَ".

[المفردات]

آية المنافق ثلاث: أى علامة المنافق الدالة على نفاقه ثلاث خصال، وحقيقة المنافق هو الذى يظهر الإسلام ويبطن الكفر، مأخوذ من النافقاء وهى إحدى جِحَرَةِ اليربوع يكتمها ويُظْهِرُ غيرها فإذا أتى من جهة القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق وخرج من النافقاء.

إذا حدث كذب: أى إذا أخبر لم يصدق فى خبره.

ص: 234

وإذا وعد أخلف: أى وإذا صدر منه وعد لأحد لا ينجزه ولا يفى بوعده.

وإذا اؤتمن خان: أى وإذا استودعه أحد أمانة من مال أو عهد أو غير ذلك لحفظها له ضيعها ولم ينصح فيها.

ولهما: أى وللبخارى ومسلم.

وإذا خاصم فجر: أى وإذا صار بينه وبين أحد خصومة ومنازعة ومجادلة فَسَقَ وكَذَبَ وكَذَّبَ وعصى وخالف وانبعث فى الباطل ومال عن الحق.

[البحث]

حديث عبد اللَّه بن عمرو عند الشيخين بلفظ: "أربع من كُنَّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خَصْلَةٌ منهن كانت فيه خصلةْ من النفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّثَ كَذَبَ، وإذا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذا خاصم فجر" ولا معارضة بين حديث أبى هريرة وحديث عبد اللَّه بن عمرو لأن الإخبار بثلاث علامات لا ينفى صحة الإخبار بأربع علامات لأن كل علامة أمارة مستقلة فمن وجدت فيه خصلة واحدة كانت فيه علامة واحدة ومن وجدت فيه خصلتان كانت فيه علامتان وهكذا، قال النووى: وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقا بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق يخلد فى النار اهـ.

ص: 235

[ما يفيده الحديث]

1 -

الترهيب من الكذب.

2 -

الترهيب من إخلاف الوعد.

3 -

الترهيب من خيانة الأمانة.

4 -

الترهيب من الفجور فى الخصومة.

5 -

أن هذه الخصال من الكبائر.

6 -

أن هذه الخصال الأربع من خصال المنافقين.

7 -

يخشى على من تَخَلَّقَ بهذه الصفات أن يطبع على قلبه وأن يموت منافقا.

8 -

يجب على المسلم أن يتنزه عن صفات المنافقين.

ص: 236

7 -

وعن ابن مسعود رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وقِتَالُهُ كفْرٌ" متفق عليه.

[المفردات]

سباب المسلم: أى شَتم المسلم المستور الحال ولعنه، والطعن فى عرضه من غير وجه شرعى.

فسوق: أى خروج عن طاعة اللَّه.

وقتاله: أى واستحلال قتله بغير حق، أو حمل السلاح عليه ومقاتلته.

كفر: أى مروق من الدين أو جحود لحق الإخوة فى الإسلام.

ص: 236

[البحث]

المقصود من هذا الحديث هو حماية عِرْض المسلم وظهره وصيانته من الاعتداء عليه، وقد يطلق لفظ الكفر ويراد به جحود النعمة فقد روى البخارى ومسلم من حديث ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: "أُريتُ النار فإذا أكثر أهلها النساء، يَكْفُرْنَ" قيل: أيكفرن باللَّه؟ قال: "يكفرن العشير ويكفرن الإِحسانَ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط" وقد أطلق اللَّه تبارك وتعالى على الطائفتين المتقاتلتين من المسلمين اسم المؤمنين فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ثم قال: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وسيأتى مزيد بحث لهذا عند الكلام على الحديث العشرين من أحاديث هذا الباب إن شاء اللَّه تعالى.

[ما يفيده الحديث]

1 -

التحذير الشديد من سب المسلم.

2 -

التحذير الشديد من قتال المسلم.

3 -

أن سب المسلم كبيرة من الكبائر.

4 -

وأن استحلال قتل المسلم خروج من الملة.

5 -

وأن مقاتلة المسلم جحود لحق الإِخوة فى الإسلام.

ص: 237

8 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" متفق عليه.

[المفردات]

إياكم والظن: أى احذروا الظن، والمراد ظن السوء بالمسلم من غير برهان، واتهامه بلا بينة، وأصل الظن هو التردد الراجح بين طرفى الاعتقاد الغير الجازم، والظِّنة بكسر الظاء هى التهمة. والظَّنين المتهم.

فإن الظن أكذب الحديث: قال الحافظ فى الفتح: وأما وصف الظن بكونه أكذب الحديث مع أن تعمد الكذب الذى لا يستند إلى ظن أصلا أشد من الأمر الذى يستند إلى الظن فللإشارة إلى أن الظن المنهى عنه هو الذى لا يستند إلى شئ يجوز الاعتماد عليه، فيعتمد عليه ويجعل أصلا ويجزم به فيكون الجازم به كاذبا، وإنما صار أشد من الكاذب لأن الكذب فى أصله مستقبح مستغنى عن ذمه بخلاف هذا فإن صاحبه -بزعمه- مستند إلى شئ، فوصف بكونه أشد الكذب مبالغة فى ذمه والتنفير منه، وإشارة إلى أن الاغترار به أكثر من الكذب المحض لخفائه غالبا ووضوح الكذب المحض اهـ وسمى الظن

ص: 238

حديثا لكونه حديث نفس يثمر غالبا قولا وفعلا غير مطابق للواقع.

[البحث]

هذا طرف من حديث أخرجه البخارى من طريق همام بن منبه عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا وكونوا عباد اللَّه إخوانا" وأورده من طريق مالك عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد اللَّه إخوانا" وأورده مسلم من طريق مالك عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد اللَّه إخوانا" قال الحافظ فى الفتح: (قوله: إياكم والظن) قال الخطابى وغيره: ليس المراد ترك العمل بالظن الذى تناط به الأحكام غالبا، بل المراد ترك تحقيق الظن الذى يضر بالمظنون به. وكذا ما يقع فى القلب بغير دليل، وذلك أن أوائل الظنون إنما هى خواطر لا يمكن دفعها وما لا يقدر عليه لا يكلف به، ويؤيده حديث: تجاوز اللَّه للأمة عما حدثت به أنفسها" وقد تقدم شرحه. وقال القرطبى: المراد بالظن هنا التهمة التى لا سبب لها كمن يتهم رجلا بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها، ولذلك

ص: 239

عطف عليه قوله: "ولا تجسسوا" وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة فيريد أن يتحقق فيتجسس ويبحث ويستمع فنهى عن ذلك. وهذا حديث يوافق قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} فدل سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة لتقدم النهى عن الخوض فيه بالظن، فإن قال الظانّ: أبحث لأتحقق، قيل له:"ولا تجسسوا" فإن قال: تحققت من غير تجسس، قيل له:"ولا يغتب بعضكم بعضا" اهـ، هذا أما من يُعَرِّضُ نفسه للتهم بأن يفعل أفعالا مشبوهة كأن يدخل على امرأة مغيبة ليست من محارمه ونحو ذلك فهو حرى بأن يتهم، كما أن الحذر من إنسان لا يعد اتهاما له، واللَّه أعلم.

[ما يفيده الحديث]

1 -

يجب الابتعاد عن ظن السوء بالمسلم المستور الحال.

2 -

لا يجوز للمسلم أن يتهم مسلما بلا برهان.

3 -

لا ينبغى للمسلم أن يفعل ما يُعَرِّضُه للتهمة وسوء الظن.

ص: 240

9 -

وعن معقل بن يسار رضى اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسترعيه اللَّه رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم اللَّه عليه الجنة" متفق عليه.

[المفردات]

مَا مِنْ عَبْدٍ: أى ما من إنسان.

ص: 240

يسترعيه اللَّه رعية: أى يجعله اللَّه واليا على جماعة، ويطلب منه رعايتها والمحافظة عليها.

يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته: أى يدركه الموت وهو غير ناصح لمن ولى أمرهم حيث كان يغشهم ويخونهم ويسفك دماءهم وينهتك أعراضهم ويحرمهم من حقوقهم، ولا يقيم شرع اللَّه فيهم، فلا يأمرهم بالمعروف ولا ينهاهم عن المنكر، ولا يعلم جاهلهم ولا يردع سفيههم ويزين لهم السوء، ويظهر لهم خلاف ما يضمر.

