الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المبحث الرابع أسلوب التأليف]
المبحث الرابع
أسلوب التأليف من الحكمة التي يراعيها الداعية إلى الله أن يسلك سبلًا تربطه بالناس، وتؤثِّر في قلوبهم، فالنفوس قد جعل الله لها مداخل وخاصية، وذلك أنها تفتح قلوبها لمن يأتيها من الزوايا التي تريحها، وتقترب لمن يتألفها ويستميلها (1) ومهمة الداعية الحكيم أن يمتلك مفاتيح تلك القلوب ليعرف من أين يدخل إليها ليجد الاستجابة، ومن هذه السبل أن يوثق الدّاعية علاقاته بأصحاب الرأي والتوجيه من الناس لما في ذلك من أثر نفسي لكلمة الداعية، وسرعة لقبول دعوته، وكل هذه السبل مجتمعة في إحسان الداعية إلى مدعويه، فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وقد اجتمعت هذه السبل في دعوته صلى الله عليه وسلم، فقد كان يتعامل مع كل بحسبه فيعطي محبي المال شيئًا يتألف به قلوبهم، ويتعامل مع حديثي العهد بالإسلام بما يرسخ الإيمان في قلوبهم (2) فتجده صلى الله عليه وسلم يؤلف القلوب ببذل العطاء العظيم، كما فعل صلى الله عليه وسلم في حنين، بعد أن أغنمه الله أموال هوازن فآثر أناسًا من المؤلفة قلوبهم من صناديد قريش وغيرهم ممتثلًا قول الله عز وجل:
(1) انظر: جمعة أمين عبد العزيز، الدعوة قواعد وأصول، ص 123.
(2)
انظر: عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، الأخلاق الإسلامية وأسسها 1 / 196.
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60](1) فكان يعطيهم صلى الله عليه وسلم ترغيبًا لهم واستمالة لقلوبهم، فالترغيب يكون بكل ممكن مثل أن يبذل الراعي لرعيته ما يرغبهم في العمل الصالح من مال وغيره (2) .
فأعطى صلى الله عليه وسلم أناسا ما زالوا على شركهم، مثل صفوان بن أمية إذ أعطاه صلى الله عليه وسلم عطاء عظيما، فقد روى مسلم عن ابن شهاب قال:«غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم ثم مائة ثم مائة» (3) فكيف كان أثر هذا العطاء في هذا الرجل؟
يصف بنفسه رضي الله عنه هذا الأثر فيقول: «والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي» (4) وهذا هو السر في ترغيبه صلى الله عليه وسلم بعض الكفار بالمال لاعتناق الإسلام (5) .
(1) سورة التوبة، الآية:60.
(2)
انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى 28 / 369، 370.
(3)
مسلم، صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم قط فقال لا، وكثرة عطائه (ك 43 ح 2311) 4 / 1806.
(4)
المرجع السابق (ك 43 ح 2313) 4 / 1806.
(5)
أحمد عبد الرحمن البنا، الفتح الرباني 9 / 60.
وممن آثر صلى الله عليه وسلم بالعطاء يومئذ صناديد من العرب، أعطاهم يتألفهم ويتألف أقوامهم، فقد روى البخاري عن عبد الله رضي الله عنه قال:«لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب، فآثرهم يومئذ في القسمة. . .» الحديث (1) .
وحينما وجد عليه الأنصار رضي الله عنهم بيَّن لهم صلى الله عليه وسلم الحكمة من هذا الإيثار، فقال:«إنِّي أعطي رجالا حديث عهدهم بكفر» (2) .
وفي رواية: «إني أعطي قريشًا أتألفهم لأنهم حديث عهد بجاهلية» (3) .
وفي حديث سعد رضي الله عنه: «إنِّي لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار» (4) .
يشير أنس رضي الله عنه إلى أثر هذا العطاء فيقول: «إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا
(1) البخاري، صحيح البخاري، كتاب الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم من الخمس ونحوه (ك 61 ح 2981) 3 / 1148.
(2)
المرجع السابق، كتاب الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم (ك 61 ح2977) 3 / 1147.
(3)
المرجع السابق (ك 61ح 2978) 3 / 1147.
(4)
مسلم، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب تألف من يخاف على إيمانه لضعفه، والنهي عن القطع بالإيمان من غير دليل قاطع (ك 1 ح 150) 1 / 132.
وما عليها» (1) ففي هذه النصوص بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان يتألف أناسًا في إيمانهم ضعف، لو لم يعطهم لكبّهم الله في النار (2) وفيه دليل على جواز بذل المال لأهل الجهالة والقسوة وتألفهم، إذا كان في ذلك مصلحة (3) وتألف كل من يرجى بعطائه قوة إيمانه أو إسلامه أو إسلام قومه، أو شيء مما يحصل به الخير للمسلمين (4) .