إلا حرم اللَّه عليه الجنة: أى إلا منعه اللَّه من دخول الجنة يوم القيامة.

[البحث]

أخرج البخارى هذا الحديث من طريق أبى الأشهب عن الحسن أن عبيد اللَّه بن زياد عاد معقل بن يسار فى مرضه الذى مات فيه فقال له معقل: إنى محدثك حديثا سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول ما من عبد استرعاه اللَّه رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة" ثم أخرجه من طريق هشام عن الحسن قال: أتينا معقل بن يسار نعوده، فدخل عبيد اللَّه فقال له معقل: أحدثك حديثا سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما من وال يلى رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم اللَّه عليه الجنة" وقد أخرجه مسلم من طريق أبى الأشهب عن الحسن قال:

ص: 241

عاد عبيد اللَّه بن زياد معقل بن يسار المزنى فى مرضه الذى مات فيه فقال معقل: إنى محدثك حديثا سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لو علمت أن لى حياة ما حدثتك، إنى سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"ما من عبد يسترعيه اللَّه رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلا حرَّم اللَّه عليه الجنة" ثم ساقه من طريق أبى المليح أن عبيد اللَّه بن زياد دخل على معقل بن يسار فى مرضه فقال له معقل: إنى محدثك بحديث لولا أنى فى الموت لم أحدثك به، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"ما من أمير يلى أمر المسلمين ثم لا يَجْهَدُ لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة" وهذا الحديث من أحاديث الوعيد التى تقدم الكلام عليها أكثر من مرة، وقد تقدم الكلام على ذلك فى الحديث السادس والثلاثين من أحاديث كتاب البيوع فى قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه "من غش فليس منى".

[ما يفيده الحديث]

1 -

تحريم الغش.

2 -

وأن الغش من الكبائر.

3 -

وأنه يجب على الراعى أن ينصح لرعيته.

4 -

عظم مسئولية من يلى من أمر المسلمين شيئا.

ص: 242

10 -

وعن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:

ص: 242

"اللهم مَنْ وَلَى من أمر أمتى شيئا فَشَقَّ عليهم فاشْقُقْ عليه" أخرجه مسلم.

[المفردات]

مَنْ وَلى من أمر أمتى شيئا: أى من أُسْنِدَ إليه رعاية شئ من شئون المسلمين.

فشق عليهم: أى فَأدْخَلَ عليهم المشقة والمضرة وأوقعهم فيها.

فَاشْقُقْ عليه: فَأدْخِلْ عليه المشقة والمضرة فى نفسه وأوقعْه فيها.

[البحث]

أخرج مسلم رحمه الله هذا الحديث من طريق عبد الرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة أسألها عن شئ، فقالت: ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت: كيف كان صاحبكم لكم فى غَزَاتِكُمْ هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئا، إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطه البعير، والعبد فيعطيه العبد ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة، فقالت: أما إنه لا يمنعنى الذى فعل فى محمد بن أبى بكر، أخى، أن أخبرك ما سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول فى بيتى هذا:"اللهم من وَلىَ من أمر أمتى شيئا فشَقَّ عليهم فَاشْقُقْ عليه، ومن ولى من أمر أمتى شيئا فَرَفَقَ بهم فَارْفُقْ به".

[ما يفيده الحديث]

1 -

تحذير الوالى من الجور على الرعية.

ص: 243

2 -

حث الوالى على الرفق بالرعية.

3 -

تحريم إدخال المشقة على المسلمين.

4 -

إدخال المشقة على المسلمين من الكبائر.

ص: 244

11 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه" متفق عليه.

[المفردات]

إذا قاتل أحدكم: أى إذا أراد أحدكم أن يضرب أحدا، فقاتل بمعنى ضارب، ولكنها ليست على بابها من المفاعلة

فليجتنب الوجه: أى فليبتعد عن ضرب الوجه وإصابته.

[البحث]

تقدم فى بحث الحديث الثالث من أحاديث باب حد الشارب وبيان المسكر ذكر. ألفاظ هذا الحديث عند الشيخين، وذكرت هناك أن البخارى إنما أخرجه بلفظ:"إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه" وهى الرواية التى ساقها المصنف هناك، وبينت هناك أسباب اجتناب الوجه عند الضرب.

[ما يفيده الحديث]

1 -

ينبغى اجتناب وجه الإِنسان عند ضربه فى حد أو تعزير أو غيرهما.

ص: 244

2 -

وأنه ينبغى الإِحسان للناس حتى عند إقامة الحدود عليهم أو تعزيرهم.

ص: 245

12 -

وعنه رضى اللَّه عنه أن رجلا قال: يا رسول اللَّه أوصنى، قال:"لا تغضب" فرَدَّدَّ مرارا، قال:"لا تغضب" أخرجه البخارى.

[ما يفيده الحديث]

وعنه: أى وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه.

أن رجلا: قيل هو جارية بن قدامة، وقيل هو سفيان بن عبد اللَّه الثقفى، وقيل هو أبو الدرداء، وأقواها الأول.

أوصنى: أى دلنى على عمل ينفعنى ويدخلنى اللَّه به الجنة.

لا تغضب: أى لا تَثُرْ عندما يحصل لك مكروه من أحد ومراغمة بل احلم واصبر ولا تندفع فى الشر، والغضب ضد الرضا.

فردَّد مرارا: أى فكرر الرجل السؤال يلتمس أنفع من ذلك أو أبلغ أو أعم.

فقال: لا تغضب: أى فلم يزده على قوله: لا تغضب.

[البحث]

تقدم فى الحديث الثانى من أحاديث هذا الباب بيان أن الشديد هو الذى يملك نفسه عند دواعى الغضب. قال الحافظ فى الفتح:

ص: 245

وقال ابن حبان بعد أن أخرجه: أراد: لا تعمل بعد الغضب شيئا مما نهيت عنه لا أنه نهاه عن شئ جُبِلَ عليه ولا حيلة له فى دفعه، وقال بعض العلماء: خلق اللَّه الغضب من النار، وجعله غريزة فى الإِنسان، فمهما قصد أو نوزع فى غرض ما اشتعلت نار الغضب وثارت حتى يحمر الوجه والعينان من الدم، لأن البشرة تحكى لون ما وراءها، وهذا إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه، وإن كان ممن فوقه تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب فيصفر اللون حزنا، وإن كان على النظير تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر، ويترتب على الغضب تغير الظاهر والباطن كتغير اللون، والرعدة فى الأطراف، وخروج الأفعال عن غير ترتيب، واستحالة الخلقة حتى لو رأى الغضبان نفسه فى حال غضبه لسكن غضبه حياء من قبح صورته، واستحالة خلقته، هذا كله فى الظاهر، وأما الباطن فقبحه أشد من الظاهر لأنه يولد الحقد فى القلب، والحسد، وإضمار السوء على اختلاف أنواعه، بل أول شئ يقبح منه باطنه، وتغير ظاهره ثمرة تغير باطنه، وهذا كله أثره فى الجسد، وأما أثره فى اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش الذى يستحى منه العاقل ويندم قائله عند سكون الغضب، ويظهر أثر الغضب أيضا فى الفعل بالضرب أو القتل، وإن فات ذلك بهرب المغضوب عليه رجع إلى نفسه فيمزق ثوب نفسه ويلطم خده، وربما سقط صريعا، وربما أغمى عليه، وربما كسر الآنية، وضرب من

ص: 246

ليس له فى ذلك جريمة، ومن تأمل هذه المفاسد عرف مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللطيفة من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تغضب" من الحكمة واستجلاب المصلحة فى درء المفسدة مما يتعذر إحصاؤه والوقوف على نهايته اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

التحذير من الاندفاع عند الغضب.

2 -

وجوب التحلى بالرضا والصبر عند حدوث دواعى الغضب.

3 -

فى تعاليم الإِسلام خير الدنيا والآخرة.

ص: 247

13 -

وعن خولة الأنصارية رضى اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن رجالا يتخوضون فى مال اللَّه بغير حق فلهم النار يوم القيامة" أخرجه البخارى.

[المفردات]

خولة الأنصارية: هى أم محمد خولة بنت قيس بن قهد بن قيس ابن ثعلبة بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار الأنصارية النجارية رضى اللَّه عنها. ويقال لها خويلة، أسلمت وبايعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتزوجت حمزة بن عبد المطلب، سيد الشهداء رضى اللَّه عنه فولدت له يعلى وعمارة وابنتين ولما استشهد

ص: 247

رضى اللَّه عنه تزوجت بعده حنظلة بن النعمان بن عمرو بن مالك بن عامر بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق فولدت له محمدا وكانت تكنى به، ووالدها قيس لقبه ثامر كما جزم به على بن المدينى وقهد بالقاف.

يَتَخَوَّضُونَ فى مال اللَّه بغير حق: أى يندفعون فى تحصيل مال اللَّه بالباطل ويتوسعون فى الحصول عليه من طرق غير مشروعة، ومال اللَّه تعالى قد يراد به الخمس والزكاة وأموال الوقف والغنائم قبل قسمتها.

فلهم النار يوم القيامة: أى فهم يستحقون دخول جهنم فى الآخرة.

[البحث]

أخرج البخارى هذا الحديث فى كتاب الخُمس فى (باب قول اللَّه تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}) من طريق عبد اللَّه بن يزيد عن سعيد بن أبى أيوب عن أبى الأسود عن ابن أبى عياش واسمه نعمان عن خولة الأنصارية رضى اللَّه عنها قالت: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: "إن رجالا يَتَخَوَّضُون فى مال اللَّه بغير حق، فلهم النار يوم القيامة".

[ما يفيده الحديث]

1 -

أنه لا يجوز لأحد أن يستولى على مال إلا بطريق مشروع.

2 -

أن الاستيلاء على أموال الوقف ونحوها من غير طريق مشروع هو من الكبائر.

ص: 248

14 -

وعن أبى ذر رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه قال: "يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم مُحَرَّمًا فلا تَظَالَمُوا" أخرجه مسلم.

[ما يفيده الحديث]

فيما يرويه عن ربه: أى فيما يخبر به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ربه من الحديث القدسى.

قال: أى اللَّه تعالى فى الحديث القدسى.

حرمت الظلم على نفسى: أى تقدست عنه وتعاليت ونزهت نفسى عنه، وقد تقدم أن الظلم هو الجور ومجاوزة الحد ووضع الشئ فى غير موضعه.

وجعلته بينكم محرم: أى وحرمت عليكم أن يظلم بعضكم بعضا.

فلا تظالموا: أى فلا تَتَلَبَّسُوا بالظلم، ولا يعتد بعضكم على بعض وأصل "تظالموا" تتظالموا فحذفت إحدى التاءين تخفيفا.

[البحث]

أخرج مسلم هذا الحديث من طريق أبى إدريس الخولانى عن أبى ذر عن النبى صلى الله عليه وسلم فيما روى عن اللَّه تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادى إنى حَرَّمْتُ الظلم على نفسى وجعلته بينكم مُحَرَّمًا فلا تظالموا يا عبادى كلكم ضالٌّ إلا من هديته فاستهدونى أهدِكُمْ، يا عبادى

ص: 249

كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعمونى أُطْعِمْكُمْ، يا عبادى كلكم عار إلا من كسوته فاستكسونى أكسُكُمْ، يا عبادى إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفرونى أغفر لكم، يا عبادى إنكم لن تبلغوا ضُرِّى فَتَضُرُّونى ولن تَبْلُغُوا نَفْعى فتنفعونى، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذاك فى ملكى شيئا، يا عبادى لو أن أوَّلكُمْ وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكى شيئا، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا فى صعيد واحد فسألونى فأعطيت كلَّ إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندى إلا كما يَنْقُصُ المخيط إذا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عبادى إنما هى أعمالكم أُحْصِيها لكم ثم أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فليحمد اللَّه ومن وجد غير ذلك فلا يَلومنَّ إلا نفسه" ثم ساقه من طريق أبى أسماء عن أبى ذر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى: إنى حرمت على نفسى الظلم وعلى عبادى فلا تظالموا" قال مسلم: وساق الحديث بنحوه، وحديث أبى إدريس الذى ذكرناه أتم من هذا اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

تحريم الظلم.

2 -

وأن الظلم صفة قبيحة لا يليق بمسلم أن يتخلق بها.

ص: 250

15 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال:"ذِكْرُكَ أخاك بما يَكْرَهُ" قيل: أفَرَأيْتَ إن كان فى أخى ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بَهَتَّهُ" أخرجه مسلم.

[المفردات]

أتدرون ما الغيبة: أى أتعرفون ما الغيبة التى حرمها اللَّه عز وجل فى كتابه الكريم حيث قال: {ولَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} . والغيبة بكسر الغين وفتح الباء.

ذكرك أخاك بما يكره: أى أن تصف المسلم بصفة يبغضها ولا يحبها فى حال غيابه عنك ولذلك قيل فى تعريفها أيضا: هى ذكرك أخاك بالعيب فى ظهر الغَيْبِ.

أفَرَأيت إن كان فى أخى ما أقول: أى أهذا التعريف يشمل حالة ما إذا كان أخى المسلم متصفا بالوصف الذى وصفته به أم هو خاص بما إذا وصفته بوصف لا يكون متصفا به فى الواقع؟ .

قال: أى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته: أى إن الغيبة هى أن تصفه

ص: 251

بوصف يكرهه، وهذا الوصف موجود فيه كأن تقول فيه: القصير، وهو قصير فى الواقع، أو تقول: الأبرص، وهو أبرص فى الواقع ونحو ذلك.

وإن لم يكن فيه فقد بَهَتَّهُ: أى وإن لم يكن أخوك المسلم متصفا بالوصف الذى وصفته به فقد افتريت عليه الكذب، فلا يكون من باب الغيبة وإنما يكون من باب البهتان والافتراء عليه.

[البحث]

هذا الحديث من الأحاديث التى جاءت محذرة من أذى المسلم سواء كان حاضرا أم غائبا، وسواء كان حيا أم ميتا، وقد استثنت الشريعة من ذلك أمورا، منها: التظلم من الغنى المماطل فقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مطل الغنى ظلم" وفى لفظ: "لَىُّ الواجد يُحِلُّ عرضه وعقوبته" ومنها التحذير من الاغترار به كتجريح الرواة وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: بئس أخو العشيرة، ومنها الاستشارة كقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس لما استشارته فى شأن زواجها وقد خطبها معاوية وأبو جهم فقال:"أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه أو ضراب للنساء" وأشار عليها بأسامة بن زيد رضى اللَّه عنهما، وقد جمع ابن أبى شريف الأمور المستثناة من الغيبة فى قوله:

الذم ليس بغيبة فى ستة

متظلمٍ ومُعَرِّفٍ ومُحَذِّرِ

ولمُظْهِر فِسْقًا، ومُسْتَفْتٍ ومَنْ

طَلَبَ الإِعانة فى إزالة مُنْكَرِ

ص: 252

[ما يفيده الحديث]

1 -

التحذير من الغيبة وأنها من الصفات القبيحة والأخلاق السيئة.

2 -

التحذير من البهتان وأنه من الصفات القبيحة والأخلاق السيئة.

ص: 253

16 -

وعنه رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد اللَّه إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يَحْقِرُهُ، التقوى هاهنا" ويشير إلى صدره ثلاث مرات "بِحَسْبِ امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه" أخرجه مسلم.

[المفردات]

وعنه: أى وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه.

لا تحاسدوا: أى لا يحسد بعضكم بعضا.

ولا تناجشوا: أى ولا يزد بعضكم على بعض فى ثمن السلع وهو لا يرغب فى شرائها وإنما يريد دفع غيره لشرائها.

ولا تدابروا: أى ولا يُعْرِضُ بعضكم عن بعض عند التلاقى ولا تتهاجروا.