ومن السبل التي كان يسلكها صلى الله عليه وسلم في تأليف مدعويه الإحسان إليهم بالعفو والامتنان، وذلك من كمال حكمته صلى الله عليه وسلم حيث كان يتألف الناس بما يعلم فيه صلاحهم، فإن كانوا ممن يؤثر المال تألفهم بالمال، وإن كانوا سوى ذلك تألفهم بما يتناسب وحالهم، فكان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يتألف بالعفو ممتثلا قول الله عز وجل:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199](5) وقوله سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34](6) .
(1) المرجع السابق، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال لا وكثرة عطائه (ك 43 ح 2312) 4 / 1806.
(2)
انظر: النووي، شرح صحيح مسلم 7 / 148، 149.
(3)
انظر: المرجع السابق 7 / 146.
(4)
انظر: الفخر الرازي، التفسير الكبير 16 / 111، وانظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 2 / 365، وانظر: السعدي، تفسير الكريم الرحمن 3 / 252.
(5)
سورة الأعراف، الآية:199.
(6)
سورة فصلت، الآية:34.
ومما يدل على ذلك من أفعاله صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري «عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة، فعلق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتًا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فها هو ذا جالس، ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم» (1) .
ففي هذا العفو والمن دليل على شدة رغبته صلى الله عليه وسلم في تأليف الكفّار ليدخلوا في الإسلام (2) .
وقد كانت نتيجة هذا العفو كما يرغب صلى الله عليه وسلم، حيث أسلم الرجل ورجع إلى قومه فاهتدى به خلق كثير (3) .
ويدل على تألفه بالعفو أيضا كريم عفوه وعظيم منِّه على ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، حيث قال:«أطلقوا ثمامة» (4) فانقلب بغض هذا الرجل المشرك حبًّا وعداوته صداقة، فأسلم وحسن إسلامه، وذلك لما أسداه
(1) البخاري، صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع (ك 67 ح 3905) 4 / 1515.
(2)
انظر: ابن حجر، فتح الباري 8 / 193.
(3)
انظر: المرجع السابق 8 / 193.
(4)
البخاري، صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال (ك 67 - ح 1414) 4 / 1589، 1590.
إليه النبي صلى الله عليه وسلم من العفو والمنّ بغير مقابل (1) ويشير النووي إلى الحكمة النبوية في هذا العفو والملاطفة فيقول: " هذا من تأليف القلوب وملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير "(2) .
وبعد فتح مكة أعلن عليه الصلاة والسلام العفو عن عامة أهل مكة، وهم الذين عرفوا فيما بعد بالطلقاء لمنه صلى الله عليه وسلم عليهم فلم يعاقبهم صلى الله عليه وسلم عملًا بقوله سبحانه:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126](3) فقد روى الترمذي عن أبي بن كعب قال: «لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة فيهم حمزة فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يومًا مثل هذا لنُرْبِيَنّ عليهم، قال: فلما كان يوم فتح مكة فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] فقال رجل: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كفوا عن القوم إلا أربعة» (4) فكانت عاقبة ذلك إسلام كثير من هؤلاء الطلقاء.
ومن السبل التي سلكها صلى الله عليه وسلم تأليف القلوب بالمصاهرة، فقد روى الإمام أحمد عن عروة بن الزبير «عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم
(1) انظر: ابن حجر، فتح الباري 8 / 421.
(2)
النووي، شرح صحيح مسلم 12 / 89.
(3)
سورة النحل، الآية:126.
(4)
الجامع الصحيح، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة النحل (ح 3128) 5 / 279.
لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عم له، وكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها، قالت: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت، فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي، قال:" فهل لك في خير من ذلك "؟ قالت: ما هو يا رسول الله؟ قال: " أقضي كتابتك وأتزوجك "، قالت: نعم يا رسول الله، قال:" قد فعلت "، قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية بنت الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا ما بأيديهم، قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها» (1) فأعتق الناس سباياهم إكراما لها لأنها صارت من أمهات المؤمنين (2) فظهرت حكمته صلى الله عليه وسلم في هذه المصاهرة وهي تأليف هذه المرأة وتأليف قومها على الإسلام، فحينما سارع أصحابه رضي الله عنهم بإعتاق ما في أيديهم، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم ذلك إلى الإيمان بالله ورسوله لما رأوا من الكرم وحسن الخلق (3) .
(1) أحمد بن عبد الرحمن البنا، الفتح الرباني 14 / 109، 110، وانظر: ابن هشام، السيرة النبوية، 3 / 185، 186.
(2)
انظر: أحمد البنا، الفتح الرباني 14 / 110.
(3)
انظر: الشيخ محمد محمود الصواف، زوجات النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرات وحكمة تعددهن ص 74، وانظر: د. عبد الناصر توفيق العطار، تعدد الزوجات ص 141.