وكونوا عباد اللَّه إخوانا: أى تعاملوا وتعاشروا معاملة الإِخوة

ص: 253

ومعاشرتها فى المودة والرفق والشفقة والملاطفة والتعاون فى الخير كأنكم أبناء رجل واحد.

لا يظلمه: أى لا يتعدى عليه.

ولا يخذله: أى ولا يترك إعانته ونصرته فى الحق ما دام قادرا على ذلك.

ولا يحقره: أى ولا يزدريه.

بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم: أى إن الإنسان يبلغ الذروة من الشر إذا احتقر أخاه المسلم.

[البحث]

قد تقدم ما تضمنه هذا الحديث العظيم فى جمل من الأحاديث المتقدمة كالحديث الرابع والعشرين والتاسع والعشرين من أحاديث كتاب البيوع، والحديث الثامن والثانى عشر من أحاديث باب البر والصلة، والحديث الأول والثالث والرابع والسابع والثامن والرابع عشر من أحاديث هذا الباب، وهذا اللفظ الذى ساقه المصنف قد أخرجه مسلم من طريق داود (يعنى ابن قيس) عن أبى سعيد مولى عامر بن كريز عن أبى هريرة وفى لفظ لمسلم من طريق أسامة (وهو ابن زيد) أنه سمع أبا سعيد مولى عبد اللَّه بن عامر بن كريز يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكر نحو حديث داود وزاد ونقص، ومما زاد فيه:"إن اللَّه لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" وأشار بأصابعه إلى صدره اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

تحريم الحسد وأنه من الصفات القبيحة.

ص: 254

2 -

تحريم النجش وأنه من الصفات القبيحة.

3 -

تحريم التباغض وأنه من الصفات القبيحة.

4 -

تحريم التهاجر وأنه من الصفات القبيحة.

5 -

تحريم بيع الإنسان على بيع أخيه وأنه من الصفات القبيحة.

6 -

وجوب رعاية حق أخوة الإسلام.

7 -

تحريم الظلم وأنه من الصفات القبيحة.

8 -

تحريم خذلان المسلم وأنه من الصفات القبيحة.

9 -

تحريم احتقار المسلم وأنه من الصفات القبيحة.

10 -

أن احتقار المسلم من الكبائر.

11 -

حرمة دم المسلم وماله وعرضه.

ص: 255

17 -

وعن قطبَةَ بن مالك رضى اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم جَنِّبْنى مُنْكَرَات الأخلاق، والأعمال، والأهواء، والأدواء" أخرجه الترمذى وصححه الحاكم واللفظ له.

[المفردات]

قُطْبَة بن مالك: هو عم زياد بن علاقة من بنى ثعلبة من غطفان فهو ثعلبى غطفانى وقد سكن الكوفة رضى اللَّه عنه.

جنبنى منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء: أى باعد بينى وبين

ص: 255

الأخلاق المنكرة التى لا تحبها والأعمال السيئة التى لا ترتضيها وجميع الأهواء، وإضافة الأخلاق والأعمال إلى منكرات من إضافة الصفة للموصوف يعنى الأخلاق المنكرة والأعمال المنكرة فإن بعض الأخلاق منكر وبعضها حسن وبعض الأعمال منكر وبعضها حسن أما الأهواء فكلها قبيحة نهى اللَّه عز وجل عنها حيث قال:"ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل اللَّه" والأهواء جمع هوى، واتباع الهوى هو السير وراء الشهوة من غير بصيرة.

والأدواء: هى جمع داء والمراد بها الأسقام والأمراض المنفرة كالجذام والبرص وكذلك الأمراض المهلكة كذات الجنب والسل.

[البحث]

قال الترمذى: حدثنا سفيان بن وكيع نا أحمد بن بشير وأبو أسامة عن مسعر عن زياد بن علاقة عن عمه قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إنى أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء" هذا حديث حسن غريب، وعم زياد بن علاقة هو قطبة بن مالك صاحب النبى صلى الله عليه وسلم اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

استحباب الدعاء بهذه الصيغة.

2 -

الحرص على اجتناب منكرات الأخلاق والأعمال.

3 -

التحذير من اتباع الهوى.

ص: 256

18 -

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تُمار أخاك ولا تُمازِحه، ولا تَعِدْهُ موعدا فتخْلفَهُ" أخرجه الترمذى بسند ضعيف.

[المفردات]

لا تمار أخاك: أى لا تجادل أحدا من المسلمين.

ولا تمازحه: أى ولا تُدَاعِبْهُ.

ولا تعده موعدا فتخلفه: أى ولا تحدد معه موعدا لشئ وتخلف هذا الموعد.

[البحث]

قال الترمذى: حدثنا زياد بن أيوب البغدادى ثنا المحاربى عن ليث وهو ابن أبى سليم عن عبد الملك عن عكرمة عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمار أخاك، ولا تمازحه، ولا تعده موعدا فتخلفه" هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه اهـ وفى سند هذا الحديث ليث بن أبى سليم بن زُنَيْم قال فى التقريب: صدوق اختلط أخيرا ولم يتميز حديثه فترك اهـ وقد ثبت النهى عن المراء والجدال إلا بالتى هى أحسن فى قولة عز وجل: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وسيأتى لفظ الحديث السادس والثلاثين من أحاديث هذا الباب: "أبغض الرجال إلى اللَّه الألَدُّ الخَصِمُ" وقد شدَّدَ اللَّه النكير على المجادلين فى الحج فقال: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}

ص: 257

وأما المزاح فقد ثبت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقا، أما المزاح المشتمل على الكذب أو على حركات لا تليق بالمروءة فإنه لا يحل للمسلم، وأما خلف الوعد فقد تقدم فى الحديث السادس من أحاديث هذا الباب أنه من صفات المنافقين.

ص: 258

19 -

وعن أبى سعيد الخدرى رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خَصْلَتَانِ لا يجتمعان فى مؤمن: البُخْلُ وسُوءُ الخُلُق" أخرجه الترمذى وفى سنده ضعف.

[المفردات]

خصلتان: أى صفتان.

لا يجتمعان فى مؤمن: أى لا يتصف بهما مؤمن.

البخل: أى شدة الحرص والإمساك وكراهية البذل.

وسوء الخلق: أى وقبح السلوك.

[البحث]

قال الترمذى: حدثنا أبو حفص عمرو بن على ثنا أبو داود ثنا صدقة بن موسى ثنا مالك بن دينار عن عبد اللَّه بن غالب الحُدَّانى عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خصلتان لا تجتمعان فى مؤمن: البخل وسُوء الخُلُق" وفى الباب عن أبى هريرة، هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صدقة بن موسى اهـ

ص: 258

20 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المُسْتَبَّان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم" أخرجه مسلم.

[المفردات]

المستبان: أى الشخصان اللذان يتسابان يتشاتمان.

ما قالا: أى ما حصل منهما من سب وشتم.

فعلى البادئ: أى فإثم السباب الواقع منهما مختص بالبادئ يتحمله وحده وليس على الذى لم يبدأ منهما شئ من الإثم لأنه مظلوم وقد أذن اللَّه له فى الرد بقدر ظلامته.

ما لم يعتد المظلوم: أى ما لم يتجاوز الذى لم يكن بدأ بالسب فإن اعتدى وتجاوز فى سبه القَدر الذى بدأ به صاحبه فحينئذ يتحمل إثم ما تجاوز به.

[البحث]

إنما يتحمل البادئ بالسب إثم سَبِّه وإثم ما سبه به صاحبه لأن اللَّه تبارك وتعالى قد أذن للثانى بالرد على الأول البادئ بقدر سبه حيث يقول عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فلا يجوز للثانى أن يزيد فى مقابلة سيئة صاحبه

ص: 259

بأكثر منها، فإن زاد تحمل إثم ما زاده من السب، على أن اللَّه تبارك وتعالى قد حض على العفو والصفح حيث قال:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} وقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .

[ما يفيده الحديث]

1 -

يجوز لمن بدأه إنسان بالسب أن يرد عليه بقدر سبه.

2 -

وأن إثم المتسابين يتحمله البادئ منهما.

3 -

لا يجوز للمظلوم أن يتجاوز قدر ما ناله من السب.

4 -

إن تجاوز المظلوم فى سبه تحمل إثم الزيادة.

ص: 260

21 -

وعن أبى صِرْمَةَ رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من ضَارَّ مسلما ضَارَّهُ اللَّه، ومن شَاقَّ مسلما شَقَّ اللَّه عليه" أخرجه أبو داود والترمذى وحسنه.

[المفردات]

أبو صِرْمَةَ: بكسر الصاد وسكون الراء المازلى الأنصارى صحابى اسمه مالك بن قيس وقيل قيس بن صرمة وكان شاعرا وهو من بنى مازن بن النجار رضى اللَّه عنه.

من ضَارَّ مسلما: أى من أدخل على مسلم مضرة فى نفسه أو عرضه أو ماله بغير حق.

ص: 260

ضَارَّهُ اللَّه: أى أدخل اللَّه عليه مضرة مثلها وجازاه من جنس فعله.

ومن شاق مسلما: أى ومن أدخل المشقة على مسلم وألحق به الحرج من غير حق.

شق اللَّه عليه: أى أدخل اللَّه عليه المشقة وألحق به الحرج.

[البحث]

أخرج أبو داود هذا الحديث من طريق قتيبة بن سعيد عن الليث عن يحيى عن محمد بن يحيى بن حبان عن لؤلؤة عن أبى صرمة صاحب النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ضَارَّ أضَرَّ اللَّه به، ومن شَاقَّ شَاقَّ اللَّه عليه" اهـ وقال الترمذى: حدثنا قتيبة ثنا الليث عن يحيى ابن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن لؤلؤة عن أبى صرمة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من ضارَّ ضارَّ اللَّه به، ومن شاقَّ شَاقَّ اللَّه عليه" وفى الباب عن أبى بكر، هذا حديث حسن غريب اهـ وقد تقدم فى بحث الحديث الرابع من أحاديث باب إحياء الموات ما جاء فى كتاب اللَّه تبارك وتعالى من تحريم المضارة، وأن تحريمها قد أطبق عليه علماء الإِسلام.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن إلحاق المشقة أو إدخال الضرر على المسلم من أقبح الصفات.

2 -

وأن أذية المسلم من الكبائر.

3 -

تهديد من يؤذى مسلما بأن اللَّه تبارك وتعالى يجازيه من جنس عمله.

ص: 261

22 -

وعن أبى الدرداء رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه يبغض الفاحش البذئ" أخرجه الترمذى وصححه، وله من حديث ابن مسعود رفعه:"ليس المؤمن بالطَّعَّان ولا باللَّعَّانِ ولا الفاحش، ولا البذئ" وحسنه وصححه الحاكم ورجَّحَ الدارقطنى وقفه.

[المفردات]

يبغض: أى يكره ويمقت.

الفاحش: يطلق الفاحش على البخيل جدا وعلى المعتدى فى الجواب وعلى من يظهر القبح وعلى من يتكلم بالكلام القبيح ويطلق الفحش أيضا على كل ما خرج عن مقداره حتى يستقبح ويدخل فى القول والفعل والصفة، يقال: طويل فاحش الطول إذا أفرط فى طوله، ولكن استعماله فى القول أكثر.

البذئ: أى الفاحش فهو تأكيد لما قبله ويروى: البَذئ كَرَضىّ وهو بمعنى البذئ.

وله: أى وللترمذى.

رفعه: أى أسنده إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

بالطَّعَّان: أى السبَّاب.

ولا باللعَّان: أى ولا بالذى يكثر اللعن.

ص: 262

ولا الفاحش ولا البذئ: هو عطف تفسير فهما بمعنى واحد كما تقدم.

[البحث]

حديث أبى الدرداء أخرجه الترمذى من طريق عمرو بن دينار عن ابن أبى مليكة عن يعلى بن المملك عن أم الدرداء عن أبى الدرداء أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ما شئ أثقل فى ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن فإن اللَّه يبغض الفاحش البذىّ" وفى الباب عن عائشة وأبى هريرة وأنس وأسامة بن شريك، هذا حديث حسن صحيح اهـ وحديث ابن مسعود عند الترمذى أخرجه عن شيخه محمد بن يحيى الأزدى البصرى ثنا محمد بن سابق عن إسرائيل عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذىّ" ثم قال الترمذى: هذا حديث حسن غريب وقد روى عن عبد اللَّه من غير هذا الوجه اهـ وقد أخرج البخارى ومسلم واللفظ لمسلم من حديث عائشة رضى اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن شر الناس منزلة عند اللَّه يوم القيامة من وَدَعهُ أو تركه الناس اتقاء فُحْشِهِ" وقال البخارى: (باب لم يكن النبى صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفاحشا) ثم ساق بسنده إلى عائشة رضى اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "عليك بالرفق وإياك والعنف والفُحش" ثم ساق من حديث أنس بن مالك رضى اللَّه عنه قال: لم يكن النبى صلى اللَّه

ص: 263

عليه وسلم سبَّابًا ولا فَحَّاشًا ولا لَعَّانًا" اهـ واللَّه تبارك وتعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن اللَّه عز وجل يبغض الفاحش البذئ.

2 -

أن المؤمن الحق هو من تحلى بالأخلاق الكريمة والصفات الحميدة.

3 -

أنه لا يليق بالمؤمن أن يكون سبابا أو لعانا أو طعانا.

4 -

أن الفحش لا يكون فى شئ إلا شانه.

5 -

وأن الرفق لا يكون فى شئ إلا زانه.

ص: 264

23 -

وعن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "لا تَسُبُّوا الأموات فإنهم قد أَفْضَوْا إلى ما قَدَّموا" أخرجه البخارى.

[المفردات]

لا تسبوا الأموات: أى لا تشتموهم وتذكروا عيوبهم.

أفضوا إلى ما قدموا: أى انتهوا وقدموا ووصلوا إلى ما عملوا من خير أو شر.

[البحث]

تقدم هذا الحديث فى كتاب الجنائز برقم 58 وهو آخر أحاديث كتاب الجنائز، وقد أوضحت هناك ما يتعلق به.

ص: 264

[ما يفيده الحديث]

1 -

أنه لا يليق بالمسلم أن يكون سبابا للأحياء أو للأموات.

2 -

حرص الإسلام على إشاعة المودة والرفق بين المسلمين.

ص: 265

24 -

وعن حذيفة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قَتَّاتٌ" متفق عليه.

[المفردات]

قتات: أى نَمَّام. يقال: قَتَّ الحديث يقته إذا زَوَّرَهُ وهَيَّأه ونقله، ويطلق القت على الكذب أيضا، قال فى القاموس: ورجل قَتَّاتٌ وقَتُوتٌ وقِتِّيتَى نمام أو يَسَّمَّعُ أحاديث الناس من حيث لا يعلمون سواء نَمَّهَا أم لم يَنُمَّهَا اهـ وقد عرفت النميمة بأنها نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم.

[البحث]

أخرج مسلم هذا الحديث من طريق أبى وائل عن حذيفة بلفظ: "لا يدخل الجنة نمام" وأكثر أهل العلم على أن القتات هو النمام قال الحافظ فى الفتح: وقيل الفرق بين القتات والنمام أن النمام الذى يحضر القصة فينقلها، والقتات الذى يتسمع من حيث لا يعلم به ثم ينقل ما سمعه، قال الغزالى ما ملخصه: ينبغى لمن حملت إليه نميمة أن لا يصدق من نَمَّ له، ولا يظن بمن نَمَّ عنه ما نقل عنه، ولا يبحث عن

ص: 265

تحقيق ما ذكر له، وأن ينهاه ويقبح له فعله، وأن ييغضه إن لم ينزجر، وأن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه فينم هو على النمام فيصير نماما، قال النووى: وهذا كله إن لم يكن فى النقل مصلحة شرعية وإلا فهى مستحبة أو واجبة كمن اطلع من شخص أنه يريد أن يؤذى شخصا ظلما فحذره منه، وكذا من أخبر الإمام أو من له ولاية بسيرة نائبه مثلا فلا منع من ذلك اهـ وقد قال البخارى:(باب النميمة من الكبائر) وساق من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: خرج النبى صلى الله عليه وسلم من بعض حيطان المدينة فسمع صوت إنسانين يُعَذَّبَان فى قبورهما فقال: "يُعَذَّبَان وما يعذبان فى كبيرة وإنه لكبير، كان أحدهما لا يستتر من البول، وكان الآخر يمشى بالنميمة" ثم دعا بجريدة فكسرها بكسرتين أو ثنتين فجعل كِسْرَةً فى قبر هذا، وكسرة فى قبر هذا، فقال:"لعله يُخَفَّفُ عنهما ما لم يَيْبَسَا" ثم قال البخارى: (باب ما يكره من النميمة، وقوله تعالى:{هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} ثم ساق حديث الباب من طريق همام عن حذيفة رضى اللَّه عنه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قتات" من أحاديث الوعيد. قال الحافظ المنذرى أجمعت الأمة على أن النميمة محرمة وأنها من أعظم الذنوب عند اللَّه اهـ وقد حذر اللَّه تبارك وتعالى من النمام حيث قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وهذا يدل على أن النمام فاسق حتى ولو كان صادقا. وعلاج النمام هو بالكف عن الحديث عن الناس وللَّه در الشاعر حيث يقول:

ص: 266

لى حيلة فيما يَنِمُّ

وليس فى الكذاب حيله

من كان يخلق ما يقو

ل فحيلتى فيه قليله

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن النميمة من الأخلاق السيئة.

2 -

وأنه لا يليق بالمسلم أن يكون نماما.

3 -

وأن النميمة من الكبائر.

ص: 267

25 -

وعن أنس رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من كَفَّ غَضَبَهُ كَفَّ اللَّه عنه عذابه" أخرجه الطبرانى فى الأوسط، وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن أبى الدنيا.

[المفردات]

من كف غضبه: أى منع غضبه وقَهَرَه عند حدوث دواعيه وملَك نفسه.

كف اللَّه عنه عذابه: أى دفع اللَّه عنه عذابه يعنى يوم القيامة وله: أى ولحديث أنس عند الطبرانى فى الأوسط.

ابن أبى الدنيا: هو أبو بكر عبد اللَّه بن محمد بن عبيد بن سفيان ابن أبى الدنيا القرشى الأموى مولاهم صاحب التصانيف، ومؤدب أولاد الخلفاء، ولد سنة ثمان ومائتين وسمع سعيد بن سليمان وعلى بن الجعد

ص: 267

هناك.

وسعيد بن محمد الجرمى وخلف بن هشام وخالد بن خداش وغيرهم، وحدث عنه الحارث بن أبى أسامة مع تقدمه عليه والحسين بن صفوان البرذعى وأبو بكر النجاد وأحمد بن خزيمة وأبو بكر الشافعى وغيرهم. قال ابن أبى حاتم: كتبت عنه مع أبى وهو صدوق وكان فصيحا بليغا فى الوعظ، وقد سأل الرشيد ولده عنه قال له: كيف محبتك لمؤدبك؟ قال: كيف لا أحبه وهو أول من فتق لسانى بذكر اللَّه، وهو مع ذاك إذا شئت أضحكك وإذا شئت أبكاك فأمر بإحضاره وطلب منه أن يحدثه فابتدأ فى أخبار الخلفاء ومواعظهم فبكى بكاء شديدا، ثم ابتدأ فذكر نوادر الأعراب فضحك ضحكا كثيرا. وقد توفى ابن أبى الدنيا فى جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين ومائتين رحمه الله.

[البحث]

تقدم الكلام على التحذير من الغضب فى الحديث الثانى والثانى عشر من أحاديث هذا الباب وأطلت الكلام على مضار الغضب هناك.

ص: 268

26 -

وعن أبى بكر الصديق رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة خَبٌّ ولا بخيل، ولا سئ الملَكة" أخرجه

ص: 268

الترمذى، وفرقه حديثين، وفى إسناده ضعف.

[المفردات]

أبو بكر الصديق رضى اللَّه عنه: هو أفضل الأمة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورأس العشرة المبشرين بالجنة، ورفيق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى الغار عبد اللَّه بن أبى قحافة (عثمان) بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ابن كعب بن لؤى القرشى التيمى، وأمه أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى، ولقبه عتيق وهو خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد أسلم أول المسلمين، وقد بايعه المسلمون بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال ابن سعد فى الطبقات: أخبرنا وكيع بن الجراح عن أبى بكر الهذلى عن الحسن قال: قال على: لما قُبِضَ النبى صلى الله عليه وسلم نظرنا فى أمرنا فوجدنا النبىَّ صلى الله عليه وسلم قد قدَّم أبا بكر فى الصلاة، فرضينا لدنيانا من رضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لديننا فقدَّمنا أبا بكر اهـ وقد أمَّره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الحج سنة تسع من الهجرة، واستمرت خلافته بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سنتين قمع اللَّه به المرتدين، وقد كان مولد أبى بكر رضى اللَّه عنه بعد حادث الفيل بثلاث سنوات، وتوفى

ص: 269

مساء ليلة الثلاثاء لثمانى ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة فكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال، وتوفى وهو ابن ثلاث وستين سنة رضى اللَّه عنه.

خَبَّ: هو الخَدَّاعُ الجُرْبُز أى الخبيث.

ولا سئ الملكة: أى ولا من يسئ إلى مماليكه ومن تحت يده من الخدم وغيرهم فلا يرحمهم ولا يحسن إليهم ولا يفى لهم بنفقتهم.

وفرَّقه حديثين: أى قَطَّعه قطعتين وجعل كل قطعة حديثا.

[البحث]

جعل الترمذى رحمه الله هذا الحديث حديثين: قال فى الأول منهما: حدثنا أحمد بن منيع ثنا يزيد بن هارون عن همام بن يحيى عن فرقد عن مرة عن أبى بكر الصديق عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة سئ الملكة" هذا حديث غريب وقد تكلم أيوب السختيانى وغير واحد فى فرقد السبخى من قبل حفظه اهـ وقال فى الثانى منهما: حدثنا أحمد بن منيع ثنا يزيد بن هارون ثنا صدقة بن موسى عن فرقد السبخى عن مرة الطيب عن أبى بكر الصديق عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة خَبٌّ ولا بخيل ولا مَنَّانٌ" هذا حديث حسن غريب اهـ.

ص: 270

27 -

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من تَسَمَّعَ حديث قوم وهم له كارهون صُبَّ فى أذنيه الآنُكُ يوم القيامة" يعنى الرصاص. أخرجه البخارى.

[المفردات]

تسمع حديث قوم: أى أصغى إلى قوم يتكلمون.

وهم له كارهون: أى وهم لا يحبون أن يسمع حديثهم.

صُبَّ فَى أذنيه: أى أُلْقِىَ فى أذنيه.

الآنُكُ: بالمد وضم النون هو الرصاص يعنى المُحْمَى فى النار والنحاس المَغْلِىّ.

[البحث]

أورد البخارى رحمه الله هذا الحديث فى كتاب التعبير فى (باب من كذب فى حلمه) قال: حدثنا على بن عبد اللَّه حدثنا سفيان عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من تحلَّم بحُلْم لم يره كُلِّفَ أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صُبَّ فى أذنه الآنك يوم القيامة، ومن صَوَّرَ صورة عُذِّبَ وكُلِّفَ أن ينفخ فيها وليس بنافخ" ولا شك أن حال الناس لا يخلو من وجود أشخاص يضطرون إلى التدارس فى حال من أحوالهم الخاصة كتشاور فى شأن زواج أو عقد صفقة لا يحبون أن يطلع عليها أحد فحمى الإِسلام لهم حريتهم وحرَّم على المسلم أن يحاول استراق أسرارهم، كشف سترهم، وتوعد

ص: 271

من يتسمع لحديث قوم وهم له كارهون بأن يكون جزاؤه يوم القيامة أن ذائب الرصاص أو النحاس المغلى يصب فى أذنيه.

[ما يفيده الحديث]

1 -

يحرم على المسلم أن يتسمع إلى حديث قوم وهم له كارهون.

2 -

أن الاستماع إلى حديث قوم كارهين لذلك الاستماع من الكبائر.

3 -

حماية الإِسلام لحقوق الناس.

ص: 272

28 -

وعن أنس رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "طُوبَى لمن شغله عَيْبُهُ عن عيوب الناس" أخرجه البزار بإسناد حسن.

[المفردات]

طُوبَى: قال فى القاموس: والطُّوبَى الطَّيبُ وجمع الطَّيِّبَة. وتأنيث الأطيب، والحُسْنَى والخَيْرُ والخِيرَةُ وشجرةٌ فى الجنة، أو الجنة بالهندية كَطيبى، وطوبى لك اهـ.

لمن شغله عيبه: أى لمن ألهاه عيبه فاشتغل بإصلاح حاله وصرفه ما فيه من نقص.

عن عيوب الناس: أى عن الاشتغال بعيوب الناس وما فيهم من نقص وتَتَبُّعِ عوراتهم.

ص: 272

[البحث]

الإنسان السَّوِىُّ هو الذى يبذل قصارى جهده فيما يُسْعِدُهُ فى معاشه ومعاده، والإِنسان غير السَّوِىِّ هو الذى يشتغل بعيوب الناس عن عيبه، ويتتبع عورات الناس، ويظن أنه الكامل وأن الناس ناقصون، ولذلك قيل فى مثله: يرى القذَى فى عين أخيه ولا يبصر الخشبة فى عينه، على أن من تتبع عورات الناس تتبع اللَّه عورته، ومن تتبع اللَّه عورته فضحه.

[ما يفيده الحديث]

1 -

ينبغى للإِنسان أن يكون مشتغلا بصلاح خاصته أولا.

2 -

لا يجوز للإنسان أن يتتبع عورات الناس.

3 -

الوعد الكريم لمن شغله عيبه عن عيوب الناس.

ص: 273

29 -

وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من تعاظم فى نفسه، واختال فى مشْيَتِهِ لَقِىَ اللَّه وهو عليه غضبان" أخرجه الحاكم ورجاله ثقات.

[المفردات]

تعاظم فى نفسه: أى تكبر فى نفسه وعدَّ نفسه عظيما كبيرا، مع الارتفاع عن الناس واحتقارهم.

واختال فى مشيته: أى وتبختر فى مشيته.

لقى اللَّه وهو عليه غضبان: أى جاء يوم القيامة واللَّه تعالى ساخط عليه.

ص: 273

[البحث]

قد أخرج البخارى ومسلم واللفظ للبخارى من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال النبى صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يمشى فى حُلَّة تعجبه نفسه، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إذ خسف اللَّه به فهو يتجلل إلى يوم القيامة" ولفظ مسلم: "بينما رجل يمشى قد أعجبته جُمَّتُهُ وبُرْدَاه إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فى الأرض حتى تقوم الساعة".

[ما يفيده الحديث]

1 -

تحريم الكبر.

2 -

وأنه من الكبائر.

ص: 274

30 -

وعن سهل بن سعد رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "العجلة من الشيطان" أخرجه الترمذى وقال: حسن.

[المفردات]

العجلة: أى التسرع والاندفاع فى الأمور.

من الشيطان: أى من عمل الشيطان.

[البحث]

إن العجلة المذمومة هى ما كانت فى الاندفاع فى الأمور دون تبصر وتروٍّ وكانت فى غير المسارعة إلى طاعة اللَّه والمسابقة إلى الخيرات، أما المسارعة إلى طاعة اللَّه، والمسابقة إلى الخيرات فهى ممدوحة

ص: 274

حيث يقول اللَّه تبارك وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} وكما قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} وكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} وكما قال تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} .

[ما يفيده الحديث]

1 -

كراهية الاندفاع فى الأمور دون روية أو تبصر.

2 -

أن المسارعة إلى الخيرات والعجلة إليها ليست من أمر الشيطان.

ص: 275

31 -

وعن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الشؤم سُوء الخُلُق" أخرجه أحمد وفى سنده ضعف.

[المفردات]

الشؤم: هو ضد اليُمن، واليمن البركة والقوة والخير، وتشاءم تَطَيَّر فالطِّيرَةُ والشؤم بمعنى واحد.

سُوءُ الخُلُق: أى الخُلُق القبيح.

ص: 275

[البحث]

كان من أهم عادات العرب فى الجاهلية ومعتقداتهم التشاؤم، فكانوا يتشاءمون من بعض الأيام وبعض الأشهر وبعض الحوادث بل كان الواحد منهم إذا أراد سفرا أو عقد نكاح أو غيره أرسل طائرا أو نظر فى جو السماء إلى طائر فإن وجده اتجه إلى جهة يمينه استيشر وتفاءل وتَيَمَّنَ به ومضى فى طريقه واعتقد نجاح خطبته، وإن اتجه الطير إلى جهة الشمال تشاءم وتطير ورجع عن قصده واعتقد أنه لن تنجح خطبته إذا مضى فيها، وكانوا يسمون الطير إذا تيامن بالسانح ويسمون الطير إذا اتجه إلى جهة شماله بالبارح فهم يتيمنون بالسانح ويتشاءمون بالبارح، وقد أنكر بعض عقلاء أهل الجاهلية هذه العقيدة المنكرة وأعلن أنها لا تضر ولا تنفع وفى ذلك يقول:

ولقد غدوت كنت لا

أغدو على واق وحاتمْ

فإذا الأشائم كَالْأَيا

مِنِ والْأيَامِنُ كالأشائمْ

وقال آخر:

الزجر والطير والكهان كلهموا

مُضَلَّلُون ودون الغيب أقفالُ

وقال آخر:

وما عاجلات الطير تُدْنِى من الفتى

نجاحا ولا عن ريثهن قُصُور

وقال غيره:

لعمرك ما تدرى الطوارق بالحصى

ولا زاجرات الطير ما اللَّه صانعُ

ص: 276

وقال آخر:

تَخَبَر طَيْرَةً فيها زيادٌ

لِتُخْبِرَهُ وما فيها خبيرُ

تَعَلَّمْ أنه لا طَيْرَ إلا

على مُتَطَيِّرِ وهو الثُّبُورُ

بلى شئ يوافق بعض شئ

أحايينًا وباطله كثيرُ

وقد أبطل الإسلام هذه العقيدة القبيحة، فقد روى البخارى ومسلم فى صحيحيهما من حديث أبى هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا طيرة ولا هامة ولا صفر" كما عد الإِسلام التطير من أنواع الشرك فقد أخرج أبو داود والترمذى صححه هو وابن حبان من حديث ابن مسعود رفعه: "الطيرة شرك" أما ما رواه البخارى ومسلم من حديث ابن عمر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "الشؤم فى المرأة والدار والفرس" وفى لفظ: ذكروا الشؤم عند النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "إن كان الشؤم فى شئ ففى الدار والمرأة والفرس" وفى لفظ: "إن يكن من الشؤم شئ حق ففى الفرس والمرأة والدار" وفى بعض ألفاظ هذا الحديث عدم الجزم بالشؤم فى هذه الثلاثة، وقد روى عن عائشة رضى اللَّه عنها أنها أنكرت هذا الحديث فقد روى أبو داود الطيالسى فى مسنده عن محمد بن راشد عن مكحول قال: قيل لعائشة: إن أبا هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الشؤم فى ثلاثة" فقالت: لم يحفظ، إنه دخل وهو يقول:"قاتل اللَّه اليهود، يقولون: الشؤم فى ثلاثة" فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله، قال الحافظ فى الفتح: قلت: ومكحول لم يسمع من عائشة فهو منقطع

ص: 277

لكن روى أحمد وابن خزيمة والحاكم من طريق قتادة عن أبى حسان: أن رجلين من بنى عامر دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "الطيرة فى الفرس والمرأة والدار" فغضبت غضبا شديدا وقالت: ما قاله، وإنما قال: إن أهل الجاهلية كانو يتطيرون من ذلك" اهـ أما حديث الباب فقد أخرجه أحمد فى مسنده قال: ثنا أبو اليمان ومحمد بن مصعب قالا: ثنا أبو بكر بن عبد اللَّه عن حبيب بن عبيد قال: قالت عائشة: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الشؤم سوء الخُلق" وقد أخرجه أبو داود فى كتاب الأدب من سننه فى (باب فى حق المملوك) فقال: حدثنا ابن المُصَفَّى أخبرنا بقية أخبرنا عمان بن زفر حدثنى محمد بن خالد بن رافع بن مَكِيث عن عمه الحارث بن رافع ابن مكيث -وكان رافع من جهينة قد شهد الحديبية مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "حسن الملكة يمن، وسوء الخلق شؤم" وفى بعض النسخ "نماء" بدل "يمن" قال المنذرى: هذا مرسل الحارث بن رافع تابعى وفى إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال اهـ.

ص: 278

32 -

وعن أبى الدرداء رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة" أخرجه مسلم.

[المفردات]

إن اللعانين: أى الذين يكثرون اللعن.

ص: 278

لا يكونون شفعاء: أى لا يُشَفِّعُهُمْ اللَّه فى أحد من أحبابهم من المؤمنين يوم القيامة.

ولا شهداء: أى ولا يعطيهم اللَّه تعالى منزلة الشاهدين على الأمم بتبليغ رسلهم، ولا يعطيهم اللَّه تعالى أجر الشهداء حتى ولو كانوا ماتوا فى الغزو فى سبيل اللَّه.

[البحث]

أخرج مسلم هذا الحديث من طريق زيد بن أسلم أن عبد الملك ابن مروان بعث إلى أم الدرداء بأنجاد من عنده، فلما أن كان ذات ليلة قام عبد الملك من الليل، فدعا خادمه، فكأنه أبطأ عليه، فلعنه، فلما أصبح قالت له أم الدرداء: سمعتك الليلة لعنتَ خادمك حين دعوته، فقالت: سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة" ثم ساق من طريق زيد بن أسلم وأبى حازم عن أم الدرداء عن أبى الدرداء سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة" وقوله: "بأنجاد" هى جمع نَجَد وهو متاع البيت الذى يزينه من فرش ونمارق وستور ونحوها، وقد أخرج مسلم من حديث أبى هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا ينبغى لصديق أن يكون لعانا".

[ما يفيده الحديث]

1 -

التحذير من كثرة اللعن.

ص: 279

2 -

أن اللعانين يحرمون من منصبى الشفاعة والشهادة يوم القيامة.

ص: 280

33 -

وعن معاذ بن جبل رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من عَيَّرَ أَخاه بذنب لم يَمُتْ حتى يعمله" أخرجه الترمذى وحسّنه، وسنده منقطع.

[المفردات]

عير أخاه بذنب: أى عاب المسلم بسبب معصية وقع فيها.

لم يمت حتى يعمله: أى لا يفارق الدنيا إلا وقد ارتكب مثله.

[البحث]

لو صح هذا الحديث لحمل على معنى الشماتة فيمن ارتكب سيئة وهذا لا يليق بمسلم وقد نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الشمائة بالمسلم فقد روى الترمذى من طريق مكحول عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه اللَّه ويبتليك" ثم قال الترمذى: هذا حديث حسن غريب ومكحول قد سمع من واثلة ابن الأسقع وأنس بن مالك وأبى هند الدارى، ويقال: إنه لم يسمع من أحد من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم إلا من هؤلاء الثلاثة اهـ.

ص: 280

34 -

وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضى اللَّه عنهم قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ويل للذى يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ

ص: 280

به القومَ، وَيلٌ له، ثم وَيْلٌ له" أخرجه الثلاثة وإسناده قوى.

[المفردات]

عن أبيه عن جده: أى عن حكيم بن معاوية عن معاوية بن حيدة القشيرى رضى اللَّه عنه.

وَيْلٌ: الويل حلول الشر والهلاك أو كلمة عذاب أو واد فى جهنم.

[البحث]

قال الترمذى: باب ما جاء فى من تكلم بالكلمة ليضحك الناس حدثنا محمد بن بشار نا ابن أبى عدى عن محمد بن إسحاق ثنى محمد بن إبراهيم عن عيسى بن طلحة عن أبى هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوى بها سبعين خريفا فى النار" هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، حدثنا بندار نا يحيى بن سعيد ثنا بهز بن حكيم ثنى أبى عن جدى قال: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للذى يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له" وفى الباب عن أبى هريرة هذا حديث حسن اهـ وأصل هذا الحديث فى صحيح البخارى من طريق محمد بن إبراهيم عن عيسى بن طلحة التيمى عن أبى هريرة سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها فى النار، أبعد مما بين المشرق والمغرب" حدثنى عبد اللَّه بن مُنير سمع أبا النضر حدثنا عبد الرحمن بن عبد اللَّه -يعنى بن دينار-

ص: 281

عن أبيه عن أبى صالح عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان اللَّه لا يُلقى لها بَالا يرفعه اللَّه بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخَط اللَّه لا يُلقى لها بالا يَهوِى بها فى جهنم" كما أخرج مسلم من طريق محمد بن إبراهيم عن عيسى بن طلحة عن أبى هريرة أنه سمع رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها فى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب" وفى لفظ لمسلم من طريق محمد بن إبراهيم عن عيسى ابن طلحة عن أبى هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يَهْوى بها فى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب".

[ما يفيده الحديث]

1 -

أنه لا يحل لمسلم أن يكذب ليضحك الناس.

2 -

جواز إضحاك الناس من غير كذب.

ص: 282

35 -

وعن أنس رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "كَفَّارَةُ من اغْتَبْتَهُ أن تستغفر له" رواه الحارث بن أبى أسامة بإسناد ضعيف.

[المفردات]

كفارة من اغتبته: أى ذهاب إثم غيبة من اغتبته وذكرته بالسوء وهو غائب.

أن تستغفر له: أى أن تطلب من اللَّه أن يغفر ذنبه.

ص: 282

الحارث بن أبى أسامة: هو الإِمام أبو محمد الحارث بن محمد بن أبى أسامة التميمى البغدادى صاحب المسند. ولد سنة ست وثمانين ومائة، وسمع يزيد بن هارون، وعبد الوهاب الخفاف وعلى بن عاصم وعبد اللَّه بن بكر وابن أبى الدنيا -وهو أكبر منه- وروح بن عبادة والواقدى وغيرهم، وعنه أبو جعفر الطبرى وأبو بكر الشافعى وأبو بكر النجاد وعبد اللَّه بن الحسين النضرى وغيرهم، وقد وثقه إبراهيم الحربى وأبو حاتم وابن حبان، وقال الدارقطنى: صدوق، وضعفه أبو الفتح الأزدى وابن حزم وقد طعن عليه بأنه كان يأخذ الدراهم على الرواية، واعتذر عن هذا بأنه كان فقيرا كثير البنات، وقد عش سبعا وتسعين سنة وتوفى يوم عرفة سنة اثنتين وثمانين ومائتين رحمه الله.

[البحث]

أخرج البخارى فى صحيحه من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شئ فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذَ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فَحُمِلَ عليه" وهذا الحديث الصحيح يثبت أن التحلل من إثم غيبة من اغتاب الإنسان لا يكفى فيه مجرد الاستغفار له بل لابد من أن يطلب منه أن يعفو عنه وأن يسامحه.

ص: 283

36 -

وعن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أبغض الرجال إلى اللَّه الألَدُّ الخَصِم" أخرجه مسلم.

[المفردات]

أبغض الرجال إلى اللَّه: أى أكثر الناس استحقاقا لغضب اللَّه وسخطه ومقته.

الألد: وصف مأخوذ من اللَّدَد وهو الخصومة الشديدة.

الخصم: بكسر الصاد شديد الخصومة فهو توكيد للألد.

[البحث]

قول المصنف هنا أخرجه مسلم وهم فإن هذا الحديث متفق عليه فقد أخرجه البخارى فى كتاب التفسير وفى كتاب الأحكام وقد تقدم فى بحث الحديث الثامن عشر من أحاديث هذا الباب النهى عن الجدال إلا بالتى هى أحسن وسقت هناك لفظ هذا الحديث وبحثت ما يتعلق به هناك.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن اللدد فى الخصومة ليس من صفات كملة المؤمنين.

2 -

وأنه يستوجب غضب اللَّه وسخطه ومقته.

ص: 284